*** الحـــــريّـــــــــة ***

الموسوي

عضو مخضرم
بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على محمد وال محمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..

قال الامام الحسين بن علي بن ابي طالب عليهم السلام في يوم عاشوراء لمعسكر الخصم

" ان لم يكن لكم دين فكونوا أحرار في دنياكم "

من كلام الامام عليه السلام سوف يقع كلامنا بثلاث محاور :

المحور الأول : المفهوم العام للحريّة

المحور الثاني : أقسام الحريّة

المحور الثالث : الحريّة في الاسلام

المحور الرابع : حكم الردّة في الاسلام


****

المحور الأول : المفهوم العام للحريّة




الحرية هي عبارة عن امتلاك الارادة , فكل مخلوق يمتلك الارادة فهو حر ويعرّف العلماء ( الحرّ ) بقولهم " من اذا شاء فعل واذا لم يشأ لم يفعل " اذن استعمال القدرة واستخدام المشيئة في أن ( المخلوق ) يفعل أو يترك هذا هو مناط الحريّة وقولنا ( المخلوق ) تشمل حتى الحيوان فهو أيضا له هذا المقدار من الحريّة فالحيوان يمتلك ارادة الفعل والترك ما لم يقسر بقاسر وينسحب هذا الأمر على الانسان كذلك فما لم يقسر الانسان على فعل أمر يكون حرا .


فامتلاك ( الارادة ) هي المسطرة التي نقيس عليها حريّة ( المخلوقات ) .



المحور الثاني : أقسام الحريّة


للحريّة أقسام وأنواع متعددة وسوف نتطرق الى الحريّة الاجتماعيّة والحريّة السلوكيّة والحريّة الطبيعية وتجدر الاشارة الى أن جميع أنواع الحريّة ( مقيّدة ) لا مطلقة عند جميع القوانين والدساتير الوضعيّة والسنن الالهيّة , فلو أتينا للحريّة الاجتماعيّة بمعنى اقتناص الثروة وأخذ النصيب من الطبيعة هذا الأمر مشروع لجميع المخلوقات ويدل على ذلك قوله تعالى " هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ {الملك/15} " وقوله تعالى " هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً {البقرة/29} " فلكل انسان الحق في التمتع بالأرض والهواء والماء الموجود في الفضاء الخارجي .



والمسألة التي تتفق عليها جميع القوانين الوضعيّة والسنن الالهيّة أن كل انسان حرّ مالم يعتدي على حريّة الآخرين , فحريّة كل انسان هي قيد لحريّة نظيره , مثلا لو فرضنا أن انسانا أراد ان يبني مصنعا في وسط المدينة وهذا المصنع يحتاج الى وقود وانتاج المواد تستلزم تلويث للبيئة في وسط المدينة لا يمكن أن تكون حريّة هذا الانسان حريّة مطلقة في جني ثروته لأنه سوف يعتدي على حريّة الآخرين بشكل مباشر .



أما الحريّة السلوكيّة التي هي محور الكلام في المنتديات والمدونات وشاشات التلفاز وتعني ان يكون الانسان حرا في سلوكه وتصرفاته وهذا المفهوم من حيث المبدأ يتفق عليه الجميع لكن المسألة أن هناك تيارات فكريّة برزت تقول بأن للانسان الحق الكامل في أن يكون ما يشاء دون أدنى قيد فاللبرالية تقول بأن للانسان الحق أن يكون متدينا أو غير متديّن يلزم نفسه بمبدأ او لا فهو حرّ حريّة سلوكيّة لماذا يفرض عليه الدين مثلا ومبادئ معيّنة تحد من هذه الحريّة؟!


الجواب :


ان الحريّة السلوكيّة مفتوحة لدى الانسان بشرط أن لا يتحوّل الى مخلوق آخر ؟! ولكي نقرّب المسألة نقول , لو كان هناك مجتمعا من المجتمعات رفض مرافق الحياة من تعليم وصحّة وأمن , فهل يترك هذا المجتمع بحجة ( الحريّة السلوكيّة ) , فجميع القوانين الوضعيّة تقول بأن هذا المجتمع ( تفرض عليه مرافق الحياة ولو بالقوّة ) لأن تركه بهكذا مبدأ يجعله يتحوّل الى بيئة حيوانيّة , فهو جاهل غير نظيف ومتوحش , فلا تعليم ولا صحّة ولا أمن تؤدي بهذا المجتمع الى تحوّله من مجتمع انساني الى مجتمع ( غير انساني ) , لهذا الحريّة السلوكيّة مقيّدة في اطار مرافق الحياة .



نقرّب الصورة أكثر , ان الأمم المتحدة تفرض رقابة على ( الانترنت ) وكلنا يذكر مشروع الولايات المتحدة الأمريكية لفرض رقابة على الانترنت هي تشرف عليه خوفا من المنظات الارهابيّة فلو أردنا أن نقول أن الحريّة السلوكيّة غير مقيّدة لقلنا للأمم المتحدة والولايات المتحدة لماذا لا تتركون الحريّة للانسان أن يكون ( ارهابيا ) ؟! ليس شرطا أن يكون الانسان يتبنى الارهاب العملي لكن لماذا لا تتركون للانسان أن يأخذ ويتزود من الثقافة الارهابيّة ( الفكريّة ) لماذا الحجر على الانسان أن يقتنص الثقافة الارهابيّة الفكريّة ؟!




ان ما يجعل الأمم المتحدة وغيرها تفرض رقابة حتى على ( الفكر ) الارهابي لأن الفكر الارهابي يحوّل الانسان الى حيوان الى وحش يمسخ منه الروح والمبادئ والقيم الانسانيّة , كذلك ان ما يجعل الاسلام يفرض قيودا تحد من حريّة الانسان السلوكيّة للمحافظة على انسانيته فمسألة الحريّة السلوكيّة المطلقة مسألة مرفوضة عقلا وقانونيا ودينيا , فالاسلام عبارة عن مجموعة من المثل والقيم والمبادئ التي تميّزه عن غيره من المخلوقات .



بعبارة أخرى ( حريتك مقيّدة بأن تكون انسانا ) . :)




المحور الثالث : الحريّة في الاسلام



ان الدين الاسلامي الحنيف هو من أسس القواعد والمبادئ المتينة للحريّة وجعل لها اطارا سليما يحافظ على انسانية الانسان , وقد أثيرت وما زالت تثار حوله الكثير من الشبهات التي تقول بأن الاسلام ضد الحريّة ( العباديّة ) فهو يفرض نفسه على غيرّه ولو بالقوة ؟!


قبل الشروع بالرد على هذه المسألة نقول أن الاسلام لم يحارب سوى عبادة واحدة لا غير وهي عبادة غير الله سبحانه وتعالى وبالتالي أن جميع من يعبد الله سبحانه وتعالى من يهود ونصارى وصابئة يمكنهم العيش بالدولة الاسلاميّة تحت بند عقد أهل الذمّة تحترم طقوسهم وكنائسهم ويكونون مواطنين من الدرجة الأولى كما يقال وقولنا أنهم يعبدون الله سبحانه وتعالى أيّ لهم كتاب يتعبدون به وان كانت الطريقة تختلف عن الاسلام .



سؤال بعد الآيات تقول " وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ " آل عمران / 85 وقوله تعالى " إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ " آل عمران / 19 فكيف يعطون الحريّة والاسلام مفروض عليهم ؟


الجواب :



ليس المراد بالاسلام في هذه الآيات هو شريعة الخاتم صلى الله وعليه وآله وسلّم بل الاسلام بمعنى ( دين التوحيد ) وهو يشمل الأديان كلها ولذلك عبر القرآن الكريم بأن دين نبي الله ابراهيم الاسلام " إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ {البقرة/131} " وقوله " وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ {البقرة/132} " وقوله تعالى " قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ {آل عمران/64} " .



هذا بالنسبة للسؤال المتداول دائما , أما بالنسبة لقولنا أن من يعبد غير الله سبحانه وتعالى كالبقر والشجر أو أيّ مخلوق من المخلوقات هو الذي يفرض عليه عبادة الله سبحانه وتعالى لماذا ؟!

( شمعنا ) :)



الجواب :



أهم مبدأ تركز عليه جميع الشرائع والأديان هي كرامة الانسان "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً " الاسراء / 70 , الانسان هو الذي يعطى حق الكرامة والمقصود بالكرامة أن يكون الانسان متميّز عن المخلوقات فهذا حق أصيل للانسان في جميع الشرائع والأديان والقوانين , من هنا نقول أن عبادة الانسان لمخلوق أقل منه انتهاك لكرامته فعبادة الانسان فعندما نقول أنه على الانسان ان يعبد الله سبحانه وان الحرية ان يحرر نفسه من عبادة المخلوق الى عبادة الخالق فالنتيجة الطبيعيّة هي نقل الانسان من انتهاك كرامته الى حفظ كرامته فالمسألة ليست تقيدا للحريّة العباديّة بل حفاظا على كرامة الانسان واشباعا لحريّته .


( مناقشة جدليّة فنيّة )


قد يقول قائل ماذا لو عبد الانسان مخلوقا أفضل منه ؟! فأين الخلل ؟! نقول أن من يعبد مخلوقا أفضل منه هو يعبد من يحتاج الى أصل وجوده وبقائه على الله سبحانه وتعالى , عقلا عبادة الغني أفضل من عبادة الفقير .



المحور الرابع : حكم الردّة في الاسلام


ونعني بها أن من يسلم ثم يرتد عن دين الله سبحانه وتعالى فالحكم المعروف هو القتل , فكيف نوفق بين الحرية في الاسلام التي تم شرحها أعلاه وبين مبدأ القتل لانسان اعتنق الاسلام ثم تخلى عنه ؟!


الجواب :




لا بد أن نلتفت الى أمرين أن المرتد على قسمين مرتد فطري ومرتد مليّ , أما المرتد المليّ هو الذي لم يكن مسلما ثم أسلم ثم تراجع هذا لا يجب قتله انما يستتاب , أما الكلام في المرتد الفطري بمعنى أنه مسلم بالأصالة وولد من أبوين مسلمين ثم كبر وارتد هذا من يحكم عليه بالقتل وان تاب بينه وبين ربه قد يتوب الله سبحانه وتعالى عليه لكن الكلام يقع بحكم القتل نفسه فنقول ان من يحكم عليه القتل يحكم عليه حسب ظروف معيّنة وليس في كل الظروف ومن هذه الظروف ان أعلن الارتداد في داخل المجتمع الاسلامي لماذا ؟!


نحن عندما نقرأ قوله تعالى " وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ {البقرة/193} " ماهو المقصود حتى لا تكون ( فتنة ) المقصود حتى لا تكون فتنة ( فكريّة ) التي تؤدي الى الفتنة الاجتماعية والفتنة أشد من القتل , فكل مجتمع اذا عاش انسجاما فكريا عاش انسجاما نفسيا عاش المجتمع كتلة واحدة تبني الحضارة والحياة , فلو أتينا لمجتمع غربي رأس مالي , فالمجتمع يعيش فكرة واحدة وثقافة متناغمة ومنسجم نفسيا , فالانسجام الثقافي يؤدي الى الانسجام النفسي والانسجام النفسي يجعل هذا المجتمع ناجح ماديا ويبني حضارة ومكتوب له النجاح في الاطار والحضارة الماديّة , لذلك نرى أن المجتمع الرأس مالي يحارب دخول المجتمع الشيوعي أو الاشتراكي لأنه يفك الانسجام الفكري وبالتالي يؤدي الى انفكاك الانسجام النفسي وهذا يؤدي مباشرة الى حالة عدم استقرار ويفكك الكتلة المجتمعيّة الواحدة , هذا ما يعبر عنه بـ ( الفتنة الفكريّة ) .



فنحن نقول لو أن هذا المرتد الفطري أعلن ارتداده داخل المجتمع الاسلامي وتركنا المسألة على ما هي عليه فلا حكم بالقتل ولا غيره فالذي سوف يحدث فتنة فكريّة بمعنى أن يعيش المجتمع ثقافات متصارعة لا ثقافات منسجمة وقلنا أن الانسجام الثقافي ان فقد يؤدي الى خلل في الانسجام النفسي وهذا الصراع النفسي يؤدي بدوره الى تفكك المجتمع وعدم قدرته على العطاء وهذا ما يعاني منه المجتمع الاسلامي حاليا , فكم من حالة ارتداد فطريّة أعلنت وبشكل صارخ ولم يتم تطبيق هذا المبدأ الاسلامي للحد من الفتنة الفكريّة , اذن فالحكم بقتل المرتد الفطري واعلانه لارتداده يشكل انهيار لتماسك المجتمع الاسلامي من حيث الانسجام الثقافي والنفسي .




فتأمّل ..



من مناقشات العلامة السيد منير الخباز حفظه الله , تنظيمي وصياغتي .






 
أعلى