القدس فى مدونة الشعر الحديث دراسة الدكتور خليل الموسى جامعة دمشق ج3

*ـ البطل التموزي والقدس العربية قبل النكبة في الشعر الحديث:

يتجلَّى غالباً في الشعر العربي الحديث في هذه المرحلة التي تمتدّ من الوعد المشؤوم إلى النكبة صورة البطل الملحمي الذي سينتصر على هؤلاء الغرباء كما انتصر من قبل على جحافل الفرس والصليبيين والمغول وسواهم، وهو بطل أسطوري خارق للمألوف ابتدعه الشعراء لهذه المناسبة ليستعينوا به عليها، سواء أكان هذا البطل محدّداً بتسمية، كصلاح الدين الأيوبي أو خالد بن الوليد أم كان غير محدد، وسواء أكان البطل واحداً أم جمعاً، ومن ملامحه أنَّه إيجابي شبيه بهكطور طروادة وأخيل الإغريق يتصدَّى للبطش والأهوال، ويضحّي بحياته في سبيل القيم التي تؤمن بها الجماعة، وقد ظهر هذا البطل مبكِّراً في الشعر العربي في الوطن والمهجر، فلما صدر وعد بلفور بدأت القضية الملحمية في الشعر القومي، ولا سيّما الشعر المهجري ووصلت درجة التفاؤل بهذا البطل وانتصار الأمة على أعدائها إلى أعلى درجة من اليقينية والثبات، حتى إن قصيدة "وعد بلفور" للقروي تُعدّ بشرى لهذا الانتصار، فهي لا تصف الواقع بقدر ما تهدّد وتتوعد هؤلاء الغزاة الجدد وتسخر من وعد الوزير البريطاني، فالمارد العربي قادر بسهولة أن يُخيّبَ آمال هذه الفئات الوافدة من الجهات المختلفة وهذا الوزير المهزوم سلفاً، وكأنَّ للقصيدة خلفيَّةً هي التي تتكلَّم في القصيدة وهي خلفية التاريخ العربي المجيد الذي يعجُّ بالبطولات والفتوحات، ولذلك جاءت هذه القصيدة هجائية ساخرة من هذا الوعد الصبياني الذي لم يحسب حساباً للتاريخ، ولن يكون هؤلاء الوافدون إلى بلاد العرب سوى وقود لهذه الغضبة الملحمية العارمة ويدرك الشاعر أنَّ البلاء الأعظم من الدولة الكبرى بريطانيا التي تسعى إلى النيل من العرب بأيِّ طريقة، فيغضّ الطرف عن مخاطبة الوكالات اليهودية، ويتحدَّى رأس الأفعى في مطلع قصيدته التي نظمها على وزن حماسي هادر بطولي حادّ من خلال تتابع التفعيلة الواحدة، وكأنها طلقات بندقية عربية واحدة، ورويّ مرفوع ذي إيقاع عالٍ وصارخ أيضاً:

الحقُّ منْكَ ومن وُعُودِكَ أَكْبَرُ
فاحسِبْ حسابَ الحقِّ يا مُتَجَبِّرُ
تَعِدُ الوُعُودَ وتَقْتَضي إِنْجَازَها
مُهَج العبادِ، خَسِئْتَ يا مُسْتَعْمِرُ
لو كُنْتَ من أهل المكارمِ لم تكُنْ
من جَيْبِ غيرِكَ مُحْسِناً يا بَلْفَرُ
عِدْ مَنْ تشاءُ بما يَشَاءُ فإنَّما
دَعْوَاهُ خاسِرَةٌ وَوَعْدُكَ أَخْسَرُ
فَلَقَدْ نَفُوزُ ونحنُ أضْعَفُ أُمَّةٍ
وَتَؤُوبُ مَغْلُوباً وأنتَ الأَقْدَرُ[1]
وينبغي لنا أن نذكر هنا حالة فريدة ربما لا نجدها في مكان آخر، وهي أنَّ إيمان شعراء المهجر بانتصار العرب على هذه المحنة الجديدة لا يقبل أيَّ نوع من التشكيك أو التأجيل أو الحوار، ولذلك شارك الشعراء هناك مشاركة فعَّالة على الرغم من إمكاناتهم المتواضعة في سبيل هذا الانتصار، ومن هؤلاء الشاعر القروي الذي قال عنه البدوي الملثَّم (يعقوب العودات): "ولو أُتيح لي أن أؤرّخ القضية الفلسطينية جملةً وتفصيلاً لسجّلت اسم (الشاعر القروي) في سورة البسملة، ولنحتُّ له تمثالاً حفرت عليه: هذا رجل عمل لفلسطين ما لم تعمله الآلاف والملايين"[2].


وليس الشاعر القروي وحيداً في هذا المجال، ففي المهجر الشمالي صوت آخر لا يختلف في وعيده وتهديده ورسم صورة المارد العربي الذي لا يُقهر والذي سَيُطيح بوعد بلفور هو صوت الشاعر إيليا أبي ماضي الذي يردّ بقوة على الادعاءات الصهيونية الكاذبة في أنَّ فلسطين أرض بلا شعب، وفي مقولة الحق التاريخي للشعب اليهودي في فلسطين، وهو يفنّد الادعاءات في أبياته، فالعرب هم أصحاب فلسطين منذ أن كانت، وهم حُماتها وأبطالُها، ولذلك يُبَشِّر بانتصار الأمة في قصيدته "فلسطين" التي صدرت ضمن مجموعته "الخمائل" 1940، ويقول فيها:

فليسَتْ فلسطينُ أرضاً مشاعاً
فَتُعْطى لمن شاءَ أن يَسْكُنَا
فإن تَطْلُبُوها بِسُمْرِ القنا
نَرُدُّكُمُ بِطِوَالِ القنا
ففي العربيِّ صِفَاتُ الأنامِ
سوى أن يَخَافَ وأن يَجْبُنا
وإن تَحْجلوا بيننا بالخداعِ
فلن تَخْدَعُوا رجلاً مُؤْمنَا
وإنْ تَهْجُرُوها فذلك أَوْلَى
فإنَّ "فلسطينَ" مُلْكٌ لنا
وكانتْ لأجدادِنا قَبْلَنا
وتبقى لأِحْفَادِنا بَعْدَنا...
نَصَحْنَاكُمُ فارْعَوُوا وانْبُذُوا
"بِبِلْفُورَ" ذيَّالَكَ الأَرْعَنَا
وَإِمَّا أَبَيْتُمْ فَأُوصِيكُمُ
بأن تحمِلوا مَعْكُمُ الأَكْفُنَا
فَإنَّا سَنَجْعَلُ من أَرْضِها
لنا وطناً ولكمْ مَدْفَنَأ[3]

وفي المهجر الجنوبي ثائر آخر لا يقلّ وعيداً وتهديداً وسخرية من وعد بلفور من سواه، وليس ذلك وحسب، وإنّما يرى أن العرب الذين كانوا في عام 1946 يعدّون سبعين مليوناً سيكون لهم يوم موعود ليسيروا إلى فلسطين من كلّ بقاعهم ليطهّروا القدس من أرجاس هذه الأمة المدنسة.. أما تلّ أبيب المدينة التي بنيت بالمال الحرام فسوف تكون أثراً بعد عين، ولن ينجو من الموت منهم سوى من تُسعفه رجلاه على الهرب قبل أن تقع الواقعة، ذلكم هو الشاعر إلياس فرحات صنو القروي في هذه القضية:

لَبَّيْكِ لَبَّيْكِ يا ريحانةَ العربِ
يا بنتَ عَدْنَانَ يا مَعْصُوبَةَ النَّسَبِ
النيلُ يَزْحَفُ والعاصي لِيَشْتَرِكا
والرَّافِدَيْنِ مَعَ الأُرْدُنِّ في الْغَلَبِ
والرمل أو مثله عَدًّا سَتَقْذِفُهُ
منَ الجزيرةِ ريحُ الْحِقْدِ والْغَضَبِ
يا مَنْ طَغَوْا وتَمَادَوْا عاقِدِينَ على
وَعْدٍ سخيفٍ بناءً شامخَ الْقُبَبِ
سَتَعْلَمُونَ متى حَاقَ البلاءُ بكم
كم في الوُعُودِ وفي الآمالِ من كَذِبِ
سَنَغْسِلُ الْقُدْسَ من أوْسَاخِ أُمَّتِكُمْ
يا أُمَّة الوَسَخِ المطلِيِّ بالذَّهَبِ
وَالتَّلُّ تلُّ أبيبٍ سوفَ نَتْرُكُهَا
تَلاًّ منَ الرَّدْمِ في بحرٍ منَ اللَّهَبِ
بَنَيْتُمُوهَا بمال السُّحْتِ عاصِمَةً
وليسَ يَعْصُمُكُمْ مِنَّا سوى الْهَرَبِ[URL='https://www.nationalkuwait.com/forum/#_ftn4'][4]
[/URL]




[1] - ديوان الشاعر القروي (المجلد الأول)، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ط 6، 1983، ص 438.



[2] - الناطقون بالضاد في أميركا الجنوبية، دار ريحاني للطباعة والنشر، بيروت، 1956، ص279.



[3] - الأعمال الشعرية الكاملة، جمع وتقديم د. عبد الكريم الأشتر، مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، الكويت، 2008، ص 792.



[4] - فرحات، إلياس: الخريف، سان باولو، 1954، ص 62.


 
أعلى