لماذا يطبل الإماراتيون ؟ محاولة للفهم

من الظواهر التي لا يجد لها المراقبون للشأن الإماراتي تفسيرا في ظل الظروف والتغيرات السياسية والاقتصادية في دولة الإمارات منذ وفاة المؤسس الشيخ زايد هي ظاهرة الوطنية المبالغ فيها والتطبيل واستمرار التطبيل في مجتمع لم يعتد النفاق ولا التزلف ، وشبه انعدام للتذمر من تآكل الميزات والسيادة للمواطنين في أرضهم وثرواتهم ورخائهم ، بل إن غيرهم من المراقبين البعيدين نسبيا عن البلد وهم أكثرية يظنون بسبب هذا الغطاء الكاذب من المديح والبهجة وبسبب الإعلام الصارخ بالتفوق ، أنه ليس هناك أي تآكل في الأوضاع الوطنية والمواطنية أو تذمر في النفوس ، ولا يلام المراقبون هؤلاء وأولئك على ذلك ، ولكن هل يبرأ المواطنون الإماراتيون من شيوع هذه الصورة الكاذبة المصطنعة عنهم وعن بلدهم. دعونا نستعرض الأسباب المحتملة لهذه الظاهرة :


* الثقة ، النعمة التي انقلبت نقمة (أهم الأسباب) :

إن أي مطلع على طبيعة الشعب الإماراتي يعلم أن أغلبيته تتميز بالخاصية النفسية المسماة لين العريكة الميالة لتجنب الخلافات قدر الإمكان ولإحسان الظن ، كانت هذه الميزة نعمة في عهد الشيخ زايد حيث أنه كان بمثابة الأب الموثوق والانسان الذي كما يقال منهم وفيهم ، بعيدا عن الشطط ، مدركا وقريبا مما تريده الغالبية والرأي العام فلا يصادمه ، وإن فعل أحيانا قليلة بأمره أو بأمر مجلس الوزراء سرعان ما يستدرك ويتراجع ليس خوفا من الناس وانما حبا لهم ، واحساسا بالمسؤولية والثقة التي منحوه اياها بجعله حاكما ، ذلك كان النموذج القبلي الصحيح في أبهى حلله وأفضل حالاته ، ولذلك النموذج ربما كان طبع وفطرة الشخصية الإماراتية هي الأمثل للتوافق معه. بل قد يقول قائل أن تلك الخاصية النفسية كانت نبتة لها أساس في النفوس ولكنها نمت وسيطرت وعمت الشعب كله بنهج زايد ومسلكه معهم.

تلك الموائمة شبه المثالية صنعت نجاح الاتحاد وكل الانجازات التي تلته ومن ضمنها السكينة المجتمعية والتوحد الحقيقي (بخلاف البيت الذي يطلق عليه افتراء أنه متوحد حاليا). وكما يقال أحيانا تنقلب النعمة الى نقمة ، تحققت المقولة حين تحولت تلك الخاصية مع السنين إلى ثقة عمياء للأسف ، وتسليم بأن الدولة تعمل كل شيء لمصلحتهم وبما يريده الأغلبية ، وفي سنوات مرض الشيخ زايد الأخير بدأت القوانين والنهج يتغير تدريجيا ، إلى أن جاءت وفاته ثم وفاة الشيخ مكتوم رحمهما الله بعدها بسنتين لتزيل السد الأخير الذي بقي حاميا الناس من رغبات وأطماع طال انتظار أصحابها ، وأصبحت الأيام تأكل من ميزات واحترام وسيادة المواطنين في أرضهم بشكل تصاعدي وفج داخليا واقتصاديا وأمنيا منذ 2006 و خارجيا بشكل واضح منذ 2011. بقي لين العريكة وبقيت الثقة العمياء للأسف عند غالبية الشعب ، وحين شجعوهم على التطبيل والمديح تلقفه كثير من الشعب ببراءة عجيبة وطبلوا ظنا منهم أنه استكمال لعنصر ناقص في نموذجهم المتوافق الناجح الذي يتذكرون ، وهو أبعد ما يكون عن ذلك بل هو هدم تدريجي ممنهج لكل ذلك.


* الصدمة وعدم الرغبة في تصديق تدهور نوعيات القيادة :

هناك فئات من الشعب ليست لديها القدرة نفسيا وعقليا لتستوعب حجم الفرق في الرجال ونهج الحكم لمجرد رحيل الجزء الفعال من الصف القديم من القيادة ، من ناحية الإخلاص للوطن كوطن وليس ملكية خاصة أو شركة ، ومن ناحية حسن النية والاحترام تجاه شعبهم ورعيتهم ، ومن ناحية الأمانة في حمل الأمانة ، ولهم بعض العذر في ذلك إذ لا يتصور العقل عادة ولا يصدق أن جيلين متتاليين بينهما كل هذا التضاد والتباين ، وحتى من صدق من الناس لاحقا ذلك وآمن به ظل أغلبهم يكذب نفسه وينكر عليها حتى لا يفيق ويتكرس الواقع المر الجديد في عقله ، ولأجل ذلك وجد راحة في المدح والتطبيل تطمئنه ولو كذبا أن نهج الحكم لازال على ماكان عليه.


  • القمع وسنينه :
غير صحيح أن التغييرات مرت جميعها بدون أن تلاحظها نسبة جيدة من الإماراتيين وبدون أي تذمر تماما ، شهدت سنوات 2006 الى 2008 كمية جيدة من النقد الخجول ولكن الذي ينم عن احتراق داخلي شديد ، وتحول لنقد متوسط الى لاذع في بعض المنتديات التي كانت رائجة آنذاك قبل وسائل التواصل ، وبالأخص للقضايا المتعلقة لتملك الأجانب والتركيبة السكانية ، وقلة الاحترام للمواطنين بسبب تقليص صلاحياتهم وميزاتهم ونزع الشعور السيادي منهم ، والإسكان والغلاء وغيرها ، انما انتهت تلك الموجة مع موجات القمع والتلفيق والتخوين والقبضة الأمنية وصدور قانون الجرائم الالكترونية المفصل تفصيلا لقمع الرأي ولو كان وطنيا.


* الإعلام وطنينه :

منذ 2006 تغير النهج الإعلامي البريء بشكل عام الى إعلام موجه توجيها شديدا ، فاختفى أي أثر للنقد والبرامج الباحثة عن السلبيات ، وأصبحت تلك البرامج في حكم المنقرض المحرم ، وحل محلها طيف خالص من المديح للمسؤولين والانجازات والمبالغة في المدح للدولة وتصويرها جنة الله في أرضه ، السابقة لكل الدول قديمها وحديثها في كل مجال بشكل فج وممجوج يسبب الغثيان.


* العسكرة :

عسكرة الحياة اليومية والمناصب والفن والأغاني ، وعسكرة المناسبات الوطنية لدرجة أصبحت المدارس والأطفال تلهث خلف الأزياء العسكرية كعلامة دالة على الوطنية والوطن والإخلاص ، وكأن المدنية والمدنيين أصبحت طبقة دنيا مشكوك في ولاءاتها ووطنيتها. مع تشجيع لأدب الحروب الدائمة والعنتريات شعرا ونثرا ووسائل تواصل ، أدى كل ذلك لشيوع الوطنية المبالغ فيها والمصطنعة لتصبح هي المطلوبة والمرحب بها.


* بقايا تمكين قديم من عهد زايد :

لازالت هناك بواقي من التمكين القديم للمواطنين لم تطلها يد المنهجية الجديدة أو لم تستطع عمليا حرمان المستفيدين الحاليين منها ، كمصادر الدخل الإضافية التي كانت لدى المواطنين ، وبعض بنود قوانين العمل والرخص القديمة وخلافه ، إلا أنها ستندثر مع اندثار الجيل المستفيد بسبب أنها ظلت سارية عليهم بحكم الأمر الواقع وحسب ، لكن لاحقا ستتفرق الاستفادة من الدخل بين مجاميع أكبر من الورثة ، وبالتأكيد سيأتي الدور على بعضها أيضا بيد التغيير في السنوات القليلة القادمة كما جاء على كثير منها سابقا ، هذه البقايا بالإضافة الى زيادات رواتب العسكريين بالطبع من جيش وشرطة شراء لولائهم دونا عن بقية المجتمع ، لازالت تصنع مساحة رقيقة من التخدير العام. إن غياب عقلية التفكير المنطقي والاستشرافي للمستقبل عند معظم المواطنين ، وعدم ادراكهم أن النهج الحالي سيمحو حتى هذه البواقي في خلال مدة لا تزيد عن 10 إلى 15 سنة بما لا يشعرهم بالأمان حتى على أنفسهم وأولادهم -دع عنك جيل الأحفاد- هذا الغياب يجعلهم يمدحون ويطبلون ربما حتي تزحف نيران التغيير لأقواتهم وترمي بهم خلف خط الفقر والحاجة في خلال سنوات.
 
أعلى