من أجل حوار ذكي مع الملاحدة (2)

سأبين فيما يلي أن البناء المنطقي للحجج الإلحادية مؤسس على الرمل ... مهما كانت ضخامة البيوت المبنية على الرمال فإنها تسقط سريعا.

"عقدة يونس"

الإلحاد ليس مجرد موقف فكري بل هو أيضا موقف فكري مقترن بعقدة أسميها "عقدة يونس" ... يونس النبي رجل سمع صوت الله فقرر في بداية الأمر أن يهرب منه إلى ما يلهيه عنه .. هرب إلى البحر حيث الشساعة والرحابة والعمق .. هناك يمكن للإنسان أن يكتشف "الإمكانيات الكثيرة" و"وجهات النظر الكثيرة" و"الأفكار الكثيرة" التي تجعل "صوت" الله مجرد صوت من الأصوات التي قد تتلاشى في شساعة البحر ولامحدوديته ... المشكلة أن يونس سرعان ما سيكتشف أنه انتهى إلى بطن حوت كبير. هرب إلى الرحابة واللامحدود، ليجد نفسه في أضيق مكان.

وقوفنا "أمام" الله يجعلنا واعين بشكل حاد بأننا نحتاج إلى الرجوع إليه ("التوبة" تعني الرجوع إلى)، بأننا آثمون ولا خلاص من الإثم إلا إذا كنا نتحرك أماما بالعودة إلى صوته ... الله هو مرآة القلوب المتمردة. لذلك فإن الإنسان الملحد في الجوهر لا ينكر وجود الله فقط بل ينكر أنه آثم، بأنه "مكلَّف" أمام "مكلِّف"، و"مسؤول" أمام "سائل".

اسم "يونس" كلمة عبرية قديمة (ذات لاحقة هيلينية) تعني "حمامة". الملحد حمامة هائمة في الزمان والمكان تبحث عن زمان ومكان تختبئ فيهما من صوت "السائل".

لنعد إلى قصة الإلحاد المعاصر ... كانت البداية القوية، كما سبق أن بينت، ب"البرهنة" على أن الجملة "الله موجود" لا هي بالصادقة ولا بالكاذبة، ولكن هي جملة لا معنى لها (راجع الجزء الأول من المقال). هناك مغالطتان أساسيتان في محاولة اختزال كانط لحملية الوجود، أولهما أننا يمكن أن نعرف "الوجود" بطريقة وظيفية نحول بها "الوجود" إلى صفة عناصر مجموعة (بالمعنى الرياضي للمجموعة) فنخرج هذه الصفة من كل النقاشات السفسطائية التي قد نغرقها فيها. مثال ذلك أن نعرف "الوجود" بأنه هو صفة كل موضوع أو علاقة متاحين للبحث العلمي، فنجعل هذه المواضيع والعلاقات مجموعة فنعرف "الوجود" وظيفيا بالإنتماء إلى هذه المجموعة. فإذا قلت "سقراط غير موجود"، سيكون بالإمكان تحليل هذه الجملة على النحو التالي: "سقراط" المنتمي إلى المجموعة س، بحيث س هي مجموعة جميع المواضيع والعلاقات التي يفكر فيها الناس هو أيضا عنصر في المجموعة ش التي هي مجموعة جميع المواضيع والعلاقات المتاحة للبحث العلمي. ف"الوجود" لا يمكن أن يعرف وظيفيا إلا بافتراض مجموعة يعرف الوجود عليها ... إنكار إمكانية البث في وجود الله أو عدم وجوده، إذن، مجرد مظهر من مظاهر عقدة يونس.

هل صحيح أن وجود الله لا يفسر شيئا؟

ماذا عن العقيدة الإلحادية القائلة بأن وجود الله لا يفسر أي شيء؟ .. من الوقائع التاريخية التي عادة ما يميل الملاحدة إلى إغفالها أن تاريخ العلم كان دائما صادما للفلسفات الإلحادية. خذ على سبيل المثال فكرة أبدية الكون. كانت الفكرة السائدة قبل ازدهار العلم أن الكون يتكون من مادة (هيولى) أبدية منها تكونت كل العناصر التي نجدها في الكون ... إلا أن اكتشاف قوانين التيرموديناميكا استبعدت هذه الإمكانية لأن أبدية الكون يعني أن الطاقة ستكون قد انتشرت وبردت منذ زمن طويل! مما اضطر العلم الكوسمولوجي اضطرارا إلى افتراض وجود بداية للكون (أولت على أنها انفجار عظيم). العلم لا يستطيع أن يفترض أن العالم قادم من عدم، ولا يستطيع أن يفترض أن العالم أبدي ... لتبقى الإمكانية الوحيدة أن للكون بداية ما. الهروب من التفكر في هذه البداية هو أيضا مظهر من مظاهر عقدة يونس.

لنعط مثالا آخر ... كان معظم الملاحدة قبل باستور مقتنعين بأن نشوء الباكتيريا والتخمر يحدث بشكل ذاتي و"طبيعي" .. ليكشف باستور بأبحاثه المخبرية عن قانون حاسم مقتضاه أن الحياة لا تولد إلا من الحياة. ولم يكن هذا الإكتشاف مجرد "نظرية" جديدة في نشوء الحياة بل اكتشافا تجريبيا أنقذ الملايين من الناس بما أثمره من حلول علاجية لعدد من الأمراض المعدية ... عقدة يونس تعمي أعيننا عن الحلول المبتكرة لمشاكلنا.

ماذا عن قدرة الإنتقاء الطبيعي على تفسير "أصل الإنسان"؟ من مظاهر الإفلاس الفكري للإلحاد أنه يميل إلى تحريف الإشكاليات العلمية بشكل يسهل عليه التضليل الذاتي. فليس المشكل في تفسير "أصل الإنسان" هو ما إذا كان الإنسان قد تطور عبر ملايين السنين، بل المشكل هو ما هو هذا "الهومو ساپيانز" الذي تطور إليه هذا النوع؟ يمكن من طبيعة الحال أن نعرف هذه الحلقة في التطور بأن أهلها يدفنون موتاهم، ويطبخون الطعام، وينتجون تعابير فنية، ويستعملون لغة غنية ومبدعة، إلخ. لكن كل هذا لا يفعل أكثر من كونه يخبرنا ماذا يفعل الهوموساپيانز ولا يعرفه لنا تعريفا جوهريا. فجوهر الأداء السلوكي للهوموساپيانز أنه "عاقل" (ذو قدرة على تمثيل العالم و"اللعب" على تمثيلاته) يمتد في العالم ب"إنجازاته الثقافية" ويعطي "قيمة" خاصة لوجوده الخاص ووجود أعضاء نوعه (يحب، يكره، يحتفل ب ..، يصادق، يعادي ...). هذه الخصائص الأتروبولوجية هي التي أقنعت هايدڭر بأننا نحتاج ل"تأويل" الوجود الإنساني (الدازاين) وهي التي جعلت جون بول سارتر يعارض معارضة فلسفية جذرية بين الوجود في ذاته (الوجود، العالم ...) والجود من أجل ذاته (الوجود الإنساني)، وهي التي أدت إلى ظهور الحركة الشخصانية التي أرادت أن تفهم طبيعة الشخص الإنساني، وهي التي دفعت شومسكي إلى الغوص في بحر اللغة من أجل فهم طبيعة العقل الإنساني. الهروب من هذه الأسئلة وتحريفها بشكل مثير لحواس الناس مظهر من مظاهر عقدة يونس.

من الإستراتيجيات الهروبية والتحريفية التي يلجأ إليها الفكر الإلحادي تسطيح المفاهيم بإفراغها من طابعها الديني الأصلي. خذ على سبيل المثال عندما يصرح الملحد أن الواقع لا يمكن تفسيره إلا بقوانينه المحايثة. لكن المفكر الملحد عادة ما يتجنب الخوض في معنى "القانون"، مما دفع بكثير من الملاحدة المعاصرين مثل ڤان فراسن إلى محاولة التخلص من مفهوم "القانون" عندما يدركون مضمونه الميتافيزيقي. فالقانون ليس مجرد "قضية صادقة عامة" (وإلا فإن قولي "كل أصدقائي شعرهم أسود" ستكون قانونا طبيعيا إذا كانت صادقة). تبنى نيوطن وأينشتاين كلاهما مبدأ عاما سمياه بمبدإ "الموافقة" مقتضاه أن القانون ينطبق بنفس الشكل على كل جزء من أجزاء الكون الفسيح .. لماذا ينبغي أن يكون القانون "حكما" مفروضا على الكل؟ وما الذي يجعله "قانونا" وليس مجرد "قضية صادقة عامة"؟ .. هذه هي الأسئلة الميتافيزيقية المحرجة للفكر الإلحادي التي لا يمكن أن يكون الهروب عنها سوى تجليا من تجليات عقدة يونس.

هروبية دائمة!

من تجليات هذا الهروب الإلحادي أن الملحد يخاف من الأذكياء الذين يشتم فيهم رائحة الإيمان بالله ... فالمؤمن بالنسبة له لا يستحق المناقشة بل السخرية والإقصاء. ألم يمارس الإقصاء بأبشع صوره في مغرب اليوم على كل الفلاسفة المؤمنين مثل طه عبد الرحمان والمرحوم عزيز الحبابي؟ ... ألم ترفض الجامعات السوڤياتية قديما قوانين الوراثة فقط لأن مكتشفها كان راهبا اسمه ماندل؟ ألم يقاوم كل الفلاسفة ذوي الميولات الإيمانية مثل بول رويكور وكيركيڭارد لتعط الفرصة والأسبقية الإعلامية فقط للفلاسفة الملاحدة مثل سارتر؟ أوكد دائما أن أتباع الديانات بمختلف أنواعها مطالبون اليوم بإعادة بناء التاريخ المعاصر بشكل يشكك بشكل جذري في التأويلات العلمانية والتحقيبات العلمانية والروايات العلمانية التي لا نزال نقرأ بها التاريخ المعاصر بكل سذاجة.

لا يسعني المجال هنا لأتحدث عن كل أشكال الهروب الإلحادي مثل هروب دوكينز إلى أسطورة الجينة الأنانية، وهروب دانيت عن الخصائص الغير قابلة للإختزال في العقل الإنساني إلى التسطيح النيورولوجي، وهروب شومسكي عن سؤال العقل (وهو سؤاله الأصلي) إلى برنامجه الأدنوي ... يكفي الآن أن أشجع القارئ على إعادة قراءة العقل الإلحادي قراءة جديدة قد تسلط الضوء عن أعماقه المظلمة ـ قراءة تذهب رأسا إلى أصل الداء: هروب يونس عن صوت ذاك الذي وسعت رحمته كل شيء.


منقول عن كاتبه عبد الله الحلوي
 
أعلى