سجين رقم 4444! (مقالة الجاسم)

زخات مطر

عضو مميز

سجين رقم 4444!


في الممر المؤدي إلى عنابر السجن استقبلني أحد السجناء، وهو مكلف من إدارة السجن بإجراء ترتيبات الدخول.. مد يده مصافحا.. كانت ملامحه تبعث على الارتياح والثقة.. قال لي: "متابعين أخبارك وننتظر وصولك". صحبني إلى "عنبر الإيراد"، وهو العنبر الذي يودع فيه السجين لمدة لا تزيد على أسبوع لحين انتهاء إجراءات الدخول والفحص الطبي.. "عنبر الإيراد" هذا عبارة صالة كئيبة مظلمة تنبعث منها روائح نتنة.. يوجد فيها نحو 25 سريرا "بوطابقين".. في ركن منها يعلق السجناء ملابسهم كي تجف بعد الغسيل من دون تعرضها للهواء أو أشعة الشمس. الصالة أقرب إلى "بيت عزاب" لم يتم تنظيفه على الإطلاق. "هذا سريرك.. وهذه عزبتنا"! قال أول صديق جديد لي في السجن بنبرة فيها الكثير من الفخر، فهو كان قد قرر ضمي إلى "العزبة" وأعد الفراش في الطبقة السفلية بالطبع. و"العزبة" هي الركن الخاص بالسجين، وتتكون "عزبتنا" من ثلاثة أسرة على شكل حرف "U" وكان سريري يواجه الحائط في قاعدة الحرف، وتوجد فتحة بين سريرين تشكل مدخل "العزبة". كان سريري رمادي اللون مصنوع من حديد "زاوية" و"بليتة صاج" عليها فراش من "الإسفنج" يبلغ ارتفاعه أقل من 15 سنتيمتر في الأطراف ونحو 5 سنتيمتر في الوسط من كثر الاستخدام، وعلى الطبقة العلوية من سريري توجد "كراتين" توفر بعض الخصوصية لسكان "العزبة".

وعلى الرغم من قذارة "العنبر"، فقد شعرت بالارتياح لأن إقامتي لن تكون في زنزانة. وبعد جلسة تعريفية قصيرة صحبني صديقي الجديد إلى مستشفى السجن، وهو يقع في الممر ذاته الذي توجد فيه عنابر السجناء.. لاحظت أنه كي نخرج من العنبر يجب أن نطرق على الباب الحديدي الثقيل أكثر من مرة وبقوة فيفتح الباب سجين آخر يلبس ملابس السجن ذات اللون الأخضر الذي يميل إلى الأصفر، ولأنه يعرف صديقي وبحكم أن صديقي مسؤول في "العنبر" فإنه لا يسأله عن سبب خروجه.. سألت صديقي: "لماذا يقف هذا السجين عند الباب"؟ فشرح لي قائلا: " أصحاب الملابس الخضراء هم سجناء تتم الاستعانة بهم لمساعدة الشرطة، وهم الوسيط بين السجناء والشرطة، ومهمتهم رصد كل حركة في السجن.. حركة السجناء والشرطة والضباط أيضا وتقديم تقارير شفوية". وتبين لي أن هذه الفئة من السجناء تقيم في عنبر خاص يسمى "عنبر الأمن" وأن الغالبية هم من الجنسية المصرية والسورية ومن غير محددي الجنسية (البدون). ذهبنا إلى مستشفى السجن حيث تم فتح ملف طبي لي، ثم أجريت لي بعض الفحوصات كما تم "تطعيمي" بلقاحات مضادة لأمراض منتشرة في السجون عادة. المستشفى يبدو نظيفا وهو يعج بالسجناء.

عدنا إلى "عزبتنا".. ندخل "العنبر" من دون حاجة لاستئذان طبعا.. وبعد دخولي العنبر بقليل تم استدعائي لتصويري ومنحي هوية.. وفي الممر المؤدي إلى مكان التصوير التقيت بأحد السجناء الذي بادرني بالسلام ودس في يدي مبلغ 20 دينارا وغادر مسرعا وكأنه لم يفعل شيئا. لمح صديقي الجديد الدهشة على وجهي فقال على الفور: "لا تستغرب فأنت تتمتع بشعبية بيننا هنا، ونحن نرغب في مساعدتك على تجاوز ما تتعرض له.. ثم أنك تحتاج إلى المال لكن عليك أن تنتبه إلى أنه لايسمح لك سوى بالحصول على 50 دينارا كل أسبوعين من قبل زوجتك أو أحد أبنائك فقط". تم تصويري ومنحي هوية السجن وقد لاحظت أن رقمي هو 4444 أي أنه رقم "بلاتيني"!

في المساء استدعيت من قبل أحد الضباط ولم أكن قد التقيت به صباحا.. كان الضابط راقيا جدا وقال لي فور دخولي مكتبه: "لا أستطيع القول أنها مناسبة طيبة لكن يشرفني اللقاء بك"، فشكرته على موقفه واهتمامه، وفي طريقي عائدا إلى "عزبتنا" في "عنبر الإيراد"، تلقيت دعوة من أحد سجناء "عنبر الأمن" لتناول وجبة العشاء معه في عنبره، فوافقت على الفور.. كان "عنبر الأمن" نظيفا مقارنة "بعنبر الإيراد"، وكان العشاء عبارة عن "بلاليط وبيض وجبن".. وخلال تناول وجبة العشاء حاول مضيفي إقناعي بالإقامة في "عنبر الأمن" قائلا: "هنا يحظى السجناء ببعض المزايا كونهم يعملون لحساب إدارة السجن، وأهم ميزة هي أن الباب الخارجي للعنبر لا يغلق ليلا، وبإمكانك الخروج والتجول في الممر في أي وقت، وربما تكون قد لاحظت أنه يوجد مكان للجلوس قبالة الساحة الصغيرة في مدخل العنبر تتسلل إليه أشعة الشمس ويتسرب الهواء". شكرت مضيفي على وجبة العشاء وأبلغته أنني أفضل الإقامة في "عنبر الإيراد" فقد كان انطباعي الأول عن العنبر إيجابيا رغم قذارته.

غادرت "عنبر الأمن" بحفاوة بالغة وعدت إلى "العزبة" في "عنبر الإيراد". وقبل جلوسي على السرير، خاطبني صديقي قائلا: "ها شلون عنبر الأمن"؟ قلت له: "تبي الصج.. ما ارتحت"، فقال: "هل عرضوا عليك الإقامة عندهم"؟ قلت: "نعم.. وما أدراك"؟ قال: "توقعت ذلك، ففي عنبر الأمن من السهل مراقبتك وتقديم تقرير يومي مفصل عن حركتك، فلا تنسى أنك سجين "غير عادي" ولابد أنك "مرصود" ومراقب". قلت: "حتى في السجن"!

على الأرض قرب سريري لاحظت وجود أكياس مليئة بالأغراض فاستفسرت عنها فقال صديقي: "وصلت هذه الأغراض قبل قليل أرسلها أحد السجناء تعبيرا عن تقديره لك". كانت الأغراض عبارة عن ملابس داخلية جديدة وصابون وفوطة وفرشاة ومعجون أسنان ودشداشة نوم وكل مستلزمات السجين الجديد.

استلقيت على السرير بعد أن وضعت الأكياس تحته فلا توجد خزانة خاصة، وأخذنا نتبادل الحديث، وبالطبع كان كلا منا يظهر تعاطفه مع الآخر إلى أبعد الحدود.. وخلال الحديث كنت أسمع قرعا قويا على الباب ولم تكن هناك استجابة، وفي كل مرة يقرع فيها الباب أهم بالذهاب لفتحه.. كان القرع مزعجا.. بل كان تجاهل القرع يسبب لي إزعاجا أكبر.. سألت صديقي: "لماذا لا نفتح الباب"؟ فضحك كثيرا على السؤال وقال: "يا عزيزي إن القرع الذي تسمعه هو قرع الخروج من العنبر لا الدخول إليه، فالباب مقفل من الخارج.. ولا تنسى نحن سجناء هنا، نستأذن للخروج لا للدخول"! هنا أدركت حقيقة أنني سجين، فأنا كنت قد اعتدت على قول "تفضل" حين أسمع طرقا على الباب، لكن في السجن الأمر مختلف.. أخذت ورقة ولصقتها أسفل "البليتة" العلوية للسرير بواسطة الشريط اللاصق الذي يوضع على كيس الدواء عادة، وكتبت عليها "الدرس رقم (1): قرع الخروج ليس كطرق الدخول". ثم استسلمت لنوم عميق استمر نحو 14 ساعة متواصلة!

أمضيت في "عنبر الإيراد"، الذي أطلقت عليه "عنبر" ناصر صباح الأحمد، نحو 15 يوما، وهي مدة أطول من المعتاد، فقد كنت أرغب في البقاء في هذا العنبر لأسباب أمنية على الرغم من عدم صلاحيته رسميا من الناحية الصحية، إذ تشاطر السجناء فيه كتيبة من "الزهيوية".

كانت هذه بعض تفاصيل اليوم الأول في السجن المركزي، أما عن رد فعلي في اليوم الثاني حين تم تصويري من الأمام ومن الجانبين وأنا أحمل الرقم الخشبي بيدي.. وانتقالي إلى "عنبر أمن الدولة" أو "عنبر" ناصر محمد الأحمد، فتلك حكاية أخرى.

ملاحظة: تجري فيما يبدو عمليات إعادة ترتيب للتحالفات السياسية سواء على مستوى الشيوخ بين بعضهم البعض أو على مستوى علاقاتهم بالقوى السياسية. ويبدو أيضا أن "بلايين التنمية" هي "الأداة" الرئيسية التي يستخدمها البعض لتعزيز مواقعه، وهي أيضا "الهدف" الرئيسي للبعض الآخر. وفي ظني أن نتائج الترتيبات السياسية الجارية حاليا على إيقاع "بلايين التنمية" سوف تظهر بشكل أوضح بعد عطلة عيد الفطر على نحو قد يتيح لي الكتابة بتفصيل عنها، فكل عام وأنتم بخير ونلتقي بإذن الله تعالى بعد عطلة العيد.

28/8/2010
-------------
التعليق:
يبدو أن هناك إتفاق على هدنه أو تهدئه وهذا ما جعل الجاسم يهدئ قليلا من وتيرة مقالاته ويتطرق للأحداث اليومية التي عاشها في السجن ولتحقيقات أمن الدوله ولمقالات سطحية توقف فيها هجومه المعتاد على خصومة
وأتمنى شخصيا أن يتفرغ الجاسم لتحليل الوضع السياسي بصورة موضوعية ويسلط الضوء على منطقة أوسع من نطاق الأسرة ولم أتمنى لذلك إلا لإعتقادي بأنه يجيد التحليل السياسي خصوصا وأن لديه قلم يستطيع تطويعه بأي صورة يشاء بالإضافة إلى أنه يملك معلومات لا تتواجد لدى كثير من الناس
 
أعلى