النرويجيون و .. جنون السفر!

أوسلو في 29 سبتمبر 2008
هنا في النرويج إذا التقيت جارك أو شخصا لم تره منذ فترة أو صديقا بعد عطلة أو صاحبا ولم تتحدثا عن المناخ والجو والمطر وشعاع الشمس الذي يطل على استحياء أو كثافة الجليد فلابد أن يسأل أحدكما الآخر عن السفر!
إذا تصادف وشاهدت جارتك تركن سيارتها بجانب سيارتك ولم تكن قد رأيتها لعدة أيام فستقفا معا تتحدثان عن آخر رحلة لك أو لها، ثم ينتقل الحديث إلى الخطة المستقبلية للسفر في العطلات الثلاث القادمة!
ستقول لك بأنها قضت أسبوعين في أثينا، واستمتعت بأشعة الشمس ورحلة بحرية وتناولت الطعام اليوناني في جزيرة جميلة، ثم تردف قائلة: أما اليومان الأخيران الرحلة فقد هبت عاصفة خفيفة، فمكثنا في الفندق حتى موعد العودة.
تنتظر حتى تكمل حديثها لتقول لها بأنك قضيت ويك إند في لندن لأنك عثرت مصادفة على تذكرة سفر على الخطوط الجوية الإيرلندية ( رايان إير) بثمن بخس كأنها بطاقة سفر مجانا.
لكنك تفكر في العطلة الخريفية للمدارس في جزيرة مايوركا الإسبانية.
تبتسم جارتك وتقول لك بأنها قضت أسبوعا هناك وقد أصبح المنتجع السياحي الإسباني مستعمرة ألمانية حتى أنك تشتري في الصباح الباكر صحيفة فرانكفورتر تسايتونج في نفس موعد بيعها في أكشاك المدن الألمانية!
تذهب إلى عملك وتسأل عن زميلك في المكتب المجاور فتعرف أنه في رحلة إلى سوسة التونسية أو نيويورك أو يقضي مع أسرته أسبوعين في نيس.
تفتح صحيفة آفتين بوسطن فتطارد الإعلانات عن السفر عينيك بكل الأشكال والألوان والخطوط والأسعار مع صور وضعها متخصصون في فن الإعلان الذي يداعب خيالك ويتسلل إلى جيبك وحسابك ليقنعك بأن ميزانيتك التي أرهقتها ثلاث رحلات هذا العام قادرة على الرابعة والخامسة قبل عطلة الكريسماس!
تتصل بشركة أو مطبعة أو مصنع أو مكتب في الثلث الثاني من يوليو فيقال لك بأن ( العطلة الجماعية بدأت)، وكل العاملين قد سافروا بحثا عن الشمس، ويمكنك إعادة الاتصال في أوائل أغسطس.
ويتعجب محدثك من أنك لست على سفر!
يبدأ اليوم الدراسي الأول في منتصف أغسطس، ومن الصف الأول الابتدائي إلى طلاب الثانوية العامة يكون الحديث كله عن السفر، والعطلة والأماكن الساحرة في العالم.
تدخل المُعَلّمة وقد أشرق وجهها بلمعان لا تخطيء العيون أنه من شمس الجنوب، وبعد دقائق تكون قد بدأت في توجيه الأسئلة للتلاميذ عن الأماكن التي قضوا فيها عطلاتهم، وتختلط الأصوات والمدن والأسماء فتسمع جزيرة كريت اليونانية، إزمير التركية، أغادير المغربية، فينيسيا الايطالية، كوستا دي سول الاسبانية، ولكن هناك من سافر مع والديه، أو مع والدته وصديقها الجديد وأولاد الاثنين إلى تايلاند وجزر الكاريبي ودزني لاند ونيو مكسيكو!
وتقول المُدَرّسة بأنها قضت نصف عطلة الصيف في شاليه فوق الجبال بغرب النرويج أو شمالها، وقامت برحلة صيد، لكنها ستسافر في الخريف لزيارة صديقة لها تقيم في دبي.
الحياة في النرويج لا تستقيم بدون السفر، والطاقة يستمدها النرويجي من رحلتي الصيف والشتاء، لكن الخريف أيضا له عطلته المدرسية التي تستبق عطلة نهاية العام قبل الاستعداد لعطلة الشتاء، ناهيك عن عطلة عيد الفصح والعيد الوطني.
كانت الأسبقية منذ عشر سنوات لليونان وجزرها، كريت ورودس وقبرص وآيا نابا ثم سبقتها إسبانيا وبعض المدن الساحلية الفرنسية وجنوب إيطاليا.
لا يزال الأجانب في النرويج يفضلون عطلاتهم إلى بلادهم مع استثناء طالبي اللجوء السياسي من العراقيين والايرانيين والسوريين والأفغان.
بوجه عام رغم أن الأجنبي الذي يحمل الجنسية النرويجية ولا يقل مستوى معيشته عن نظيره النرويجي يرى في السفر رفاهية أكثر من متعة وراحة وفترة التقاط الأنفاس .
تسير في شوارع منطقة جرنلاند فتظن أن العرب والأفارقة والفيتناميين والأتراك والإيرانيين والهنود والبنغال والسريلانكيين قد احتلوا القسم الشرقي من أوسلو، لكنك تستقل طائرة شارتر متوجهة من أي مدينة نرويجية إلى منتجع سياحي فلا ترى إلا وجوها بيضاء عليها عيون زرقاء ويزين رؤوسها شعر أصفر ذهبي، فالمغتربون السمر يبني الأثرياء منهم بيوتا في بلادهم ويشترون عقارات، أما الفقراء فيعيشون على الضمان الاجتماعي.
فلسفة السفر قائمة على تحسن مستوى معيشة النرويجي في العقدين الأخيرين، واعتبار شدّ الرحال إلى الخارج تقليدا جديدا يتبارى في الحديث عنه كل الناس في كل الأوقات وتحت أي ظروف!
أما متعة التفكير في هدوء ما بعد التقاعد والمعاش والمرحلة الأخيرة من الحياة فغالبا لا تخرج عن تخيل سكن لائق قريب من البحر في جزر الكناري أو يوريت دي مار الإسبانية فالعظام التي أرهقتها فصول الشتاء القارص الطويلة تحتاج إلى ترميم بدفء الشمس، وراحة على الشاطيء مع كتاب انتظر طويلا من يقرأه!
والمعاش الذي يحصل عليه النرويجي من عمله يسمح بمعيشة كريمة في جنوب أوروبا، فهو لا يتأخر يوما واحدا عن حسابك في البنك، ويزداد في كل عام مع زيادة الأسعار وارتفاع مستوى الدخل لدى الذين لم يتقاعدوا بعد.
عندما تسأل طفلا نرويجيا لم يبلغ العاشرة من عمره عن الأماكن التي قام بزيارتها فربما ينتهي العدُّ على أصابع يديه الصغيرتين قبل أن يسرد عليك أسماء المدن والمنتجعات السياحية التي قام بزيارتها مع أسرته، فضلا عن مدن الملاهي والألعاب المائية وسيارات الرالي!

يأتي موزع الصحيفة اليومية ويقذف بها أمام شقة كل مشترك في بيوت المنطقة كلها، ثم يعود في اليوم التالي ومعه صحيفة الصباح فيكتشف أن صحف الأيام السابقة لم تتحرك من مكانها، فالمشترك عثر على تذكرة سفر بثمن زهيد تشمل الاقامة في فندق فاخر على شاطيء البحر في الجنوب!

والنرويجي يحدثك عن أسماء منتجعات سياحية لم تعلمك إياها كتب الجغرافيا وخرائطها، لكن شركات السفر والسياحة اكتشفتها كما اكتشف كولومبوس العالم الجديد!
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو النرويج
Taeralshmal@gmail.com
 
أعلى