حكايتي مع نيلسون مانديلا ومنصف المرزوقي!

حكايتي مع نيلسون مانديلا ومنصف المرزوقي!

عندما استضافت العاصمة النرويجية أوسلو في الخامس والعشرين من أغسطس عام تسعين مؤتمر ( الكراهية ) الذي حضره المناضل الكبير نيلسون مانديلا والرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر والتشيكي فاكلاف هافل والكاتبة جنوب الأفريقية نادين جوردمير والكاتب الفرنسي ايلي فيسيل، كان مانديلا على وعي تام بكل ألاعيب السياسيين الكبار خلف الستار على الرغم من أنه اعتزلهم سبعة وعشرين عاما خلف القضبان.

من العرب حضر اثنان فقط: الصحفي الفلسطيني حنا سنيورة والكاتب التونسي الدكتور منصف المرزوقي الأستاذ بكلية الطب، جامعة سوسة، رئيس رابطة حقوق الانسان في تونس ( سابقا ).
كان الاحتلال العراقي للكويت في أسبوعه الرابع، والعالم كله في انشغال شديد باستنباء ما يدور في ذهن طاغية بغداد ولكن هناك قوى ثانية كانت تلعب في الناحية الأخرى من المسرح الدموي وهي لجنة للسلام يترأسها الكاتب اليهودي ايلي فيسيل الحاصل على جائزة نوبل.
فشلت كل المحاولات لتوريط نيلسون مانديلا لكي يدير وجهه ناحية ( الكراهية ) في الشرق الأوسط ليخرج المؤتمرون بنتيجة تصب في صالح الكيان الصهيون،, فقد كان مدركا لكل ما يدور خلف ظهره، وتحدث هو عن ( الكراهية ) في العالم كله، من جنوب أفريقيا إلى أمريكا اللاتينية.


ألقى الدكتور منصف المرزوقي كلمة عن الحضارة العربية الاسلامية وسط ذهول ودهشة واعجاب وحسد لف القاعة كلها، فكانت وثيقة مشرقة ومضيئة ورائعة، وتحول الحاضرون ناحية هذا العربي الذي خطف الأضواء، وقدم الفكر العربي الاسلامي في صورة راقية ومتسامحة وواقعية منطلقا من التاريخ والجغرافيا، ومتوقفا كثيرا عند فلسفة الرؤية الانسانية لهذا الفكر الديني العميق.
في اللحظة التي شعر خلالها الدكتور منصف المرزوقي أن الأمور تسير في غير صالح الحق الفلسطيني انسحب من القاعة مرفوع الرأس كأنه عربي قادم من زمن الفرسان النبلاء.

وفي كلمته لم ينس ادانة النظام الارهابي لطاغية بغداد، وطالب بانسحاب فوري من الكويت دون قيد أو شرط.
طلب مني الدكتور المرزوقي أن التقط له بعض الصور وهو يجري حديثا مع نيلسون مانديلا، وبعد ذلك تقدمت أنا من المناضل الكبير الأكثر تواضعا من كل من قابلت من الكبار، وأجريت لقاءً سريعا تركز على دوره في اقناع صدام حسين بالانسحاب من الكويت.
عرض نيلسون مانديلا أن يسافر فورا إلى بغداد، قائلا بأنه يحب العرب ويحترمهم، وهو قادر على اقناع الرئيس العراقي بسحب قوات الغزو فورا من الكويت.
أرسلتُ الحديث إلى الأستاذ ناصر العثمان رئيس تحرير صحيفة ( الشرق ) القطرية آنئذ، وتفضل بنشره في الصفحة الأولى في صباح اليوم التالي، ولكن القوى الخفية قامت بالتعتيم على عرض نيلسون مانديلا، ولم يتصل به أحد طالبا عرض وساطته، أو محاولا التعرف على نهجه الذي كان سيتبعه لاقناع صدام حسين بالانسحاب من الكويت، طواعية أو اضطرارا.
كان قد حضر أيضا مؤتمر ( الكراهية ) كل أعضاء الحكومة النرويجية المهتمين بالدور النرويجي في السلام الدولي، ومنهم رئيسة الوزراء السيدة جرو هارلم برنتلاند ووزير الخارجية شل ماجنا بوندفيك ( رئيس الوزراء حاليا ).
عاد الدكتور منصف المرزوقي إلى تونس واستقبلته وسائل إعلام الديكتاتور زين العابدين بن علي بحملة اعلامية ظالمة تتهمه بأنه كان يحضر مؤتمرا صهيونيا، وأبدى تعاطفا مع القوى المعادية للعرب.
كانت الحملة غير نظيفة بالمرة، وتضرب تحت الحزام، خاصة وأنها جاءت بعد بيان اتحاد الكتاب التونسيين الذي قام فيه موقــّـعوه بتقديم التهنئة لطاغية بغداد على " ضمه المحافظة التاسعة عشر إلى الوطن الأم .. العراق "!
كانت تونس كلها، من قيادتها العليا إلى أصغر مثقفيها متعاطفة تماما مع الغزو العراقي لدولة جارة آمنة ومستقلة، أما المباديء والقيم والأخلاق ورفض الاحتلال والتنديد بالنهب والسرقة والاغتصاب والغاء دولة عربية من على خريطة العالم فكانت أمورا ثانوية بجانب قيام توسعة أرض الخوف في جمهورية الرعب العراقية لتشمل الكويت الآمنة.
غضب المثقفون التونسيون والاعلاميون وكان غضبهم نتيجة طبيعية لعدم رضا السلطات العليا عن نهج الدكتور منصف المرزوقي الذي دان الغزو والارهاب والاستبداد، وهو المهموم بحقوق الانسان، والمدافع عن حقوق التونسيين في الحرية والكرامة والعدل.
تأثر الشرفاء سلبا بالحملة الظالمة على الدكتور المرزوقي، ولم يصدق أحد أنه كان يمثل الوجه المشرق الرائع للمثقف العربي في مؤتمر استقطب زعماء كبار وصانعي قرار من العالم كله.
أرسلت له بعد فترة رسالة مطولة بسطت فيها مشاعر الفخر والاعتزاز التي جعلتني أستمع بكل الاعجاب لكلمة وطنية مليئة بكل المعاني القيمة لحضارة التسامح ، وشكرته على موقفه المناهض للصهيونية وللاحتلال العراقي لدولة الكويت، ثم أرفقت الصور التي التقطها له مع نيلسون مانديلا.
تلقيت بعدها رسالة شكر يبلغني فيها الدكتور منصف المرزوقي بأن رسالتي نزلت عليه بردا وسلاما، وجعلها شهادة موثقة لكل الذين اتهموه ظلما وبغيا وعدوانا وزيفا وجهلا بأنه اشترك وساهم في ترويج الفكر الصهيوني.
إن السلطة الرابعة ترتكب جريمة نكراء عندما تُطوّع القلمَ لرغبات السلطة الأولى، وتختلط الأمور، ويتسلل الباطل خفية إلى ظاهر الحق، وتبدأ عملية التزوير في أوراق الوطن.

محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال

عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو النرويج
 
أعلى