ابن عثيمين : الحكم بالقانون الوضعي.

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فمن منا لا يعرف الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى، ومن منا لم يفد من علمه وأدبه؟!
نتناول في هذه السطور القليلة صفحة من جهاده وصدعه بالحق في أمر عمت به البلوى، وهو الإعراض عن تحكيم شريعة الله تعالى، واللجوء لغيرها من التشريعات البشرية الباطلة القاصرة، ونسأل الله تعالى أن يرحم الشيخ رحمة واسعة.
قال رحمه الله: "من الشرك بالربوبية أن يتخذ الإنسان أندادًا يشرعون تشريعات تخالف شرع الله؛ فيوافقهم فيها مع علمه بمخالفتها للشريعة؛ ولهذا ترجم الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد بقوله: باب من أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله فقد اتخذهم أربابًا.
فإذا وُجِد قوم يتبعون القوانين الوضعية المخالفة للشريعة الإسلامية مع علمهم بمخالفتها للشريعة فإننا نقول: هؤلاء قوم مشركون لأنهم اتخذوا حاكمًا يحكم بين الخلق غير الله عز وجل، ومن المعلوم أن الحكم بين الخلق من مقتضيات الربوبية؛ فقد اتخذوهم أربابًا من دون الله".
[
مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (7/285)].
وقال رحمه الله: "من لم يحكم بما أنزل الله استخفافًا به، أو احتقارًا، أو اعتقادًا أن غيره أصلح منه، وأنفع للخلق أو مثله فهو كافر كفرًا مخرجًا عن الملة، ومن هؤلاء من يضعون للناس تشريعات تخالف التشريعات الإسلامية لتكون منهاجًا يسير الناس عليه، فإنهم لم يضعوا تلك التشريعات المخالفة للشريعة الإسلامية إلا وهم يعتقدون أنها أصلح وأنفع للخلق، إذ من المعلوم بالضرورة العقلية والجبلة الفطرية أن الإنسان لا يعدل عن منهاج إلى منهاج يخالفه إلا وهو يعتقد فضل ما عدل إليه ونقص ما عدل عنه.
[شرح الأصول الثلاثة لابن عثيمين (ص158)، ط دار الثريا، ط الرابعة]

وسُئل رحمه الله: هل هناك فرق في المسألة المعينة التي يحكم فيها القاضي بغير ما أنزل الله وبين المسائل التي تعتبر تشريعًا عامًّا؟
فأجاب قائلاً: نعم، هناك فرق فإن المسائل التي تعتبر تشريعًا عامًّا لا يتأتى فيها التقسيم السابق؛ وإنما هي من القسم الأول فقط (الذي قال فيه الشيخ إنه يخرج مرتكبه من الملة) لأن هذا المشرع تشريعًا يخالف الإسلام إنما شرعه لاعتقاده أنه أصلح من الإسلام وأنفع للعباد كما سبقت الإشارة إليه.
والحكم بغير ما أنزل الله ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يستبدل هذا الحكم بحكم الله تعالى بحيث يكون عالمًا بحكم الله، ولكنه يرى أن الحكم المخالف له أولى وأنفع للعباد من حكم الله، أو أنه مساوٍ لحكم الله، أو أن العدول عن حكم الله إليه جائز فيجعله القانون الذي يجب التحاكم إليه فمثل هذا كافر كفرًا مخرجًا عن الملة؛ لأن فاعله لم يرض بالله ربًّا ولا بمحمد رسولا ولا بالإسلام دينًا وعليه ينطبق قوله تعالى: "أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ". وقوله تعالى: "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ". وقوله تعالى: "ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ". ولا ينفعه صلاة، ولا زكاة، ولا صوم، ولا حج؛ لأن الكافر ببعض كافر به كله قال الله تعالى: "أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ". وقال سبحانه: "إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا".
الثاني: أن يستبدل بحكم الله تعالى حكمًا مخالفًا له في قضية معينة دون أن يجعل ذلك قانونًا يجب التحاكم إليه فله ثلاث حالات:
الأولى: أن يفعل ذلك عالمـًا بحكم الله تعالى معتقدًا أن ما خالفه أولى منه وأنفع للعباد، أو أنه مساوٍ له، أو أن العدول عن حكم الله إليه جائز فهذا كافر كفرًا مخرجًا عن الملة لما سبق في القسم الأول.
الثانية: أن يفعل ذلك عالمـًا بحكم
الله معتقدًا أنه أولى وأنفع لكن خالفه بقصد الإضرار بالمحكوم عليه أو نفعا لمحكوم له، فهذا ظالم وليس بكافر وعليه يتنزل قول الله تعالى: "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ".
الثالثة: أن يكون كذلك لكن خالفه لهوى في نفسه أو مصلحة تعود إليه فهذا فاسق وليس بكافر وعليه يتنزل قول الله تعالى: "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ".
[
مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (2/144) وما بعدها، و(6/162) وما بعدها، جمع وترتيب : فهد السليمان، ط. دار الوطن – السعودية]
وقال ابن عثيمين أيضًا رحمه الله: "
الحكم بغير ما أنزل الله ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يبطل حكم الله ليحل محله حكم آخر طاغوتي بحيث يلغي الحكم بالشريعة بين الناس، ويجعل بدله حكمًا آخر من وضع البشر؛ كالذين ينحون الأحكام الشرعية في المعاملة بين الناس، ويحلون محلها القوانين الوضعية؛ فهذا لا شك أنه استبدال بشريعة الله سبحانه وتعالى غيرها ، وهو كفر مخرج عن الملة، لأن هذا جعل نفسه بمنزلة الخالق حيث شرع لعباد الله ما لم يأذن به الله؛ بل ما خالف حكم الله عز وجل، وجعله هو الحكم الفاصل بين الخلق، وقد سمى الله تعالى ذلك شركاً في قوله تعالى : "أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَـهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ".
القسم الثاني: أن تبقى أحكام الله عز جل على ما هي عليه وتكون السلطة لها ويكون الحكم منوطًا بها؛ ولكن يأتي حاكم من الحكام فيحكم بغير ما تقتضيه هذه الأحكام، فيحكم بغير ما أنزل الله، وهذا له ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن يحكم بما يخالف شريعة الله معتقدًا أن ذلك أفضل من حكم الله وأنفع لعباد الله، أو معتقدًا أنه مماثل لحكم الله عز وجل، أو يعتقد أنه يجوز له الحكم بغير ما أنزل الله، فهذا كفر يخرج به الحاكم من الملة؛ لأنه لم يرضَ بحكم الله عز وجل ولم يجعل الله حكمًا بين عباده.
الحال الثانية: أن يحكم بغير ما أنزل الله معتقدًا أن حكم الله تعالى هو الأفضل والأنفع لعباده؛ لكنه خرج عنه وهو يشعر بأنه عاصٍ لله عز وجل إنما يريد الجور والظلم للمحكوم عليه لما بينه وبينه من عداوة؛ فهو يحكم بغير ما أنزل الله لا كراهة لحكم الله ولا استبدالا به ولا اعتقادًا بأنه أفضل من حكم الله أو مساو له، أو أنه يجوز الحكم به؛ لكن من أجل الإضرار بالمحكوم عليه حَكَمَ بغير ما أنزل الله؛ ففي هذه الحال لا نقول إن هذا الحاكم كافر؛ بل نقول: إنه ظالم معتدٍ جائر.

الحال الثالثة: أن يحكم بغير ما أنزل الله وهو يعتقد أن حكم الله تعالى هو الأفضل والأنفع لعباد الله، وأنه بحكمه هذا عاص لله عز وجل؛ لكنه حكم لهوى في نفسه أو لمصلحة تعود له أو للمحكوم له؛ فهذا فسق وخروج عن طاعة الله عز وجل، وعلى هذه الأحوال الثلاث يتنزل قول الله تعالى في ثلاث آيات "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ". وهذا ينزل على الحال الأولى ، "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ". ينزل على الحال الثانية، "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ". ينزل على الحال الثالثة.
وهذه المسألة من أخطر ما يكون في عصرنا هذا؛ فإن من الناس من أولع وأعجب بأنظمة غير المسلمين حتى شغف بها، وربما قدمها على حكم الله ورسوله، ولم يعلم أن حكم الله ورسوله ماض إلى يوم القيامة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بُعث إلى الخلق عامة إلى يوم القيامة، والذي بعثه سبحانه وتعالى عالم بأحوال العباد إلى يوم القيامة؛ فلا يمكن أن يشرع لعباده إلا ما هو نافع لهم في أمور دينهم ودنياهم إلى يوم القيامة؛ فمن زعم أو توهم أن غير حكم الله تعالى في عصرنا أنفع لعباد الله من الأحكام التي ظهر شرعها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقد ضل ضلالًا مبينًا؛ فعليه أن يتوب إلى الله وأن يرجع إلى رشده، وأن يفكر في أمره".
[فقه العبادات، لابن عثيمين (ص60) وما بعدها].
وقال أيضًا رحمه الله: "أما بالنسبة لمن وضع قوانين تشريعية مع علمه بحكم الله وبمخالفة هذه القوانين لحكم الله فهذا قد بدل الشريعة بهذه القوانين فهو كافر؛ لأنه لم يرغب بهذا القانون عن شريعة الله إلا وهو يعتقد أنه الخير للعباد والبلاد من شريعة الله".
[مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (10/742)].
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله أيضًا: "لكنا قد نخالفه
في مسألة أنه لا يُحكَم بكفرهم إلا إذا اعتقدوا حِلَّ ذلك، هذه المسألة تحتاج إلى نظر؛ لأننا نقول مَن حكم بحكم الله وهو يعتقد أن حكم غير الله أولى فهو كافر وإن حكم بحكم الله، وكفره كُفر عقيدة، وفي ظني أنه لا يمكن لأحد أن يطبق قانونًا مخالفًا للشـرع يحكُم فيه في عباد الله إلا وهو يستحله ويعتقد أنه خير من القانون الشرعي؛ فهو كافر، هذا هو الظاهر، وإلا فما الذي حمله على ذلك؟ قد يكون الذي حمله على ذلك خوفا من أناس آخرين أقوى منه إذا لم يطبقه فيكون مداهنًا لهم؛ فحينئذ نقول إن هذا كالمداهن في بقية المعاصي، وأهم شيء في هذا الباب هو مسألة التكفير الذي ينتج العمل وهو الخروج على هؤلاء الأئمة، هذا هو المشكل. نعم، لو أن الإنسان عنده قوة يستطيع يُصفي كل حاكم كافر له ولاية على المسلمين كان هذا مما نرحب به إذا كان كفرًا بواحًا عندنا فيه من الله برهان؛ لكن المسألة ليست على هذه الصفة وليست هينة".
[من تعليقات الشيخ ابن عثيمين على الفتوى التي عُرفت بـ"فتنة التكفير"].

وقال الشيخ ابن عثيمين أيضًا: "الذين يحكِّمون القوانين الآن ويتركون وراءهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما هم بمؤمنين، وهؤلاء المحكِّمون للقوانين لا يحكِّمونها في قضية معينة خالفوا فيها الكتاب والسنة لهوى أو ظلم؛ ولكنهم استبدلوا الدين بهذه القوانين، جعلوا القانون يحل محل الشريعة! وهذا كُفْرٌ حتى لو صلُّوا وصاموا وتصدقوا وحجوا، هم كفار ما داموا عدلوا عن حكم الله وهم يعلمون بحُكم الله إلى هذه القوانين، قال تعالى "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا". فلا تستغرب إذا قلنا إن استبدال شريعة الله بغيرها من القوانين فإنه يكفر ولو صلي وصام".
[
شرح رياض الصالحين، لابن عثيمين، باب: الأمر بالمحافظة على السنة وآدابها – شرح قوله تعالى: فلا وربك لا يؤمنون... الآية]
وقال ابن عثيمين رحمه الله: "وبهذا نعرف خطأ تلك القوانين التي قُنِّنَت في بعض الدول، أن العامل لدى الشركات يكون مضمونًا بكل حال، حتى لو كان بالغًا عاقلًا مختارًا، وحتى لو كان غير مغرور، بأن عرف عمله وخطره إن كان فيه خطورة، فهذا حكم طاغوتي مخالف لحكم الشريعة، ولا يجوز العمل به، ويجب أن يحكم فيه بمقتضى شريعة الله، فيقال: إن هذا العامل غير مضمون؛ إلا إذا كان مكرهًا على العمل فيكون مضمونًا. فإن قلت: أليس هذا قانونًا دوليًّا عامًّا؟ الجواب: لا، بل القانون الدولي العام هو قانون الله عزّ وجل وليس لأحد من عباد الله أن يُقنِّن في عباد الله ما ليس في شريعة الله فالحكم لله عزّ وجل وحده، كما قال تعالى: "إِنِ الْحُكْمُ إِلّا للهِ" [يوسف: 40] ، فأي إنسان يشرع قوانين تخالف شريعة الله فقد اتخذ لنفسه جانبًا من الربوبية، وشارك الله تعالى فيما هو من خصائصه، فلا أحد يحكم في عباد الله إلا بما اقتضاه شرع الله، وعلى هذا نقول: إن القانون الدولي العام والشعبي الإفرادي هو قانون الله عزّ وجل، الذي شرعه لعباده، وكل القوانين سوى ذلك فإنها باطلة؛ لأنها ناقصة وقاصرة، حتى لو اجتمع أذكياء العالم على مشروعيتها فإنها ناقصة قاصرة، لا تفي بأي غرض من الأغراض، وإن وَفَتْ بغرض من جانب هدمت أغراضًا أخرى من جوانب أخرى، وإن قدر أنها تخدم غرضًا من جانب، فإنها لا تخدم هذا الغرض إلا في أناس معينين، وفي مكان معين، وفي زمان معين، أما الأحكام الصالحة لكل زمان ومكان فإنها أحكام الله سبحانه وتعالى، وبهذا نعرف خطورة الذهاب هذا المذهب، وهي أن نسن القوانين الوضعية التي لم يضعها الشرع ونحكم بها عباد الله، ونجعل التحاكم إليها لا إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد نوَّه الله تعالى عن أحوال هؤلاء فقال: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ" [النساء: 60] ، وتأمل كلمة "يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا"، فهم في الحقيقة غير مؤمنين، بل هو زعم فقط، والزعم قد يوافق الواقع وقد لا يوافقه، فهم يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك بألسنتهم، لكن قلوبهم على العكس من ذلك لقوله: "يُرِيدُونَ" والإرادة محلها القلب "أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ"، ولو كانوا صادقين في إيمانهم لكفروا بهذا الطاغوت، ولم يريدوا أن يتحاكموا إليه، "وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا"، وعلى هذا فهم موافقون لمراد الشيطان لا لمراد الرحمن "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ" أي: إلى الكتاب والسنَّة فلا يُصرِّحون بقولهم: لا، حتى لا يظهر كفرهم، ولكنهم "يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا" أي: يعرضون، "فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِالله إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقًا"، أي: أردنا أن نحسن وأن نوفِّق بين الشريعة والوضيعة، وهل هم صادقون؟ قال سبحانه: "أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ" [النساء: 63 ـ 64] لا ليتلاعب بأحكامه وتترك، ويراد التحاكم إلى الطاغوت. واعلم أنَّ الناس لو جعلوا التحاكم إلى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وحكَّموا الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم في كل شيءٍ لصلحت أحوالهم، ولكنها تفسد بمقدار ما أبعدوا عن الدين، فيظنون أن هذا الفساد بسبب تمسكهم بما تمسكوا به من الدين، فَيُوغِلُون في الإعراض عن دين الله، وعن التحاكم إلى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وهذا هو الواقع، يظنون أن ما أصابهم من الخلل الاقتصادي، والمادي، والتخلف المعنوي، والعسكري، بسبب ما هم عليه من أحكام الشريعة، والحقيقة أنه بسبب ما قاموا به من مخالفة الشريعة، ولو أنهم وافقوا الشريعة، لكانت هذه شريعة الله العادلة القاهرة الغالبة، كما قال تعالى: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ" [الصف: 9] "لِيُظْهِرَهُ" بمعنى لِيُعْليه، ولسنا بحاجة إلى بيان ذلك؛ لأن هذا معلوم بالتاريخ، فلمَّا كانت الأمة متمسكة بدين الله، لا تقاتل إلا بكتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم مستعينة بالله عزّ وجل، سقطت الأديان والإمبراطوريَّات أمامها، فسقطت النصارى بسقوط الروم هرقل، وسقط دين المجوس بسقوط كسرى، وسقط دين المشركين بفتح مكة، فسقطت الأديان كلها، ومَلَكَ المسلمون مشارق الأرض ومغاربها، ولما حصل ما حصل من مخالفة الشريعة تفرَّقت الأمة، وتنازعت، وصار بأسها بينها، وتغلَّب عليها أعداؤها، فصاروا يأتون الأرض ينقصونها من أطرافها، فأخذوا الأندلس، وأخذوا الشام، ومصر، والعراق، وغير ذلك، وكل ذلك بسبب البعد عن شريعة الله، وإننا ندعو إلى الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ونضمن لكل من رجع بصدق وإخلاص في ظاهره وباطنه، في روحه وقالبه، نضمن له أن ينتصر على أعدائه مهما كانت الظروف؛ لأن الله تعالى قال: "إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ " [غافر:51] بل أبلغ من ذلك أننا نضمن له أن يكون عدوه ولو كان بينه وبينه مسافة شهر راهبًا وخائفًا منه، كما قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا". [الشرح الممتع، لابن عثيمين (14/112) ط دار ابن الجوزي – السعودية].
وقال رحمه الله: "فحذَّر الله عز وجل ونهى أن نكون كهؤلاء الذين أوتوا الكتاب "فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ" وإذا نظرت إلى الأمة الإسلامية، وجدت أنها ارتكبت ما ارتكبه الذين أوتوا الكتاب من قبل، فإن الأمة الإسلامية في هذه العصور التي طال فيها الأمد من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم قست قلوب كثير منهم وفسق كثير منهم، واستولى على المسلمين من ليس أهلا للولاية لفسقه بل ومروقه عن الإسلام فإن الذين لا يحكمون بكتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرون أن الحكم بالقوانين أفضل من حكم الله ورسوله كفار بلا شك ومرتدون عن الإسلام".
[شرح رياض الصالحين لابن عثيمين، باب: ذكر الموت وقصر الأمل -
شرح قوله تعالى: "ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم ..." الآية].
رحمة الله عليك يا ابن عثيمين، ورزقنا الله تعالى بمن يصدع بالحق مثلك، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله.





_______________________




التعليق :



1) منقول من شبكة أنا المسلم للعضو أبي الفداء القاهري .



2) ما جاء في المقال تبيين لخطورة الحكم بغير ما أنزل الله تعالى و استبدال حكم الله المبني على الكتاب و السنة بقانون أو دستور وضعي ...



3) إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ... لهذا يجب أن يكون سعينا الأول تطبيق الشريعة و السعي بكل السبل لتطبيقها و بذل الغالي و النفيس من أجل تطبيق الشريعة و جعل تطبيقها هدفا و غاية و عدم التهاون في تحكيم القنوانين الوضعية بل و احتقارها و بغضها و محاربتها بكل السبل و السعي لإسقاط كل حكم لا يمت للشريعة بصلة .. و الله المستعان ..





 

متأمل

عضو ذهبي
هذه الحقيقه المره على قلوب المنافقين
ورحم الله إبن عثيمين
و

سلمت يداك

يالغر المحجل
 
لماذا لا يحبه الكثيرون ؟! ...

و هل يوجد مسلم موحد لا يريد تطبيق الشريعة الإسلامية ؟! ...

( و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم )

( إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله و رسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا و أولئك هم المفلحون )



 
أعلى