سيدي الرقيب .. أنت حمار


أوسلو في 9 سبتمبر 2003

بيننا وبين الرقيب في عالمنا العربي حرب معلنة, نحن نحاول ادخال مطبوعتنا إلى القاريء, وهو ينتظرها أينما تأتيه, من البر أو في بريد المطار أو في جمرك الميناء البحري, فالمهم أن السلطة لا تغضب منه, وتظل راضية عنه.
والرقيب في عالمنا العربي أقل ذكاء من الحمار, وتختار السلطة الرقيب من بين المعتوهين أو المتخلفين عقليا أو الحمقى, وينظر في مئات المطبوعات, فيبحث أولا عن أي مقال أو تحقيق يزينه اسم زعيمه المبجل, فإذا كانت هناك شبهة لوم أو انتقاد أو عتاب أو عدم رضاء على النظام, فإن سلة المهملات تعلو قليلا, ولا مانع من ارسال تقرير إلى الجهات المسؤولة, فالسيد الحمار لم يكتشف بانجو قادما من باكستان, أو هيروين آتيا من تورا بورا, أو قات مرسلا من حضرموت, أو شريطا مسجلا بصوت أسامة بن لادن ضل طريقه إلى( الجزيرة ), أو خطة انقلاب وضعها أيمن الظواهري, لكنه وقع على الأخطر والذي يفوق الارهاب أهمية, أعني مطبوعة تنتقد العقيد معمر القذافي أو الرئيس حسني مبارك أو الرئيس القادم جمال مبارك أو الملك عبد الله الثاني أو الرئيس مدى الحياة وبعد الموت زين العابدين بن علي أو الرئيسة ليلى بن علي أو الحرس القديم في دمشق أو أمير المؤمنين في المغرب أو قائد الشمال السوداني البشير, أما شيطان بغداد فحدث ولا حرج!
عندما كنت صغيرا في العمر ولم أكن قد بلغت الثامنة عشرة, بلغني أن حملة شرسة ضد المطبوعات الدينية تمتد إلى كل بيت, وكانت لدي مجموعة كبيرة من كتب سيد قطب ومحمد قطب والمودودي, ولم تكن لي علاقة من قريب أو من بعيد بالاخوان المسلمين.
أسرعت أولا إلى مكتبة( وهبة ) ومكتبة ( علاء الدين ) بالاسكندرية لشراء الممنوعات قبل مصادرتها, وعدت إلى البيت ب( معركة التقاليد ) لمحمد قطب, و( المستقبل لهذا الدين ) لسيد قطب, وبعض الممنوعات الأخرى.
ثم ذهبت إلى مطبعة قديمة ومتهالكة وعتيقة لاعادة تجليد الكتب بعد وضع أغلفة روايات غرامية عليها, فكان كتاب ( معالم على الطريق ) مثلا يحمل عنوان ( البنات والصيف ) أما ( جاهلية القرن العشرين ) فكان عنوانه الجديد ( رد قلبي ), فمعرفتي بالرقيب علمتني أنه لا يقرأ أبعد من أرنبة أنفه, أي عنوان الكتاب أو المقال, فإذا قرأ لا يفهم, وإذا فهم فشيء مختلف تماما عما قرأه!
خلال تسعة عشر عاما هي عمر طائر الشمال في النرويج تعرضت المطبوعة لمقص الرقيب في عالمنا العربي عشرات المرات, وطاردها في كل مكان, ومنعها, بقدر ما أمكن, من الوصول إلى من بيدهم الأمر والنهي ورقاب العباد. والرقيب يعمل بجزء ضئيل جدا من عقله الصغير, وهو يفهم فقط أن انتقاد زعيم الدولة جريمة أكبر من التجديف في حق الذات الالهية, لهذا فإنه إن خٌير بين كتابين أحدهما عن ضعف منطق الكتاب الأخضر لرسول الصحراء, وبين ( الكون يحاكم الاله ) لعبد الله القصيمي فسيصادر الأول بدون تردد.
قبل الغزو العراقي للكويت بثلاثة أشهر كنت في بغداد. وفي الفندق طلبت من موظف الاستقبال آلة كاتبة في غرفتي لبعض الوقت, وكادت الأرض تزلزل زلزالها, وتخرج أثقالها, فالرقيب الحمار امتدت أذناه إلى نزلاء الفندق , واعتبر طلبي كأنه انقلاب مضاد, إلى أن قدمت اعتذاري, وتقبلته أدارة الفندق الاستخبارية على مضض!
عندما طلب مني ناشر وموزع مشهور في القاهرة طائر الشمال, أرسلت إليه ستمائة نسخة على سبيل التجربة, ولكنها لم تعرف طريقها إليه فحوصرت بين خوفه من تسلمها وبين رقيب المطبوعات, ثم انتهت إلى المصادرة فالمطبوعات المشاكسة كالأمراض المعدية يعرفها الرقيب الحمار كما يعرف أولاده.
منذ سنوات وأنا اتحايل على ادخال طائر الشمال إلى مصر, ولكن هناك توجيهات حاسمة وأوامر حازمة بأن هذه المطبوعة ممنوعة من تنفس هواء القاهرة, أو الوصول إلى صندوق بريد مسؤول أو وزير أو محافظ أو مؤسسة أو إعلامي أو صديق, وعندما تجاوزنا الخطوط الحمراء بانتقادنا وراثة عرش الوطن واغتصابه في وضح النهار, فهم الرقيب أن كل الممنوعات الأخرى تهون بجانب انتقاد الرئيس القادم الشاب جمال مبارك, فالرئيس الوالد عمل لأكثر من عشرين عاما بجد ودأب وخطط محكمة لكي تنتقل السلطة المطلقة والوحيدة في ظل قانون الأحكام العرفية إلى جمال مبارك حتى لو شج كل المصريين رؤوسهم في الحائط أو انتحروا من فوق كوبري 6 أكتوبر, والانتخابات ممنوعة, وترشح أكثر من واحد في ظل ديمقراطية من المحرمات, وأي نقد للسيد الرئيس يوحي بأن هناك شبهة اتهامه بأنه مسؤول عن أي خطأ أو ذنب أو كارثة أو انهيار أو تراجع منذ ولايته عرش مصر تدخل في باب الكفر البواح.
العدد السابق من طائر الشمال لم يصل إلى إنس أو جن في طول مصر وعرضها, حتى الأعداد التي تم ارسالها بالبريد المستعجل المسجل سقطت في حجر الرقيب وصادرها على الرغم من أن هناك اتفاقات دولية بريدية تتعلق بالبريد المسجل للمطبوعات.
ولكنها ديمقراطية السيد الرئيس!
الشيء الذي لا يعلمه الرئيس حسني مبارك حتى الآن أنه لم تحدث معارضة صامتة في تاريخ مصر الحديث أو القديم لحاكم كما هي الآن, وأنني لم أقابل مصريا واحدا, في الداخل أو في الخارج, لا يتمنى رحيل السيد الرئيس وابنه والأسرة الكريمة, لعل زعيما وطنيا عاشقا لمصر يحتضن هذا البلد الطيب, ويمسح دموعه, ويطارد اللصوص والمفسدين, وينهي عصر امتهان كرامة المواطن, ويأمر بالافراج عن سجناء الضمير
وبانهاء عصر سلخانات الشرطة, وبوضع مشروعات قومية للقضاء على الأمية والفقر والمرض, وببناء مساكن لسكان المقابر, وبانهاء الحكم العرفي العسكري, وباشراك الشعب في حكم مصر, وبالتخلص من المعوقين ذهنيا والمتخلفين من الحرس القديم الذين يحكمون قبضتهم على خيرات الشعب, وباعادة مصر الكبيرة إلى دورها القومي والعربي والاسلامي, وبوقف نهب أرض الكنانة الذي استمر لعشرين عاما كادت مصر الطيبة أن تشهر افلاسها كما فعلت بعض الدول في أمريكا اللاتينية.
إن المجرم الحقيقي في مأساة مصر والاستبداد في أكثر دول عالمنا العربي هو الاعلامي المثقف والمفكر الجبان الذي باع وطنه من أجل حياة استكانة ومذلة وفتات الأثرياء ورضاء السلطة عنه وضمان عودته مساء كل يوم إلى أهله سالما وآمنا.
أما خلافاتنا مع الرقيب في العالم العربي فهي معركة بين القلم وبين الحمار.
والزعامة المستبدة في وطننا العربي تمنح الحمار كل الامتيازات والأموال والسلطة والسوط والرقابة والرقاب وأجهزة التعذيب وكيفية استدعاء ملك الموت, وتحاول أن تعلمه مراقبة البريد الالكتروني والتعامل مع الانترنيت اكسبلورر والميكروسوفت والنتسكيب, لكنه سيظل حمارا حتى لو حصل على شهادة من بيل جيتس نفسه!


محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو النرويج
 

كاظمة

عضو بلاتيني
عزيزي محمد عبدالمجيد،

من خلال مواضيعك و مساهماتك الشيقة، لاحظت تحاملك الشديد على "الحمار" !! :d

مع اني اعتقد ان الحمار حيوان مخلص و كادح و طيب و عنيد بعض الشيئ، و لكن بسياسة العصا و الجزرة يكون مطيع جداً ;) اليس كذلك ؟! :)
 
الحمار


إلى كاظمة مع تحياتي ومحبتي،

لم أتحامل على الحمار فقد جعلته يحاور زعيما عربيا، وقام بترشيح نفسه في الانتخابات، وعندما صدّقت الرئيس علي عبد الله صالح وصفت نفسي به، وجعلته مساويا لعدد كبير من بني آدم ممن يحتلون أرفع المناصب ويركبون سيارات آخر موديل ويلقون خطبا ويقيمون في قصور، فهل هذا تحامل؟

كنت على وشك أن أجعله يوجه رسالة إلى العراقيين لوقف نزيف الدم والعنف والطائفية، لكن الحمار قال لي بأنه يرفض النزول إلى هذا المستوى ومخاطبة العراقيين واقناعهم بأن العراق بلدهم، وقدم لي الأسباب المقنعة والعقلانية.

وسألته إن كان يريد حضور حفل اقامة نصب تذكاري لصدام حسين بجوار عمر المختار، فسألني الحمار: هل يمكن أن أقع في حب الناقة التي يشرب العقيد حليبها؟
قلت له بأنها لا تلتقي حميرا، فغضب مني، وسب ولعن في الكتاب الأخضر، وقال كلاما يعاقب عليه القانون عن قائد ثورة الفاتح من سبتمبر العظيمة.

مع تحياتي

محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو النرويج
 
أعلى