حنين الأبيض والأسود.. إعادة تصنيع الزمن الجميل!

حنين الأبيض والأسود.. إعادة تصنيع الزمن الجميل!

لماذا يظل لونا النوستالجيا، الحنين، متنقلا بين الأبيض والأسود؟
هل هناك سحر خاص في الماضي أم هروب من الحاضر أم خوف من المستقبل؟
هل يمكن أن يشعر بهذا شاب في الخامسة والعشرين من العمر لم تتراكم لديه الذكريات بعد، أم أن الحنين الأبيض والأسود مقتصر على عدد سنوات العُمر؟

غريب أمر هذا الحنين فإذا سألك سائل: هل تريد أن تعود إلى نفس المكان، سترفض قطعا لأنك تريد المكان مع الزمان، وترغب أن لا يتوقف الزمان عليك لكنه يأخذ معه كل من في الصورة النوستالجية لتشاهدهم كما هم، كأن الأرض والسماوات والفضاء والنجوم والكواكب والزهور والابتسامات والوقت توقفوا كما توقف بالروموت كونترول فيلما تستمتع به، ثم تغادر المكان لعدة عقود، وتعود لتكملة مشاهدة الفيلم.
لماذا يشعر المغترب بسحر النوستالجيا أكثر من شعور من لم يغادر الوطن قطّ؟

لماذا نستمر في صناعة زمن جميل من ماض بعيد، ونعيد صياغته وتعديله وتلميعه كلما أثقل الزمن صدورنا وأجسادنا وأفكارنا؟
كيف تقف أمام شلالات نياجرا أو في رحلة بحرية بنهر السين، أو تجلس في كافتيريا على البحر الأسود أو تداعب من بعيد حيوان الكونجارو على مشارف سيدني الأوسترالية أو تسترخي في حديقة بأوكلاند النيوزيلاندية ثم تستدعي بحنينك الغريب أغنية لأم كلثوم أو أسمهان أو ليلى مراد أو عبد الحليم أو فيروز أو ناظم الغزالي أو صباح فخري أو عبد الوهاب؟
الحنين لدى مهاجري الجيل الأول يخلط بطريـــقة عجيبة الدموع والبهجة، الهروب والاستقرار، الوداع والأمل المستحيل في العودة.

لماذا تقف تحت الدش في الحمــَّـام، وترفع رأسك وتغمض عينيك ثم تدندن بأغنية لم تسمعها لنصف عُمرك؟
لماذا يقول لك المهاجر من الجيل الأول القادم من غينيا أو بنين أو مدغشقر أو اليمن أو مصر أو فنزويلا أو بيرو أو منغوليا أو ناميبيا أو إندونيسا أو المغرب أو لبنان أن بلده هي أم الدنيا ومركز الحضارة ونبع الثقافة والفنون؟
عن طلاسم وألغاز وغموض ولذة وغبطة النوستالجيا أكتب!

لا يمكن أن تتحدث عنه على أنه ماض فقط، أو ذكريات مرَّت بك أو عليك، أو حنين جارف لفترات زمنية أو ابتلاع حبوب استمرار النضارة في الذهن والوجه والروح.
قد يكون حالة حب مع الماضي أو ندم لأنَّ الزمن لم يتوقف فجاء يرسم في كل يوم خطوطا جديدة، وتجاعيدَ غير مرئية للوهلة الأولى، وأخدودات متناثرة كأن الوقت يسقط فيها، وحفراً في الذهن نسدّها بأوهامنا وخيالاتنا.

وقد يكون محاولات متكررة للعودة إلى الوراء هروبا من الحاضر وخشية من مستقبل ضبابه اكثر من وضوحه.
وفي كل الأحوال فهو إعادة تصنيع زمن على هوانا، وبث روح الحياة فيه، وحذف كل ما من شأنه أن يستدعي فترات مظلمة سقط أكثرها في الطريق من الطفولة ثم الشباب ثم الكهولة ليستمر خريف الزمن متوجها حثيثا نحو الشتاء الطويل والأخير.
عليك إذاً أن تعيد تلوينه، ووضع بصماتك الحالية عليه لئلا يصطحب معه أناساً ونغما وروائح وصداقات وصدامات وأفكاراً ومعتقدات وسلوكيات وأخطاءً، فيتعلق بك كما كان، ويعيدك إلى كل الماضي قبل أن تسترده، كما تشاء أو كما تتمنى، إلى حاضرك.
كل الناس تتحدث عن الزمن الجميل، حتى الذي عاش البؤس في طفولته وباكورة شبابه، وأصبح الآن في رغد من العيش وسعة من المال وتفيض البهجة على جانبي يومياته، يُشعرك وهو يرسم أمامك بحكاياته ماضيه الأوهم، وزمنه الأقتم وغير السعيد.
الحـنين إلى الزمن الجميل غضب على الحاضر، ومحاولة لإذابة الحرمان، وقد يكون حالة تمرد على الذين يسرقون ممتلكاتنا الروحية ويستبدلون بها حاضراً مزيفاً أو مستقبلا غير واضحة معالمه.

مع قدرة الإنسان المعاصر على استخدام التكنولوجيا والصوتيات والتسجيلات والأفلام والصور ودخول الكمبيوتر كعامل مساعد في استدعاء كل الأزمنة في وقت واحد لزمن حاضر، تصبح المشاعر مستعدة لتغيير زمنها إلى أي وقت يظن المرء أنه كان جميلا، سواء تلك حقيقة أو خيال!
وتصنيع الزمن الجميل عبقريته في خداعنا أنفسنا، فنحن نختار ونحتار، ونربط أغنية جميلة بقريب أو حبيب أو أب أو أم أو حدث وطني أو شخصية تأثرنا بها أو مسجد أو كنيسة أو فترة شهدت روحانياتنا في قمة شبابها وأدائها ومتعتها.
وتصنيع الزمن الجميل ضروري لطرد القبح الذي نظن أنه هاجم حاضرنا ليمسح ماضينا، ولكن هل زمننا القبيح جميل لأحفادنا عندما يشاهدوه بعيونهم أو يستدعوه بخيالاتهم؟
وتصنيع الزمن الجميل يُشترَط فيه ترعرع مشاعر هائجة من الحنين والحرمان والتمرد، ثم القدرة على سد ثغرات كان المفترض أنها ولــَّــت، فإذا بها تقوم بزيارتنا بين ألفينة والأخرى فتتعبنا وتشجينا وترهقنا و.. تعذبنا.

وتصنيع الزمن الجميل أكثر سهولة لدىَ المغتربين لأن المقيمين يشهدون التغييرات البطيئة، وتعتاد عيونهم على الجمال القبيح عكس المهاجر الذي يحوّله ذهنــُــه إلى القبح الجميل.
لا أستطيع أن أنفي الزمن الجميلَ وإلا مسحت عن غير قصد أو عمد مشاهد لا حصر لها، كانت جميلة واختبأت خلف القبح.
قناعاتنا بالزمن الجميل عملية تطهير حاضرة لتبتهج النفس وتسعد الروح حتى لو اقــترضنا من طفولتنا وشبابنا وباكورته مشاهد نصفها حقيقي و.. النصف الآخر صناعة محلية داخل خلجات النفس المخادعة.

تصنيع الزمن الجميل يحتاج أيضا إلى عمليات تجميل لخيالات أشخاص، رحلوا أو هم يقاومون زمنهم الذي كان بين أيدينا فزعمنا أنه لا يرانا رغم أن تجاعيد وجوهنا ورقابنا تشهد بأننا كاذبون أو مخادعو أنفسنا خداعا جميلا!
تصنيع الزمن الجميل حالة يومية في أغنية أو ذكرى أو حُلم أو رائحة أو خيال غائب أو صوت أم يأتي من بعيد أو وجه أب يدلف للحظات ليطمئن علينا ثم يصعد مرة أخرى إلى السماء.

لو لم نصنع زمننا الجميل في كل يوم مئة مرة لكان دود الأرض قد التهمنا منذ وقت طويل. إنها عبقرية الحياة التي لا تفرِّق بين ماض في حديقة غنــَّـاء أو معتقل أو غربة أو حياة بائسة أو مرض مزمن أو فقر مدقع أو صداقة فاشلة، فكلها تنتهي بين أيدينا لنعيد صناعتها كما نهوى.

محمد عبد المجيد
طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو النرويج

 

رُبـّـمــا

عضو مخضرم
نرغب بالقديم الذي عايشناه لأنه نحن بصورتنا الحقيقية
صورتنا بلا رتوش .
نرغب بولوج الزمن الماضي لنهرب من اضطهاد المظاهر التي تحيق بنا .. لنجلس في منطقة سلام .
وكلما تقدمنا بالعمر كلما ارتفع منسوب الشوق لأحداث مشبعة بالبساطة .
ارتباط الأبيض والأسود بمفهوم الزمن الجميل لا يعني أن الأجيال الحالية ستحرم من الشوق لمفهوم الزمن الجميل
فلكل جيل حوادثه البسيطة التي تزداد تعقيدا ومع مرور الوقت ستتحول إلى كتلة بؤس تدفعهم بحنين لتجربة الزمن الجميل عبر أغنية أو رائحة تنبعث من زجاجة عطر أو مكان شهد على لحظاتهم الجميلة في زمن عايشوه.
لا أعلم حقيقة من الذي أطلق على تلك الحقبة زمن جميل لكن ومع تكالب التكنولوجيا علينا وتسيد المادة على الشعور سيصبح الزمن الذي نعيش فيه الآن بما فيه من قسوة وجفاء وحروب ومؤامرات وتقتيل زمن جميل لمن سيأتي بعدنا سيدي .
 
أعلى