جدلية القرآن والحديث

خالص جلبي
الخميس 30 يونيو 2016 - 00:14
من حوران حيث الثورة السورية الملتهبة بعد مرور خمس سنوات على اشتعالها وها قد دخلت عامها السادس، ولا أحد يعلم مآلها ومستقرها في كتاب لايضل ربي ولا ينسى (بدء الثورة في 18 مارس من عام 2011م).

في حوران وفي مدينة (نوى) عاش الإمام النووي الذي ينسب إليها، ربما في عصر لم يكن مضطربا كما هو في أيامنا، وقام الرجل بانتقاء اربعين حديثا، شعر أنها تنفع في يوميات الإنسان، مثل حديث (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء مانوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ماهاجر إليه) توحي ظلال الحديث أنه ليس كل من هاجر كان عقائديا بل هناك أخلاط من الناس لهم أهداف متضاربة، وهو أمر متوقع في الواقع الإنساني، ولكن روعة الحديث أنه يضع قواعد نفسية واجتماعية بالغة الأهمية. لقد رأى الإمام الشافعي من الحديث مدخلا لكل الأعمال فمن يتوضا بدون نية لم يستكمل مدخل الصلاة؛ في حين أن الإمام أبو حنيفة اعتبر أن الأساس ليس بهل نوى أو لم ينوي فيكفي الاغتسال أن حقق مقصوده بالنظافة، وهذه أرضية قلسفية لفهم الخلافات الفقهية في فهم النصوص، فالقوم كانوا يشغلون عقولهم في فهم النص فهم مبدعون ونحن مقلدون، والخطير ليس هنا، بل من حاول مغايرة المفاهيم فله الويل وهنا الخطر الأعظم في تحنط الفكر وعدم ممارسة الاجتهاد والتجديد.

في هذا أتذكر قصة معبرة جرت في الأجواء التي كان يعيش فيها أحمد بن حنبل والشافعي؛ فالرجلان تعاصرا، خلاف أبو حنيفة والشافعي؛ ففي السنة التي غادر فيها أبو حنيفة العالم إلى ربه ولد الشافعي (عام 150 هجرية) فعاصر بن حنبل، وأتذكر من كتاب الشنقيطي (زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم) تلك الليلة العجيبة حين نام الشافعي عند ابن حنبل وكأن بنت بن حنبل رابها أمره فقالت لوالدها أنه أكل كثيرا ونام كثيرا وصلى الصبح بدون وضوء؟ فلما استفسرها قال نعم أكلت كثيرا لأن طعامك حلال فاردت الاستزادة من الحلال، وأما أنني صليت الصبح بدون وضوء فهو صحيح ايضا لأنني لم أنم طول الليل فصليت الصبح بوضوء العشاء، وكنت أفكر طوال الوقت في حديث ياعمير مافعل النغير فاستخرجت بضعا وسبعين حكما منه. أنا شخصيا استهواني الحديث فقلت كيف وماهي الأحكام فعلا التي وصل إليها. لقد ذكر الشنقيطي الأحكام السبعين فعلا من مثل يستحب مداعبة الصغير ويجوز تصغير الكنية فاسمه كان عمرا ويجوز احتباس الطير للعب الأطفال وماشابه ويمكن مراجعة كتاب الشنقيطي للاطلاع على كامل القصة حرصا على وقت القاريء.

أنا شخصيا قمت بالاشتغال أولا على القرآن الكريم، لمدة ثماني سنوات، ولم يكن في مخططي ولا في بالي أن أحفظه، ولكن للقرآن جاذبية لاتقاوم.

بدأ مشروعي الأول بحفظ سورة فصلت ثم مريم. كنت أصلي خلف الإمام الكردي في مسجد الجسرين في مدينة القامشلي فأبكي خشوعا، وانحفرت في ذاكرتي آيات لاتمحى من القرآن كما في آخر سورة التوبة والنحل والمؤمنون، ثم تابعت الحفظ، وكان القرآن حافظا لي في أزمة خطيرة تعرضت لها عائلتي فكرت يومها بالجريمة، ولكن انشغالي بالقٍرآن حلق بي إلى أعلى عليين فتحملت الصدمة ومرت.

أثناء دخولي كلية الطب تابعت حفظ القرآن حتى انتهى معي في ثماني حجج، ولم يكن بالتسلسل، بل سورة من هنا وهناك، وأذكر جيدا آخر سورة حفظتها كانت سورة يونس، حفظتها على ظهر بيت صديقي المهندس (حسان جلمبو) الذي مات تحت التعذيب في سجن تدمر فيما بلغني، وأن جثته سلمت لأهله لاحقا، وكان شابا في غاية الوسامة والرشاقة والذكاء، ومنه فهمت قوانين الطيران.

وفي قبو المخابرات البعثية العبثية في القامشلي ـ وكنت أستعد للفحص المصيري (البكالوريا) قبل دخولي الجامعة والتحاقي بكلية الطب التي كنت أحلم بها ـ حفظت سورة المؤمنون، خشعت في نهايتها عند قوله تعالى: حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون؟ لعلي أعمل صالحا فيما تركت؟ كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون. فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون..

في هذه اللحظة المصيرية تقول بعض الأبحاث أن شريط الحياة يمر أمام ذاكرة الإنسان في لحظات، وهو أمر غير مستبعد حين أشاهد أنا الأفلام المسجلة عندي في جهاز تسجيل الفيديو (Video - Recorder)، وهو جهاز لايملكه ولا يهتم به أو ينتبه لأهميته إلا الندرة من الناس، وأنا اقتنيت منه أكثر من واحد، بدء من ماركة بايونير ولكنها تخربت بسرعة، وما صمد عبر الزمن كان جهاز (سوني) وهو ليس للدعاية له، كما أنه غير متوفر في الأسواق على كل حال، وأهمية هذا الجهاز أنه يمكن أن تسجل فيه وأنت نائم لفترة 12 ساعة، ثم تقوم بمسح كل الإشهارات المجبر على مشاهدتها مع الفيلم؛ فتمسحها وترتاح؛ فترى الفيلم بدون دعايات وإشهارات، وهذا موضوع ليس مكان حديثنا الحالي.

ومن الملا الكردي حفظت خلفه في الصلاة نهاية سورة الأنبياء (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لايرجعون. حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون. واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ياويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين) حقيقة أغرق في الخيال لفهم هذه الظاهرة: يأجوج ومأجوج من هم وفي أي بقعة جغرافية يعييشون؟ ليس هذا فقط بل آية الدابة التي وردت في آخر سورة النمل ماالمقصود فيها؟ (أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لايوقنون) إذا كانت كل مشاهد الوجود من آيات مبثوثة هنا وهناك لاتدفع لليقين؛ فلتنبثق دابة من الأرض تحدث دواب البشر؟ هل هو المقصود؟ ربما أيضا من سورة الشمس في الجزء الثلاثين تواجهنا قصة المجرم الذي لايفهم هذا المعنى بحضور الناقة لها شرب يوم معلوم فيعقرها. لماذا خرجت من جديد ناقة يخصص لها يوم خاص لشرب الماء مقابل كل القوم في يوم خاص بهم؟ ما المراد ماهي الدلالة؟ قال البعض إنها معجزة القوم في ذلك الوقت، ماالذي جرى؟ انبعث أشقاها فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها فكذبوه فعقروها (هنا من قام بالجريمة واحد ولكن المشاركة والسكوت عنها كما هو في موقف أوباما في رؤية الدماء السورية تسيل ويستطيع منعها فيسكت عن ذلك فهو شريك فيها ولو تنكر وأنكر). هنا يبرز معنى جديد لولادة الجريمة ومن يشارك فيها. تقول الآية ليس فعقرها بل فعقروها (بالجمع فالكل شارك في العقر في القتل) فكانت النتيجة أن دمدمة الرب تناولت القوم جميعا فسوى بهم الأرض وليس من قوة أكبر ممن يملك كل القوى بيمينه والسموات مطويات بيمينه يقول لمن الملك اليوم لله الواحد القهار (فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها)

أما التي وردت في سورة النمل فهي من علامات الساعة، وذهبوا للتقسيم علامات كبرى وصغرى؟ ولكن ماذا تقول الفيزياء الحالية عن امتداد عمر الزمن وهل نحن في نهايته؟ ولكن من يجزم بهذا واالحضارة هي بنت البارحة، فالكون انفجر منذ 13,7 مليار سنة على شكل كرة نارية، وحتى يبرد احتاج لمليارات جديدة كي تتكون الأجرام والأنظمة التي تعرفها، ولكن نظامنا الشمسي ولد قبل ثمانية مليارات سنة، في حين أن أمنا الأرض بدأت رحلتها قبل 4.6 مليار سنة، ولكن الحياة في شكل الخلية تطلبت فترة طويلة امتدت حوالي مليارين من الأعوام، ولم تبدأ الحياة إلا بعد فترة 800 مليون سنة، والخلية التي هي عصية التركيب وهو أساس الحياة ومنها تتشكل كل الكائنات بما فيها شجرة الصفصاف التي نمت في حديقتي وأنا متعجب من سكوتها الطويل حتى كدت أقطع الأمل في انتعاشها بعد أن شقت الأغصان طريقها للعلى جدا. كل كائن يتشكل من خلية أولية فيها معجزة الحياة. أما عديدات الخلايا ولو كانت ذبابا لن يقدروا على خلقه وإن يسلبهم الذباب شيئا لايستنقذوه منه. ضعف الطالب والمطلوب. ثم بدأت عديدات الخلايا بالتدفق في أشكال لم تحصر حتى الآن فالنمل لوحده عرف منه حوالي 28 ألف نوع فما بال كل الكائنات التي تعيش على كوكبنا الأرض.
 
أعلى