كلما أقرأ في التاريخ أو في الملل والنحل والأديان والمذاهب ، فإن الدولة الأموية تثير استغرابي .
فهذه الدولة الأموية مستفزة لخصومها عبر التاريخ ، تماماً كالدولة السعودية الحالية .
بل إنني أرى أوجه تشابه كثيرة بين ( بني أمية ) و ( آل سعود ) .
ولكن ليس هذا موضوعنا .
الدولة الأموية و ( بنو أمية ) واجهوا الكثير من الهجوم والطعن والنقد عبر التاريخ بأقلام متنوعة .
ما بين خوارج وشيعة ومعتزلة وعلمانيين وغيرهم .
لكن من أطرف التهم الموجهة ضدهم هو :
نشر المذهب الجبري .
سأتحدث عن هذه النقطة لاحقاً .
لكن ما يهمني هنا :
أن السلفيين والأشاعرة والصوفية موقفهم عبر التاريخ ليس معادياً للدولة الأموية كما هو موقف الخوارج والشيعة والمعتزلة والعلمانيين .
بل إن ( ابن تيمية ) كان يرى بأن السنة ( والسلفية ) كانت أقوى في عهد الأمويين من عهد العباسيين .
مع أن ( ابن تيمية ) نفسه صرح بأن يوجد في حكام بني أمية من فيه ( نصب ) وبغض لعلي رضي الله عنه وأهل البيت .
ولكنه مع ذلك يرى أنهم أقرب إلى السنة والسلفية من العباسيين الذين ظهر في عهدهم قمع لعلماء أهل السنة بينما كان الأمويون يقمعون الجبرية والقدرية والخوارج والمعطلة والشيعة ( المجسمة في ذلك الوقت ) وبناءاً على فتاوى بعض علماء التابعين .
الطريف في هذا الأمر :
أن الأوزاعي المحدث المشهور الذي أفتى لهشام بن عبد الملك بقتل غيلان الدمشقي ( القدري المعروف ) ، فاتهمه على سامي النشار بأنه ( عميل لبني أمية ) .
سبحان الله ، تهمة ( العمالة ) نسمعها كثيراً في هذا العصر ، خصوصاً في السعودية تجاه مشايخ ( الجامية ) الذين يفتون بقمع الإخونجية ( المخانيز ) .
ما علينا :
أتذكر أن أحد محبي ( عدنان إبراهيم ) قال لي :
معاوية منافق .
قلتُ :
وهل كيف هذا حصل ؟!
فقال :
يقول النبي عليه الصلاة والسلام : ( علي لا يحبه إلا مؤمن ، ولا يبغضه إلا منافق ) .
ومعاوية حارب علياً ، فهو يبغضه ، إذن :
هو منافق .
قلتُ له :
سأسلم لك بأن معاوية يبغض علياً ( مع أنني لا أسلّم بذلك وهذا كلام فارغ ) ، ولكن لدي سؤال :
هل كل من يبغض علي منافق ؟!
قال :
نعم .
فقلتُ له :
وهل كل من يحب علياً مؤمن ؟!
قال :
نعم ، بدليل هذا الحديث : ( علي ، لا يحبه إلا مؤمن ... ) .
فقلتُ له :
وهل يدخل في هذا الحديث الذي يحب علياً ويغلو في محبته إلى درجة جعله إلهاً ؟!
ففتح فاه برهة من الزمن لا تتجاوز مائة سنة .
ثم قال :
لا ، ليس كل من يحب علياً مؤمن .
فقلتُ له :
إذن ، أنت أقررتَ أن الحديث لا يصف بالإيمان كل من يحب علياً رضي الله عنه ، فكذلك الحديث لا يشمل كل من يبغض علياً رضي الله عنه ، وإلا كنتَ متناقضاً .
فقال :
كيف توجيه الحديث عندك ؟!
فقلتُ له :
الحديث يتكلم عن ( المحبة الدينية ) و ( البغض الديني ) ، ولا يتكلم عن ( المحبة الدنيوية ) و ( البغض من أجل الدنيا : كالحكم والقرابة ) .
فمثلاً :
أبو طالب كافر ، ويحب النبي عليه الصلاة والسلام ويحب ابنه علي رضي الله عنه ، ويوجد من بني هاشم من يحب النبي عليه الصلاة والسلام ولم يؤمن به ، بل ويوجد من المستشرقين من يحب النبي عليه الصلاة والسلام لأجل ( عبقريته ) أو ما تسبب به من ( حضارة إسلامية ) و ( ثقافة علمية ) .
ومع ذلك :
فإن ذلك لم يشفع لهم ولم يجعلهم مؤمنين .
فكذلك :
من يبغض علياً رضي الله عنه من ( بني أمية ) من أجل الصراع السياسي الدنيوي بين بني أمية وبني هاشم ، ومن يبغض علياً من أجل قتله أباه في حرب صفين كما حصل من بعض الرواة النواصب كـ ( حريز بن عثمان ) ، فلا نقول عنه : منافق .
ففتح فاه للمرة الثانية .
ثم قلتُ له :
كلامي هذا لا يعني أنني أهوّن من بغض علي رضي الله عنه ، وأقول : ما فيه مانع تبغضه من أجل الدنيا ، بل أقول إن هذا حرام وكبيرة من الكبائر ، وبغض الصحابي عندنا أشد تحريماً من بغض التابعي والعالم الفقيه في الدين وبغض المسلم البسيط .
ولكن :
كفاكم جهلاً وحقداً وقلوباً مريضة .
نرجع للدولة الأموية :
الدولة الأموية مرت بمرحلتين :
المرحلة السفيانية : وهي فترة استقرار ثم فوضى .
المرحلة المروانية : وهي فترة فوضى ثم استقرار .
ولكن مروان بن الحكم ومن بعده عبد الملك بن مروان قد مهدوا الطريق لأبنائهم ، فجاء أبناء عبد الملك بن مروان والدولة مستقرة وقوية وثابتة الأركان .
خصوم هذه الدولة اتهموها بشتى التهم :
دولة وراثية ، استبدادية ، ناصبية ، نشرت المذهب الجبري ، نهبت الأموال ، قتلت المفكرين والإصلاحيين والعلماء .
وجانب من هذه التهم صحيح :
هي دولة وراثية .
استبدادية في بعض المراحل ، عادلة في بعض المراحل ( في مرحلة معاوية رضي الله عنه وعمر بن عبد العزيز ) .
وبالمناسبة :
الدعوة العباسية الثورية بدأت في عهد عمر بن عبد العزيز ( الخليفة العادل ) الذي كان مثالاً للعدل بعد الخلفاء الراشدين .
وهذا إن دل فإنما يدل على أن الحاكم مهما بلغ من العدل ، فلا أن يكون هناك ثوار عليه وعلى حكمه ( وأسرته الحاكمة ) .
استبدت بالملك .
وكان فيها نهب أموال وظلم في بعض مراحلها ، وفي بعض مراحلها كانت دولة عدالة اجتماعية ، حتى أنه في عهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله اختفى الفقراء من الوجود .
لكن في الجانب الآخر :
كان يوجد فيها قمع للشيعة .
وكانت دولة الفتوحات العظيمة ، فتحت بلاد الأندلس وبلاد السند وبلاد ما وراء النهر .
وكانت دولة تحمي أعداء الإسلام وترهب أعداء الإسلام من الرومان وغيرهم .
أعلم أعلم :
سيأتي بعض المتفذلكين ويقول :
ما فتحوا هذه البلاد لوجه الله ، وإنما من أجل توسيع ملكهم .
هنا سنكون قد دخلنا في الطعن في النيات .
والطعن في النيات لن يسلم منه الصحابة ولا حتى أهل البيت .
فبإمكان الناصبي أن يأتي مثلاً ليقول :
علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) قتل عشرات الآلاف من المسلمين من أجل الحفاظ على حكمه ، ولم يتنازل حقناً لدماء المسلمين ووووو .
وهنا سيفتح كلٌ من : الشيعي والعلماني والمعتزلي ( البغدادي فقط ) أفواههم ، ولا يجدون ما يقولونه .
نهايته :
هناك بعض التهم التي تُوجه للدولة الأموية من المعتزلة والشيعة وبعض الكتاب المعاصرين ، مثل :
نشر المذهب الجبري ، وقتل العلماء والمفكرين والمصلحين .
ويقصدون بنشر المذهب الجبري أن الدولة الأموية نشرت المذهب القائل بأن الإنسان مجبورٌ على أفعاله ليبرروا حكمهم الظالم بأنهم مجبورون على ظلمهم للناس وأن الناس مجبورون أن يُحكموا من ( بني أمية ) فلن تنجح الثورات ضدهم ، لأن هذا قضاء الله وقدره .
المعضلة في هذه المشكلة :
أن الذين قالوا بهذه التهمة يعلمون بأن الدولة الأموية قتلت أول من قال بالجبر وأكثر من غلا فيه وهو :
الجهم بن صفوان ، وبل وقتلت شيخه الذي علمه : وهو الجعد بن درهم ، لنفيه صفة الكلام عن الله وتعطيله للصفات ، مع أن الجعد كان معلماً لمروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية ، الذي كان يُسمى ( مروان الجعدي ) نسبةً إلى الجعد !
والجهم كان أيضاً من كبار المرجئة ، بل من غلاتهم ، فكان يقول : الإيمان : هو معرفة الله ، والكفر : هو الجهل بالله ، فرد عليه خصومه بأن هذا يلزم منه القول بإيمان إبليس وفرعون .
وأيضاً : الحارث بن سريج مرجئ ، قد قتله بنو أمية .
والإرجاء دين يحبه الملوك ، بحسب قول الخليفة العباسي ( المعتزلي المعادي للمرجئة ولبني أمية ) / المأمون .
فكيف يقتل ( بنو أمية ) من ينشر عقيدة الجبر والإرجاء وهي أحب العقائد إليهم ؟!
أوليس هذا دليلاً على أن قتل ( بني أمية ) للجهم كان بسبب الدافع الديني ؟!
ولكن المعادين للدولة الأموية ، لا بد أن يدخلوا في نيات الخلفاء الأمويين ، فقالوا :
قتلهم كان لسبب سياسي ، لأنهم قد ثاروا عليهم ، وليس لسبب ديني ، والجهم بن صفوان هو مفكر عظيم وثوري مصلح وأن له فضلاً كبيراً على الإسلام !
مع أن الجهم هو من نشر عقيدة الجبر التي يهاجمون بني أمية لأجلها .
ولكن من عادة خصوم ( بني أمية ) :
أن يرفعوا من قدر من عادى ( بني أمية ) في زمانهم ، سواءً عداءاً مذهبياً أو عداءاً سياسياً .
الشاهد :
أنه ثبت لدينا الآن أن المرجئة ( خوارج ) وأن الإرجاء دين لا يحبه الملوك بل يقتلون صاحبه .
بل ثبت لدينا صحة قول الأوزاعي وسفيان : ( إن قول المرجئة يخرج إلى السيف ) .
أو كما أحمد بن حنبل : ( الخوارج هم المرجئة ) .
فالخوارج هم المرجئة ، والمرجئة خوارج أيضاً .
في المقابل :
قتل الأمويون القدري / غيلان الدمشقي ( ت 729 م ) الذي ينفي القدر وينفي أن الله يخلق الشرور ويريدها ، والذي كان معاصراً ليوحنا الدمشقي ( ت 749 م على الأرجح ) الذي ينفي عن الله أنه يريد الشر مطلقاً كما في كتابه ( المائة مقالة في الإيمان الأرثوذوكسي ) .
ولكن خصوم الدولة الأموية جعلوا من غيلان الدمشقي بطلاً !
لأنه - عندهم - كان يقدس ( الحرية الإنسانية ) ، ويقصدون بذلك : نفي الجبر وأن العبد هو الخالق لأفعاله والمسؤول عنها ، ويقولون بأنه عقيدته في القدر هي العقيدة الصحيحة للإسلام وأنها كانت خطراً على ( بني أمية ) وحكمهم ، لذلك حكموا عليه بالكفر والردة وقاموا بقتله .
وهذا هو الذي دعاهم لاتهام الأوزاعي بالعمالة للدولة الأمويين ، فهو عندهم من ( فقهاء السلطة ) !
المضحك في قصة ( غيلان الدمشقي ) أن دولة بشار الأسد النصيرية الشيعية الطائفية في سوريا قد أنتجت مسلسلاً سورياً عن ( غيلان الدمشقي ) وقامت بتقديسه ووصفته بالبطل الحامي للإسلام وفكره من الخلفاء الأمويين الظلمة .
وهذا المسلسل موجود في اليوتيوب .
وطبعاً هذا المسلسل له خلفياته المذهبية الواضحة ، لأن الدولة شيعية ، وجميع المسلسلات التاريخية السورية التي تتحدث عن بني أمية : تطعن فيهم .
والعجيب في ترجمة ( غيلان الدمشقي ) أنه قد قيل عنه أنه :
مرجئ !
خصوم الدولة الأموية عندما يتحدثون عن قتل هذه الدولة للعلماء والمفكرين :
فإنهم يقصدون :
1 - الجهم بن صفوان : الذي جمع عقيدتي الإرجاء والجبر .
2 - وشيخه : الجعد : الذي نفى الصفات .
3 - وغيلان الدمشقي : قال بنفي القدر .
4 - وقبلهم : عمرو المقصوص ، الذي لم يذكر أحد أمره إلا ابن العبري في ( تاريخ مختصر الدول ) .
وبغض النظر عن الجذور العقائدية والفكرية لهذه الشخصيات وما أحاط بها من أحداث ومناظرات ساهمت في تغير توجهاتها .
ولكن الأمويون لم يستثنوا أحداً ممن خالفهم في الدين من الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية والجبرية إلا وقد حاربوه وقتلوه .
إذا كان هؤلاء جميعاً ثوار ويخرجون بالسيف لأن ( المرجئة ترى بالسيف ) وطبقوا قول أبي قلابة رحمه الله : ( ما ابتدع رجلٌ بدعةً إلا استحل السيف ) .
فهذا لا يبرر الطعن في نيات ( بني أمية ) وأن الهدف من قتل الثوار هو ( سياسي بحت ) وليس لوجه الله !
فقد يجتمع السببان : السياسي والديني .
الخلاصة :
أن الدولة الأموية كغيرها من الدول ، لها حسنات كبيرة وآثار عظيمة في الفتوحات الإسلامية ونشر الإسلام وإنجازات كثيرة بسبب بعض خلفائها وولاتها .
ولها في نفس الوقت :
مظالم كبيرة وحصلت فيها مصائب عظيمة وفظائع كبيرة كمقتل الحسين ورمي الكعبة بالمنجنيق بسبب بعض خلفائها الآخرين وولاتها .
وإن كان يزيد بن معاوية لم يأمر بقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما وكان هذا بسبب عامله على الكوفة ابن زياد وبسبب شيعة الكوفة .
ولكن في المجمل :
الدولة الأموية أفضل من الدول التي جاءت بعدها بكثير ، ودولة الخلفاء الراشدين أفضل منها قطعاً ، بل لا مجال للمقارنة بينهما .
ولكن الدولة الأموية كان فيها الازدهار العلمي الكبير من حيث انتشار الأحاديث وانتشار الإسلام و ( بسبب حسن النوايا طبعاً ) .
وإن كانت قد تأثرت بسبب الثورات الشيعية والخارجية والجبرية والإرجائية .
وأختم بقول سهل بن عبد الله التستري رحمه الله :
( هذه الأمة ثلاث وسبعون فرقة: اثنتان وسبعون هالكة، كلّهم يبغض السلطان، والناجية هذه الواحدة التي مع السلطان ) .
يا ترى ما حكم سهل التستري عند ( أعداء الجامية ) ؟!
أ . هـ
فهذه الدولة الأموية مستفزة لخصومها عبر التاريخ ، تماماً كالدولة السعودية الحالية .
بل إنني أرى أوجه تشابه كثيرة بين ( بني أمية ) و ( آل سعود ) .
ولكن ليس هذا موضوعنا .
الدولة الأموية و ( بنو أمية ) واجهوا الكثير من الهجوم والطعن والنقد عبر التاريخ بأقلام متنوعة .
ما بين خوارج وشيعة ومعتزلة وعلمانيين وغيرهم .
لكن من أطرف التهم الموجهة ضدهم هو :
نشر المذهب الجبري .
سأتحدث عن هذه النقطة لاحقاً .
لكن ما يهمني هنا :
أن السلفيين والأشاعرة والصوفية موقفهم عبر التاريخ ليس معادياً للدولة الأموية كما هو موقف الخوارج والشيعة والمعتزلة والعلمانيين .
بل إن ( ابن تيمية ) كان يرى بأن السنة ( والسلفية ) كانت أقوى في عهد الأمويين من عهد العباسيين .
مع أن ( ابن تيمية ) نفسه صرح بأن يوجد في حكام بني أمية من فيه ( نصب ) وبغض لعلي رضي الله عنه وأهل البيت .
ولكنه مع ذلك يرى أنهم أقرب إلى السنة والسلفية من العباسيين الذين ظهر في عهدهم قمع لعلماء أهل السنة بينما كان الأمويون يقمعون الجبرية والقدرية والخوارج والمعطلة والشيعة ( المجسمة في ذلك الوقت ) وبناءاً على فتاوى بعض علماء التابعين .
الطريف في هذا الأمر :
أن الأوزاعي المحدث المشهور الذي أفتى لهشام بن عبد الملك بقتل غيلان الدمشقي ( القدري المعروف ) ، فاتهمه على سامي النشار بأنه ( عميل لبني أمية ) .
سبحان الله ، تهمة ( العمالة ) نسمعها كثيراً في هذا العصر ، خصوصاً في السعودية تجاه مشايخ ( الجامية ) الذين يفتون بقمع الإخونجية ( المخانيز ) .
ما علينا :
أتذكر أن أحد محبي ( عدنان إبراهيم ) قال لي :
معاوية منافق .
قلتُ :
وهل كيف هذا حصل ؟!
فقال :
يقول النبي عليه الصلاة والسلام : ( علي لا يحبه إلا مؤمن ، ولا يبغضه إلا منافق ) .
ومعاوية حارب علياً ، فهو يبغضه ، إذن :
هو منافق .
قلتُ له :
سأسلم لك بأن معاوية يبغض علياً ( مع أنني لا أسلّم بذلك وهذا كلام فارغ ) ، ولكن لدي سؤال :
هل كل من يبغض علي منافق ؟!
قال :
نعم .
فقلتُ له :
وهل كل من يحب علياً مؤمن ؟!
قال :
نعم ، بدليل هذا الحديث : ( علي ، لا يحبه إلا مؤمن ... ) .
فقلتُ له :
وهل يدخل في هذا الحديث الذي يحب علياً ويغلو في محبته إلى درجة جعله إلهاً ؟!
ففتح فاه برهة من الزمن لا تتجاوز مائة سنة .
ثم قال :
لا ، ليس كل من يحب علياً مؤمن .
فقلتُ له :
إذن ، أنت أقررتَ أن الحديث لا يصف بالإيمان كل من يحب علياً رضي الله عنه ، فكذلك الحديث لا يشمل كل من يبغض علياً رضي الله عنه ، وإلا كنتَ متناقضاً .
فقال :
كيف توجيه الحديث عندك ؟!
فقلتُ له :
الحديث يتكلم عن ( المحبة الدينية ) و ( البغض الديني ) ، ولا يتكلم عن ( المحبة الدنيوية ) و ( البغض من أجل الدنيا : كالحكم والقرابة ) .
فمثلاً :
أبو طالب كافر ، ويحب النبي عليه الصلاة والسلام ويحب ابنه علي رضي الله عنه ، ويوجد من بني هاشم من يحب النبي عليه الصلاة والسلام ولم يؤمن به ، بل ويوجد من المستشرقين من يحب النبي عليه الصلاة والسلام لأجل ( عبقريته ) أو ما تسبب به من ( حضارة إسلامية ) و ( ثقافة علمية ) .
ومع ذلك :
فإن ذلك لم يشفع لهم ولم يجعلهم مؤمنين .
فكذلك :
من يبغض علياً رضي الله عنه من ( بني أمية ) من أجل الصراع السياسي الدنيوي بين بني أمية وبني هاشم ، ومن يبغض علياً من أجل قتله أباه في حرب صفين كما حصل من بعض الرواة النواصب كـ ( حريز بن عثمان ) ، فلا نقول عنه : منافق .
ففتح فاه للمرة الثانية .
ثم قلتُ له :
كلامي هذا لا يعني أنني أهوّن من بغض علي رضي الله عنه ، وأقول : ما فيه مانع تبغضه من أجل الدنيا ، بل أقول إن هذا حرام وكبيرة من الكبائر ، وبغض الصحابي عندنا أشد تحريماً من بغض التابعي والعالم الفقيه في الدين وبغض المسلم البسيط .
ولكن :
كفاكم جهلاً وحقداً وقلوباً مريضة .
نرجع للدولة الأموية :
الدولة الأموية مرت بمرحلتين :
المرحلة السفيانية : وهي فترة استقرار ثم فوضى .
المرحلة المروانية : وهي فترة فوضى ثم استقرار .
ولكن مروان بن الحكم ومن بعده عبد الملك بن مروان قد مهدوا الطريق لأبنائهم ، فجاء أبناء عبد الملك بن مروان والدولة مستقرة وقوية وثابتة الأركان .
خصوم هذه الدولة اتهموها بشتى التهم :
دولة وراثية ، استبدادية ، ناصبية ، نشرت المذهب الجبري ، نهبت الأموال ، قتلت المفكرين والإصلاحيين والعلماء .
وجانب من هذه التهم صحيح :
هي دولة وراثية .
استبدادية في بعض المراحل ، عادلة في بعض المراحل ( في مرحلة معاوية رضي الله عنه وعمر بن عبد العزيز ) .
وبالمناسبة :
الدعوة العباسية الثورية بدأت في عهد عمر بن عبد العزيز ( الخليفة العادل ) الذي كان مثالاً للعدل بعد الخلفاء الراشدين .
وهذا إن دل فإنما يدل على أن الحاكم مهما بلغ من العدل ، فلا أن يكون هناك ثوار عليه وعلى حكمه ( وأسرته الحاكمة ) .
استبدت بالملك .
وكان فيها نهب أموال وظلم في بعض مراحلها ، وفي بعض مراحلها كانت دولة عدالة اجتماعية ، حتى أنه في عهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله اختفى الفقراء من الوجود .
لكن في الجانب الآخر :
كان يوجد فيها قمع للشيعة .
وكانت دولة الفتوحات العظيمة ، فتحت بلاد الأندلس وبلاد السند وبلاد ما وراء النهر .
وكانت دولة تحمي أعداء الإسلام وترهب أعداء الإسلام من الرومان وغيرهم .
أعلم أعلم :
سيأتي بعض المتفذلكين ويقول :
ما فتحوا هذه البلاد لوجه الله ، وإنما من أجل توسيع ملكهم .
هنا سنكون قد دخلنا في الطعن في النيات .
والطعن في النيات لن يسلم منه الصحابة ولا حتى أهل البيت .
فبإمكان الناصبي أن يأتي مثلاً ليقول :
علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) قتل عشرات الآلاف من المسلمين من أجل الحفاظ على حكمه ، ولم يتنازل حقناً لدماء المسلمين ووووو .
وهنا سيفتح كلٌ من : الشيعي والعلماني والمعتزلي ( البغدادي فقط ) أفواههم ، ولا يجدون ما يقولونه .
نهايته :
هناك بعض التهم التي تُوجه للدولة الأموية من المعتزلة والشيعة وبعض الكتاب المعاصرين ، مثل :
نشر المذهب الجبري ، وقتل العلماء والمفكرين والمصلحين .
ويقصدون بنشر المذهب الجبري أن الدولة الأموية نشرت المذهب القائل بأن الإنسان مجبورٌ على أفعاله ليبرروا حكمهم الظالم بأنهم مجبورون على ظلمهم للناس وأن الناس مجبورون أن يُحكموا من ( بني أمية ) فلن تنجح الثورات ضدهم ، لأن هذا قضاء الله وقدره .
المعضلة في هذه المشكلة :
أن الذين قالوا بهذه التهمة يعلمون بأن الدولة الأموية قتلت أول من قال بالجبر وأكثر من غلا فيه وهو :
الجهم بن صفوان ، وبل وقتلت شيخه الذي علمه : وهو الجعد بن درهم ، لنفيه صفة الكلام عن الله وتعطيله للصفات ، مع أن الجعد كان معلماً لمروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية ، الذي كان يُسمى ( مروان الجعدي ) نسبةً إلى الجعد !
والجهم كان أيضاً من كبار المرجئة ، بل من غلاتهم ، فكان يقول : الإيمان : هو معرفة الله ، والكفر : هو الجهل بالله ، فرد عليه خصومه بأن هذا يلزم منه القول بإيمان إبليس وفرعون .
وأيضاً : الحارث بن سريج مرجئ ، قد قتله بنو أمية .
والإرجاء دين يحبه الملوك ، بحسب قول الخليفة العباسي ( المعتزلي المعادي للمرجئة ولبني أمية ) / المأمون .
فكيف يقتل ( بنو أمية ) من ينشر عقيدة الجبر والإرجاء وهي أحب العقائد إليهم ؟!
أوليس هذا دليلاً على أن قتل ( بني أمية ) للجهم كان بسبب الدافع الديني ؟!
ولكن المعادين للدولة الأموية ، لا بد أن يدخلوا في نيات الخلفاء الأمويين ، فقالوا :
قتلهم كان لسبب سياسي ، لأنهم قد ثاروا عليهم ، وليس لسبب ديني ، والجهم بن صفوان هو مفكر عظيم وثوري مصلح وأن له فضلاً كبيراً على الإسلام !
مع أن الجهم هو من نشر عقيدة الجبر التي يهاجمون بني أمية لأجلها .
ولكن من عادة خصوم ( بني أمية ) :
أن يرفعوا من قدر من عادى ( بني أمية ) في زمانهم ، سواءً عداءاً مذهبياً أو عداءاً سياسياً .
الشاهد :
أنه ثبت لدينا الآن أن المرجئة ( خوارج ) وأن الإرجاء دين لا يحبه الملوك بل يقتلون صاحبه .
بل ثبت لدينا صحة قول الأوزاعي وسفيان : ( إن قول المرجئة يخرج إلى السيف ) .
أو كما أحمد بن حنبل : ( الخوارج هم المرجئة ) .
فالخوارج هم المرجئة ، والمرجئة خوارج أيضاً .
في المقابل :
قتل الأمويون القدري / غيلان الدمشقي ( ت 729 م ) الذي ينفي القدر وينفي أن الله يخلق الشرور ويريدها ، والذي كان معاصراً ليوحنا الدمشقي ( ت 749 م على الأرجح ) الذي ينفي عن الله أنه يريد الشر مطلقاً كما في كتابه ( المائة مقالة في الإيمان الأرثوذوكسي ) .
ولكن خصوم الدولة الأموية جعلوا من غيلان الدمشقي بطلاً !
لأنه - عندهم - كان يقدس ( الحرية الإنسانية ) ، ويقصدون بذلك : نفي الجبر وأن العبد هو الخالق لأفعاله والمسؤول عنها ، ويقولون بأنه عقيدته في القدر هي العقيدة الصحيحة للإسلام وأنها كانت خطراً على ( بني أمية ) وحكمهم ، لذلك حكموا عليه بالكفر والردة وقاموا بقتله .
وهذا هو الذي دعاهم لاتهام الأوزاعي بالعمالة للدولة الأمويين ، فهو عندهم من ( فقهاء السلطة ) !
المضحك في قصة ( غيلان الدمشقي ) أن دولة بشار الأسد النصيرية الشيعية الطائفية في سوريا قد أنتجت مسلسلاً سورياً عن ( غيلان الدمشقي ) وقامت بتقديسه ووصفته بالبطل الحامي للإسلام وفكره من الخلفاء الأمويين الظلمة .
وهذا المسلسل موجود في اليوتيوب .
وطبعاً هذا المسلسل له خلفياته المذهبية الواضحة ، لأن الدولة شيعية ، وجميع المسلسلات التاريخية السورية التي تتحدث عن بني أمية : تطعن فيهم .
والعجيب في ترجمة ( غيلان الدمشقي ) أنه قد قيل عنه أنه :
مرجئ !
خصوم الدولة الأموية عندما يتحدثون عن قتل هذه الدولة للعلماء والمفكرين :
فإنهم يقصدون :
1 - الجهم بن صفوان : الذي جمع عقيدتي الإرجاء والجبر .
2 - وشيخه : الجعد : الذي نفى الصفات .
3 - وغيلان الدمشقي : قال بنفي القدر .
4 - وقبلهم : عمرو المقصوص ، الذي لم يذكر أحد أمره إلا ابن العبري في ( تاريخ مختصر الدول ) .
وبغض النظر عن الجذور العقائدية والفكرية لهذه الشخصيات وما أحاط بها من أحداث ومناظرات ساهمت في تغير توجهاتها .
ولكن الأمويون لم يستثنوا أحداً ممن خالفهم في الدين من الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية والجبرية إلا وقد حاربوه وقتلوه .
إذا كان هؤلاء جميعاً ثوار ويخرجون بالسيف لأن ( المرجئة ترى بالسيف ) وطبقوا قول أبي قلابة رحمه الله : ( ما ابتدع رجلٌ بدعةً إلا استحل السيف ) .
فهذا لا يبرر الطعن في نيات ( بني أمية ) وأن الهدف من قتل الثوار هو ( سياسي بحت ) وليس لوجه الله !
فقد يجتمع السببان : السياسي والديني .
الخلاصة :
أن الدولة الأموية كغيرها من الدول ، لها حسنات كبيرة وآثار عظيمة في الفتوحات الإسلامية ونشر الإسلام وإنجازات كثيرة بسبب بعض خلفائها وولاتها .
ولها في نفس الوقت :
مظالم كبيرة وحصلت فيها مصائب عظيمة وفظائع كبيرة كمقتل الحسين ورمي الكعبة بالمنجنيق بسبب بعض خلفائها الآخرين وولاتها .
وإن كان يزيد بن معاوية لم يأمر بقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما وكان هذا بسبب عامله على الكوفة ابن زياد وبسبب شيعة الكوفة .
ولكن في المجمل :
الدولة الأموية أفضل من الدول التي جاءت بعدها بكثير ، ودولة الخلفاء الراشدين أفضل منها قطعاً ، بل لا مجال للمقارنة بينهما .
ولكن الدولة الأموية كان فيها الازدهار العلمي الكبير من حيث انتشار الأحاديث وانتشار الإسلام و ( بسبب حسن النوايا طبعاً ) .
وإن كانت قد تأثرت بسبب الثورات الشيعية والخارجية والجبرية والإرجائية .
وأختم بقول سهل بن عبد الله التستري رحمه الله :
( هذه الأمة ثلاث وسبعون فرقة: اثنتان وسبعون هالكة، كلّهم يبغض السلطان، والناجية هذه الواحدة التي مع السلطان ) .
يا ترى ما حكم سهل التستري عند ( أعداء الجامية ) ؟!
أ . هـ
التعديل الأخير: