القدس فى مدونة الشعر الحديث دراسة الدكتور خليل الموسى جامعة دمشق ج6

عودة البطل الملحمي إلى القدس بعد الانتفاضة:

"الانتفاضة" أو "ثورة الحجارة" مصطلحان فرضهما الشعب الفلسطيني الأعزل على ثقافة المقاومة في العالم، وإننا نرى هذا السلوك الذي بدأ في فلسطين المحتلة ينتقل إلى شوارع العالم ضدَّ الظلم، ولا شكَّ أنَّ الفلسطيني أدرك بعد وقت طويل أنَّ الشعارات والخطب لا تفيدان في إرجاع الحقوق، ولا بدَّ من أن يجد هذا الإنسان وسيلة مهما تكن بسيطة للدفاع عن وجوده وحقّه، فاتكأ على نفسه في ردّ الظلم عنه، وكانت الانتفاضة وثورة الحجارة، وليس لهما مكان محدّد داخل فلسطين، وإنما هما في كلّ مكان حيث يوجد الفلسطيني في القرى والحقول والمدن والمخيمات، وهما في بيت لحم والقدس ونابلس وغزّة وجنين وسواها، وقد أذهل البطل الفلسطيني العالم فالعصر عصر الصورة، والطفل الفلسطيني الأعزل يردّ بالحجارة والمقاليع دبابات العدو وجنوده المدججين بأعتى الأسلحة عن حماه، ووراءه الأم الفلسطينية التي تهيّئ له الحجارة وتدفعه إلى الأمام مهما تكن النتائج؛ وتزغرد حين يسقط شهيداً.. شهداء وجرحى وأسرى في كلّ ساعة، وأعراس في كلّ حيّ وشارع وقرية، وثمة حشود غاضبة تودّع الشهداء بصرخات ملحمية تتوعّد وتهدد، وقد تحوّل الشعب كلّه إلى بطل واحد.

ثمة تسميات لهذه الانتفاضة: انتفاضة أولى وثانية وثالثة، أو انتفاضة جنين أو غزة أو القدس، والحقيقة أنّها انتفاضة واحدة، وقد تداخلت التواريخ والأماكن، والسبب واحد، وهو أنَّ الصهاينة تمادَوا في غيّهم، والهدف واحد، وهو الحرية، والحقيقة أنها حيث يوجد الفلسطيني فثمة انتفاضة، وهي ابتدأت وانتشرت لكنها لم تنتهِ، صحيح أنها تخمد مدة لتضميد الجراح، ولكنها تعود بعد ذلك أقوى مما كانت عليه، وهي تشبه استراحة المحارب، والشعر العربي ماضٍ في تعزيز هذا الحدث التاريخي الكبير، وإذا توقَّف الباحث عند حدث كاستشهاد الطفل محمد الدرة ـ مثلاً ـ فإنَّه سيعجب فعلاً من مشاركة الشعراء العرب في هذا الحدث، ويمكن أن يتوقّف الباحث عند ديوان الشهيد محمد الدرة[1]، ليدرك استجابة الشعراء السريعة للحدث القومي والتزامهم العفوي بقيم الشهادة والنضال في سبيل التحرير.


ويمكن أن يتوقف المرء أولاً عند الشاعر نزار قباني الذي غنَّى للقدس كما غنَّى لدمشق، وكأنهما مدينة واحدة، وإذا كانت ولادته وذكرياته في دمشق فإنَّ مقدساته وأحلامه في جارتها القدس، ولذلك هو يتساءل عن الجريمة الكبرى التي ارتكبتها البشرية بحق هذه المدينة التي أنجبت عدداً كبيراً من الأنبياء، وهي مدينة الشرائع، ومن هنا كان الاعتداء عليها اعتداء على كلّ ما هو حقّ وخير وجمال، وتتحمَّّل البشرية كافة وزر ما حلَّ بها، وهو يقول في أحد مقاطع القصيدة:

يا قُدْسُ.. يا مدينةَ الأَحْزَانْ

يا دَمْعَةً كبيرةً تجولُ في الأَجْفَانْ

مَنْ يُوقِفُ الْعُدْوَانْ؟

عَلَيْكِ يا لُؤْلُؤَةَ الأدْيَانْ

مَن يَغْسِلُ الدِّماءَ عن حجارةِ الْجُدْرَانْ؟

مَنْ يُنْقِذُ الإنجيلْ؟

مَن يُنْقِذُ القرآنْ؟

مَنْ يُنْقِذُ المسيحَ ممَّنْ قَتَلُوا المسيحْ؟


من يُنْقِذُ الإِنْسَانْ؟
[2]


ومع ذلك لم يجد نزار جواباً عن أسئلته من البشرية التي لم تُحَرِّك ساكناً حيال ما يجري في هذه المدينة، وكأنَّه كان ينتظر هذا الجواب سلفاً، وكان يُدرك بحسّه الشاعري أنَّ الأرض لا تُحرّرها في زمن المصائب سوى دماء الشهداء، وجاءت الإجابة عن أسئلته في قصيدته "أطفال الحجارة" أبطال الحاضر والمستقبل، وهي قصيدة تعرض حالتين متناقضتين في آنٍ معاً: الأولى انتفاضة الأطفال للدفاع عن القدس وفلسطين في المقطع الأول:

بَهَرُوا الدُّنْيَا.. وما في يَدِهمْ إلاَّ الحِجَارَهْ..

وَأَضَاؤُوا كالقناديلِ، وجاؤُوا كالبِشَارَهْ.

قَاوَمُوا.. وانْفَجَرُوا.. واسْتُشْهِدُوا..

وَبََقِينَا دُبَباً قُطْبِيَّةً


صُفَّحَتْ أَجْسَادُها ضدَّ الحرارَهْ...
[3]


أمَّا الحالة الثانية فهي حال العربي في كلّ مكان من الأرض العربية، وهو لا يسعى إلاَّ إلى مغنم شخصي أو لذَّة عابرة، فقال:

قَاتَلُوا عَنَّا.. إلى أنْ قُتِلُوا..

وَجَلَسْنَا في مَقَاهِينا.. كَبَصَّاقِ الْمَحَارَهْ

واحدٌ.. يَبْحَثُ منَّا عن تِجَارَهْ..

واحدٌ.. يَطْلُبُ مِلْيَاراً جديداً..

وَزَوَاجاً رابعاً..

وَنُهُوداً صَقَلَتْهُنَّ الْحَضَارَهْ..

واحدٌ.. يَبْحَثُ في لندنَ عن قَصْرٍ مُنِيفٍ

واحدٌ.. يَعْملُ سِمْسَارَ سِلاَحٍ..

واحدٌ.. يَطْلُبُ في الباراتِ ثَارَهْ..


واحدٌ.. يَبْحَثُ عن عَرْشٍ، وَجَيْشٍ، وَإِمَارَهْ..
[4]


إنَّ صور أطفال الحجارة أذهلت العالم كلّ العالم وهو يشاهد أوَّل مرة في تاريخ البشرية صوراً بهذه المفارقة، أطفال يتسابقون ويتنافسون ليواجهوا أعتى قوة عسكرية في الشرق بأساليب بدائية، أطفال يتساقطون برصاص العدو، ولكنَّهم لا يتراجعون، وهذا ما سجَّله الشاعر زكي قنصل في قصيدته الطويلة "سداسية الوطن المحتل" وهي على لسان طفل الحجارة يتحدى الغاصبين، ففي المقطع الأول يقول:

أَطْلِقْ رَصَاصَكَ.. لا أخافُ النَّارَا

إِنِّي أَرُدُّ لكَ الرَّصَاصَ حِجَارا
صَدْرِي على الغضبِ الرَّهِيبِ طَوَيْتُهُ
وعلى النَّدى.. فَعَلَيْكَ أن تَخْتَارا
ما دُمْتَ تَلقي الرِّيحَ في بَيَّارتي
فَلَسَوْف تَحْصُدُ عاصِفاً مَوَّارَا
لا يُسْتَرَدُّ الحقُّ إلاَّ عُنْوةً
ماذا إذا انْتَفَضَ الهَضِيمُ وَثَارَا؟[5]

ويقول الشاعر على لسان الطفل الفلسطيني متحديّاً جلاَّده في نهاية المقطع السادس:

ما مَنْ زَرَعْتُمْ في ضُلُوعي شَوْكَكُمْ
سَيُغَالِبُ الأَيَّامَ جُرْحي النَّازِفُ
من كُلِّ أَطْرَافِ البَسِيطَةِ سَاقَكُمْ
طَمَعٌ.. وليسَ مَظَالِمٌ وَمَخاوِفُ
قَرَّرْتُ أَبْقَى الدَّّهْرَ نُصْبَ عُيُونِكُمْ
فَتَأَهَّبُوا.. أنا وَاقِفٌ أنا وَاقِفُ[URL='https://www.nationalkuwait.com/forum/#_ftn6'][6]

ولا بدَّ أخيراً من أن نقف عند الشاعر محمود درويش، وهو يرسم لنا في المزمور الثاني عشر من قصيدته الطويلة (مزامير) مدينة القدس التي يدّعي الغاصبون زوراً أنَّ لهم فيها حقاً تاريخيّاً، وهي ستكون في المستقبل طروادة أخرى ويُنهي الشاعر مزموره بتسبيحة العودة، وهي العودة الكاملة لكامل التراب الفلسطيني لأن القدس ستكون آخر الحصون التي يتحصَّن بها الغرباء:

نَرْسُمُ القدسَ: إِلهٌ يتعرَّى فوقَ خَطٍّ داكنِ الخُضْرَةِ، أشْبَاهُ عَصَافِيرٍ تُهَاجِرْ

وَصَلِيبٍ واقفٍ في الشَّارِع الخلْفيِّ. شَيْءٌ يُشْبِهُ البَرْقُوقَ والدَّهْشَةَ من خَلْفِ القناطَرْ

وَفَضَاءٌ واسِعٌ يَمْتَدُّ من عَوْرَةِ جُنْدِيِّ إلى تاريخِ شاعرْ.

نكتبُ الْقُدْسَ: عاصِمَةُ الأملِ الكاذبِ.. الثائرِ الهاربِ.. الكوكبِ الغائبِ.

اخْتَلَطَتْ في أَزِقَّتِها الكلماتُ الغريبةُ، وانْفَصَلَتْ عن شفاهِ المُغَنّينَ والباعةِ القُبَلُ السَّابِقَهْ.

قامَ فيها جدارٌ جَدِيدٌ لشوقٍ جَدِيدٍ، وطروَادَةُ التحقتْ

بالسَّبَايا. ولم تَقُلِ الصَّخْرَةُ النَّاطِقَهْ.

لفظةٌ تُثْبِتُ العكسَ. طُوبَى لمن يُجْهِضُ النَّارَ في الصَّاعِقَهْ!.

وَنُغَنِّي القدسَ: يا أَطْفَالَ بابلْ

يا مَوَالِيدَ السَّلاَسِلْ

سَتَعُودُونَ إلى القدسِ قريباً وقريباً تَكْبُرُون.

وقريباً تَحْصُدُونَ القمحَ من ذاكرةِ الماضي

قريباً يُصْبِحُ الدَّمْعَ سنابلْ.

آهِ، يا أطفالَ بابلْ

سَتَعُودُونَ إلى القدس قريباً وقريباً تَكْبُرُون.

وقريباً وقريباً وقريباً..
[/URL]

هَلِّلُويا هَلِّلُويا![7]





[1] - صدر ديوان الشهيد محمد الدرة عن مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري في الكويت سنة 2001، وهو في ثلاثة مجلدات بلغت صفحاتها نحو (1734 صفحة من القطع الكبير).



[2] - الأعمال السياسية الكاملة (3)، منشورات نزار قباني، بيروت، د. ت، ص 163.



[3] - الأعمال السياسية الكاملة (6)، منشورات نزار قباني، بيروت، ط 2، 1999، ص 203.



[4] - المصدر نفسه، ص 203 ـ 204.



[5] - قنصل، زكي: سداسية الوطن المحتل، دار مجلة الثقافة، دمشق، د. ت، ص 8.



[6] -المصدر نفسه، ص 32.



[7] - درويش، محمود: ديوانه (1)، ص 399 ـ 400.


 
أعلى