أقوال الأئمَّة في تحريم الغناء:
اتَّفق الأئمَّة الأربعة وسلَفُ الأمَّة على تحريم الغناء، وأنَّه لا يتَعاطاه إلاَّ فاسق من السُّفهاء.
أولاً: الإمام أبو حَنيفة 80 - 150هـ:
قرَّر الأحنافُ في كُتبهم أنَّ سماع الغناء فِسْق، والتلَذُّذ به كُفْر، وقال الإمام أبو يوسف، وهو أكبَرُ تلاميذ أبي حنيفة، وكان قاضِيَ القُضاة في زمَن هارون الرَّشيد، قال: إذا سمعتُ الغناء من بيتٍ، فإنِّي أدخل عليهم بغير استِئْذان؛ لأنَّ تَغْيير المنكَر واجب، وهذا مُنكَر.
وورَدَ في كتاب التترخانيَّة - وهو من كتب الأحناف - أنَّ الغناء مُحرَّم في جميع الأوطان.
ثانيًا: الإمام مالك 93 - 179هـ:
سُئِل الإمام مالِكٌ عن الغناء، وما ترَخَّص فيه من أهل المدينة، فقال: إنَّما يفعله الفُسَّاق عندنا.
وسأله رجلٌ مرَّة عن الغناء، فقال للسَّائل: أرأيتَ إذا كان يوم القيامة، أيكون مع الباطل أو مع الحقِّ؟ فقال الرَّجل: يكون مع الباطل، فقال الإمام مالك: والباطل أين؟ أفي الجنَّة أم في النَّار؟ قال الرجل: في النار، فقال الإمام: اذهب، فقد أفتيتَ نَفْسَك.
وقال الإمام مالِكٌ: إذا وقفتَ على بيت غريمٍ لك - مَدِين لك - تنظره لِتَأخذ منه دينَك، وسَمِعت غناءً، فلا يحلُّ لك أن تقف؛ لأنَّ هذا منكَر لا يجوز لك أن تسمعه.
ثالثًا: الإمام الشافعي: 150 - 204هـ:
لَمَّا خرج الشافعيُّ من بغداد إلى مصر، قال: خرجتُ من بغداد، وخلَّفتُ شيئًا ورائي أَحْدَثه الزَّنادقة يُسمُّونه التَّغبير؛ لِيَصدُّوا الناس به عن القرآن.
التغبير: آلةٌ يُعزَف بها تشبه العود.
وقال: إذا جمع الرَّجلُ النَّاسَ لِسَماع جاريته، فهو سفيهٌ مَرْدود الشَّهادة، وهو بذلك ديُّوث.
رابعًا: الإمام أحمد 164 - 241هـ:
قال الخَلاَّل في كتابه "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر"، قال عبدالله بن الإمام أحمد: سألتُ أبي عن الغناء، فقال: لا يُعجِبُني، إنَّه ينبت النِّفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل.
ملحوظة: قول الإمام أحمد "لا يعجبني" يدلُّ على أنه يحرم الغناء؛ لأنَّ هذا اللفظ - وأيضًا "أَكْرَه" - إذا أطلَقَه أحَدٌ من الأئمة يدلُّ على التحريم، وليس على الكراهة، ولكنهم قالوه من باب الورَع؛ مَخافة أن يكونوا مِمَّن قال فيهم ربُّنا: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ﴾ [النحل: 116].
ويدلُّ على ذلك ما يأتي: مرَّ على الإمام أحمدَ رجُلٌ ومع الرَّجُل عودٌ، فقام الإمام أحمدُ وكسَرَه، فلو لم يكن الغناء محرَّمًا، ما كسر العود.
• وسئل الإمام أحمد عن رجلٍ مات وترك ولدًا وجارية مغنِّية، فاحتاجَ الصبِيُّ إلى بيعها، قال الإمام: تُباع على أنَّها ساذجة، لا على أنَّها مغنِّية، فقيل له: إنَّها تساوي ثلاثين ألفًا، ولعلَّها إن بيعت ساذجة تساوى عشرين ألفًا، فقال: لا تباع إلاَّ على أنَّها ساذجة.
هذا دليلٌ على أنَّ الغناء مَحْظور ومحرَّم، وإن لم يكن الغناءُ حرامًا، ما جازَ تفويتُ المال على اليتيم.
• قال القرطبيُّ: الغناء محرَّم، والاشتغال به على الدَّوام سفَه، تُرَدُّ به الشهادة.
• قال ابن تيميَّة مُعلِّقًا على حديث البخاريِّ المتقدِّم: ولو استحَلُّوا هذه المحارم "الحِرَ - الحرير - الخمر – المعازف"، مع جَزْمِهم بأنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حرَّمَها، كانوا كفارًا بهذا الاستحلال، ولو فعلوا ذلك دون استحلال، لأوشَكَ أن يُعذَّبوا بهذه العقوبة، وهي المَسْخ والقذف.
• قال ابن القيم: يَنْبغي لمن شمَّ رائحة العلم ألاَّ يتوَقَّف في تحريم الغناء؛ فأقَلُّ ما فيه أنَّه شعارُ شاربِي الخمور.
وبعد:
فهذه بعض الأدلَّة الثابتة في تحريم الغناء، وهي غيضٌ من فَيْض، وقطرةٌ من بحر، والمؤمن يَكْفيه دليلٌ واحد، وبرغم وضوح الأدِلَّة، وقطعِيَّة دلالتها، وُجِد - كما هو الحال - علماء أفتَوْا بعكس هذا الكلام، وقالوا بإباحة الغناء، فيهم مَن اجتهد فأخطأ، فله أجر، ومنهم من طمسَ الله على قلبِه وبصيرته، فلم يستَطِع أن يُميِّز بين المعروف والمُنكَر، إلاَّ ما أُشرِبَ مِن هواه.
وأَسُوق إليك أخي المسلم ما تعَلَّق به هؤلاء الصِّنف من الناس من شُبهاتٍ والردَّ عليها وتفنيد مزاعمهم، ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ﴾ [الأنبياء: 18].
الشُّبهة الأولى: وهي إباحة ابنِ حَزْم للغناء:
ونَذْكر أوَّلاً كلامَ ابنِ حزم في هذه المسألة، فقد قال: "إنَّ الغناء مُباح"، ولكنَّه بنَى كلامه على تضعيف حديث أبي مالكٍ الأشعري، وقد اجتهَدَ فأخطأ، وإليك ما قاله في حديث البخاريِّ، والردَّ عليه.
قال ابنُ حزم: إنَّ الحديث منقطِعُ السَّند، فيما بين البخاريِّ وهشام بن عمَّار، والذي جعل ابنَ حزمٍ يَقول هذا الكلام هو أنَّ البخاريَّ أوردَ الحديث بقوله: "وقال هشامُ بن عمَّار: حدَّثَنا صدَقةُ بن خالد"، ولَم يَقُل: عن هشام، والرَّد على ذلك من عدَّة وجوه؛ كما قال أهل العلم:
1 - أن البخاريَّ قد لَقِي هشامَ بن عمَّار، وسمع منه، فإذا قال: "وقال هشام"، فهو بِمَثابة قوله: "عن هشام".
2 - أنَّ كلام ابن حزم يُقبَل إذا كان البخاريُّ مُدلِّسًا، ولم يَصِف أحَدٌ من خَلْق الله البخاريَّ بالتدليس، فبطلَ بذلك كلامُ ابن حزم.
3 - أنَّ البخاري أدخلَ الحديث في كتابه المُسمَّى بالصَّحيح، فلولا صحَّتُه ما فعل ذلك.
4 - لو سلَّمْنا بصحَّة كلام ابن حزم، فقد رَوى الحديثَ نفسَه أبو داود متَّصِلَ الإسناد؛ ففي كلِّ الحالات الحديث ثابتٌ عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
رابط الموضوع:
http://www.alukah.net/sharia/0/27254/#ixzz3Xq84ZtC5