سيشل جزيرة الألوان الوافرة

البريكي2020

عضو فعال
سيشل جزيرة الألوان الوافرة


بقلم: أحمد مبارك البريكي
Twitter: @ahmad_alburaiki
Instagram: @ahmad_alburaiki



باكراً مع انتشار نبض النور عند شطر الكوكب السفلي، حطّت بي الطائرة على صفحة البحر، في إقليم جزر سيشل لؤلؤة المحيط الهندي، وأكبر حقل غرانيتيّ طبيعي فوق الماء، يقول علماء المورفولوجيا إنها نتجت من اندلاع بركان ضخم في الأزل القديم، فهبّت قوى الماء تمحو ما دوّنه الحميم.. لتصنع على الأثر قطعاً من اليابسة مغزولة بشكل جميل يقصدها مسافر ينتظره كشف الآفاق.. وأنا الآن أبدأ الرحلة في جزيرة الألوان الوافرة.
فيكتوريا أصغر عاصمة سياسية في العالم من حيث المساحة، وللعلم هي المدينة النموذجية الوحيدة فقط في سيشل، وماعداها فهي قرى مبعثرة هنا وهناك، وهي الميناء والمقر الرئيسي للبرلمان، وفيها يقع المركز الإسلامي الوحيد في جزائر شرق أفريقيا، وتقع في أكبر جزيرة (ماهي) التي تسمّت باسم الحاكم الفرنسي لموريشيوس وقت الاستعمار الفرنسي لها سنة 1756، وفيكتوريا اسم لأعظم ملكات بريطانيا العظمى في القرن التاسع عشر (حكمت بين عام 1837 و1901)، وهي كذلك اسم لعواصم مستعمرات إنجليزية أخرى، منها مقاطعة هونغ كونغ الصينية، (ساعة بيغ بِن الصغيرة) التي تزيّن سنتر العاصمة وتحفّها أهداب نخيل جوز الهند والشواطئ البيضاء من كل مكان، هذا المجسم اللندني قام بتصميمه المستعمرون الإنجليز وحياً من رمز لندن التاريخي، لكنها هنا صغيرة بحجم البلد، وفي سيشل هنا لا توجد سوى إشارة ضوئية واحدة تقع في قلب العاصمة، ما جعلها معلماً سياحياً يتهافت الزائرون عليها.. وما أصعب أن تكون إشارات العبور مقصداً للبشر.
ليلة في ضيافة (ماري إنطوانيت).. وهو اسم لمطعم محلي بسيط جداً، وغير متكلّف يقدم الأكل (الكريوليّ) وهو ما يلقب به كل شعبي عند أهل سيشل، المائدة جيدة إلى حد ما، وطبق سلطة المانجو أشهر أشجار الجزيرة وأكثرها انتشاراً تحضر الطاولة، وقبلها كان صحن فيه سيقان صغيرة من الموز المطبوخ، اعتقدت للوهلة الأولى بأنها "بطاط عيدان قواطي الشهير اللي ما يصلح لأهل السانكيست إلا مع بو ديچ"، وسمك البورچوا المشوي أكثر الأسماك شعبية، كذلك التونة وتسمى هنا بأسماك (الواهو)، وتعمل مع الخضار وخليط فواكه البحر، في معترك العشاء وضعت صاحبة المطعم الفرنسية الأصل بجانبي فنجاناً من الفلفل المطحون شبيه بـ"معبوچنا اللي نعرفه".. وطلبت أن أنتبه جيداً لأنه حارق، ضحكت لها ضحكة واثق فاهم في ألاعيب الفلفل الشقي، ولأني أعرفه جيداً في بلدي وجربته آلاف المرات.. لكن ظني سرعان ما أصبح إثماً، وأدركت "بأنه من النوع اللي ما يغشمر".. وسلاح من أسلحة الدمار الشامل التي لم يستطع مجلس الأمن الدولي ولا حتى "كولن باول".. العثور عليه، ولم يحتو لهيبه كذلك صحن السويت "الكوكونتي" المثلّج في الأخير.
مع انبلاج السُحب عن محجة يوم جديد أبدأ زيارة لمنزل "الآرتست" البريطاني مايكل آدم، الذي استوطن القارة السمراء عوضاً عن أرضه الأم وذلك قبل 43 سنة، ليمارس رسوماته مأخوذاً بجمال الجزيرة الأفريقية التي وهبها حياته واستقراره وفنّه، ويقول مستر آدم: إنه زوجٌ لامرأتين جميلتين (زوجته الطبيعية وطبيعة سيشيل)، ينتصف النهار لأودّع متحف لوحات آدم، وأدلف عبر بوابة محميّة حديقة النباتات الوطنية في طرف من أطراف الجزيرة لأعيش مشاهدة لـ"ماكنتوشيّات" نباتيّة لا حصر لها من الأزهار والأشجار والثمار كـ.. شجرة الكوكونت الفارعة أو كوكو دي ماي، وهي أضخم ثمرة فاكهة على وجه البسيطة، حيث يتعدى وزنها 15 كيلوغراما، وسيقان الفانيليا وثمر جوز الطيب والقرفة وكذلك زهرة محلية مشهورة تسمى زهرة أحمر الشفاه، أو باللاتينية (Lipstick flower)، التي لاتزال تستخدمها السيدات القرويات للزينة و"الميك آب"، وتستخدم كذلك في صبغ واجهات البيوت وأرضياتها الخارجية، أجد في الأرجاء حظيرة سلحفاة آلدابرا العملاقة، وهي الحيوان الوطني في سيشل، لكونها موطنا أصلياً لها، ولهذه المُعمِّرة قدسيّة شعبيّة في البلاد تُسنّ لها القوانين الأهلية للحث على المحافظة على حياتها، لأنها من أنواع السلحفيّات المهددة بالانقراض رغم حياتها الطويلة جداً التي تصل أحياناً إلى (350) سنة عمراً.
البحر فضاء أبيض، يغمر سواحل الجزيرة بسخائه الكبير، والنهار شمعة هادئة تذوب في صيوان الإيقاع الناعم، وخيوط الشمس المرسلة تنبعث عناقيد ذهبية لترسم الحياة، و"الأزرقان" يتلامسان عند قوارب ورمال وشجر محتشد والتظاهرة ملهمة، مشهد يسكن الناظر لبهائه المريح، في"جزيرة برسلين".. كل صورة نقاء، وكل موضع أفق وكل زمن ومضة.. يدّعي أهل هذه الأرض بأن "روبنسون كروزو" الذي ابتدعه القاص الإنجليزي "دانيل ديفو" قد عاش قصته المثيرة هنا، على هذه الشطآن العريضة، وتحت تلكم الغيمات القطنيّة وعند غابات النخيل المتكاثفة بين الوادي والمحيط، إنها أرض حلم الانعزال والعيش في ظل رحمة الطبيعة السخيّ.
خليج "لازار"، وهو المكان الذي وصل إليه أول مرة المستكشف الفرنسي "لازار بيكو" سنة 1742، لتضع إمبراطورية فرنسا الاستعمارية يدها على الجزر العذراء، قبل أن تقع الجزر بعددها الـ 115 جزيرة بعد ذلك في قبضة البريطانيين، ويقع هذا الخليج في الجزء الجنوب الغربي من الجزيرة الأم "ماهي" أكبر جزر جمهورية سيشل التي لا تحدها أرض من جهة الجنوب إلا القطب المتجمد الجنوبي "انتاركتيكا".
على السواحل هنا تنتشر تكوينات صخرية لا تمل العين من مشاهدتها لغرابتها وتكوينها الطبيعي المتقن، وغالبيتها من صخور الغرانيت التي توجد بصورة كبيرة وهي صخور نارية المنشأ، نتجت عن تبرّد صهير الماجما البركانية التي انفجرت في المحيط خلال أزمنة جيولوجية سحيقة.. وبالقرب من المكان يقع شاطئ القناديل، أو قناديل البحر وفي أعماقه جنان لا توصف من عالم الشعاب المرجانية، والأسماك ذات الألوان الخلابة.. وأنا أجول ممتطياً "البايسكل".. عند شارع مجاور للبحر وقفت إلى بائع الفاكهة الاستوائية الذي يعرض بضاعته للمارّين، غنمت من عربته الريفيّة تجربة لذيذة فكانت البابايا والمانجا وجوز الهند، وليمة رائعة لنهار سعيد.
 
أعلى