Anonymous Farmer
عضو مميز
عندما يكون الملحد خيرا
هناك خلط كبير يقوم به كثير من المؤمنين على اختلاف أديانهم فيما يخص النظرة إلى الإلحاد والملحدين بشكل عام ، فيتصور الكثير من المؤمنين بأن جميع الملحدين هم أشخاص عديمي الإنسانية والضمير والأخلاق بغض النظر عن تصرفاتهم ، وهذا تعميم خاطئ بالتأكيد لأن التعميم تصرف خاطيء بالأساس ، ولأنه عند النظر إلى الملحدين وجب التفريق بينهم حسب الطريقة التي يتعاملون فيها مع معتقداتهم ، سأبين لكم ذلك بمثال شخص مسلم يقطن إحدى الدول الأوروبية - أو حتى العربية - في زيارة لإحدى العيادات ويقوم بالكشف عليه طبيب ملحد - دون معرفة المسلم بذلك - وصادف أن كان هذا الطبيب على كم هائل من الأخلاق والصدق وحسن التعامل مع الجميع ، فالإحساس هنا والعلاقة الناشئة بين المسلم والملحد ستكون علاقة جيدة بالتأكيد ، بل قد تتطور العلاقة بينهما إلى صداقة كذلك . ولكن فلنفترض بأن الطبيب قام بالسؤال عن عقيدة المريض ومن ثم الاسترسال في حديث طويل ونقد عنيف ضد جميع الأديان والقول بأنها تعارض العقل البشري وتعيق التقدم وتحجب عن الإنسان حقوقه وحرياته وما إلى ذلك من حجج الملحدين ، بل فلنفترض بأن الحديث تجاوز حرية الرأي ليصل إلى إهانة الذات الإلهية ورموز المسلمين وغيرهم ... هنا ستتغير وتسوء العلاقة فورا ، فما سبب وجود الألفة في العلاقة الأولي المبنية على عدم العلم بمعتقدات الطبيب وانعدامها في الثانية القائمة على محاولة نشر الإلحاد كاعتقاد ؟
على غرار ما يعتقده كثير من المؤمنين ، هناك نوعان من الملحدين أولهما من يتجه إلى الإلحاد كمجرد ردة فعل على الأديان وعلى وجود الأديان ، لا على ما يتوهم وجوده في الإلحاد من حرية فعلية للعقل وراحة حقة للنفس ، فنراه لا يعرف نفسه للآخرين إلا والإلحاد يترأس ذلك التعريف ليسبق وطنيته التي تحثه على وجوب الاعتزاز بتقاليد أهل البلد وتعزيز الدين والإشادة به من باب المواطنة ليس إلا ، ويأتي إلحاده ليسبق انسانيته التي تحضه على الذود عن حق أخيه المسلم من باب الإنسانية والأخوة على الأقل ، بل يأتي إلحاده في أسوأ الأحوال سابقا عقله وحكمته ورشده الذين يفرضون عليه احترام الدستور والقوانين التي تجرم التعدي على الذات الإلهية ورموز المسلمين . هذا هو النوع الأول من الملحدين الذي جاء إلحاده كردة فعل كارهة للغير ، فنراه يكشف عن إلحاده ، ويعرف نفسه بهذا الاعتقاد ، ويلهث وراء إزالة الأديان ، ويحاول إثبات أثرها السيئ على المؤمنين ، ويتحيز ضد المؤمنين بكل عنصرية ، بل ويتطاول على الرموز الدينية بكل وقاحة وتعد على معتقدات غيره من اخوانه في المواطنة والانسانية ... هذا النوع من الملحدين لن يرى العقل ولا المنطق ولا الراحة النفسية أبدا ، وسيظل يلهث محتقرا غيره ومحقرا اعتقادات المؤمنين في ذات الوقت الذي يطالب فيه بحرية وكرامة الإنسان ، بل وستنتفي لديه كل سبل الراحة حتى يعي بأن الإلحاد ما هو سوى اعتقاد فردي خاص جدا ولا يمت إلى التطور والرقي لا من قريب ولا من بعيد ، وبأن ما يؤدي فعلا إلى التقدم والرقي هو عمل الإنسان .
أما النوع الآخر من الملحدين فهم من لا يعرف نفسه بالإلحاد بتاتا ، وهناك الكثير من الملحدين - وعلى الأخص الأجانب لا العرب - ممن قدم الكثير من الخير للبشرية جمعاء رغم إلحادهم ، كالعلماء والأدباء ، والناشطين في حقوق الإنسان ، والكتاب المناهضين للظلم ، والوطنيين الصادقين ، والمدرسين المتميزين ، والأبناء البارين ، وغيرهم الكثير . والملاحظ في جميع هؤلاء الملحدين "الخيرين" بأن خيرتهم هذه لصيقة بكون قناعاتهم خاصة ، فلا نراهم يعرفون أنفسهم بالإلحاد بل بالعلم والعمل ، وحب واحترام الغير ، وصون الوطن ووجوب تلاحم المواطنين ، والذود عن المستضعفين مهما كانت توجهاتهم ومعتقداتهم ، وغيرها من أفكار نيرة حقا ، ولا نرى هذا النوع من الملحدين يسخر الكثير من الوقت والجهد للسخرية من المؤمنين واعتقادتهم ، ولا نراهم يحاولون هداية غيرهم إلى "نور" الإلحاد . فهذا النوع من الملحدين لم تأت قناعاتهم نسبة لمقتهم واحتقارهم للأديان ولم تأت كردة فعل لوجود الدين ، بل إن كثيرا منهم اليوم يقتدي بالأديان رغم عدم الإيمان ، بل ويطالب بحقوق المؤمنين كذلك كالجماعات الإنسانية التي تتحد مع المسلمين لتنادي بتطبيق أحكام الشريعة على المسلمين القاطنين في الخارج نسبة لكونهم مواطنين ذوي حقوق موازية لغيرهم ، وغيرهم الكثير ممن اتخذ الإلحاد في قرارة الأنفس دون التجني فيه على غيرهم .
وجب التفريق بين هذين النوعين لأسباب بسيطة ، فالقول بأن جميع الملحدين سيئين به كثير من التعميم بل ويماثل القول بأن جميع المؤمنين خيرين بينما لا يتعدى الفرق بين المؤمن والملحد سوى هداية رب العالمين ، فالتعميم إذا يخفي جهلا وقصورا شديدا من قبلنا لأنه يقوم بوضع الكثير من الأشخاص الخيرة في قالب سيئ رغم صلاح النية والأقوال والأفعال ، كذلك وجب التفريق بين هذين النوعين لوجوب العلم بأنه لا يوجد ملحد خير واحد - دون استثناءات بالمرة - ممن اتخذ الإلحاد بناء على أسس سلبية جدا كردة فعل لوجود الأديان ، أم لتمجيد الغرب وتقليده ، أم إثر موقف شخصي سيئ تعرض له ، أم بسبب نسب أخطاء المسلمين لا لأفعالهم بل للدين ذاته ، فباتوا على ذلك يجرون في محاولة بائسة لنشر الإلحاد كفكر ، وعلى خلاف ما يعتقده هذا النوع الأول من اللادينيين - المنتشر بصورة أكبر في العالم العربي دون الغربي - إن ما يطمحون إلي تحقيقه بعيدا كل البعد عن العقل والحرية والمنطق بل وجميع ما يتصل بالخير ، وأن ما يطمحون إليه ما هو سوى تآكل للنفس من جراء ما تحمل من نبذ واستنكار للغير ، وسلوك غير مستقيم نسبة لنشوئه كفعل مضاد للدين ، وهاجس للإله الذي يسعون طوال حياتهم لإنكاره .