في امان الله / التيارات الفكرية والسياسية الكويتية (1 من 5) / أزمة التيار التقدمي!
مقالاتي خلال هذا الاسبوع ستتركز حول التيارات الفكرية والسياسية الكويتية، ولا اقصد التنظيمات والتجمعات وحدها فحسب، من حيث تكوينها، ومسارها التاريخي، وواقعها الراهن، وما تواجهه من تحديات؛ وتعانيه من أزمات، وآفاق تطورها واستحقاقاته... وسأبدأ بتيار التقدم والحداثة بتنويعاته الليبرالية، والقومية، واليسارية، وأُعقِبَه بالتيار الإسلامي والمحافظ بتلاوينه الإخوانية، والسلفية، والشيعية، والمحافظة الاجتماعية.
على أمل أن تكون هذه المقالات محفزاً للتفكير والحوار بين أصحاب الرأي من مختلف هذه التيارات، بهدف الفهم والتفهّم والتفاهم: فهم الذات والواقع...وتفهّم الآخر والمستجدات...والتفاهم حول ما يمكن أن يكون أرضية مشتركة للعمل الوطني، بما يعود بالنفع على مجتمعنا...وما هذه إلا محاولة قد تصيب أو تخطئ، أو بالأحرى قد تصيب وتخطئ معاً!
لا يستطيع أحد أن ينكر الدور التاريخي الإيجابي لتيار التقدم والتحديث في المجتمع الكويتي، الذي برز منذ بدايات القرن العشرين، وكانت قاعدته الاجتماعية الأساسية تتمثل في النخبة التجارية والفئات المستنيرة، التي يعود إليها الفضل في التصدي الشجاع لاستبداد الحكم العشائري عهود ما قبل الاستقلال والدستور، ومجابهة الواقع الاجتماعي بقيوده وتقاليده البالية، ومحاولة النهوض بالحالة الثقافية البائسة والمتخلفة، وكذلك ما قامت به من دور رائد في إطلاق المبادرات من أجل تأسيس التعليم النظامي، وإرسال البعثات إلى الخارج، وتعليم البنات، واستحداث نظام البلدية، وتطوير الإدارة والخدمات العامة، وقيام المجالس المنتخبة، والمشاركة الشعبية، ووضع ثلاث وثائق دستورية للبلاد: وثيقة شورى 1921، وقانون صلاحية المجلس في 1938، ودستور 1962، وتحديث التشريعات والقوانين والنظام القضائي، والانفتاح على العالم الحديث... وما خاضته من معارك متعددة سواءً داخل الحكم، مع الحكم وضده، أو في إطار المجتمع ضد تيار التقليد والجمود داخل المجتمع الكويتي، أو في مجابهتهما معاً، وذلك في مختلف هذه القضايا والمحاور.ولكن المسار الصاعد لتيار التقدم والتحديث في المجتمع الكويتي توقف، وأخذ يراوح مكانه أو يتراجع، منذ منتصف ستينيات القرن العشرين بعدما واجه ثلاثة تحولات سلبية كبرى:
أولها: التحولات السلبية، التي طرأت على المجتمع الكويتي عموماً، وكذلك على واقع الطبقة البرجوزاية والوسطى خصوصاً، جراء الطبيعة الريعية للاقتصاد، وسيطرة الحكم على المورد الاقتصادي الأساسي، والاتكال المتزايد على الانفاق الحكومي المتعاظم، وتكريس دولة الرعاية، وتنامي الفئات الطفيلية والاستحواذية، وسيادة القيم السلبية للمجتمع الاستهلاكي، والتدخل في تكوين المجتمع الكويتي، وتكريس النزعات المناطقية والفئوية والقبلية والطائفية.
وثانيها: تخلي الحكم عن ذلك التوافق التاريخي الرائع، الذي تحقق في عهد المغفور له الشيخ عبداللّه السالم بين «مشروع الحكم» ومشروع بناء الدولة الكويتية الحديثة، الذي يمثله دستور 1962، وكانت البداية المؤسفة إسقاط حكومة ديسمبر 1964، التي كان قوامها الأساسي يتشكل من النخبة التجارية، ثم تزوير انتخابات 25 يناير 1967، وبعدها الانقلابان الأول والثاني على الدستور في العامين 1976 و1986، وما رافقهما وتبعهما من تحالفات سياسية واجتماعية مستجدة، واستهداف مقصود ومتعمد للقوى الحيّة داخل المجتمع الكويتي والعمل على محاصرتها وتهميشها وإضعافها!
وبرز التحول السلبي الثالث على المستوى الفكري والسياسي والمزاج أو الميل الجماهيري بعد هزيمة حرب يونيو 1967، التي كشفت عمق أزمة نظم الحكم «التقدمية» غير الديموقراطية خصوصاً في مصر عبدالناصر، وأزمة الحركة القومية، والبروز الوقتي للبديل اليساري الناشئ حينذاك ثم استهدافه وضربه، وانطلاقة البديل الإسلامي المسماة بـ «الصحوة»، ومحاولات المعسكر الغربي فترة الحرب الباردة استغلال التوجه الإسلامي لعزل التيار التقدمي بتلاوينه اليسارية والقومية، واستهداف أفكاره وقيمه ومبادئه.
وجراء تلك التحولات الثلاثة اهتزت الأرضية الاقتصادية والاجتماعية والأسس السياسية والفكرية لتيار التقدم والتحديث في المجتمع الكويتي وضعف نفوذه وتقلص امتداده الجماهيري، وبدأت تبرز ملامح أزمته... وللحديث صلة...
---------
المصدر: الرأي العام
سلسلة مقالات مهمه للكاتب أحمد الديين .. نبدأ بنشرها من مصدرها الأساسي (جريدة الرأي العام) و سنتابع نشرها حالما تنشر هناك ...
تعليقاتكم على الموضوع مهمة و لا شك ... و تثري الموضوع ...
تحياتي
مقالاتي خلال هذا الاسبوع ستتركز حول التيارات الفكرية والسياسية الكويتية، ولا اقصد التنظيمات والتجمعات وحدها فحسب، من حيث تكوينها، ومسارها التاريخي، وواقعها الراهن، وما تواجهه من تحديات؛ وتعانيه من أزمات، وآفاق تطورها واستحقاقاته... وسأبدأ بتيار التقدم والحداثة بتنويعاته الليبرالية، والقومية، واليسارية، وأُعقِبَه بالتيار الإسلامي والمحافظ بتلاوينه الإخوانية، والسلفية، والشيعية، والمحافظة الاجتماعية.
على أمل أن تكون هذه المقالات محفزاً للتفكير والحوار بين أصحاب الرأي من مختلف هذه التيارات، بهدف الفهم والتفهّم والتفاهم: فهم الذات والواقع...وتفهّم الآخر والمستجدات...والتفاهم حول ما يمكن أن يكون أرضية مشتركة للعمل الوطني، بما يعود بالنفع على مجتمعنا...وما هذه إلا محاولة قد تصيب أو تخطئ، أو بالأحرى قد تصيب وتخطئ معاً!
لا يستطيع أحد أن ينكر الدور التاريخي الإيجابي لتيار التقدم والتحديث في المجتمع الكويتي، الذي برز منذ بدايات القرن العشرين، وكانت قاعدته الاجتماعية الأساسية تتمثل في النخبة التجارية والفئات المستنيرة، التي يعود إليها الفضل في التصدي الشجاع لاستبداد الحكم العشائري عهود ما قبل الاستقلال والدستور، ومجابهة الواقع الاجتماعي بقيوده وتقاليده البالية، ومحاولة النهوض بالحالة الثقافية البائسة والمتخلفة، وكذلك ما قامت به من دور رائد في إطلاق المبادرات من أجل تأسيس التعليم النظامي، وإرسال البعثات إلى الخارج، وتعليم البنات، واستحداث نظام البلدية، وتطوير الإدارة والخدمات العامة، وقيام المجالس المنتخبة، والمشاركة الشعبية، ووضع ثلاث وثائق دستورية للبلاد: وثيقة شورى 1921، وقانون صلاحية المجلس في 1938، ودستور 1962، وتحديث التشريعات والقوانين والنظام القضائي، والانفتاح على العالم الحديث... وما خاضته من معارك متعددة سواءً داخل الحكم، مع الحكم وضده، أو في إطار المجتمع ضد تيار التقليد والجمود داخل المجتمع الكويتي، أو في مجابهتهما معاً، وذلك في مختلف هذه القضايا والمحاور.ولكن المسار الصاعد لتيار التقدم والتحديث في المجتمع الكويتي توقف، وأخذ يراوح مكانه أو يتراجع، منذ منتصف ستينيات القرن العشرين بعدما واجه ثلاثة تحولات سلبية كبرى:
أولها: التحولات السلبية، التي طرأت على المجتمع الكويتي عموماً، وكذلك على واقع الطبقة البرجوزاية والوسطى خصوصاً، جراء الطبيعة الريعية للاقتصاد، وسيطرة الحكم على المورد الاقتصادي الأساسي، والاتكال المتزايد على الانفاق الحكومي المتعاظم، وتكريس دولة الرعاية، وتنامي الفئات الطفيلية والاستحواذية، وسيادة القيم السلبية للمجتمع الاستهلاكي، والتدخل في تكوين المجتمع الكويتي، وتكريس النزعات المناطقية والفئوية والقبلية والطائفية.
وثانيها: تخلي الحكم عن ذلك التوافق التاريخي الرائع، الذي تحقق في عهد المغفور له الشيخ عبداللّه السالم بين «مشروع الحكم» ومشروع بناء الدولة الكويتية الحديثة، الذي يمثله دستور 1962، وكانت البداية المؤسفة إسقاط حكومة ديسمبر 1964، التي كان قوامها الأساسي يتشكل من النخبة التجارية، ثم تزوير انتخابات 25 يناير 1967، وبعدها الانقلابان الأول والثاني على الدستور في العامين 1976 و1986، وما رافقهما وتبعهما من تحالفات سياسية واجتماعية مستجدة، واستهداف مقصود ومتعمد للقوى الحيّة داخل المجتمع الكويتي والعمل على محاصرتها وتهميشها وإضعافها!
وبرز التحول السلبي الثالث على المستوى الفكري والسياسي والمزاج أو الميل الجماهيري بعد هزيمة حرب يونيو 1967، التي كشفت عمق أزمة نظم الحكم «التقدمية» غير الديموقراطية خصوصاً في مصر عبدالناصر، وأزمة الحركة القومية، والبروز الوقتي للبديل اليساري الناشئ حينذاك ثم استهدافه وضربه، وانطلاقة البديل الإسلامي المسماة بـ «الصحوة»، ومحاولات المعسكر الغربي فترة الحرب الباردة استغلال التوجه الإسلامي لعزل التيار التقدمي بتلاوينه اليسارية والقومية، واستهداف أفكاره وقيمه ومبادئه.
وجراء تلك التحولات الثلاثة اهتزت الأرضية الاقتصادية والاجتماعية والأسس السياسية والفكرية لتيار التقدم والتحديث في المجتمع الكويتي وضعف نفوذه وتقلص امتداده الجماهيري، وبدأت تبرز ملامح أزمته... وللحديث صلة...
---------
المصدر: الرأي العام
سلسلة مقالات مهمه للكاتب أحمد الديين .. نبدأ بنشرها من مصدرها الأساسي (جريدة الرأي العام) و سنتابع نشرها حالما تنشر هناك ...
تعليقاتكم على الموضوع مهمة و لا شك ... و تثري الموضوع ...
تحياتي