الخلافة-هل هي شيء يعلَن أم يحدده الواقع؟

الخلافة-هل هي شيء يعلَن أم يحدده الواقع؟
م. أحمد سمير
من البدهي أنه لا توجد إمارة بغير جماعة، ومن البدهي أيضا أن (الإمامة العظمى أو الخلافة) ما هي في النهاية إلا إمارة في جماعة، ولذلك سمي الإمام أو الخليفة (أمير المؤمنين)
ولكن (الإمامة العظمى) وإن كانت في النهاية إمارة إلا أنها ليست كأية (إمارة) ، فهي إمارة لها ما يميزها ويختص به من أحكام، ولذلك كانت (جماعة) تلك الإمارة أيضا ليست كأية جماعة، هي أيضا جماعة لها ما يميزها ويختص به من أحكام.
فعند الحديث عن الإمامة العظمى يكون المقصود بالجماعة أيضا (الجماعة العظمى)، أي: (جماعة المسلمين)، وليس (جماعة من المسلمين)، وجماعة المسلمين هم: جمهور الأمة وسوادها الأعظم، فالإمام ما هو إلا أمير امتد سلطانه وشوكته حتى عمّت جمهور الأمة.
وذلك لأنه لا يتصور أصلا وجود الإمام الأعظم بغير اجتماع سواد المسلمين وجمهورهم اجتماعا يصلح أن يكون لهم فيه إمام واحد، ومن شواهد هذا الاقتران:-
وصية النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة حين قال له: (فالزم جماعة المسلمين وإمامهم)، فأنزلهما النبي صلى الله عليه وسلم منزلة الشيء الواحد ولم يفرق بينهما
وقال صلى الله عليه وسلم: ( من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتة جاهلية)
وقال: (( من خرج من الطاعة ، وفارق الجماعة ، فمات ، مات ميتة جاهلية)
وقال صلى الله عليه وسلم: ( من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه)
كل هذه الأحاديث تجعل الإمامة العظمى وجماعة المسلمين كالشيء الواحد، وتجعل الخارج عن الإمامة خارجا عن الجماعة، لأنه لا يتصور وجود الأولى بغير الثانية كما ذكرنا
ولا خلاف بين العقلاء أن إمارة أي أمير يُعرف وجودها من عدمه ويتحدد مداها بحسب القدرة والسلطان الحاصلين بالفعل في الواقع، فلو افترضنا أنه قد قام رجل من عوام الناس في الشرق فأعلن أنه قد اعتبر نفسه أميرا على قوم في الغرب لا يعرفهم ولا يعرفونه و وليس له عليهم أي سلطان أو قدرة أو شوكة لكان بذلك قد خالف العقل قبل الشرع، فأي قيمة لإعلان كهذا لا حقيقة ولا واقع له؟!
فالإمارة ليست إعلانا إنما هي وصف يعكس الواقع الحاصل، لا تحصل بالنية أو الأمنية أو الادعاء، وكذلك في الإمامة العظمى، لا يمكن مطلقا أن يُعد الرجل خليفة أو إماماً إمامةً عظمى إلا إذا تحقق له بالفعل مناط هذه الإمامة من حيث القدرة والسلطان على جماعة المسلمين أي: جمهورهم وسوادهم الأعظم. فهذا هو مناط الإمامة العظمى والذي تتميز به عن كل إمارة. وكل أمير لم يكن له هذا السلطان وتلك القدرة فليست إمارته إمامة عظمى ولا خلافة ولو ادعاها ألف سنة، فالأسماء والمصطلحات تتحدد بحسب الواقع لا العكس، فقد تصبح إمارة ما إمامة عظمى وخلافة إذا تحقق مناطها وواقعها حتى ولو لم يسمها أصحابها إمامة أو خلافة!!
كما أنه قد يحصل العكس، قد يسمي أهل إمارة ما إمارتهم بالخلافة ويصفون أميرهم بالإمامة العظمى ولا تكون كذلك والتاريخ مملوء بذلك.
فالأسماء لا تغير من حقيقة المسميات شيئا، بل واقع الإمارة وصفتها هو الذي يحكم.
فالإعلان عن إمام أو خليفة لا يعني أنه قد أصبح إماما أو خليفة، بل هذا الإعلان من أصحابه في أحسن حالاته لا يتخطى توصيفه أنه طلب لإمارة هذا الرجل، ودعوة لتنصيبه، أما كونه فعلا قد صار إماما وخليفة أم لا فهذا شيء يتخطى الإعلان تماما ويتحدد بالنظر في الواقع الحاصل، كما بايع عمر أبا بكر وأعلنه إماما، ولكن إمامة أبي بكر في الحقيقة لم تنعقد إلا بعدما استجاب لعمر جمهور أهل الشوكة. قال ابن تيمية:
(وأما نفس الولاية والسلطان فهو عبارة عن القدرة الحاصلة، ثم قد تحصل على وجه يحبه الله ورسوله، كسلطان الخلفاء الراشدين، وقد تحصل على وجه فيه معصية، كسلطان الظالمين.
ولو قدر أن عمر وطائفة معه بايعوه (أي: أبا بكر)، وامتنع سائر الصحابة عن البيعة، لم يصر إماما بذلك، وإنما صار إماما بمبايعة جمهور الصحابة، الذين هم أهل القدرة والشوكة. ولهذا لم يضر تخلف سعد بن عبادة؛ لأن ذلك [لا] يقدح في مقصود الولاية، فإن المقصود حصول القدرة والسلطان اللذين بهما تحصل مصالح الإمامة، وذلك قد حصل بموافقة الجمهور على ذلك)
ويقول أيضا: (فإنه لا يشترط في الخلافة إلا اتفاق أهل الشوكة والجمهور الذين يقام بهم الأمر بحيث يمكن أن يقام بهم مقاصد الإمامة, ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة" "إن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد")
ولا يوجد من فصل بين الإمامة العظمى ومناطها من البشر كلهم غير الرافضة! فأضحكوا الناس على عقولهم، حيث سموا بعض الفضلاء من أهل البيت خلفاء وأئمة فقط لكونهم الأحق بها، والحقيقة أنهم وإن كانوا الأحق بها إلا أنهم لم يكونوا خلفاء ولا أئمة بهذا المعنى، وإنما يصح أن يوصفوا بإمامة الدين لا الدنيا، وهذا ليس تنقيصا منهم رضوان الله عليهم بل حكاية لواقع حاصل!
فإن سأل سائل، إذا كانت الخلافة ووجودها هو شيء يحدده الواقع وأنها مناط يتحقق ولا نملك نحن ادعاءه وإعلانه ابتداء، فكيف تحمل كلام العلماء على وجوب تنصيب خليفة (إمام) تتم به مصالح الدنيا والدين؟ أليس هذا يعني وجوب أن يُعلن اليوم خليفة ليرتفع عنا الإثم؟
قلنا: معنى كلام العلماء عن وجوب تنصيب إمام هو أنه متى تحقق مناط الإمامة صار واجبا على الأمة نصب إمام، وإذا لم يتحقق مناطها فسيكون الحديث عن الإمامة العظمى غير مفهوم أصلا، فتنصيب الإمام واجب على الجماعة، ومتى لم يكن للمسلمين جماعة، فالمسلمون مخاطبون بإيجاد جماعتهم أولا، لا بإيجاد الخليفة الذي لا معنى لإمامته بغير تلك الجماعة.
وفي عصرنا إذا تكلمنا عن وجوب إيجاد الجماعة فهو حديث عن وجوب دفع كل العقبات التي تمنع من إيجادها، أي جهاد هذا العدو الصائل ووكلائه السالبين من المسلمين سلطانهم والمفرقين لجماعتهم، الضاربين بينهم بحدود رسموها بالأقلام، ليصبح الولاء عليها لا للإسلام، المانعين لشرع الله أن يسود، ولائتلاف كلمتهم أن تعود، فدفع شوكة هذا الكفر هو واجب العصر حتما وقطعا ويقينا، متى رُفعت تلك العواقب وأزيلت تلك العقبات وعاد للمسلمين سلطانهم من سالبيه، وجماعتهم من مفرقيها، وأزيحت شوكة الكفر عن رؤوسهم، كان أسهل شيء حينها أن ينصبوا عليهم رجلاً واحداً منهم، وحينها فهو إمام وخليفة بالواقع الحاصل لا بالادعاء والإعلان!
وهنا مسألة: إذا تحقق الاجتماع والشوكة في جماعة من المسلمين فقط وكانوا في قطر من الأقطار، أو تحقق في أقطار متباعدة فالذي لا أعلم فيه خلافا جواز تعدد الأمراء، بأن يصبح على كل قطر أمير. إذ أن معنى المنازعة وشق العصا منتف لأن الأمة لم تجتمع أصلا، مع حاجة كل قطر لأمير يقوم بأمرهم، ولا يجوز حينها أن يدعي أي من هؤلاء الأمراء سلطانا ليس له، ويزعم من نفسه واقعا لم يتحقق، فيقول أنه قد صار خليفة وإماما على المسلمين قاطبة، وهم ربما لم يسمعوا عنه أصلا، ثم يدعي على إثر ذلك بطلان كل الإمارات حتى التي لا يمتد إليها سلطانه ولا يقرب أن يمتد لها، فهذا ليس فعلا متجاوزا للشرع بل هو متجاوز للعقل، وقد قدمنا أن العقلاء من كل الأمم تطابقوا أن إمارة كل أمير بحسب سلطانه، وليس له إمرة على من ليس له سلطان عليهم، فأي معنى للإمارة غير السلطان!
وليس هذا التعدد للأمراء من المحظور، فإنما المحرم أن يكون هناك إمامان يتنازعان نفس الصفة أو السلطان وليس تعدد الأمراء بالصورة التي شرحناها والمناط الحاصل.
وأما كون الإمام لا تتجاوز إمرته سلطانه عقلا وشرعا فلا أدل من قصة أبي بصير وعصابته حين لم يكن تحت سلطان النبي صلى الله عليه وسلم جاز له ألا يلتزم بعهد النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين (الحديبية)، وقد كان أبو بصير يأوي إليه من خرج من مكة هاربا ويقطعون على قريش قوافلهم، ولم تتهم قريش النبي صلى الله عليه وسلم بنقض العهد إذ أنهم علموا أن إمارة أي أمير لا تتجاوز سلطانه، وأبو بصير لم يكن قد دخل في هذا السلطان، قد جاز هذا مع وجود الإمام والإمامة وجودا قطعيا واقعيا، ومع تحقق مناطها بصورة لن يتحقق في التاريخ مرة أخرى، فكيف لمن لم يتحقق له معشار العشر من ذلك أن يلزم الناس إلزاما بسلطان لم يصل إليهم؟!
وبذلك تفهم أنه لا معنى لشيء اسمه (إعلان قيام الخلافة) كما أنه لم يكن هناك معنى لشي اسمه (إعلان سقوط الخلافة) .. فالخلافة بالفعل كانت قد سقطت قبل ١٩٢٤ وإعلان الساقط أتاتورك لذلك لم يغير من الأحكام الواقعية والشرعية شيئا، فالإمامة لا تحصل بالإعلان كما قدمنا ولا تسقط كذلك بالإعلان، إنما هي شيء حدث في الواقع أو لم يحدث!
وأنا هنا أتكلم فقط عن المناط وعن الواقع الحاصل الذي يحدد هل توصف الإمارة أنها إمامة عظمى أم لا بعيدا عن الوسيلة، فكون الوسيلة التي حصل بها القدرة والشوكة مرضية أم ليست مرضية ليس محل حديثي، فتسلم الإمام لهذا لسلطان قد يحصل بالشورى والرضا، وقد يحصل بالغلبة والسيف والتمدد، أما إذا كنا سنتكلم عن الخلافة الممدوحة شرعا والتي جاء الوعد بها والتي هي صورة خاصة من الإمامة العظمى فهذا حديث آخر تماما.

والله تعالى أعلم.



منقول
 

SJS

عضو جديد
الخلافة-هل هي شيء يعلَن أم يحدده الواقع؟
م. أحمد سمير
من البدهي أنه لا توجد إمارة بغير جماعة، ومن البدهي أيضا أن (الإمامة العظمى أو الخلافة) ما هي في النهاية إلا إمارة في جماعة، ولذلك سمي الإمام أو الخليفة (أمير المؤمنين)
ولكن (الإمامة العظمى) وإن كانت في النهاية إمارة إلا أنها ليست كأية (إمارة) ، فهي إمارة لها ما يميزها ويختص به من أحكام، ولذلك كانت (جماعة) تلك الإمارة أيضا ليست كأية جماعة، هي أيضا جماعة لها ما يميزها ويختص به من أحكام.
فعند الحديث عن الإمامة العظمى يكون المقصود بالجماعة أيضا (الجماعة العظمى)، أي: (جماعة المسلمين)، وليس (جماعة من المسلمين)، وجماعة المسلمين هم: جمهور الأمة وسوادها الأعظم، فالإمام ما هو إلا أمير امتد سلطانه وشوكته حتى عمّت جمهور الأمة.
وذلك لأنه لا يتصور أصلا وجود الإمام الأعظم بغير اجتماع سواد المسلمين وجمهورهم اجتماعا يصلح أن يكون لهم فيه إمام واحد، ومن شواهد هذا الاقتران:-
وصية النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة حين قال له: (فالزم جماعة المسلمين وإمامهم)، فأنزلهما النبي صلى الله عليه وسلم منزلة الشيء الواحد ولم يفرق بينهما
وقال صلى الله عليه وسلم: ( من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتة جاهلية)
وقال: (( من خرج من الطاعة ، وفارق الجماعة ، فمات ، مات ميتة جاهلية)
وقال صلى الله عليه وسلم: ( من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه)
كل هذه الأحاديث تجعل الإمامة العظمى وجماعة المسلمين كالشيء الواحد، وتجعل الخارج عن الإمامة خارجا عن الجماعة، لأنه لا يتصور وجود الأولى بغير الثانية كما ذكرنا
ولا خلاف بين العقلاء أن إمارة أي أمير يُعرف وجودها من عدمه ويتحدد مداها بحسب القدرة والسلطان الحاصلين بالفعل في الواقع، فلو افترضنا أنه قد قام رجل من عوام الناس في الشرق فأعلن أنه قد اعتبر نفسه أميرا على قوم في الغرب لا يعرفهم ولا يعرفونه و وليس له عليهم أي سلطان أو قدرة أو شوكة لكان بذلك قد خالف العقل قبل الشرع، فأي قيمة لإعلان كهذا لا حقيقة ولا واقع له؟!
فالإمارة ليست إعلانا إنما هي وصف يعكس الواقع الحاصل، لا تحصل بالنية أو الأمنية أو الادعاء، وكذلك في الإمامة العظمى، لا يمكن مطلقا أن يُعد الرجل خليفة أو إماماً إمامةً عظمى إلا إذا تحقق له بالفعل مناط هذه الإمامة من حيث القدرة والسلطان على جماعة المسلمين أي: جمهورهم وسوادهم الأعظم. فهذا هو مناط الإمامة العظمى والذي تتميز به عن كل إمارة. وكل أمير لم يكن له هذا السلطان وتلك القدرة فليست إمارته إمامة عظمى ولا خلافة ولو ادعاها ألف سنة، فالأسماء والمصطلحات تتحدد بحسب الواقع لا العكس، فقد تصبح إمارة ما إمامة عظمى وخلافة إذا تحقق مناطها وواقعها حتى ولو لم يسمها أصحابها إمامة أو خلافة!!
كما أنه قد يحصل العكس، قد يسمي أهل إمارة ما إمارتهم بالخلافة ويصفون أميرهم بالإمامة العظمى ولا تكون كذلك والتاريخ مملوء بذلك.
فالأسماء لا تغير من حقيقة المسميات شيئا، بل واقع الإمارة وصفتها هو الذي يحكم.
فالإعلان عن إمام أو خليفة لا يعني أنه قد أصبح إماما أو خليفة، بل هذا الإعلان من أصحابه في أحسن حالاته لا يتخطى توصيفه أنه طلب لإمارة هذا الرجل، ودعوة لتنصيبه، أما كونه فعلا قد صار إماما وخليفة أم لا فهذا شيء يتخطى الإعلان تماما ويتحدد بالنظر في الواقع الحاصل، كما بايع عمر أبا بكر وأعلنه إماما، ولكن إمامة أبي بكر في الحقيقة لم تنعقد إلا بعدما استجاب لعمر جمهور أهل الشوكة. قال ابن تيمية:
(وأما نفس الولاية والسلطان فهو عبارة عن القدرة الحاصلة، ثم قد تحصل على وجه يحبه الله ورسوله، كسلطان الخلفاء الراشدين، وقد تحصل على وجه فيه معصية، كسلطان الظالمين.
ولو قدر أن عمر وطائفة معه بايعوه (أي: أبا بكر)، وامتنع سائر الصحابة عن البيعة، لم يصر إماما بذلك، وإنما صار إماما بمبايعة جمهور الصحابة، الذين هم أهل القدرة والشوكة. ولهذا لم يضر تخلف سعد بن عبادة؛ لأن ذلك [لا] يقدح في مقصود الولاية، فإن المقصود حصول القدرة والسلطان اللذين بهما تحصل مصالح الإمامة، وذلك قد حصل بموافقة الجمهور على ذلك)
ويقول أيضا: (فإنه لا يشترط في الخلافة إلا اتفاق أهل الشوكة والجمهور الذين يقام بهم الأمر بحيث يمكن أن يقام بهم مقاصد الإمامة, ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة" "إن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد")
ولا يوجد من فصل بين الإمامة العظمى ومناطها من البشر كلهم غير الرافضة! فأضحكوا الناس على عقولهم، حيث سموا بعض الفضلاء من أهل البيت خلفاء وأئمة فقط لكونهم الأحق بها، والحقيقة أنهم وإن كانوا الأحق بها إلا أنهم لم يكونوا خلفاء ولا أئمة بهذا المعنى، وإنما يصح أن يوصفوا بإمامة الدين لا الدنيا، وهذا ليس تنقيصا منهم رضوان الله عليهم بل حكاية لواقع حاصل!
فإن سأل سائل، إذا كانت الخلافة ووجودها هو شيء يحدده الواقع وأنها مناط يتحقق ولا نملك نحن ادعاءه وإعلانه ابتداء، فكيف تحمل كلام العلماء على وجوب تنصيب خليفة (إمام) تتم به مصالح الدنيا والدين؟ أليس هذا يعني وجوب أن يُعلن اليوم خليفة ليرتفع عنا الإثم؟
قلنا: معنى كلام العلماء عن وجوب تنصيب إمام هو أنه متى تحقق مناط الإمامة صار واجبا على الأمة نصب إمام، وإذا لم يتحقق مناطها فسيكون الحديث عن الإمامة العظمى غير مفهوم أصلا، فتنصيب الإمام واجب على الجماعة، ومتى لم يكن للمسلمين جماعة، فالمسلمون مخاطبون بإيجاد جماعتهم أولا، لا بإيجاد الخليفة الذي لا معنى لإمامته بغير تلك الجماعة.
وفي عصرنا إذا تكلمنا عن وجوب إيجاد الجماعة فهو حديث عن وجوب دفع كل العقبات التي تمنع من إيجادها، أي جهاد هذا العدو الصائل ووكلائه السالبين من المسلمين سلطانهم والمفرقين لجماعتهم، الضاربين بينهم بحدود رسموها بالأقلام، ليصبح الولاء عليها لا للإسلام، المانعين لشرع الله أن يسود، ولائتلاف كلمتهم أن تعود، فدفع شوكة هذا الكفر هو واجب العصر حتما وقطعا ويقينا، متى رُفعت تلك العواقب وأزيلت تلك العقبات وعاد للمسلمين سلطانهم من سالبيه، وجماعتهم من مفرقيها، وأزيحت شوكة الكفر عن رؤوسهم، كان أسهل شيء حينها أن ينصبوا عليهم رجلاً واحداً منهم، وحينها فهو إمام وخليفة بالواقع الحاصل لا بالادعاء والإعلان!
وهنا مسألة: إذا تحقق الاجتماع والشوكة في جماعة من المسلمين فقط وكانوا في قطر من الأقطار، أو تحقق في أقطار متباعدة فالذي لا أعلم فيه خلافا جواز تعدد الأمراء، بأن يصبح على كل قطر أمير. إذ أن معنى المنازعة وشق العصا منتف لأن الأمة لم تجتمع أصلا، مع حاجة كل قطر لأمير يقوم بأمرهم، ولا يجوز حينها أن يدعي أي من هؤلاء الأمراء سلطانا ليس له، ويزعم من نفسه واقعا لم يتحقق، فيقول أنه قد صار خليفة وإماما على المسلمين قاطبة، وهم ربما لم يسمعوا عنه أصلا، ثم يدعي على إثر ذلك بطلان كل الإمارات حتى التي لا يمتد إليها سلطانه ولا يقرب أن يمتد لها، فهذا ليس فعلا متجاوزا للشرع بل هو متجاوز للعقل، وقد قدمنا أن العقلاء من كل الأمم تطابقوا أن إمارة كل أمير بحسب سلطانه، وليس له إمرة على من ليس له سلطان عليهم، فأي معنى للإمارة غير السلطان!
وليس هذا التعدد للأمراء من المحظور، فإنما المحرم أن يكون هناك إمامان يتنازعان نفس الصفة أو السلطان وليس تعدد الأمراء بالصورة التي شرحناها والمناط الحاصل.
وأما كون الإمام لا تتجاوز إمرته سلطانه عقلا وشرعا فلا أدل من قصة أبي بصير وعصابته حين لم يكن تحت سلطان النبي صلى الله عليه وسلم جاز له ألا يلتزم بعهد النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين (الحديبية)، وقد كان أبو بصير يأوي إليه من خرج من مكة هاربا ويقطعون على قريش قوافلهم، ولم تتهم قريش النبي صلى الله عليه وسلم بنقض العهد إذ أنهم علموا أن إمارة أي أمير لا تتجاوز سلطانه، وأبو بصير لم يكن قد دخل في هذا السلطان، قد جاز هذا مع وجود الإمام والإمامة وجودا قطعيا واقعيا، ومع تحقق مناطها بصورة لن يتحقق في التاريخ مرة أخرى، فكيف لمن لم يتحقق له معشار العشر من ذلك أن يلزم الناس إلزاما بسلطان لم يصل إليهم؟!
وبذلك تفهم أنه لا معنى لشيء اسمه (إعلان قيام الخلافة) كما أنه لم يكن هناك معنى لشي اسمه (إعلان سقوط الخلافة) .. فالخلافة بالفعل كانت قد سقطت قبل ١٩٢٤ وإعلان الساقط أتاتورك لذلك لم يغير من الأحكام الواقعية والشرعية شيئا، فالإمامة لا تحصل بالإعلان كما قدمنا ولا تسقط كذلك بالإعلان، إنما هي شيء حدث في الواقع أو لم يحدث!
وأنا هنا أتكلم فقط عن المناط وعن الواقع الحاصل الذي يحدد هل توصف الإمارة أنها إمامة عظمى أم لا بعيدا عن الوسيلة، فكون الوسيلة التي حصل بها القدرة والشوكة مرضية أم ليست مرضية ليس محل حديثي، فتسلم الإمام لهذا لسلطان قد يحصل بالشورى والرضا، وقد يحصل بالغلبة والسيف والتمدد، أما إذا كنا سنتكلم عن الخلافة الممدوحة شرعا والتي جاء الوعد بها والتي هي صورة خاصة من الإمامة العظمى فهذا حديث آخر تماما.

والله تعالى أعلم.



منقول
في المصطلح الديني كلمة الخليفة تستخدم بمعنيين:

  • أولا: المصلح الرباني الذي يبعث من الله في العالم لإصلاح أمر ما، وعليه فبهذا المعنى إن جميع الأنبياء والرسل يسمّون خلفاء لله لأنهم يعملون نائبين لـه عز وجل، وبهذا المعنى سمى اللهُ سيدَنا آدم وسيدَنا داؤدَ خليفةً في القرآن الكريم.

    • ثانيا: ذلك الرجل البار الصالح الذي يقوم مقام نبيٍّ أو مصلحٍ روحيٍ بعد وفاته ليكمل مهمته ويكون إمام جماعته. مثلما قام سيدنا أبو بكر رضي الله عنه خليفةً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده سيدُنا عمر رضي الله عنه.

والسؤال المطروح هو عن ضرورة الخلافة، أي لأي غرض يتأسس نظام الخلافة؟ فاعلموا أنه لا يخلو فعل من أفعال الله من الحكمة، ولما كان عمر الإنسان في سننه الكونية محدوداً، ومهمة الإصلاح تقضي الإشراف والتربية لأمد طويل لذا فقد سنّ الله بعد النبوة نظام الخلافة لتتم بعد وفاة النبي مهمتُه بواسطة خلفائه. فكأن البذر الذي يُزرع بيد النبي ينميه الله عن طريق الخلفاء حتى يأمن الأخطار الابتدائية ويصبح دوحةً عظيمة. ومن هنا يتضح أن نظام الخلافة في الحقيقة فرعٌ لنظام النبوة وتتمته. ولهذا قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من نبوة قط إلا تبعته خلافة".
 
أعلى