السوالف الصجية عن الدولة الأموية

كلما أقرأ في التاريخ أو في الملل والنحل والأديان والمذاهب ، فإن الدولة الأموية تثير استغرابي .

فهذه الدولة الأموية مستفزة لخصومها عبر التاريخ ، تماماً كالدولة السعودية الحالية .:)

بل إنني أرى أوجه تشابه كثيرة بين ( بني أمية ) و ( آل سعود ) .

ولكن ليس هذا موضوعنا .

الدولة الأموية و ( بنو أمية ) واجهوا الكثير من الهجوم والطعن والنقد عبر التاريخ بأقلام متنوعة .

ما بين خوارج وشيعة ومعتزلة وعلمانيين وغيرهم .

لكن من أطرف التهم الموجهة ضدهم هو :

نشر المذهب الجبري .

سأتحدث عن هذه النقطة لاحقاً .

لكن ما يهمني هنا :

أن السلفيين والأشاعرة والصوفية موقفهم عبر التاريخ ليس معادياً للدولة الأموية كما هو موقف الخوارج والشيعة والمعتزلة والعلمانيين .

بل إن ( ابن تيمية ) كان يرى بأن السنة ( والسلفية ) كانت أقوى في عهد الأمويين من عهد العباسيين .

مع أن ( ابن تيمية ) نفسه صرح بأن يوجد في حكام بني أمية من فيه ( نصب ) وبغض لعلي رضي الله عنه وأهل البيت .

ولكنه مع ذلك يرى أنهم أقرب إلى السنة والسلفية من العباسيين الذين ظهر في عهدهم قمع لعلماء أهل السنة بينما كان الأمويون يقمعون الجبرية والقدرية والخوارج والمعطلة والشيعة ( المجسمة في ذلك الوقت ) وبناءاً على فتاوى بعض علماء التابعين .

الطريف في هذا الأمر :

أن الأوزاعي المحدث المشهور الذي أفتى لهشام بن عبد الملك بقتل غيلان الدمشقي ( القدري المعروف ) ، فاتهمه على سامي النشار بأنه ( عميل لبني أمية ) .

سبحان الله ، تهمة ( العمالة ) نسمعها كثيراً في هذا العصر ، خصوصاً في السعودية تجاه مشايخ ( الجامية ) الذين يفتون بقمع الإخونجية ( المخانيز ) .:)

ما علينا :

أتذكر أن أحد محبي ( عدنان إبراهيم ) قال لي :

معاوية منافق .

قلتُ :

وهل كيف هذا حصل ؟!

فقال :

يقول النبي عليه الصلاة والسلام : ( علي لا يحبه إلا مؤمن ، ولا يبغضه إلا منافق ) .

ومعاوية حارب علياً ، فهو يبغضه ، إذن :

هو منافق .

قلتُ له :

سأسلم لك بأن معاوية يبغض علياً ( مع أنني لا أسلّم بذلك وهذا كلام فارغ ) ، ولكن لدي سؤال :

هل كل من يبغض علي منافق ؟!

قال :

نعم .

فقلتُ له :

وهل كل من يحب علياً مؤمن ؟!

قال :

نعم ، بدليل هذا الحديث : ( علي ، لا يحبه إلا مؤمن ... ) .

فقلتُ له :

وهل يدخل في هذا الحديث الذي يحب علياً ويغلو في محبته إلى درجة جعله إلهاً ؟!

ففتح فاه برهة من الزمن لا تتجاوز مائة سنة .:)

ثم قال :

لا ، ليس كل من يحب علياً مؤمن .

فقلتُ له :

إذن ، أنت أقررتَ أن الحديث لا يصف بالإيمان كل من يحب علياً رضي الله عنه ، فكذلك الحديث لا يشمل كل من يبغض علياً رضي الله عنه ، وإلا كنتَ متناقضاً .:)

فقال :

كيف توجيه الحديث عندك ؟!

فقلتُ له :

الحديث يتكلم عن ( المحبة الدينية ) و ( البغض الديني ) ، ولا يتكلم عن ( المحبة الدنيوية ) و ( البغض من أجل الدنيا : كالحكم والقرابة ) .

فمثلاً :

أبو طالب كافر ، ويحب النبي عليه الصلاة والسلام ويحب ابنه علي رضي الله عنه ، ويوجد من بني هاشم من يحب النبي عليه الصلاة والسلام ولم يؤمن به ، بل ويوجد من المستشرقين من يحب النبي عليه الصلاة والسلام لأجل ( عبقريته ) أو ما تسبب به من ( حضارة إسلامية ) و ( ثقافة علمية ) .

ومع ذلك :

فإن ذلك لم يشفع لهم ولم يجعلهم مؤمنين .

فكذلك :

من يبغض علياً رضي الله عنه من ( بني أمية ) من أجل الصراع السياسي الدنيوي بين بني أمية وبني هاشم ، ومن يبغض علياً من أجل قتله أباه في حرب صفين كما حصل من بعض الرواة النواصب كـ ( حريز بن عثمان ) ، فلا نقول عنه : منافق .

ففتح فاه للمرة الثانية .

ثم قلتُ له :

كلامي هذا لا يعني أنني أهوّن من بغض علي رضي الله عنه ، وأقول : ما فيه مانع تبغضه من أجل الدنيا ، بل أقول إن هذا حرام وكبيرة من الكبائر ، وبغض الصحابي عندنا أشد تحريماً من بغض التابعي والعالم الفقيه في الدين وبغض المسلم البسيط .

ولكن :

كفاكم جهلاً وحقداً وقلوباً مريضة .

نرجع للدولة الأموية :

الدولة الأموية مرت بمرحلتين :

المرحلة السفيانية : وهي فترة استقرار ثم فوضى .

المرحلة المروانية : وهي فترة فوضى ثم استقرار .

ولكن مروان بن الحكم ومن بعده عبد الملك بن مروان قد مهدوا الطريق لأبنائهم ، فجاء أبناء عبد الملك بن مروان والدولة مستقرة وقوية وثابتة الأركان .

خصوم هذه الدولة اتهموها بشتى التهم :

دولة وراثية ، استبدادية ، ناصبية ، نشرت المذهب الجبري ، نهبت الأموال ، قتلت المفكرين والإصلاحيين والعلماء .

وجانب من هذه التهم صحيح :

هي دولة وراثية .

استبدادية في بعض المراحل ، عادلة في بعض المراحل ( في مرحلة معاوية رضي الله عنه وعمر بن عبد العزيز ) .

وبالمناسبة :

الدعوة العباسية الثورية بدأت في عهد عمر بن عبد العزيز ( الخليفة العادل ) الذي كان مثالاً للعدل بعد الخلفاء الراشدين .

وهذا إن دل فإنما يدل على أن الحاكم مهما بلغ من العدل ، فلا أن يكون هناك ثوار عليه وعلى حكمه ( وأسرته الحاكمة ) .

استبدت بالملك .

وكان فيها نهب أموال وظلم في بعض مراحلها ، وفي بعض مراحلها كانت دولة عدالة اجتماعية ، حتى أنه في عهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله اختفى الفقراء من الوجود .

لكن في الجانب الآخر :

كان يوجد فيها قمع للشيعة .:)

وكانت دولة الفتوحات العظيمة ، فتحت بلاد الأندلس وبلاد السند وبلاد ما وراء النهر .

وكانت دولة تحمي أعداء الإسلام وترهب أعداء الإسلام من الرومان وغيرهم .

أعلم أعلم :

سيأتي بعض المتفذلكين ويقول :

ما فتحوا هذه البلاد لوجه الله ، وإنما من أجل توسيع ملكهم .

هنا سنكون قد دخلنا في الطعن في النيات .

والطعن في النيات لن يسلم منه الصحابة ولا حتى أهل البيت .

فبإمكان الناصبي أن يأتي مثلاً ليقول :

علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) قتل عشرات الآلاف من المسلمين من أجل الحفاظ على حكمه ، ولم يتنازل حقناً لدماء المسلمين ووووو .

وهنا سيفتح كلٌ من : الشيعي والعلماني والمعتزلي ( البغدادي فقط ) أفواههم ، ولا يجدون ما يقولونه .

نهايته :

هناك بعض التهم التي تُوجه للدولة الأموية من المعتزلة والشيعة وبعض الكتاب المعاصرين ، مثل :

نشر المذهب الجبري ، وقتل العلماء والمفكرين والمصلحين .

ويقصدون بنشر المذهب الجبري أن الدولة الأموية نشرت المذهب القائل بأن الإنسان مجبورٌ على أفعاله ليبرروا حكمهم الظالم بأنهم مجبورون على ظلمهم للناس وأن الناس مجبورون أن يُحكموا من ( بني أمية ) فلن تنجح الثورات ضدهم ، لأن هذا قضاء الله وقدره .

المعضلة في هذه المشكلة :

أن الذين قالوا بهذه التهمة يعلمون بأن الدولة الأموية قتلت أول من قال بالجبر وأكثر من غلا فيه وهو :

الجهم بن صفوان ، وبل وقتلت شيخه الذي علمه : وهو الجعد بن درهم ، لنفيه صفة الكلام عن الله وتعطيله للصفات ، مع أن الجعد كان معلماً لمروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية ، الذي كان يُسمى ( مروان الجعدي ) نسبةً إلى الجعد !

والجهم كان أيضاً من كبار المرجئة ، بل من غلاتهم ، فكان يقول : الإيمان : هو معرفة الله ، والكفر : هو الجهل بالله ، فرد عليه خصومه بأن هذا يلزم منه القول بإيمان إبليس وفرعون .

وأيضاً : الحارث بن سريج مرجئ ، قد قتله بنو أمية .

والإرجاء دين يحبه الملوك ، بحسب قول الخليفة العباسي ( المعتزلي المعادي للمرجئة ولبني أمية ) / المأمون .

فكيف يقتل ( بنو أمية ) من ينشر عقيدة الجبر والإرجاء وهي أحب العقائد إليهم ؟!

أوليس هذا دليلاً على أن قتل ( بني أمية ) للجهم كان بسبب الدافع الديني ؟!

ولكن المعادين للدولة الأموية ، لا بد أن يدخلوا في نيات الخلفاء الأمويين ، فقالوا :

قتلهم كان لسبب سياسي ، لأنهم قد ثاروا عليهم ، وليس لسبب ديني ، والجهم بن صفوان هو مفكر عظيم وثوري مصلح وأن له فضلاً كبيراً على الإسلام !

مع أن الجهم هو من نشر عقيدة الجبر التي يهاجمون بني أمية لأجلها .:)

ولكن من عادة خصوم ( بني أمية ) :

أن يرفعوا من قدر من عادى ( بني أمية ) في زمانهم ، سواءً عداءاً مذهبياً أو عداءاً سياسياً .

الشاهد :

أنه ثبت لدينا الآن أن المرجئة ( خوارج ) وأن الإرجاء دين لا يحبه الملوك بل يقتلون صاحبه .:)

بل ثبت لدينا صحة قول الأوزاعي وسفيان : ( إن قول المرجئة يخرج إلى السيف ) .

أو كما أحمد بن حنبل : ( الخوارج هم المرجئة ) .

فالخوارج هم المرجئة ، والمرجئة خوارج أيضاً .:)

في المقابل :

قتل الأمويون القدري / غيلان الدمشقي ( ت 729 م ) الذي ينفي القدر وينفي أن الله يخلق الشرور ويريدها ، والذي كان معاصراً ليوحنا الدمشقي ( ت 749 م على الأرجح ) الذي ينفي عن الله أنه يريد الشر مطلقاً كما في كتابه ( المائة مقالة في الإيمان الأرثوذوكسي ) .

ولكن خصوم الدولة الأموية جعلوا من غيلان الدمشقي بطلاً !

لأنه - عندهم - كان يقدس ( الحرية الإنسانية ) ، ويقصدون بذلك : نفي الجبر وأن العبد هو الخالق لأفعاله والمسؤول عنها ، ويقولون بأنه عقيدته في القدر هي العقيدة الصحيحة للإسلام وأنها كانت خطراً على ( بني أمية ) وحكمهم ، لذلك حكموا عليه بالكفر والردة وقاموا بقتله .

وهذا هو الذي دعاهم لاتهام الأوزاعي بالعمالة للدولة الأمويين ، فهو عندهم من ( فقهاء السلطة ) !

المضحك في قصة ( غيلان الدمشقي ) أن دولة بشار الأسد النصيرية الشيعية الطائفية في سوريا قد أنتجت مسلسلاً سورياً عن ( غيلان الدمشقي ) وقامت بتقديسه ووصفته بالبطل الحامي للإسلام وفكره من الخلفاء الأمويين الظلمة .:)

وهذا المسلسل موجود في اليوتيوب .:)

وطبعاً هذا المسلسل له خلفياته المذهبية الواضحة ، لأن الدولة شيعية ، وجميع المسلسلات التاريخية السورية التي تتحدث عن بني أمية : تطعن فيهم .

والعجيب في ترجمة ( غيلان الدمشقي ) أنه قد قيل عنه أنه :

مرجئ !

خصوم الدولة الأموية عندما يتحدثون عن قتل هذه الدولة للعلماء والمفكرين :

فإنهم يقصدون :

1 - الجهم بن صفوان : الذي جمع عقيدتي الإرجاء والجبر .

2 - وشيخه : الجعد : الذي نفى الصفات .

3 - وغيلان الدمشقي : قال بنفي القدر .

4 - وقبلهم : عمرو المقصوص ، الذي لم يذكر أحد أمره إلا ابن العبري في ( تاريخ مختصر الدول ) .

وبغض النظر عن الجذور العقائدية والفكرية لهذه الشخصيات وما أحاط بها من أحداث ومناظرات ساهمت في تغير توجهاتها .

ولكن الأمويون لم يستثنوا أحداً ممن خالفهم في الدين من الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية والجبرية إلا وقد حاربوه وقتلوه .

إذا كان هؤلاء جميعاً ثوار ويخرجون بالسيف لأن ( المرجئة ترى بالسيف ) وطبقوا قول أبي قلابة رحمه الله : ( ما ابتدع رجلٌ بدعةً إلا استحل السيف ) .

فهذا لا يبرر الطعن في نيات ( بني أمية ) وأن الهدف من قتل الثوار هو ( سياسي بحت ) وليس لوجه الله !

فقد يجتمع السببان : السياسي والديني .

الخلاصة :

أن الدولة الأموية كغيرها من الدول ، لها حسنات كبيرة وآثار عظيمة في الفتوحات الإسلامية ونشر الإسلام وإنجازات كثيرة بسبب بعض خلفائها وولاتها .

ولها في نفس الوقت :

مظالم كبيرة وحصلت فيها مصائب عظيمة وفظائع كبيرة كمقتل الحسين ورمي الكعبة بالمنجنيق بسبب بعض خلفائها الآخرين وولاتها .

وإن كان يزيد بن معاوية لم يأمر بقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما وكان هذا بسبب عامله على الكوفة ابن زياد وبسبب شيعة الكوفة .

ولكن في المجمل :

الدولة الأموية أفضل من الدول التي جاءت بعدها بكثير ، ودولة الخلفاء الراشدين أفضل منها قطعاً ، بل لا مجال للمقارنة بينهما .

ولكن الدولة الأموية كان فيها الازدهار العلمي الكبير من حيث انتشار الأحاديث وانتشار الإسلام و ( بسبب حسن النوايا طبعاً :) ) .

وإن كانت قد تأثرت بسبب الثورات الشيعية والخارجية والجبرية والإرجائية .

وأختم بقول سهل بن عبد الله التستري رحمه الله :

( هذه الأمة ثلاث وسبعون فرقة: اثنتان وسبعون هالكة، كلّهم يبغض السلطان، والناجية هذه الواحدة التي مع السلطان ) .:)

يا ترى ما حكم سهل التستري عند ( أعداء الجامية ) ؟!:)

أ . هـ
 
التعديل الأخير:
أعلى