بين الوجدان الشرقي والعقل الغربي

العرفان ، الفلسفة ، الإشراق ، الحكمة ، المنطق .

مصطلحات لعلوم ومعارف اخترعها البشر للوصول إلى الحقيقة .

التصوف شرقي ، والفلسفة غربية .

هذه هي الحقيقة المعروفة عند الغربيين .

فالمذاهب الصوفية وطرق المعرفة الوجدانية في شتى الأديان ، إنما نشأت في الشرق ، في بلاد فارس والهند وغيرها ، وانتقلت إلى الغرب .

والمذاهب الفلسفية والقواعد المنطقية العقلية ، إنما نشأت في الغرب ، في بلاد اليونان والرومان ، وانتقلت إلى الشرق .

فالإنسان الشرقي عبر التاريخ يرى أن القلب والوجدان هو السبيل إلى معرفة حقيقة الوجود والاتصال بالرب .

أما الإنسان الغربي ، فهو يبحث في عقله ولا يلتفت إلى قلبه ، فيرى أن العقل والقواعد العقلية المنطقية هي السبيل لمعرفة الحقيقة ، حقيقة الوجود وحقيقة الموجود .

ولا شك أن المذاهب الإنسانية بشتى طرائقها وأشكالها تنتقل بين الشعوب والحضارات وتؤثر فيهم وفي أديانهم ومذاهبهم .

فالحكمة اليونانية انتقلت إلى الشرق الإسلامي وأثرت فيه ، وليس هذا الموضوع هو موضع بسط هذه التفاصيل .

والغنوصية الشرقية والتصوف الشرقي القديم كان لهما التأثير في الديانات والمذاهب والطوائف اليهودية والنصرانية ، كما كان لهما التأثير في المذاهب والفرق المنتسبة للإسلام .

وبحكم اتصال دولة الإسلام الواسعة بالشرق الفارسي والهندي والغرب الروماني واليوناني ، فإنه قد نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية ولا الإسلام .

فظهرت الفرق الصوفية والطوائف الشيعية والأفكار الباطنية ، مما كان له التأثير في الدين والسياسة .

ومن المهم عند الباحثين في مجال الأديان والملل والنحل والفرق :

معرفة الجذور العقائدية والفكرية لكل فرقة وطائفة .

وهذه المعرفة لا تختص بالفرق والطوائف المنتسبة للإسلام ، بل حتى الفرق والطوائف اليهودية والنصرانية وحتى المذاهب الفلسفية والمفكرين عبر التاريخ .

فالفيلسوف الهولندي اليهودي ( سبينوزا ) قد تبرأ منه قومه اليهود بعد انغماسه في الفلسفة واعتناقه لفكرة ( وحدة الوجود ) .

فأصبح عند قومه من ( المطاريد ) و ( الصعاليك ) .

بل إن ( آريوس ) قد اتهمه بعض خصومه ( المعاصرين لنا ) بأنه قد تأثر بالفلسفة اليونانية ، وهذا ما كان سبباً في انحرافه في مفهوم ( بنوة المسيح وأبوة الأب ) .

والعداوة بين الدين والمنطق عداوة أزلية أبدية ، فعلماء اليهود والنصارى منذ قديم الزمان كانوا يعادون المذاهب الفلسفية والمنطق اليوناني .

وظهر من اليهود والنصارى كـ ( أفلوطين الأسكندري ) من حاول الجمع بين الدين والفلسفة والمزج بينهما ، كما ظهر في الإسلام من قام بمثل هذا الأسلوب كـ ( الفارابي ) و ( ابن سينا ) عندما حاولوا المزج والتقريب بين المنطق الأرسطي والدين الإسلامي .

ولكن باءت جميع محاولات ( المتفلسفين ) بالفشل الذريع .

على الجانب الآخر :

حاولت مجموعة ( حدثني قلبي عن ربي ) أن تؤسلم ( التصوف ) و ( العرفان ) ، ولكن دون جدوى .

فظهر في جميع الفرق من يحارب هذا التأسلم .

فظهر في السلفيين ( ابن تيمية الحراني ) .

وظهر في الروافض السبئيين ( محمد أمين الاسترابادي ) الذي يرفض الفلسفة والعرفان والتصحيح والتضعيف .

وهكذا :

نجد في جميع الفرق من هو ( متفلسف ) ، يقدس المنطق اليوناني ويعظمه ويراه هو الحكم والحاكم والمُحكم .

ونجد في الجانب الآخر من هو ( سلفي ) أو ( متمسلف ) ينادي بتصفية المذهب ( مهما كان رديئاً مخالفاً للعقل والمنطق والوجدان ) والعودة به إلى ما كان عليه السلف ( سواءً كان هذا السلف صالحاً أو طالحاً ) .

استطردتُ خارج الموضوع ، فأرجو المعذرة .

ولكن المراد قوله في هذا الموضوع :

أن البشر اختلفوا في مصدر المعرفة .

فمنهم من جعل القلب هو المصدر ، فقال : حدثني قلبي عن ربي .

ومنهم من جعل العقل هو المصدر للمعرفة ، بل هو الفيصل ، فقال : حدثني عقلي .

زبدة الموضوع أنه لا يوجد موضوع ، ولكنه تقرير لما استقر في العقول والنفوس .

والله أعلم .
 
أعلى