المغترب وتربية الأبناء!

المغترب وتربية الأبناء!
هنا تبدو بجلاء ووضوح صورة الانفصام النوستالجي، فالمغترب الفاشل في التربية يريد أن يصنع من أولاده نــُسـَـخاً مكررة كأنها خارجة لتوها من فرن الوطن الأم في قالب طازج، ساخن لا يجرؤ أحد علىَ تعديله أو .. خــَـبزه من جديد!
والمغترب الفاشل الآخر يتوجه حثيثاً نحو العكس، فينزع من أولاده ما يراه تـَـخـَـلـّفَ الوطن الأم أو بـُـعْدَه أو صورته الباهتة أو الماضي التعيس الذي انزلق في أحشاء زمن إذا بحثت عنه اضطررت للتوغل في عمق التاريخ، ومع ذلك فلن تراه.
التربية في الغربة تأخذ من الاثنين: الوطن المضيف والوطن الأم، لكنها تترك للأبناء اختيار الأقوى في الزمنين: زمن الآباء من الجيل الأول الهائمين في وطن غادروه فودَّعَهم، هجروه فانشغل عنهم، انفصلوا عنه فلم يطالبهم بالالتحام مرة أخرى.
وزمن الأبناء وفيه اللغة والثقافة والتعليم والأصدقاء، وليس فيه خط العودة إذا كانت الغربة هجرة، وإذا كانت فترة قصيرة فطالتْ، وطويلة فامتدتْ، ومديدةً فشابتْ، لكن خط العودة ما يزال مفتوحا ولو كان الضبابُ يحيط به من كل جانب!.
تتسع المسافة بينك وبين أولادك في الغربة بقدر اتساعها، أحيانا، إذا كنت الأب الغائب وتركتهم في رعاية الذئاب ومُعَلّمي أولاد الشوارع رغم أنَّ عيونَ الأم ترصد من بعيد، وصوتَ الأب يأتي عبر الأثير خافتا كأن حنجرة الأبكم أقوى منه.
في الغربة عليك أن تزن الأمور بميزانيــّـن مُكمِّليــّـن لبعضهما وليس متصادميـّـن فيدفع الأبناء ثمن غربتك عن وطنك الأم، وثمن غربتهم عنك.
المغترب أقوى من الأولاد في الأعوام الأولى، فإذا استمدّوا ، خاصة في أوروبا، من مجتمعهم القوة الثقافية واللسانية والتعليمية، فضلا عن معرفة خبايا وهموم الوطن الجديد، وكذلك العلاقات الاجتماعية، فقد تفوقوا عليك، وأخذوا منك عُنوة زمام الأمور.
المغترب يبتعد عنه أبناؤه في الوطن الجديد إذا زايد في الحديث عن الوطن الأم، ويبتعد عنه أبناؤه إذا تركهم في بلده المهاجر منه وحاول أن يلعب الدور التربوي بحذافيره وهو على مبعدة آلاف الأميال.
اللغة الجديدة قوة، والجيل الأول من المهاجرين لا يملكون ناصيتها إلا بشق الانفس، والأنفس مقطوعة من جراء سباق يسقط في منتصفه نصف الفرسان، ولا يصل إلى نهايته إلا من أمسك به أبناؤه، وليس من أمسك بأبنائه.
التربية في الغربة فن، ومن أراد النجاح الباهر فسيتلقى ضربة قاضية قبل أن يسعد بأبنائه، وصوت العقل يشير إلى الخروج من سباق التربية بأقل خسائر ممكنة
تريد أبناءك من جنس الملائكة، لا يشربون، ولا يدخنون، ولا يذنبون، ولا يصاحبون إلا القديسين، ويطيعونك في الخطأ والصواب، ويُقبِّلون يديك كما تتمنى، أو كما تتصور لو كنت قد أنجبتهم في الوطن الأم، فننعي إليك يوتوبيا الصواب التربوي.
الأبناء أيضا لهم عواصفهم وتسوناميهم التي قد تنفجر في وجهك إذا نقلت دورك من سي السيد مع الزوجة إلى سي السيد مع الأبناء.
التربية في الغربة عملية متشابكة ومعقدة وينطبق عليها: كلما داويت جرحا بانَ جــُـرحٌ!
إنه حبل رفيع يربط ما بين الالتحام والاشتباك، ما بين اللجوء إليك إذا احتاجوا والهروب منك إذا ضاقوا!
لابد أن تدفع ثمن غربتك إذا كانوا معك، وثمن غربتك إذا كانوا بعيدين عنك، والتربية المثالية هي التي لا تطلب الثريا ولا تدع الأبناء ينامون على الثرى.
الخسارة ربح إذا كانت في دائرة معقولة ، لا تفريط ولا إفراط، والربح خسارة، إذا ظننت أن الطاعة العمياء صنعت أبناء ناجحين.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال

عضو اتحاد الصحفييين النرويجيين
أوسلو النرويجيين


 

مستشار كويتي

عضو بلاتيني
نحن بالديره مو عارفين نربي عيالنا فالله يكون بعون من كان في الخارج ....انفصال نستاليجي .... يعني يصير خبل رسمي .... بصراحه قلمك اكثر من رائع واطروحاتك طيبه ومفيده .....الله يحفظك اين كنت ....
 
أعلى