الجاسم: أحاديث في مستقبل الحكم (1)

المشرف العام

مراقب
طاقم الإدارة
أحاديث في مستقبل الحكم (1)

الحديث الأول


شراكة مع فئة من طبقة!

في دول الخليج, وتحديدا في أوساط رسمية وشعبية, هناك "عدم ارتياح" مما يجري في الكويت, فهم يعتقدون أن (الحكم) في الكويت بدأ (يضعف) أو يفقد قوته. ولا أظن أنني اختلف معهم في هذه النقطة بالذات, وإن كنت اختلف معهم حول الأسباب والعلاج.


بعيدا عن صخب الانتخابات والدوائر الانتخابية, وحركة الشباب والبرتقالي, وبعيدا عن وزراء التأزيم والرشاوى السياسية والفساد, ومن صوت لجاسم الخرافي, بعيدا عن هذا كله تعالوا نفكر بصوت مسموع حول مستقبل بلدنا, وتحديدا مستقبل (الحكم) في بلدنا. نريد نقاشا هادئا ليس فيه مؤيد ولا معارض ولا تشكيك في النوايا, نريده نقاشا يتناسب مع أهمية القضية, وهي قضية (مستقبل الحكم) في الكويت.


هناك إشارات سياسية التقطتها منذ فترة, دفعتني إلى التفكير في مستقبل الحكم في الكويت. وقد عرضت أغلبها في مقالات متفرقة في هذا الموقع وعلى مدى أكثر من عام وبصياغة مختلفة. بيد أنني أرغب اليوم في إعادة صياغة وتجميع تلك الإشارات مع ما استجد منها كي أفتح نقاشا عاما بشأن تأثيرها على قدرة (الحكم) على الاستمرار. وفي حال تلقيت تعليقات جادة حول الموضوع سأقوم بنشرها تباعا أيا كان اتجاه الرأي فيها, وليس بالضرورة ذكر الاسم الحقيقي لكاتبها.


بداية علينا أن نفرق بين شؤون (الحكم) وشؤون (الدولة). فشؤون الحكم هي ما اتصل منها بترتيب الإمارة والخلافة, وتوازن السلطة واقتسامها بين فروع ذرية مبارك, ووضع الفروع غير الحاكمة, وتوزيع المناصب الوزارية والمناصب الأخرى بين الشيوخ, وطموح السلطة لدى الشيوخ الشباب, وبصفة عامة فإننا نعني بشؤون الحكم كل ما اتصل بوجود واستمرار وشؤون أسرة الصباح مما تنفرد الأسرة باتخاذ القرار فيه.


أما شؤون الدولة فأعني بها كل ما اتصل بإدارة الشؤون السياسية والاقتصادية وغيرها في الدولة, بما في ذلك القضاء والسياسة الخارجية والتشريعية والرياضة والإعلام وسياسات الحكومة في كافة المجالات كمكافحة الجريمة وخدمات الوزارات وخطط التنمية والتعليم. وهذه الشؤون ليس للأسرة الحاكمة أن تنفرد في اتخاذ القرارات المتصلة بها, بل ليس لأسرة الصباح دور فيها خارج إطار النصوص الدستورية والقانونية المحددة لرئيس الدولة فقط الذي هو بحكم قانون توارث الإمارة والدستور من ذرية الشيخ مبارك, باعتبار أن ولي العهد ليس له صلاحيات دستورية ما لم يكن نائبا عن الأمير. فإدارة شؤون الدولة تتم من خلال مؤسسات دستورية ووفق قوانين وآلية محددة بغية تحقيق أهداف إستراتيجية عامة. ومشاركة الشيوخ في تلك الإدارة من خلال مواقع رسمية, هي مشاركة فردية حالها كحال مشاركة أي مواطن آخر في تلك الإدارة. هذا كله من الناحية النظرية.

أما من الناحية الواقعية, فإن أسرة الصباح تجمع بين يديها شؤون الحكم وشؤون الدولة, وهي تكاد تنفرد في القرار النهائي في الشأنين رغم وجود المؤسسات الدستورية. فالحكومة هي الواجهة الدستورية للأسرة الحاكمة. والأسرة تسعى دائما للسيطرة على مجلس الأمة المنتخب, ولهذا فإن تدخلها المباشر في الانتخابات مفضوح حيث تقوم بتمويل بعض المرشحين وتحارب غيرهم وتسخر مرافق الدولة وقراراتها لمصلحة من يواليها. كما أن الأسرة الحاكمة تسعى للتأثير في انتخابات رئاسة مجلس الأمة ولجانه, وقد يقال أن من حق الحكومة المشاركة في التصويت داخل مجلس الأمة وفقا للدستور, فأقول أن هذا الحق هو (للحكومة) التي تتشكل من مجلس وزراء له رئيس يتمتع بصلاحيات دستورية محددة, لا (للأسرة الحاكمة). وما يحدث عندنا أن الحكومة تأتمر بأمر الأسرة الحاكمة, أو هي في الواقع أداة بيد الأسرة الحاكمة لممارسة شؤون الحكم, ومن هنا تبرز أول صورة من صور الخلط بين شؤون الحكم وشؤون الدولة, حيث أننا نعلم جميعا أن مجلس الوزراء لا يتمتع باستقلالية حقيقية وهو لا يدير شؤون الدولة, وأنه الواجهة السياسية الميدانية للأسرة الحاكمة. وأن هناك إدارة مركزية موقعها إما رئاسة مجلس الوزراء, أو قصر الحكم, والأمر يعتمد على شخصية الحاكم وشخصية رئيس الوزراء. كما أن الشيوخ الوزراء يمنحون أنفسهم صلاحيات أكبر من صلاحيات الوزراء من خارج الأسرة الحاكمة.


من جهة أخرى فإن اختيار الوزراء من خارج أسرة الصباح اعتمد, في أغلب المراحل السياسية, وعلى الأخص مرحلة ما بعد رئاسة الشيخ جابر الأحمد رحمه الله للوزارة, على عنصر الولاء السياسي للوزير المختار لا على كفاءته أو ثقله السياسي. وقد تردت معايير اختيار الوزراء في السنوات الأخيرة حين تم اعتماد معيار الولاء الشخصي, أي الولاء لشخص محدد, أكثر من كونه ولاء سياسي للأسرة الحاكمة. فالولاء للأسرة الحاكمة يشترك فيه كل أفراد الشعب الكويتي, لكنهم يختلفون حول الولاء لأشخاص بعينهم. وهو الأمر الذي قضى على ما تبقى من معيار الكفاءة. ولم يعد يقبل المشاركة في الوزارة إلا من يقبل التبعية المطلقة للإدارة المركزية ويقبل إلغاء شخصيته. ومن الطبيعي أن يأتي أداء الحكومة كنتاج تلقائي لمستوى أعضائها, وكذلك من الطبيعي أن تدار شؤون الدولة وفق رؤية شخصية بحتة لا تعتمد أسلوب الدراسات ولا التخطيط الإستراتيجي ولا حتى المناقشة والاستماع إلى الآراء, فالقرار مركزي, وقرار الحكومة هو قرار الحكم, وهي الصورة التي يجسدها عنوان "بناء على تعليمات صاحب السمو... أو بناء على توجيهات سامية... أو تنفيذا للرغبة الأميرية" وتحت هذه العناوين يتم إسقاط قروض وتقدم مساعدات للدول, وتتم معالجة شخص في الخارج, وتمنح المرأة حقوقها السياسية, وتمنع إزالة المخيمات الربيعية في الموعد المحدد, وتفتح المستوصفات أبوابها أيام الخميس والجمعة, ويمنع تطبيق القانون على المخالفات الواقعة على أملاك الدولة! وفي بعض الحالات لا يتم الإعلان عن مصدر القرار, كما حدث بالنسبة لاعتماد مجلس الوزراء السابق نظام الدوائر الانتخابية العشر و قرار اللجوء إلى المحكمة الدستورية.

إن صور الخلط بين شؤون الحكم وشؤون الدولة لا حصر لها بل هي صور يومية تظهر ليس فقط في الممارسات السياسية, بل تظهر حتى في الشؤون الإدارية أيضا, كتعيين وكلاء الوزارات والوكلاء المساعدين والسفراء والقناصل وكبار الموظفين. فالحكم يسيطر على شؤون الدولة, والحكومة هي واجهة الحكم وأداته.


إن الخلط بين شؤون الحكم وشؤون الدولة يخالف جوهر الدستور ونظام الحكم الذي تبناه, فهذا النظام اتجه نحو تقليص صلاحيات أسرة الصباح, أو هو ألغى النظام السابق عليه, وهو نظام الحكم المطلق الذي تؤول كل الأمور بموجبه إلى الحاكم. وسعى نظامنا الدستوري إلى إسناد الحكم إلى مؤسسات دستورية لكل منها اختصاص محدد تمارسه وفق ضوابط دستورية, بما في ذلك رئيس الدولة نفسه, حيث حدد الدستور صلاحياته التي لا يجوز الخروج عليها سواء باسم "المكرمة" أو تحت مظلة السلطة الأبوية. غير أن عدم تقبل أغلب أفراد أسرة الصباح للنظام الدستوري, وعدم قدرتهم على التعايش المدني مع النظام الدستوري, دفعهم دوما لإنشاء نظام مواز, هو نظام حكم واقعي يتصادم أغلب الأحيان مع النظام الدستوري, مما أدى إلى محاولة أسرة الصباح الانقلاب على الدستور أكثر من مرة, والسعي لهجر نصوصه كل مرة, هجرا رسميا أو عمليا.


إن فكر وثقافة الحكم لدى أسرة الصباح من بعد وفاة الشيخ عبدالله السالم تتعارض مع فكرة تقليص صلاحيات الأسرة, وترفض التمييز بين شؤون الحكم وشؤون الدولة, أو "كيس الدولة وكيس الشيخ", وهم في سبيل تكريس سلطتهم على شؤون الحكم وشؤون الدولة معا, ومن أجل النجاح في مسعى تفريغ الدستور من محتواه, كان لابد لهم من الاستعانة بجهود أطراف أخرى. وإذ تداخل هذا الهدف مع التنافس على الحكم والخلافة, وبروز طموح الحكم والسيطرة لدى أكثر من شيخ, سواء من الشباب أو الكبار, فقد نشأت علاقات تحالف استراتيجي برزت على نحو واضح قبل وفاة الشيخ جابر الأحمد رحمه الله, وقبل مرض الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح, وحتى بعد مرضه وبداية تحركات الشيخ سالم العلي الصباح نحو الخلافة وترتيب شؤون الحكم. وفي هذه المرحلة بدا واضحا أن الأسرة لن تتمكن من حسم التنافس على الإمارة من بعد الشيخ جابر إلا من خلال الاستعانة "بحلفاء" من خارجها. وظهر الصراع على الحكم علنا, ولم تعد الأسرة الحاكمة قادرة على إدارة شؤون (الحكم) وليس الدولة فقط, فأمور الدولة "فالتة من زمان", دون شركاء من خارجها. لذلك اضطرت الأسرة الحاكمة إلى الاستعانة بخدمات أطراف من خارجها, ولم تكن تلك الاستعانة "مجانية" بل بمقابل دفعته الكويت وأسرة الصباح و(الحكم) ذاته, وهو مقابل مكلف جدا, وستظهر كلفته السياسية جنبا إلى جنب مع كلفة سوء الإدارة بعد فترة قصيرة.


من هم الأطراف الذين استعانت بهم الأسرة الحاكمة لإدارة شؤون الحكم؟ وهل هم مجموعة من "الحكماء" أم أنهم فئة "منتفعة" تسعى لبناء سلطة وثروة؟ وما انعكاس الاستعانة بهم على استمرار قدرة أسرة الصباح في إدارة شؤون الدولة وشؤون الحكم؟ وما هي الكلفة النهائية للتحالفات الإستراتيجية؟


لقد استعانت أسرة الصباح, أو قسم منها, بجهود جاسم الخرافي للمساعدة في إلغاء دور مجلس الأمة, وفي ترتيب شؤون الحكم والخلافة. وجاسم الخرافي لم يلب "نداء استغاثة" أسرة الصباح بصفته مواطنا كويتيا نابغا حكيما يملك حلولا سحرية ومراهم تشفي العلل السياسية, بل هو يمثل "فئة" من طبقة تجارية, وهذه الفئة لا تمثل طبقة تجار الكويت, ولا صلة لها بالتاريخ السياسي المشرف لطبقة التجار القديمة. ولفئة جاسم الخرافي مصالح تجارية ضخمة (تتداخل) مع القرار السياسي. كما أن الفئة التي يمثلها الخرافي, وإن انحسر عنها وصف "التنظيم السياسي" لكنها فئة تعمل من أجل السيطرة على القرار السياسي, وقد نجحت في مسعاها حتى الآن. وهي لديها "جناح" اقتصادي يفرش الطريق لبناء النفوذ السياسي, ولديها "جناح" سياسي يوهم (الحكم) أن له خصوم, ويوهمه أن لهم القدرة على إقصائهم خدمة (للحكم), وفي الوقت نفسه يوفر الغطاء لنشاطها الاقتصادي ويلغي القدرة التنافسية في كافة قطاعات السوق!


لقد تضخم نفوذ "فئة" جاسم الخرافي, ومع هذا التضخم تنامى تأثير مؤسسة الفساد والإفساد في البلاد, حتى أصبح "لفئة جاسم" نصيب من المقاعد الوزارية ونصيب من مقاعد البرلمان... وما يمكن اعتباره نصيب من ثروة الكويت. إن حاصل جمع تلك الأنصبة يساوى شراكة واقعية في الحكم! وهي شراكة تتعارض مع جوهر نظام الحكم الدستوري ولا تمت بصلة للتحالفات السياسية التي عرفها تاريخ الكويت!


لم أنته بعد من بيان أضرار الشراكة مع "الفئة", لكن وددت القول قبل أن أختم هذا المقال إن شراكة "فئة" الخرافي في الحكم ليست المؤشر الوحيد على ضعف الأسرة الحاكمة, وهي ليست العامل السياسي الوحيد الذي يجب التفكير في تأثيره على مستقبل الكويت. فهناك مؤشر آخر وعامل آخر لا يجوز التقليل من شأنهما. فماذا يعني أن يتولى د. اسماعيل الشطي ابن جماعة الإخوان المسلين, حتى وإن تمرد, منصب نائب رئيس الوزراء, وماذا يعني أن يتولى د. محمد البصيري الابن الثاني لجماعة الإخوان المسلمين منصب نائب رئيس مجلس الأمة!


هذا ما سنحاول مناقشته في المقال القادم بإذن الله بعد أن نفرغ من مناقشة أضرار التحالف بين أسرة الصباح و"فئة" من طبقة!


17/7/2006


--------------------------

المصدر: موقع الجاسم
 
أعلى