بسم الله الرحمن الرحيم
موقف المسلم من العلم المادي
لفضيلة الشيخ العلاّمة محمد بن سعيد رسلان - حفظه الله تعالى -
خطبة جمعة 20 - 4 - 1416 هـ
15 - 9 - 1995 م
الخطبةُ الأُولى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾[آل عمران: 102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء: 1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب: 70-71].
وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ.
ثُمَّ أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ سُؤَالاً مُلِحًّا إِلْحَاحًا شَدِيدًا مِنْ دَهْرٍ بَعِيدٍ مَضَى، يُدَافَعُ بِرِفْقٍ حِينًا وَبِشِدَّةٍ أَحْيَانًا، غَيْرَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدَّرَ أَنْ يُطْرَحَ الْيَوْمَ، مَعَ تَشَعُّبِ طُرُقِ الْإِجَابَةِ عَنْهُ، وَعَدَمِ تَنَاهِي طُرُقِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَلَكِنْ .... اللهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلاَنُ.
هَذَا السُّؤَالُ هُوَ:
مَا هُوَ مَوْقِفُ الْمُسْلِمِ الْيَوْمَ مِنْ الْعِلْمِ الْمَادِّيِّ الْبَشَرِيِّ الَّذِي وَصَلَ إِلَيْهِ النَّاسُ؟
وَهَذَا السُّؤَالُ يُمْكِنُ أَنْ يُفْهَمَ عَلَى وَجْهَيْنِ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: مَا هُوَ تَوْصِيفُ وَحَالُ مَوْقِفِ الْمُسْلِمِ الْيَوْمَ بِإِزَاءِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ النَّاسُ مِنْ تَقَدُّمٍ عِلْمِيٍّ مُذْهِلٍ فِي أُمُورِ الطَّبِيعَةِ وَالْمَادَّةِ وَشُؤُونِ الْحَيَاةِ؟
فَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ وَجْهٌ وَصْفِيٌّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي هُوَ وَجْهٌ تَقْرِيرِيٌّ شَرْعِيٌّ؛ مُفَادُهُ: مَا الْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي مَوْقفِِهِ إِزَاءَ مَا يَسْتَجِدُّ مِنْ عُلُومٍ طَبِيعِيَّةٍ وَاخْتِرَاعَاتٍ إِنْسَانِيَّةٍ فِي مَنَاحِي الْحَيَاةِ؟
وَلْنَبْدَأْ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْ هَذَا السُّؤَالِ؛ فَأَمَّا وَصْفُ مَوْقِفِ الْمُسْلِمِ الْيَوْمَ إِزَاءَ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ النَّاسُ مِنِ اخْتِرَاعَاتٍ وَمُسْتَحْدَثَاتٍ فِي وَسَائِلِ الْحَيَاةِ أَنَّهُ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ: (مَهْزُومٌ).
فَالْمُسْلِمُ مَهْزُومٌ هَزِيمَةً مُطْلَقَةً بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ قَاضِيَةٍ لاَ حَرَاكَ لَهُ مَعَهَا وَلاَ نَأْمَةَ حِسٍّ بِإِزَاءِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ النَّاسُ الْيَوْمَ مِنْ مُسْتَحْدَثَاتٍ وَمُخْتَرَعَاتٍ فِي شَتَّى مَنَاحِي الْحَيَاةِ، فَهَذَا وَصْفُ مَوْقِفِ الْمُسْلِمِ الْيَوْمَ.
وَإِذَا مَا أَرَدْتَ أَنْ تَصِلَ إِلَى هَذِهِ النَّتِيجَةِ النَّظَرِيَّةِ الْمُدَّعَاةِ بِطَرِيقَةٍ عَمَلِيَّةِ فِعْلِيَّةٍ تَجْرِيبِيَّةٍ؛ فَتَصَوَّرِ الْآنَ مُؤْتَمَرًا عَالَمِيًّا مِنْ مُؤْتَمَرَاتِ السُّكَّانِ، وَقَدْ حُشِدَ لِهَذَا الْمُؤْتَمَرِ كُلُّ عُلَمَاءِ الْأَرْضِ مِمَّنْ يُحْسِنُونَ وَلاَ يُحْسِنُونَ الْكَلاَمَ فِي هَذَا الْمَنْحَى، وَقَدِ اجْتَمَعُوا جَمِيعًا فِي مَكَانٍ مَا، يُنَظِّرُونَ وَيَتَكَلَّمُونَ عَلَى أَحْدَثِ وَسَائِلِ الْعِلْمِ وَالنَّظَرِ الْحَدِيثِ، وَمَعَ هَؤُلاَءِ الْعُلَمَاءِ -بِزَعْمِهِمْ- عَالِمٌ مِنْ عُلَمَاءِ شَرْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، بِضَاعَتُهُ فِي عِلْمِهِ مَا يُقَرِّبُهُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَيَنْفِي عَنْ قَلْبِهِ الشِّرْكَ وَالدَّغَلَ، يَحْمِلُ كِتَابَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَيُحْسِنُ فِيهِ النَّظَرَ، وَقَدْ حُشِرَ فِي وَسَطِ هَذِهِ الْمَجْمُوعَةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ الَّذِين يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ عَنْهَا غَافِلُونَ، وَقَدْ وُضِعَ هَذَا الرَّجُلُ مَعَ أُولَئِكَ فَاسْتَمَعَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى مَا أَتَوْا بِهِ مِنْ عِلْمٍ مُحْدَثٍ جَدِيدٍ مُخْتَرَعٍ حَادِثٍ، فَلَمَّا فَرَغُوا -تَصَوَّرْ هَذَا-فَلَمَّا فَرَغُوا- قَامَ هَذَا الرَّجُلُ يَطْلُبُ الْكَلِمَةَ وَيَدَّعِي بِحَقٍّ أَنَّ عِنْدَهُ حَلَّ الْمُشْكِلَةِ الَّتِي يَبْحَثُ عَنْهَا هَؤُلاَءِ جَاهِدِينَ، وَيُنَظِّرُونَ فِي سَبِيلِ الْوُصُولِ إِلَى حَلِّهَا مَا يُنَظِّرُونَ فَلاَ يَصِلُونَ.
قَامَ هَذَا الرَّجُلُ، فَحِمَدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَتَشَهَّدَ الشَّهَادَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ:
يَا هَؤُلاَءِ! إِنَّ حَلَّكُمْ عِنْدِي؛ آيَةٌ فِي كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَقُولُ فِيهَا رَبُّنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾[الأعراف: 96]، فَهَذَا حَلُّكُمْ.
تَصَوَّرْ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ الْعَالِمَ الْحَامِلَ لِكِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَأْتِي بِآيَةٍ مِنْ كَلاَمِ اللهِ مِنْ كَلاَمِ رَبِّنَا سُبْحَانَهُ الَّذِي لاَ يَأْتِي كَلاَمَ رَبِّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلاَ منِ ْخَلْفِهِ زَيْغٌ وَلاَ ضَلاَلٌ وَلاَ خَلَلٌ -وَحَاشَا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-، تَصَوَّرْ أَنَّ هَذَا الْعَالِمَ قَدْ قَامَ بَعْدَ مَا قَالَ هَؤُلاَءِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْمَادِّيِّ الْحَدِيثِ مَا قَالُوا عَلَى أَحْدَثِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ الْعَقْلُ الْبَشَرِيُّ الْيَوْمَِ، فَقَامَ يَقُولُ: الْحَلُّ عِنْدِي، آيَةٌ مِنْ كِتَابِ رَبِّنَا مِنْ كَلاَمِ اللهِ يَقُولُ فِيهَا رَبُّنَا جَلَّتْ قُدْرَتُهُ: يَا مَعْشَرَ النَّاسِ! لاَ تَخْشَوُا الرِّزْقَ؛ بَلْ فَاعْبُدُونِي، وَأَنَا أَنَا الرَّازِقُ الرَّزَّاقُ؛ فَعُودُوا إِلَيَّ أَفْتَحْ عَلَيْكُمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
إِذَنْ؛ فَالْحَلُّ أَنْ تَعُودُوا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾، ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً | يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً﴾[نوح: 10-12]، الْحَلُّ فِي كَلاَمِ رَبِّنَا.
لَوْ أَنَّهُ قَامَ فَقَالَ هَذَا، تَصَوَّرَ أَنْتَ وَأَعْمِلْ خَيَالَكَ مَا شَاءَ لَكَ الْعَمَلُ عَنْ مَدَى السُّخْرِيَّةِ الْعَاصِفَةِ الَّتِي سَتُحِيطُ بِهِ إِنِ اجْتَرَأَ فَقَالَ، وَأَنَا أَزْعُمُ -وَأَسْأَلُ اللهَ السَّلاَمَةَ مِنَ الْخَلَلِ، وَالْعِصْمَةَ مِنَ الزَّلَلِ- أَنَّكَ لَنْ تَجِدَ الْيَوْمَ عَالِمًا يُحْشَرُ هَذَا الْمَحْشَرَ فَيَقُومُ فَيَقُولُ: إِنَّ الْحَلَّ فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي وَسَطِ الْعِلْمِ الْمَادِّيِّ الْبَشَرِيِّ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْمَوْقِفَ الْحَادِثَ لِلْمُسْلِمِ الْيَوْمَ عَلَى مُسْتَوَى الْعَالَمِ -إِلاَّ مَنْ عَصَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ- أَنَّهُ أَمَامَ مَا أَحْدَثَ الْعَقْلُ الْبَشَرِيُّ مِنْ مُخْتَرَعَاتٍ أَنَّ الْمُسْلِمَ (مَهُزُومٌ)، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّكَ إِذَا مَا نَظَرْتَ إِلَى بَلْدَةٍ كَهَذِهِ يَخْرُجُ مِنْ أَبْنَائِهَا فِي كُلِّ عَامٍ مَا يَصِلُ رُبَّمَا إِلَى عَشْرَةِ فُصُولٍ فِي كُلِّ مَدْرَسَةٍ مِنْ مَدَارِسِ التَّعْلِيمِ الْعَامِّ، كُلُّهُمْ يَدْفَعُهُمْ آبَاؤُهُمْ إِلَى هَذَا الْعِلْمِ الْحَدِيثِ؛ لِكَيْ يُصْبِحَ الْوَلَدُ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ طَبِيبًا، أَوْ مُهَنْدِسًا، أَوْ مَا شِئْتَ مِنْ تِلْكَ الْخَيَالاَتِ الَّتِي إِذَا لَمْ تَرْتَكِزْ عَلَى إِيمَانٍ صَحِيحٍ لاَ تُسَاوِي فِي مِيزَانِ رَبِّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى شَيْئًا عَلَى الْإِطْلاَقِ.
عَشْرَةُ فُصُولٍ فِي كُلِّ عَامٍ، وَفَصْلٌ وَاحِدٌ فِي الْمَعْهَدِ الْأَزْهَرِيِّ لاَ يَتِمُّ تَمَامُهُ إِلَى الْيَوْمِ -وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ-؛ لِأَنَّكَ إِذَا مَا أَخَذْتَ وَلَيَّ أَمْرٍ نَاحِيَةً، فَانْتَحَى مَعَكَ فِيهَا، فَقُلْتَ لَهُ: مَا تَبْغِي لِأَبْنَائِكَ؟!
أَنَا زَعِيمٌ -وَأَسْأَلُ اللهَ الْعِصْمَةَ مِنَ الزَّلَلِ، وَالسَّلاَمَةَ مِنَ الْخَلَلِ- أَنَّكَ لَنْ تَجِدَ فِي كُلِّ مِلْيُونٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَقُولُ لَكَ عِنْدَمَا تُوَجِّهُ إِلَيْهِ هَذَا السُّؤَالَ: أُرِيدُ أَنْ يُصْبِحَ وَلَدِي إِنْ شَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَالِمًا مِنْ عُلَمَاءِ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
لاَ تَجِدُ، وَاذْهَبْ إِلَى أَيِّ مَكَانٍ شِئْتَ، وَادْخُلْ أَيَّ مَدْرَسَةٍ أَرَدْتَ وَأَحْبَبْتَ، بِلِ ادْخُلْ إِلَى فُصُولِ الْمَعَاهِدِ الْأَزْهَرِيَّةِ بَعْدَ التَّطْوِيرِ، وَاسْأَلْ مَنْ فِيهَا مِنْ أَبْنَائِهَا الَّذِينَ يَنْتَمُونَ إِلَى خَيْرِ مُنْتَمًى إِلَيْهِ -وَهُوَ دِينُ الْإِسْلاَمِ، دِينُ الْحَبِيبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ادْخُلْ إِلَى فُصُولِهِمْ، وَأَقِمْ هَؤُلاَءِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ: مَا تُرِيدُ أَنْ تُصْبِحَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ؟
سَيَقُولُ لَكَ: أُرِيدُ أَنْ أُصْبِحَ طَبِيبًا، أَوْ مُهَنْدِسًا، أَوْ مَا شِئْتَ مِنْ تِلْكَ الْخَيَالاَتِ وَالْأَوْهَامِ الَّتِي إِذَا لَمْ تَرْتَكِزْ عَلَى إِيمَانٍ صَحِيحٍ لاَ تُسَاوِي فِي مِيزَانِ رَبِّنَا شَيْئًا عَلَى الْإِطْلاَقِ.
الْمُسْلِمُ مَهْزُومٌ إِزَاءَ هَذَا الْوَاقِعِ الْمُرِّ الَّذِي نَحْيَى فِيهِ، وَكَثِيرًا مَا يَسْأَلُ الصَّيَادِلَةُ وَالْأَطِبَّاءُ عُلَمَاءَ الشَّرْعِ: مَا الشَّأْنُ فِي الدَّوَاءِ الْمَشْرُوبِ وَإِنَّ فِيهِ مِنْ مَادَّةِ الْخَمْرِ -أَيْ مِنَ الْكُحُولِ الَّذِي يُسَبِّبُ السُّكْرَ-، وَإِنَّ فِي هَذَا الدَّوَاءِ الْمَشْرُوبِ مَا فِيهِ مِنْ أَصْلِ أَمْرٍ حَرَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرًا وَكَبِيرًا؛ فَحَرَّمَ قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ سَوَاءً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: مَا الْحَلُّ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَمَا الْمَوْقِفُ مِنْهُ؟!
الْمَوْقِفُ مِنْهُ وَالْحَلُّ فِيهِ أَنَّكَ لَمْ تَقُمْ عَلَى شَأْنِ هَذِهِ الْأَدْوِيَةِ، وَلَمْ يَلْتَفِتِ الْمُسْلِمُ إِلَى شَأْنِ تَصْنِيعِهِا، إِنَّمَا يَصْنَعُ النَّاسُ مَا يَصْنَعُونَ مِنْ مُسْتَحْدَثَاتِ الْحَيَاةِ وَظَوَاهِرِهَا عَلَى حَسَبِ مَا اسْتَقَرَّ فِي قَرَارَةِ قُلُوبِهِمْ مِنْ تَصَوُّرَاتٍ اعْتِقَادِيَّةٍ كَامِنَةٍ فِيهَا، فَإِذَا كَانَتِ الْقُلُوبُ قَدِ اسْتَقَرَّ فِيهَا الْإِيمَانُ بِأَنَّ «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ»؛ جَاءَ الْعَمَلُ الْمَادِّيُّ الْحَدِيثُ وَالْمُخْتَرَعُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ سَائِرًا عَلَى مُقْتَضَى هَذَا الْإِيمَانِ الَّذِي اسْتَقَرَّ فِي قَرَارَةِ الْقُلُوبِ، وَإِذَا مَا كَانَتِ الْقُلُوبُ مِنَ الْإِيمَانِ خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا؛ فَلاَ تَنْتَظِرْ أَنْ تَعُودَ هَذِهِ الْمُسْتَحْدَثَاتُ إِلَى أَصْلٍ شَرْعِيٍّ، وَلْيَشْرَبِ الْمُسْلِمُونَ وَأَبْنَاءُ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَشْرَبُوهُ مَا شَاءَ لَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
الْمُسْلِمُ مَهْزُومٌ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَمَامَ مَا اسْتَحْدَثَ النَّاسُ فِي هَذَا الْكَوْنِ، وَاعْلَمْ -هَدَانِي اللهُ وَإِيَّاكَ إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ- أَنَّ أَكْبَرَ الشَّهَادَاتِ الْعِلْمِيَّةِ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ قَاطِبَةً لاَ تُسَاوِي شَيْئًا عَلَى الْإِطْلاَقِ أَمَامَ آيَةٍ وَاحِدَةٍ يَتْلُوهَا أَحْقَرُ طِفْلٍ فِي أَقَلِّ مَكْتَبٍ مِنْ مَكَاتِبِ تَحْفِيظِ الْقُرْآنِ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ هَذَا كَلاَمُ اللهِ، وَالْمُسْلِمُ عِنْدَهُ الْعِلْمُ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَشَتَّانَ شَتَّانَ شَتَّانَ بَيْنَ عَالِمٍ بِالْحَيَوَانِ وَعَالِمٍ بِرَبِّ الْحَيَوَانِ، شَتَّانَ شَتَّانَ شَتَّانَ بَيْنَ عَالِمٍ بِالْحَيَوَانِ وَعَالِمٍ بِرَبِّ الْحَيَوَانِ، بِالْكَرِيمِ الدَّيَّانِ، بِالرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ.
وَلَكِنَّ الْمُسْلِمَ فَرَّطَ فِي الْأَمَانَةِ، وَأَهْمَلَ الْعِلْمَ الشَّرْعِيَّ الصَّحِيحَ؛ فَآلَ الْأَمْرُ إِلَى مَا آلَ إِلَيْهِ؛ انْهِزَامٌ فِي كُلِّ مَظَاهِرِ الْحَيَاةِ، وَتَضَاؤُلٌ أَمَامَ مَا يَسْتَحْدِثُهُ النَّاسُ مِنْ مُسْتَحْدَثَاتٍ، وَمَا هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ فِي مِيزَانِ الْإِسْلاَمِ إِلاَّ كَلُعَبٍ مِنْ لُعَبِ الْأَطْفَالِ.
مَا بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ طَبِيبًا وَلاَ كِيمْيَائِيًّا وَلاَ عَالِمًا نَوَوِيًّا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَيْ يَحْكُمَ هَؤُلاَءِ جَمِيعًا بِتَصَوُّرٍ وَاحِدٍ؛ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِتَسْتَقِيمَ الْحَيَاةُ -كُلُّ الْحَيَاةِ- عَلَى هَذَا الْمَنْهَجِ وَحْدَهُ.
وَعَلَيْهِ؛ فَإِنَّ أَعْلَى عَالِمٍ بِالطِّبِّ الْيَوْمَ فِي الْأَرْضِ وَفِي كُلِّ أَرْضٍ وَفِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ مَا هُوَ إِلاَّ أَمْهَرُ عَامِلِ صِيَانَةٍ لِلْجَسَدِ الْبَشَرِيِّ، فَمَا الطَّبِيبُ الْحَاذِقُ فِي نِهَايَةِ الْأَمْرِ إِلاَّ عَامِلُ صِيَانَةٍ لِلْمُعْجِزَةِ الْكُبْرَى الَّتِي خَلَقَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيكَ -وَأَنْتَ لاَ تَدْرِي عَنْهَا شَيْئًا، وَلاَ تَعْلَمُ مِنْ خَبَرِهَا شَيْئًا-.
وَمَا أَحْدَثَ النَّاسُ الْيَوْمَ مِنْ بِنَايَاتٍ تُنَاطِحُ السَّحَابَ، إِذَا مَا صَعَدْتَ إِلَى أَجْوَازِ الْفَضَاءِ فَنَظَرْتَ مِنْ طَيَّارَةٍ تَسْبَحُ فِي كَوْنٍ لاَ يَعْلَمُ مُنْتَهَاهُ إِلاَّ اللهُ؛ لَوَجْدَتَ هَذِهِ الَّتِي يَتَفَاخَرُ بِهَا مَنْ يَتَفَاخَرُ كَعُلَبِ الْكِبْرِيتِ، كَبِنَايَاتِ الْأَطْفَالِ الصَّغِيرَةِ عَلَى الْأَرْضِ، هَذَا فِي كَوْنِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي لاَ يَعْلَمُ مَدَاهُ إِلاَّ اللهُ.
هَزَمْتُمْ عِلْمَ اللهَ فِيكُمْ، وَحَقَّرْتُمْ مَا آتَاكُمْ رَبُّكُمْ -مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ!- مِنْ عِلْمٍ شَرْعِيٍّ صَحِيحٍ، بِقُرْآنٍ عَظِيمٍ لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ، بِالرُّوحِ الَّتِي تَمَسُّ الْمَوَاتِ فَيُحْيِهِ.
أَلاَ تَعْلَمُ أَنَّ مَنْ آتَاهُ اللهُ الْقَرْآنَ... الْقُرْآنُ الَّذِي يَهْرَبُ أَوْلِيَاءُ الْأُمُورِ الْيَوْمَ بِأَبْنَائِهِمْ مِنْ أَنْ يَقَعُوا عَلَى صَرِيحِهِ وَسَوَائِهِ فِي إِبَاحَةِ التَّعْلِيمِ الْأَزْهَرِيِّ؛ فَيَذْهَبُونَ إِلَى حَيْثُ يُمْسَخُ الْقُرْآنُ وَأَهْلُ الْقُرْآنِ مَسْخًا، نَسْأَلُ اللهَ السَّلاَمَةَ وَالْعَافِيَةَ.
اعْلَمْ أَنَّ مَنْ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ فَكَانَ فِي قَلْبِهِ وَبَيْنَ ضُلُوعِهِ؛ فَقَدْ أُوتِيَ النُّبُوَّةَ غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يُوْحَى إِلَيْهِ، وَمَنْ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ فَظَنَّ أَنَّ أَحَدًا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَفْضَلُ مِنْهُ؛ فَقَدْ حَقَّرَ مَا عَظَّمَ اللهُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ.
عِبَادَ اللهِ!
لَقَدْ هَزَمْنَا عِلْمَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِينَا، وَانْهَزَمَ هَذَا الْعِلْمُ -لاَ فِي حَقِيقَتِهِ حَاشَا لِلَّهِ أَنْ يُهْزَمَ؛ بَلْ فِي ظَوَاهِرِهِ- أَمَامَ الْمُلْحِدِينَ وَالْعَلْمَانِيِّينَ وَالاشْتِرَاكِيِّينَ وَالشُّيُوعِيِّينَ، انْهَزَمَ فِينَا لِأَنَّا مَا زِلْنَا إِلَى الْيَوْمِ نَبْحَثُ:
الْأَمْوَاتُ يَقْرَؤُونَ الْقْرَآنَ فِي قُبُورِهِمْ أَمْ لاَ يَقْرَؤُونَ؟!
وَالْأَوْلِيَاءُ هَلْ لَهُمْ تَصَرُّفٌ فِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتُ أَمْ لَيْسَ لَهُمْ فِي هَذَا مِنْ تَصَرُّفٍ؟!
مَا هَذَا الْهُرَاءُ؟!!
فَلْيَقْرَأْ فِي الْقَبْرِ مَنْ قَرَأَ، وَلْيَقْرَأْ فِي الْقَبْرِ مَنْ يَشَاءُ اللهُ أَنْ يَقْرَأَ، هَذَا أَمْرٌ لاَ يَعْنِينَا عَلَى الْإِطْلاَقِ.
وَأَمَّا نَحْنُ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ -مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ!- فَشَوَارِعُنَا قَذِرَةٌ، وَحَيَاتُنَا لاَ تَسِيرُ عَلَى مَنْهَجِ النَّظَافَةِ الَّتِي حَضَّ عَلَيْهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا حَذَّرَنَا أَنْ نَتَشَبَّهَ بِالْيَهُودِ فَقَالَ: «لاَ تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ؛ نَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ».
شَوَارِعُنَا قَذِرَةٌ، وَحَيَاتُنَا لاَ تَسْتَقِيمُ عَلَى مَنْهَجٍ مَضْبُوطٍ، بَلْ لاَ نَعْرِفُ لِأَنْفُسِنَا قَرَارًا عَلَى سَوَاءِ إِيمَانٍ صَحِيحٍ، نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَهْدِيَنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ.
عِبَادَ اللهِ!
إِنَّ عِلْمَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْرٌ جَلَلٌ لاَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ هُوَ، مَا أُوتِيَ النَّاسُ مِنْ الْعِلْمِ الظَّاهِرِيِّ الَّذِي تَرَاهُ وَالَّذِي تَنْهَزِمُ أَمَامَهُ وَتَتَضَاءَلُ أَنْ جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -لِلْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ، وَلِلتَّفْرِيطِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ- فِي أَيْدِي أَعْدَائِنَا؛ فَنَشَرُوا الْخَرَابَ وَالدَّمَارَ وَالضَّيَاعَ وَالضَّلاَلَ فِي الْأَرْضِ عَلَى رُؤُوسِنَا وَحْدَنَا.
نَعَمْ! لَقَدْ شَطَرُوا نُوَاةَ الذَّرَّةِ، وَبَحَثُوا فِي الْإِلكترُونِ، وَلَكِنَّهُمْ حَطَّمُوهَا عَلَى رُؤُوسِنَا نَحْنُ، وَمَا ازْدَادَ الْإِنْسَانُ فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي بَلَغَ فِيهِ مِنَ الْعِلْمَ الْمَادِّيِّ مَا بَلَغَ -مَا ازْدَادَ- سَعَادَةً، بَلْ وُجِدَتِ الْأَمْرَاضُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي الْأَسْلاَفِ، وَلَمْ يَعْرِفْ لَهَا تَارِيخُ الطِّبِّ مَثِيلاً وَلاَ خَبَرًا وَلاَ سَمِعَ عَنْهَا نَبَأً، انْتَشَرَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَوَصَلَ الْإِنْسَانُ بِقَلَقِهِ وَضَيَاعِهِ وَانْحِلاَلِهِ إِلَى دَرَكَةٍ مِنَ الضَّيَاعِ لاَ يَعْلَمُ حَمْأَتَهَا الْحَقِيقِيَّةَ إِلاَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، نَسْأَلُ اللهَ السَّلاَمَةَ وَالْعَافِيَةَ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتبع