السرداب(منهاج السنه)
عضو بلاتيني
بسم الله الرّحمن الرّحيم
يا ربّ جئتك
يا ربّ جئتك
الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله ، يا ربّنا
لك الحمد حمداً طيـّباً يملأ السّماء وأقطارها والأرض والبرّ والبحرا
لك الحمد حمداً سرمديـّاً مباركاً يقلّ مداد البحر عن كتبه حصراً
لك الحمد مقروناً بشكرك دائماً لك الحمد في الأولى لك الحمد في الأخرى
لك الحمد حمداً طيباً أنت أهله على كل حال يشمل السّر والجهرا
لك الحمد كم قلـّدتنا من صنيعة وأبدلتنا بالعسر يا ربـّنا يسراً
يا ربّ جئتك سبحانك يا من أتتك الأرض والسّماء طائعة ، وخرّت الجبال لعظمتك خاشعةً ،
ترنـّم الرعد بتسبيحك ، لمع البرق بتمجيدك ، شدا الطير بذكرك ، هدل الحمام بشكرك .
عبادتك شرف ، والذل لك عزّة ، والافتقار إليك غنى ، والتـّمسكن لك قوّة .
محاربتك خذلان ، والكفر بك لعنة ، والتـّنكـّر لجميلك عذاب .
الله أكبر بكرةً وأصيلاً وله الثـّّناء مرتـّلاً وجميلاً
الله أكبر كلـّما هتفت به مهج العباد وسبـّحته طويلا
الله أكبر ما تطوّف محرمٌ بالبيت أو لبـّى له تبتيلاً
الله أكبر في السماوات العلى والأرض حيث تجاوبت تهليلاً.
قال تعالى : قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
فيا من أسرف على نفسه بالذنوب(( وكلـّنا ذاك المسرف إلاّ من رحم ربّي))
تذكـّر أنّ الله تعالى يحبّ العبد التـّائب بل يفرح بتوبته كما أخبر الحبيب صلـّى الله عليه وسلـّم :
((لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ اللهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ(( رواه مسلم))
فيا ابن آدم ، يا مـُدْبـِر العمر ، يا صريع الدّهر ، يا ساكن مساكن الموتى ، يا مؤمـّل ما لا يدرك ، السّالك سبيل من قد هلك ، يا عرض الأسقام ، يا رهينة الأيام ، يا رمية المصائب ، يا عبد الدنيا ، يا تاجر الغرور ، يا غريم المنايا ، يا أسير الموت ، يا خليفة الأحزان ، يا نهب الآفات ، يا صريع الشـّهوات ، يا خليفة الأموات ، يا ابن التـّراب ومأكول التراب غداً ، قل يا رب جئتك منك الفرار وإليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلاّ إليك .
يا رب جئتك
قلها أيها الأخ المبارك قوليها أيتها الأخت المباركة ليقولها الصغير والكبير والذكر والأنثى والحاكم والمحكوم .
الأرض اقشعرّت ، والسّماء أظلمت ، وفي البّر والبحر فساد ، ظهر وكثرت الفتن، وذهبت البركات ، وقلـّت الخيرات ، قست القلوب ، ضعف الإيمان وقل النـّصير .
وهن إلى القلب تسرّب ، فإلى من نشتكي ؟ وإلى من نفر ؟ وإلى من نلجأ؟ إليه نشكو وله نفر وما من ملجأ ولا منجا إلا منه وإليه .
بك أستجير ومن يجير سواكا *** فأجر ضعيفا يحتمي بحماك
إنـّي ضعيف أستعين على قوي *** ذنبي ومعصيتي ببعض قواكا
أذنبتُ يا ربـّي وآذتني ذنوب *** ما لها من غافر إلاّ كا
دنياي غرّتني وعفوك غرني *** ما حيلتي في هذه أو ذا كا
هيا أيـّها التـّائبون رياح الأسحار تحمل أنيناً ، وظلمات الليل وضوء النـّهار ترتفع بأنفاسكم
كان الأمير " موسى بن سليمان الهاشمي " من أنعم أبناء أبيه عيشاً " ، وأرخاهم بالاً ، يعطى نفسه مرادها من جميع اللـّذات!!، وكان شاباً جميلاً وسيماً ، مع ثرائه الواسع وغناه الوافر يجرى عليه من ضياعه وعقاراته كلّ عام قرابة ثلاثة ملايين وثلاثمائة ألف درهم ، وكانت له قبـّة على موضع عال، يجلس فيها بالعشيـّات ينظر إلى النـّاس، وإلى بساتينه وأراضيه، ومعه في القبّة ندماؤه وأصدقاؤه، والمجامر منصوبة لا ترفع عن البخور، وقد وقف على رأسه الخدم بأيديهم المراوح، ووقف المغنيات والرّاقصات بحذائه في مجلس خارج القبة يراهنّ ، فإذا نظر عن يمينه رأى نديماً قد اصطفاه،وإن نظر عن يساره رأى أخا وصفيـّاً قد اجتباه، وإن رفع طرفه نظر إلى خدم قيام قد اختارهم ، فإن تكلـّم سكتوا ، وإن قام قاموا، هذا دأبه وحاله إلى أن يذهب الليل ويذهب عقله ، فيخرج النـّدماء ويخلو مع الوصفاء والمغنيات، فإذا أصبح اشتغل بالنـّظر إلى لعـّابين بين يديه بالنـّرد والشطرنج ، لا يذكر بين يديه موت ولا سقم ولا مرض، فبينما هو في قبـّته تلك ذات ليلة وحوله الندماء والوصفاء ، وقد مضى بعض الليل، إذ سمع نغمة من حلق ندي شجي ، خلاف ما يسمع من مطربيه، فأخذت بمجاميع قلبه، وسلبت فؤاده ، فأشار إلى من حوله: أن اسكتوا، وأخرج رأسه من نافذة يتسمع الصّوت الذي وقع بقلبه ، ثمّ صاح بغلمانه : اطلبوا صاحب هذا الصوت، فخرج الغلمان يطوفون فإذا هم بشاب نحيل الجسم، أشعث الرأس، حافي القدمين قائم في المسجد يناجي ربـّه ويصلي ويقرأ القرآن ، فأخذوه وأدخلوه على الأمير، وأخبروه أنـّهم وجدوه في المسجد قائماً يصلي !! فقال الأمير لذلك الشاب : ما كنت تقرأ؟ !! قال : كلام الله !! قال : فأسمعني بتلك النغمة، فقرأ الشاب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم } إن الأبرار لفي نعيم { إلى قوله } يشرب بها المقربون{ ( المطففين :22 – 28) ثمّ قال له : أيها الأمير المغرور، إنـّها خلاف مجلسك وفرشك، إنها أرائك مفروشة بفرش مرفوعة } بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ { ، } على رفرف خضر وعبقري حسان { ، يشرف وليّ الله منها على عينين تجريان في جنـّتين } فيهما من كل فاكهة زوجان {،} لا مقطوعة ولا ممنوعة { ، } في ظلال وعيون ، } أكلها دائم وظلـّها تلك عقبي الذين اتقوا وعقبي الكافرين النـّار { ، } لا يفتـّر عنهم وهم فيه مبلسون { ، } في ضلال وسعر يوم يسحبون في النـّار على وجوههم ذوقوا مس سقر { ، } يودّ المجرم لو يفتدي من عذاب يؤمئذ ببنيه{ ، وهم في جهد جهيد وعذاب شديد ، ومقت من ربّ العالمين!!
فقام الأمير الهاشمي من مجلسه، وعانق الشاب وبكى ، وصاح بندمائه: انصرفوا عنـّي، وخرج إلى صحن داره، وقعد على حصير ، مع ذلك الشـّاب ينوح ويبكي على شبابه وذنوبه الماضيات، والشاب يعظه وينصحه إلى أن أصبح وقد عاهد إلى الله إلاّ يعود إلى المعاصي أبداً ،
ثمّ ردّ المظالم إلى أهلها، وأعتق عبيده وجواريه وتصدّق بالكثير من أمواله، ثمّ اجتهد في العبادة ، فكان يصوم النـّهار ويقوم الليل، حتـّى كان إخوانه الصالحون يعاتبونه ويقولون له: ارفق بنفسك فإنّ المولى كريم ، يشكر اليسير ، ويثيب على الكثير ، فكان يقول لهم: يا قوم أنا أعرف بنفسي إنّ جرمي عظيم ،فقد عصيت مولاي بالليل والنـّهار، وكان يبكي كثيراً ، ثمّ إنـّه خرج إلى البيت الحرام حاجـّاً وكان يدخل الحجر بالليل ينوح على نفسه ويقول : سيدي لم أراقبك في خلواتي، سيدي ذهبت شهواتي وبقيت تبعاتي وحسراتي فالويل لي يوم ألقاك، والويل كلّ الويل من صحيفتي إذا نشرت مملوءة من فضائحي وخطاياي، بل حلّ بي الويل من مقتك إيايّ وتوبيخك لي في إحسانك إليّ ومقابلتي نعمتك بالمعاصي، وأنت مطـّلع على أفعالي، سيـّدي إني لا أستحق أن أسألك الجنـّة ، بل أسألك بجودك وكرمك وتفضلك أن تغفر لي وترحمني، فإنك أهل التقوى وأهل المغفرة.
قال " محمد بن السماك" : فبينا أنا ذات ليلة في الطواف إذ سمعت نغمته وبكاءه، فحرّكني وأقلقني فاقتربت منه وسألته، فعرفني وحكى لي قصة توبته، ثمّ أخذني معه إلى غرفته وقال لي: ما زلت متشوقاً إلى لقائك حتى تداوي جرحي بمرهم كلامك، فقلت له: اجعل الموت نصب عينيك ، واعلم أن بين يديك عقبة عليها المسلك غداً ، لا يقطعها إلاّ الورعون عن محارم الله تعالى، فأعدّ العدّة والجواب فإنـّك قادم لا محالة على أحكم الحاكمين وديـّان يوم الدّين ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وهو (أي الهاشمي) في كل منصت يسمع ثمّ أطرق شبه المفكر، فقمت من عنده وخرجت فلمـّا أصبح الصـّباح، تصرفت في حوائجي فدخل على وقت الظهر وأنا في الطواف ، وإذا النـّاس يتراكضون نحو باب الصـّفا، فقلت: ما الخبر قالوا : جنازة غريب، فخرجت وصلـّيت على تلك الجنازة وقلقت على صاحبي الهاشمي فذهبت فوري، إلى تلك الدار وسألت عنه فقالوا: آجرك الله، ألم تشهد جنازته، ألست صاحبه البارحة، قلت: نعم قالوا: إنـّك لم خرجت من عنده لم يزل يقول: فؤادي ، فؤادي ذنبي ذنبي إلى أن مضى عامـّة الليل وهو يبكي ثمّ سكن فلمـّا أصبح أنبهناه للصـّلاة فإذا هو فارق الدّنيا، ولم يشهد خروج روحه أحد ولم يغمض.
فقلت لهم: وهل عرفتموه؟ قالوا: لا، كان غريباً من الحجاج نزل عندنا، ما رأينا ولا سمعنا بمثله، نهاره صائم لله تعالى وليله قائم يصلي ، ويبكي وينوح على نفسه كأنّ ذنوب العباد هو المطالب بها. [ من كتاب التوابين لابن قدامة]
يا باغي الخير أقبل فالباب غير مقفل يا من أذنب وعصى وأخطأ وعتا ، يا من بقلبه من الذنوب جروح ، تعال فالباب مفتوح، والكرم يغدو ويروح، يا من ركب مطايا الخطايا تعال إلى ميدان العطايا، يا من اقترفوا فاعترفوا لا تنسوا } قل يا عبادي الذين أسرفوا { يا من بذنب باء وقد أساء تذكـّر(( يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثمّ استغفرتني غفرت لك ولا أبالي( من حديث طويل صحيح)
التـّوبة تجب ما قبلها وتعمّ بركتها أهلها يقول صلـّى الله عليه وسلـّم:
(عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النـّبي صلـّى الله عليه وسلم قال التـّائب من الذنب كمن لا ذنب له) (صححه الألباني رحمه الله تعالى) .
فهنيئاً لمن تاب وأناب قبل أن يغلق الباب،
وروي عن النـّبي صلـّى الله عليه وسلـّم قال : إنّ الشيطان قال : وعزّتك يا ربّ لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم فقال الرّبّ تبارك وتعالى : وعزّتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني ( السلسلة الصحيحة للألباني رحمه الله تعالى)
فلنسرع عباد الله بالتـّوبة إلى الله تعالى ولنسأله العفو والعافية ولنكثر من الاستغفار .
يا ربّ ، جئتك أجمل الكلمات وأحسن العبارات لدى ربّ الأرض والسّماوات قول العبد يا ربّ أذنبتُ يا ربّ أسأت يا ربّ أخطأت وأسمع جوابها إذ رضي عنك عبدي قد غفرتُ وسامحت وسترت وصفحت وتذكـّر(وإنـّي لغفـّارٌ لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثمّ اهتدى )
الاعتراف بالاقتراف طبيعة الأشراف،
قف بالباب وقل أذنبنا وطف بتلك الديار وقل تبنا وارفع يديك وقل أنبنا(أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم) اطرح نفسك على عتبة الباب ومدّ يدك وقل يا وهـّاب،
أرغم أنفك بالطين وناد رحمتك أرجو يا ربّ العالمين،
يا من أسرفتَ بالذنوب والمعاصي قف واسمع وأرع السّمع
جاء رجل صالح إلى العبد الصالح " إبراهيم بن أدهم" رحمه الله، فقال: يا أبا إسحاق : إنـّي رجل مسرف على نفسي بالذنوب والمعاصي ، فأعرض عليّ ما يكون زاجراً لي عنها، وهادياً لقلبي !! فقال "إبراهيم " : إن قبلت منـّي خمس خصال وقدرتَ عليها لم تضرّك معصية قط، ولم توبقك لذة!! فقال الرّجل: هات يا أبا سحاق!!
قال: أمـّا الأولى : فإذا أردت أن تعصي الله عز وجل، فلا تأكل رزقه ، فقال الرّجل: فمن أين آكل؟، وكلّ ما في الأرض من رزقه ؟!! فقال إبراهيم : يا هذا أفيحسن أن تأكل رزق الله وتعصيه؟ قال: لا !! هات الثـّانية.
قال " إبراهيم": يا هذا إذا أردت أن تعصيه فلا تسكن شيئاً من بلاده!! فقال الرّجل: هذه أعظم من الأولى ، يا أبا إسحاق: إذا كان المشرق والمغرب وما بينهما له تعالى، فأين أسكن؟!! قال: يا هذا أفيحسن أن تأكل رزقه وتسكن بلاده ثم تعصيه؟ قال: لا !! هات الثـّالثة!!
قال" إبراهيم" : إذا أردت أن تعصيه وأنت تأكل رزقه وتسكن بلاده، فانظر موضعاً لا يراك فيه مبارزاً له فاعصه فيه !! قال: يا إبراهيم!! كيف هذا وهو مطـّلع على ما في السّرائر والضمائر ؟ قال إبراهيم : يا هذا أفيحسن أن تأكل من رزقه وتسكن في بلاده وتعصيه وهو يراك ويرى ما تجاهره به ؟ قال الرّجل : لا ، هات الرّابعة.
قال " إبراهيم " : إذا جاءك ملك الموت ليقبض روحك ، فقل له: أخـّرني حتـّى أتوب توبة نصوحاً وأعمل لله عملاً صالحاً، فقال الرّجل: لا يقبل مني ولا يؤخرني !! فقال إبراهيم :يا هذا !! فأنت إذا لم تقدر أن تدفع عنك الموت لتتوب ، وتعلم أنه إذا جاء لم يكن له تأخير، فكيف ترجو وجه الخلاص؟!! قال الرّجل: هات الخامسة!!
قال " إبراهيم" : إذا جاءتك الزبانية يوم القيامة ليأخذوك إلى النـّار، فلا تذهب معهم !! قال الرجل: إنـّهم لا يدعونني ولا يقبلون مني!! فقال إبراهيم: فكيف ترجو النـّجاة إذن؟ فقال الرّجل: يا إبراهيم " حسبي حسبي !! أنا أستغفر الله وأتوب إليه!! ثمّ لزمه وشاركه في العبادة والاجتهاد في الطـّاعات، حتى فرّق بينهما الموت !!
يا ربّ ما لي غير لطفك ملجأ ولعلني عن بابه لا أطرد
يا ربّ هب لي توبةً أقضي بها ديناً عليّ به جلالـُك يشهد
أنت الخبير بحال عبدك إنـّه بسلاسل الوزر الثـّقيل مقيد
أنت المجيب لكل داع ٍ يلتجي أنت المجير لكلّ من يستنجد
من أيّ بحر غير بحرك نستقي ولأي باب غير بابك نقصد
توبة شابين:
" على حضرات الرّكاب المسافرين على الرحلة رقم ××× والمتوجـّهة إلى ×××× التـّوجه إلى صالة المغادرة استعداداً للسفر"
دوى هذا الصوت في جنبات مبنى المطار، أحد الدعاة كان هناك جالساً في الصّالة وقد حزم حقائبه ، وعزم على السّفر إلى بلاد الله الواسعة للدّعوة إلى الله عزّ وجل، وسمع هذا النـّداء فأحس بامتعاض في قلبه، إنـّه يعلم لماذا يسافر كثير من النـّاس إلى تلك البلاد وخاصة الشـّباب .
وفجأة لمح هذا الشـّيخ شابـّين في العشرين من عمرهما أو تزيد قليلاً وقد بدا من ظاهرهما ما يدل على أنـّهما لا يريدان إلاّ المتعة الحرام من تلك البلاد التي عـُرفت بذلك.
" لا بد من إنقاذهما قبل فوات الأوان" قالها الشـّيخ في نفسه، وعزم على الذهاب إليهما ونصحهما فوقف الشـّيطان في وجهه وقال له: ما لك ولهما؟ دعهما يمضيان في طريقهما ويرفـّها عن نفسيهما، إنـّهما لن يستجيبا لك" .
ولكن الشـّيخ كان بفضل الله تعالى قوي العزيمة ، ثابت الجأش، عالماً بمداخل الشـّيطان ووساوسه ، فبصق في وجه الشـّيطان، ومضى في طريقه لا يلوى على شيء وعند بوابة الخروج، استوقف الشـّابين بعد أن ألقى عليهما التـّحية، ووجه إليهما نصيحة مؤثرة ، وموعظة بليغة وكان مما قاله لهما: " ما ظنـّكما لو حدث خلل في الطائرة، ولقيتما ((لا قدر الله )) حتفكما وأنتما على هذه النـّية قد عزمتما على مبارزة الجبـّار جلّ جلاله فبأيّ وجه ستقابلان ربـّكما يوم القيامة ؟ وذرفت عينا هذين الشّابين ، ورقّ قلباهما لموعظة الشـّيخ وقاما فوراً بتمزيق تذاكر السـّفر، وقالا : يا شيخ : لقد كذبنا على أهلينا وقلنا لهم ذاهبان إلى مكـّة أو جدة، فكيف الخلاص؟ وماذا نقول لهم؟
وكان مع الشيخ أحد طلابه ، فقال : اذهبا مع أخيكما هذا وسوف يتولـّى إصلاح شأنكما.
ومضى الشـّابان مع صاحبهما وقد عزما على أن يبيتا عنده أسبوعاً كاملاً ومن ثمّ يعودا إلى أهلهما .
وفي تلك الليلة ، وفي بيت ذلك الشـّاب (تلميذ الشـّيخ) ألقى أحد الدّعاة كلمة مؤثـّرة زادت من حماسهما ، وبعدها عزم الشـّابان على الذهاب إلى مكـّة لأداء العمرة ، وهكذا : أرادا شيئاً، وأراد الله شيئاً آخر فكان ما أراد الله عزّ وجلّ.
وفي الصـّباح، وبعد أن أدّى الجميع صلاة الفجر، انطلق الثـّلاثة صوب مكـّة شرفها الله بعد أن أحرموا من الميقات .
وفي الطـّريق كانت النـّهاية أو في الطـّريق كانت الخاتمة وفي الطـّريق كان الانتقال لدار الآخرة، فقد وقع لهم حادث مروّع ذهبوا جمعياً ضحيـّته فاختلطت دماؤهم الزّكية بحطام الزّجاج المتناثر، ولفظوا أنفاسهم الأخيرة تحت الحطام وهم يرددون تلك الكلمات الخالدة " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك …. ألخ"
كم بين موتهما وبين تمزيق تذاكر سفرهما لتلك البلاد المشبوهة؟ إنـّها أيـّام بل ساعات معدودة ولكنّ الله أراد لهما الهداية والنـّجاة، ولله الحكمة البالغة سبحانه.