الصحابي / عيينة بن حصن الفزاري

مشل الخالد

عضو فعال
في محيط السيرة قصة عيينة بن حصن الفزاري
د. محمد بن لطفي الصبّاغ
كان عيينة بن حصن شخصية أعرابية عاصرت الحقبة المضيئة في تاريخ الإنسانية، وهي عصر النبي العظيم - صلى الله عليه وسلم - . وفي أخبار هذه الشخصية بعض الطرافة وكثير من الغرابة أن تصدر عمّن تشرّف برؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وذكر ابن حجر في (الإصابة): «أنّ كنيته أبو مالك. ويقال: كان اسمه حذيفة، فلُقِّبَ عيينة؛ لأنه كان أصابته شجّة فجحظت عيناه. قاله ابن السكن»[1].
وكان من المؤلفة قلوبهم، ولم تصح له رواية، وقد أسلم قبل يوم الفتح، وشهِد الفتح وحُنيناً والطائف.
جاء في سيرة ابن هشام: «أنَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أذَّنَ بالرحيل بعد حصار الرسول - صلى الله عليه وسلم - للطائف؛ فلمّا استقلّ الناس نادى سعيد بن عبيد: ألا إنَّ الحيّ مقيم! فقال عيينة: أجل والله، مَجَدَةً كِرَاماً.
فقـال له رجـل مـن المسـلمين: قاتلك الله يا عيينة! أتمدح المشـركين بالامتناع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد جئتَ تنصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟
فقال: إنّي والله ما جئتُ لأقاتل ثقيفاً معكم، ولكني أردتُ أن يفتح محمدٌ الطائف، فأصيب من ثقيف جارية أتَّطِئها لعلها تلد لي رجلاً، فإنَّ ثقيفاً قوم مناكير!»[2] أي: ذوو دهاء وفطنة.
وهـذا الخـبر يدلّ على حال عيينة في تلك الآونة، وينطبق عليه ما ينطبق على الأعراب الذين قال الله - تبارك وتعالى - في حقهم: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَـمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: ٤١].
ولــه مـوقـف مـن هذا القبيل في سبايا هوازن نذكره كمـا جـاء في سـيرة ابــن هــشام: (قــال رســول الله - صلى الله عليه وسلم - : «.. وأمـا ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم»، فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال الأنصار: وما كـان لـنا فهو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم؛ فلا، وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة؛ فلا، وقال العباس بن مرداس: أما أنا وبنو سُليم؛ فلا، فقالت بنو سُليم: بلى! ما كان لنا فهو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال عباس بن مرداس لبني سُليم: وهنتموني)[3].
ثم قال ابن إسحاق:
(وأمّا عيـينة بـن حصـن فـأخذ عجوزاً من عـجائـز هـوازن، وقـال حـين أخـذها: أرى عـجـوزاً، إني لأحسب لها في الحـيّ نسـباً، وعسى أن يعـظــم فـداؤهــا. فلمّا ردّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السبايا بست فرائض، أبى أن يردّها، فقال له زهـيـر أبو صُـرَد: خذهـا عنك؛ فوالله ما فـوها بـبـارد، ولا ثـديـها بنـاهـد، ولا بطنها بوالد، ولا زوجها بواجد[4]، ولا درُّها بماكد[5]؛ فردّها بست فرائض حين قال له زهير ما قال)[6].
وقد تألف الرسول - صلى الله عليه وسلم - عيينة يوم حنين فأعطاه مئة من الإبل.
وقال ابن بطال[7]: وكان يقال له: الأحمق المطاع. قال ذلك في شرحه حديث عائشة الذي أخرجه البخاري برقم 6032، ومسلم برقم 2591، وأبو داود برقم 4791، والترمذي برقم 1996؛ وهو:
عن عائشة - رضي الله عنها - أن رجلاً استأذن على النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فلمّا رآه قال: «بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة» فلمّا جلس تطلّق النبي - صلى الله عليه وسلم - في وجهه، وانبسط إليه. فلما انطلق الرجل، قالت عائشة: يا رسول الله! حين رأيتَ الرجلَ قلتَ له كذا وكذا، ثم تطلّقت في وجهه وانبسطت إليه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يا عائشة! متى عهدتِني فاحشاً؟ إنّ شرّ الناس عند الله منزلةً يوم القيامة مَنْ تركه الناس اتّقاءَ شره».
قال ابن بطال: هو عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، وكان يقال له: الأحمق المطاع، وقد رجا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بإقباله عليه تألُّفَه ليُسْلِم قومُه؛ لأنّه كان رئيسهم.
وكذا فسّره به عياض، ثم القرطبي والنووي جازمين بذلك، أي بأن الرجل هو عيينة.
ومما يقوِّي القول بأنه عيينة: ما أخرجه عبد الغني بن سعيد في «المبهمات» من طريق عبد الله بن الحكم عن مالك أنه بلغه عن عائشة: (استأذن عيينة بن حصن على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «بئس أخو العشيرة».. الحديث. وأخرجه ابن بشكوال في «المبهات» من طريق الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير أنّ عيينة استأذن... فذكره مرسلاً).
وهناك من يقول: إنّه مخرمة بن نوفل، ويبدو أن القول الأول أصح، والله أعلم.
وقال ابن حجر في «الفتح»[8] وفي «الإصابة»[9]، وابن عبد البر في «الاستيعاب»[10]: (وقد أخرج سعيد بن منصور عن أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم النخعي قال: جاء عيينة بن حصن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده عائشة - رضي الله عنها - فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : من هذه؟ (وذلك قبل الحجاب)، فقال - صلى الله عليه وسلم - : «هذه عائشة أم المؤمنين»، قال: ألا أنزل لك عن أجمل منها.. (وفي رواية عن خير منها) عن أم البنين؟ (يعني امرأته)، فغضبت عائشة - رضي الله عنها - وقالت: من هذا؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : «هذا الأحمق المطاع» يعني: في قومه.
وهذا الحديث مرسل ولكن ابن حجر قال: ... ورجاله ثقات، ووصَلَه الطبراني من حديث جرير.
ومن أخباره الغريبة: ما ذكره أبو حاتم السجستاني في كتاب: «المعمرون والوصايا»[11] قال: وصّى حصن بن حذيفة ولده عند موته، وكانوا عشرة، وكان سبب موته أنّ كُرز بن عامر العقيلي طعنه، فاشتدّ مرضه، فقال لهم: الموت أَرْوَحُ ممّا أنا فيه، فأيكم يطيعني؟ قالوا: كلُّنا. فبدأ بالأكبر فقال: خذ سيفي هذا، فضعه على صدري ثم اتّكئ عليه حتى يخرج من ظهري. فقال: يا أبتاه! هل يقتل الرجل أباه؟
فعرض ذلك عليهم واحداً واحداً فأبوا إلاّ عيينة، فقال: يا أبتِ، أليس لك فيما تأمرني به راحة وهوى، ولك مني طاعة؟ قال: بلى! قال: فمرني كيف أصنع؟ قال: ألقِ السيف يا بنيّ؛ فإني أردت أن أبلوَكم فأعرف أطوعكم لي في حياتي فهو أطوع لي بعد موتي، فاذهب أنت سيد ولدي من بعدي، ولك رياستي، فجمع بني بدر فأعلمهم بذلك، فقام عيينة بالرياسة بعد أبيه، وقتل كُرزاً.
وكان لعيينة موقف سيئ يوم الخندق، إذ كان مع المحاربين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، فقد خرجت قريش إلى الحرب وقائدها أبو سفيان، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن في بني فزارة، والحارث بن عوف المري في بني مرة. ولما اشتد على الناس البلاء بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عيينة ابن حصن والحارث بن عوف المرّيّ، وهما قائدا غطفان، فعرض عليهما أن يعطيهما ثُلُث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن مـعهما عنه وعن أصحابه، ولكن الأنـصار قالوا: والله ما لهما إلاّ السيف!
إن عرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - الرؤوف الرحيم ذاك العرض كان لـمّا رمت العربُ المسلمين عن قوس واحدة، وقد كان وضعُ المسلمين من الشدّة والفزع الوضعَ الذي وصفه القرآن في سورة الأحزاب: {إذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْـحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْـمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا} [الأحزاب: ٠١ - ١١]، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكسر عن المسلمين شوكة هؤلاء الأعداء.
ومن أخبار عيينة بن حصن المحارِبة للإسلام: أنّه أغار على إبل للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان من جراء ذلك غزوة عُرِفت بغزوة ذي قَرَد[12]، ودعاها بعض مؤلفي السيرة بغزوة الغابة[13]، وكانت سنة ست للهجرة. وملخص خبرها: أنّه كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - عشرون لقحة[14] ترعى بالغابة، فأغار عليها عيينة بن حصن في أربعين راكباً واستلبها من راعيها.
فجاءت الأخبارُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - الذي بلّغه سَلَمة بن الأكوع - رضي الله عنه - أحد رماة الأنصار، وكان عدّاءً لا تدركه الخيول، فأمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن يخرج في أَثَر القوم ليشغلهم بالنبل حتى يدركهم المسلمون.
فخرج سَلَمة يشتد في أثرهم حتّى لحقهم، وجعل يرميهم بالنبل، فإذا وجهت الخيل نحوه رجع هارباً فلا يُلحق، فإذا دخلت الخيل بعض المضايق علا الجبلَ فرمى عليها بالحجارة، حتى ألقوا كثيراً ممّا بأيديهم من الرماح والأبراد ليخففوا عن أنفسهم حتّى لا يلحقهم الجيش، ولم يزل سلمة على ذلك حتى تلاحق الجيش به. فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا أصحابه فأجابوه.
وقتل في هذه الغزوة مسلم ومشركان، واستنقذ المسلمون غالب اللقاح، وهرب أوائل القوم بالبقية.
وأورد البيهقي خبراً فحواه أن عيينة بن حصن استأذن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في أن يأتي أهل الطائف فيدعوهم إلى الإسلام، فأذن له، فجاءهم، فأمرهم في حصنهم وقال لهم: (لا يهولنكم قطْعُ ما قطّع محمد من الأشجار...) في كلام طويل. فلما رجع، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما قلت لهم؟» قال: دعوتـهـم إلى الإسلام، فأنذرتهم النار، وذكرتهم بالجنة. فقال - صلى الله عليه وسلم - : «كذبتَ، بل قلت لهم كذا وكذا».
فقال: صدقت يا رسول الله! أتوب إلى الله وإليك من ذلك[15].
لقد كانت من عيينة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته أمور تدلّ على ضعف إيمانه، فيكون ما وصفه به النبي - صلى الله عليه وسلم - من أنه بئس أخو العشيرة؛ من دلائل نبوته، صلوات الله وسلامه عليه.
وقد ارتد عيينة عن الإسلام زمن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه وأرضاه - وحارب المسلمين، ومال إلى طلحة وبايعه، ثم عاد إلى الإسلام، وكان فيه جفاء سكان البوادي[16].
قال المحـاملي[17] في أماليـه: عـن عـبيدة بـن عـمـرو قـال: جـاء الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فقالا: يا خليفة رسول الله! إنّ عندنا أرضاً سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تقطعناها؛ فأجابهما وكتب لهما، وأشهد القوم، وعمر ليس فـيهم. فانطـلقا إلى عمر ليُشهِداه فيه، فتناول الكتاب ومحاه، فتـذمرا لـه وقالا له مقالة سيئة؛ فقال عمر - رضي الله عنه -: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتألّفكما والإسلامُ يومئذٍ قليل، وإنّ الله قد أعزّ الإسلام، اذهبا فاجهدا جهدكما! فأقبلا إلى أبي بكر - رضي الله عنه - وهما يتذمران فقالا: ما ندري والله: أنت الخليفة أو عمر؟ قال أبو بكر: لا، بل هو لو كان شاء.
فجـاء عـمر وهو مغضَب حتى وقف على أبي بكر، فقـال: أخبـرني عـن هــذا الذي أقـطـعـتــهـما: أرض لك خـاصـة أو للمـسلمين عــامـة؟ قال: بل للمســلمين عــامـة! قـال: فما حملك على أن تخص بها هذين؟ قال: استشرت الذين حولي فأشاروا عليَّ بذلك، وقد قلتُ لك: إنّك أقوى على هذا مني؛ فغلبتني.
أقول: وقد أورد البخاري هذه القصة في التاريخ الصغير (1/56) موجزة عن عبيدة السلماني أن عيينة والأقرع استقطعا أبا بكر أرضاً، فقال عمر: إنما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤلِّفكما على الإسلام، فأما الآن فاجهدا جهدكما.
وللصدّيق العظيم - رضي الله عنه - وأرضاه دور في استتابته وإصلاحه، فقد قال ابن كثير: كان طليحة الأسديّ ارتدّ في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلمّا مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام بمؤازرته عيينة بن حصن بن بدر الفزاري، وارتدّ عن الإسلام وقال لقومه: والله! لَنبيٌّ من بني أسد أحبُّ إليّ من نبي من بني هاشم! وقد مات محمد، وهذا طليحة فاتبعوه، فوافقه قومه بنو فزارة على ذلك.
فلمّا كسرهما خالد بن الوليد - رضي الله عنه - هرب طليحة بامرأته إلى الشام فنزل على بني كلب، وأَسَر خالدٌ عيينة بن حصن، وبعث به إلى المدينة مجموعةً يداه إلى عنقه، فدخل المدينة وهو كذلك، فجعل الوِلدان والغلمان يطعنونه بأيديهم ويقولون: أيْ عدوَّ الله! ارتددت عن الإسلام؟ فيقول: والله ما كنتُ آمنتُ قطّ!
فلما وقف بين يدي الصّدّيق - رضي الله عنه - استتابه وحَقَن دمه، ثم حسُن إسلامه بعد ذلك.. وأما طليحة فإنه راجع الإسلام بعد ذلك أيضاً[18].
وفي عهد عمر - رضي الله عنه - كانت لعيينة قصة مع أمير المؤمنين ذكرها البخاري عن ابن عباس، قال: قدم عيينة ابن حصن بن حذيفة، فنزل على ابن أخيه الحرّ بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شباناً.
فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي! لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه[19]! فقال: سأستأذن لك عليه.
قال ابن عباس: فاستأذن الحرّ لعيينة، فأذِن له عمر، فلما دخل عليه قال: هِي يا ابن الخطاب! فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل! فغضب عمر حتّى همّ به، فـقـال لـه الحُر: يا أمير المؤمنين! إنَّ الله - تعالى - قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْـجَاهِلِينَ} [الأعراف: ٩٩١]، وإن هذا من الجاهلين! واللهِ ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقّافاً عند كتاب الله[20].
وبقـي إلى زمـان عثـمان بن عفان - رضي الله عنه - فقد ذكر أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب (3/168) أنه دخل على عثمان فأغلظ له القول، فقال عثمان: لو كان عمر ما قدمت عليه بهذا!
وبعدُ: ففي قصة عيينة دروس وعبر، أود أن أعرض إلى بعضها بإيجاز فيما يأتي:
1 - في هذه القصة ما يدل على حسن خُلُق النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وتلطُّفه مع الناس أجمعين، بَرِّهم وفاجرهم؛ ليثبت الأبرار على الحق، ويتألّف الفجار لينقذهم من واقعهم المنحرف البائس في الدنيا، ومن الجحيم والعذاب الخالد في الآخرة. وهذا أمر ثابت عن سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد وصفه ربه بذلك فقال - سبحانه -: {وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: ٤]، وقال - تبارك وتعالى -: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْـمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: ٩٥١]، وقـد مـرّ بـنـا أنـه قال لعائشة - رضي الله عنها -: «يا عائشة! متى عهدتِني فاحشاً؟ إنّ شرّ الناس عند الله منزلةً يوم القيامة مَنْ تركه الناس اتِّقاءَ شرّه».
وقد قلت في تعليق لي في كتاب (مختصر المقاصد الحسنة) على الحديث (174) ما يأتي: «إنّ من المناسب أن أُورد تفريق العلماء بين المداراة والمداهنة، فقد ذهبوا إلى أنّ المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرّمة، وقالوا: إنّ المداهنة هي معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، أما المداراة فهي الرفق بالجاهل في تعليمه، وبالفاسق في الإنكار عليه ووعظه، وتألُّفهما، واستدلوا على ذلك بأحاديث، منها ما أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي: من أنّ رجلاً استأذن على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «بئس أخو العشيرة!» فلما جلس تطلّق النبي - صلى الله عليه وسلم - في وجهه وانبسط إليه. فلما ذهب الرجل، قالت عائشة: يا رسول الله! حين رأيت الرجل قلت كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : «يا عائشة! متى عهدتِني فاحشاً؟ إنّ شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره».
وهذا درس للدعاة كبير؛ ماذا يضيرنا أن نلين القول للناس أجمعين؟ إن ذلك يقربهم منّا. إنّ المسلم كالوردة تفوح منها روائح العطر للناس جميعاً، لا تفرّق بين إنسان وإنسان، إنها لا تحجب رائحتها الزكية عمّن لا يستحقها؛ فكل من اقترب منها سعِد بالشذا العطر، وكذلك المسلم فإنه لا يستطيع إلا أن يكون حَسَنَ المعاملة، لطيف العشرة، ولكن هذا اللطف لا يؤثر في موقفه الصلب من الباطل، فلا يجعله لطفه هذا يقول الباطل أو يؤيده.. والله أعلم).
2 - ومن الدروس التي نقف عليها في هذه القصة أنّ على ولي الأمر في الأمة أن ينصح أمته، ويقرر لهم حقيقة مَنْ يعاشرون من الناس كيلا ينخدعوا. ولقد كانت كلمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في عيينة[21] تقريراً لحقيقة هذا الإنسان التي تجلّت في تصرفاته في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد مماته، ولذا عدّ بعض العلماء هذا الحديث من أعلام نبوته.
إن علينا أن نتعامل معهم بالحسنى والحذر؛ لأننا أصبحنا عارفين لحقيقتهم. يقول الله - تعالى -: {وَلا تَسْتَوِي الْـحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: ٤٣].
3 - وتدل أحداث هذه القصة على أنّ الباطل لا بد أن ينكشف مهما طال أمده، ولا بد أن يستبين الحق؛ فالذين ادّعوا النبوة كذباً وزوراً وسار وراءهم عيينة وقومه وأمثالهم، ظهر للناس بطلان دعوى أولئك المدّعين. يقول الله - تبارك وتعالى -: {وَقُلْ جَاءَ الْـحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}.
[الإسراء: ١٨]
ويبدو لنا فضل أبي بكر الصّدّيق الرجل العظيم على هذه الأمة وعلى الإنسانية كلها، الذي تصدّى لحركة الرِّدة بعزيمة راسخة وتخطيط محكم، وقضى على المرتدين، وأعاد للإسلام مكانته. لقد كان قوياً في الحق، وكان في الوقت نفسه يتألف المنحرفين ويعيدهم إلى جادة الصواب كما كان الأمر مع عيينة.
4 - كان عيينة في جاهليته سيّد قومه، قال أبو عمر بن عبد البر: (كان عيينة يُعدُّ في الجاهلية من الجرّارين، يقود عشرة آلاف)[22].
وقد سخّر هؤلاء الذين كان يقودهم لمحاربة الإسلام ونبيه العظيم، وكان كما وصفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «الأحمق المطاع في قومه»، فقد دعاهم إلى مؤازرة طليحة المتنبئ فأطاعوه، فأفسد عليهم أمر حياتهم الدنيا وأمر آخرتهم، وأفسد بهم الناس، ثم تاب ورجع ورجع معه قومه. وقد قصّ الله - عز وجل - علينا في القرآن قصة فرعون الذي كان من المفسدين وكيف أطاعه قومه فأهلكهم. قال - تعالى -: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف: ٤٥ - ٥٥].
5 - وفي هذه الأخبار التي مرت بنا نقف على حِلْم عمر، ووقوفه عند كتاب الله والعمل به، وقبوله الموعظة.
ونقف على أنه - رضي الله عنه - كان يجالس العلماء ويشاورهم، سواء كانوا كهولاً أو شباناً.
والحمد لله الذي هدانا لهذا، ونسأل الله أن يرد المسلمين إلى دينهم لتعود إليهم عزتهم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

[1] الإصابة، 3/55.
[2] سيرة ابن هشام،4/127.
[3] سيرة ابن هشام: 4/132.
[4] أي: زوجها لا يحزن عليها؛ لأنها عجوز.
[5] الماكد: الغزير.
[6] سيرة ابن هشام: 4/133.
[7] فتح الباري: 10/453.
[8] فتح الباري: 10/ 454 -455.
[9] الإصابة: 3/55.
[10] الاستيعاب: 3/167.
[11] المعمرون والوصايا، 132 - 133.
[12] انظر: سيرة ابن هشام: 3/293. وذو قَرَد: ماءٌ على ليلتين من المدينة بينها وبين خيبر.
[13] انظر: نور اليقين، 177. والغابة: موضع على بريد من المدينة جهة غطفان.
[14] اللقحة: بالكسر الناقة ذات لبن. والفتح لغة، والجمع لِقَح، مثل: سِدره وسِدَر.
[15] دلائل النبوة، للبيهقي: 5/163، ونقل ذلك ابن كثير عنه في البداية والنهاية 6/72، طبع هجر .
[16] الإصابة: 3/55.
[17] هو أبوعبد الله الحسين بن إسماعيل بن محمد المحاملي، المتوفى سنة ثلاثين وثلاثمائة. وأماليه في ستة عشر جزءاً.
[18] البداية والنهاية: 9/453 - 454، طبع هجر.
[19] قال ابن حجر في الفتح 13/258: أي في خلوة، وإلاّ فعُمر كان لا يحتجب إلا وقت خلوته وراحته، ومن ثم قال له: سأستأذن لك عليه، أي: حتى تجتمع به وحدك.
[20] أخرجه البخاري (4642) و(7286)، وقال ابن كثير في التفسير: تفرّد به البخاري.
[21] وهي قوله فيه: «بئس أخو العشيرة».
[22] الاستيعاب:


 

مشل الخالد

عضو فعال
حدثنا الرياشي ,قال : سمعت الأخفش يقول :(1)

كان(((سيبويه , إذا وضع شيئا من كتابه عرضه عليَ,وهو يرى أني أعلم منه ,وكان أعلم

مني ,وأنا اليوم أعلم منه .)))


وحدثني سهل بن محمد , عن الأصمعي _أو غيره _ قال :(2)

((أول من خط بالعربيه ...مُرار بن مُره ...من أهل ...الأنبار ...ومن الأنبار إنتشرت في الناس))

وهي زيادة فوق موافقتنا على البيع والشراء ...


أسعد الله ايامك بالمسرات والهمك السعادة والإطمئن وراحة البال ..



(1)المعارف ..:لإبن قتيبه .أبي محمد عبد الله إبن مسلم (213_276)هجري....ص/546

تحقيق :د: ثروت عكاشه .

(2) نفس المصدر :ص(552)
 
أعلى