صناعة الخــــــــــــــــــــــــــــوف!

صناعة الخــــــــــــــــــــــــــــوف!

إذا قٌدِّر لك وشاهدت فيلماً مصورا حقيقيا تلعب فيه دور البطل المواطن وترى نفسك أمام ضابط الجوازات في مطار عربي, أو أمام شرطة الحدود بين بلدين عربيين ( شقيقين ), أو في مكتب مأمور قسم الشرطة في أي مكان من وطنك العربي الحبيب الواقع على حدود ايران وتحت أقدام تركيا وفوق رأس أوغندا وتشاد والسنغال وتحت إبط اسبانيا وفي الجانب الآخر من فرنسا وايطاليا واليونان ومالطا, فسيدهشك هذا الشخص تماما, أعني أنت, ولن تصدق بعد مرور المشهد أن البطل المواطن كان يلعب بمهارة وحرفية دور الخائف والصامت والبليد في وقت واحد وكأنه تدرب على المشهد قبل أن يقذف به رحم أمه فوق الأرض التي تتكلم عربي!

لو كنت تعمل في المهجر والغربة في أي شيء لا علاقة له من قريب أو من بعيد بالسياسة والدين والاجتماع كبائع بطيخ مثلا في سيدني, أو صاحب محل هوت دوج في نيوجرسي, أو مستورد للثوم في رودس, أو بائع لسجائر كليوباترا في شوارع برلين, ثم عدت لزيارة أهلك ووطنك, فلن تسلم من خيال يجنح بك وأنت تقدم بيد مرتشعة جواز سفرك في مطار بلدك بأنك ربما تكون على قائمة المترقب وصولهم بأوامر من الأجهزة الأمنية!

عندما قامت الجماعات الدينية بصناعة الــَــه جديد تماما, ينتظر بصبر نافد يوم القيامة ليعذب, ويلقي في جهنم بلايين من بني آدم الذين خلقهم وأكرمهم ونعمهم, واستبدلت بإلـَـه المحبة والرحمة والتسامح والمغفرة هذا الاله الذي سيقذف في حمم الجحيم المرأة التي تكشف وجهها, ويُسمع صوتها, والرجل الذي لا يمسح جيدا أثناء الوضوء على عقبيه, والمسلم الذي تتحرك مشاعره بكونسرتو لبيتهوفن, والذي لا تصل لحيته لطول كف اليد, والذي لا يرتفع جلبابه لخمسة سنتميترات فوق الأرض, لم تستطع أن تجعل هذا الاله أكبر من زعيم بلدها, وعجزت عن جعل جحيمه أكبرمن جمهوريات ومملكات الرعب في عالمنا المسكين.

لقد صور ديكتاتور المغرب الراحل الملك الحسن الثاني في كلمات إرهابية ومستبدة وبليغة المشهد الذي ينبغي أن يكون عليه المواطن, فقد قال له أحد الوزراء في اجتماع حكومي: " يا صاحب الجلالة, أنا عبدكم" فصاح فيه الحسن الثاني " لا يكفي قول هذا, بل يجب أن تكون فعلا. هكذا أفهم القيام بخدمتي".

الخوف يرتبط لدى المواطن العربي بالأمن والسلامة والعودة إلى البيت وضمان رضا السلطة حتى لو بصقت على وجهه مع صباح كل يوم جديد فعضلات وجهه قادرة على الابتسامة الفورية المرتعشة والتي تدخل الغبطة في نفس ممثلها, ضابط أمن, أو مخبر, أو كونستابل مرور, أو محقق جوازات, أو مأمور شرطة, أو حارس سجن, أو مفتش تموين, أو محصل كهرباء, أو مدير مدرسة, أو عميد كلية, أو أي صاحب سلطة ترتبط ولو عبر آلاف الخيوط والاشخاص بأنفاس الزعيم وكلاب القصر وحراس سلطته.

تبدأ العبودية مع أول اضافة لقداسة غير مرئية ثم تتدرج ويساهم في صناعتها الاعلام والمثقفون والكُتاب وأجهزة الأمن والخطف والمحاكمات والتعذيب والاختفاء وراء الشمس حتى تتكون في ذاكرة الشعب صورة متكاملة لجبروت السلطة وقداسة زعيمها, ويتم حجب كل جوانب الضعف والانسانية, فيوهمون المواطن أن الزعيم يحتفظ بكامل وعيه وهو مريض, وهو وهج لا يخفت, ولا يصيبه تعب أو ارهاق أو ضعف جنسي أو امساك أو اسهال أو رغبات شاذة أو غباء مستتر أو تخلف عقلي أو لذة في تعذيب شعبه أو كبرياء هوائي, ولا يحيط به مستشارو السوء, ولا يسيطر عليه الرجل الثاني أو زوجته أو فريق من المنتفعين بسلطته.

بعد صناعة الخوف, وتعبئتها, وتغليفها, واحتفاظ كل مواطن, إلا من رحم ربي, بنسخة منها في صدره وعقله وقلبه وقلمه ولسان زوجته ونصائح أصدقائه, تدلف بنا السلطة إلى عالم الصمت المقيت.

إنه المنافس الآخر للقبور الجماعية لكنه فوق الأرض, وفي كائنات بشرية حية, تجري لمستقر لها, وتلهث وراء لقمة العيش وتُقبيّل حذاء السلطة, وتقدم الشكر الخالص للزعيم لأنه لم يرسل بعد ملك الموت لقبض أرواح الأحياء من مواطنيه.

علاقة عجيبة وغريبة ومعقدة بين رقيق يستعذبون المهانة, وأسياد يزدادون سادية وارهابا وفسادا وعفنا نتنا. كل هذا في صمت قبوري به بقايا من روح لم يأمر الزعيم بعد بانتزاعها.

المرحلة الثالثة هي البلادة وهي أعلى مراحل العبودية والمازوخية والحط اللذيذ من قيمة الانسان.. خليفة الله في الأرض.

هكذا تعامل المواطن عندما بلغه نبأ القبور الجماعية التي دفن فيها شيطان بغداد اللعين مئات الالاف من أبناء شعبه, حتى أن أخصب فترات ردم القبور فوق جثث العراقيين والمصريين وغيرهم لم تمنع صحفيا عربيا كبيرا أن يقف بالقرب من جثث أبناء بلده في بغداد ويقول لصدام حسين: يقال بأنك المحامي الأكبر للمصريين في العراق!

إنه المزيج المقزز من الخوف والصمت والبلادة الذي جعل المواطن العربي لأكثر من عقد من الزمان يهزأ ببحث الكويتيين عن أبنائهم الأسرى والمختطفين والمحتجزين في جمهورية الخوف العراقية, فماذا تساوي حياة عدة مئات من الكويتيين؟

وهذا المزيج المقزز العفن هو الذي منع, ولا يزال يمنع, نشر تقارير التعذيب والقتل والسحل وأماكن القبور الجماعية في أكثر بلداننا العربية المسكينة.

عندما تم تعصيب أعين بعض المحكوم عليهم بالاعدام في مغرب الحسن الثاني, قيل لهم بأن هتافهم بحياة الملك سيتبعها فورا عفو ملكي

فلما هتف المساكين في صوت واحد " يحيا الملك " انطلقت رصاصات مجنونة تمزق أجسادهم, فأمير المؤمنين رفض أن يأخذوا معهم في قبورهم كرامتهم التي جعلتهم يعارضون حكمه المستبد!

هل شاهدت زعيما عربيا يتحدث في اجتماع دون أن تتماثل تعبيرات وجوه وزرائه ورجاله مع كل شَدّ واسترخاء عضلة في وجهه؟

هل هناك حراس للمعتقلات لطفاء وآخرون أقل لطفا؟ هل القسوة في سجون تونس أكثر منها في معتقلات الجماهيرية العظمى أو المغرب أو الجزائر أو سوريا أو العراق أو مصر أو الأردن أو السودان أو غيرها؟

إن الأمر لا يحتاج إلا إلى توجيهات من أعلى السلطة فيتحول الحراس إلى كلاب مسعورة تتفنن في وسائل وأساليب التعذيب.

في بلد عربي صامت هناك مدرسة للتعذيب يتعلم فيه ضباط وحراس السجون ست درجات من التعذيب المتدرج وتبدأ بالتعليق من الرجلين واليدين مع توجيه البطن إلى أسفل فوق قضيب أفقي يستند على عمودين لتتفكك تقريبا كل أجزاء الجسد. في الدرجة الثانية يجلس الحارس فوق ظهر السجين في نفس الوضع السابق ليتهتك عموده الفقري. وفي الدرجة الثالثة يُغَطّس وجه السجين في حوض مملوء ببول السجناء.

وفي الدرجة الرابعة يتم توصيل أسلاك كهربية بالعضو التناسلي للسجين، أما الدرجتان الخامسة والسادسة فلا يستطيع القلم وصفهما

محمد عبد المجيد

عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
طائر الشمال

أوسلو النرويج
 
أعلى