احمد الدوسري
عضو مميز
الحديث الأول :
عن أمير المؤمنين أبي حفصٍ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله عليه وسلم يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) .
أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن وغيرُهم، وقد تفرَّد بروايته عن عمر: علقمة بنُ وقاص الليثي، وتفرَّد به عنه محمد بن إبراهيم التيمي، وتفرَّد عنه يحيى بن سعيد
الأنصاري، ثم كثر الآخذون عنه، فهو من غرائب صحيح البخاري .
افتتح النووي أحاديث الأربعين بهذا الحديث، وقد افتتح جماعة من أهل العلم كتبَهم به، منهم الإمام البخاري افتتح صحيحه به، وعبد الغني المقدسي افتتح كتابه عمدة الأحكام به، والبغوي افتتح كتابيه مصابيح السنة وشرح السنة به، وافتتح السيوطي كتابه الجامع الصغير به، وعقد النووي في أول كتابه المجموع شرح المهذب فصلاً قال فيه (1/35): "فصل في الإخلاص والصدق وإحضار النية في جميع".
ونقل جماعة أنَّ السلف كانوا يستحبُّون افتتاح الكتب بهذا الحديث؛ تنبيهاً للطالب على تصحيح النيَّة وإرادته وجه الله تعالى بجميع أعماله البارزة والخفيَّة، ورُوينا عن الإمام أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله قال: لو صنَّفت كتاباً بدأت في أوَّل كلِّ باب منه بهذا الحديث، ورُوينا عنه أيضاً قال: مَن أراد أن يصنِّف كتاباً فليبدأ بهذا الحديث، وقال الإمام أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي الشافعي الإمام في كتابه المعالم رحمه الله تعالى: كان المتقدِّمون من شيوخنا يستحبُّون تقديم حديث "الأعمال بالنيات" أمام كلِّ شيء يُنشأ ويُبتدأ من أمور الدِّين؛ لعموم الحاجة إليه في جميع أنواعها".
وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/61): "واتَّفق العلماء
على صحَّته وتلقيه بالقبول، وبه صدَّر البخاري كتابَه الصحيح، وأقامه مقام الخُطبة له؛ إشارة منه إلى أنَّ كلَّ عمل لا يُراد به وجه الله فهو باطل، لا ثمرة له في الدنيا ولا في الآخرة".
السند:حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ
قوله: "حدثنا الحميدي" هو: أبو بكر عبد الله بن الزبير بن عيسى، منسوب إلى حميد بن أسامة، بطن من بني أسد بن عبد العزي بن قصي، رهط خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم يجتمع معها في أسد، ويجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصي.وهو إمام كبير مصنف، رافق الشافعي في الطلب عن ابن عيينة وطبقته، وأخذ عنه الفقه ورحل معه إلى مصر، ورجع بعد وفاته إلى مكة إلى أن مات بها سنة تسع عشرة ومائتين..قوله: "حدثنا سفيان" هو: ابن عيينة بن أبي عمران الهلالي أبو محمد المكي، أصله ومولده الكوفة، وقد شارك مالكا في كثير من شيوخه، وعاش بعده عشرين سنة، وكان يذكر أنه سمع من سبعين من التابعين.قوله: "عن يحيى بن سعيد" في رواية غير أبي ذر: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري.اسم جده: قيس بن عمرو وهو صحابي، ويحيى من صغار التابعين، وشيخه محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي من أوساط التابعين، وشيخ محمد علقمة بن وقاص الليثي من كبارهم.
الشرح:
قوله: "إنَّما الأعمال بالنيَّات"، (إنَّما): أداة حصر، و(ال) في (الأعمال) قيل: إنَّها خاصة في القُرَب، وقيل: إنَّها للعموم في كلِّ عمل، فما كان منها قُربة أثيب عليه فاعله، وما كان منها من أمور العادات كالأكل والشرب والنوم فإنَّ صَاحبَه يُثاب عليه إذا نوى به التقوِّي على الطاعة، والألف واللاَّم ب(النيات) بدلاً من الضمير (ها)، أي: الأعمال بنيَّاتها، ومتعلق الجار والمجرور محذوف تقديره معتبرة، أي: أنَّ الأعمال معتبرة بنيَّاتها، والنيَّة في اللغة: القصد، وتأتي للتمييز بين العبادات، كتمييز فرض عن فرض، أو فرض عن نفل، وتمييز العبادات عن العادات، كالغسل من الجنابة والغسل للتبرُّد والتنظُّف.
قوله: "وإنَّما لكلِّ امرئ ما نوى"، قال ابن رجب (1/65): "إخبارٌ أنَّه لا يحصل له من عمله إلاَّ ما نواه، فإن نوى خيراً حصل له خير ٌ، وإن نوى شرًّا حصل له شرٌّ، وليس هذا تكريراً مَحضاً للجملة الأولى، فإنَّ الجملة الأولى دلَّت على أنَّ صلاحَ العمل وفسادَه بحسب النية المقتضية لإيجاده، والجملة الثانية دلَّت على أنَّ ثوابَ العامل على عمله بحسب نيَّتِه الصالحة، وأنَّ عقابه عليه بحسب نيَّته الفاسدة، وقد تكون نيَّتُه مباحةً فيكون العملُ مباحاً، فلا يحصل له به ثوابٌ ولا
عقاب، فالعملُ في نفسه: صلاحه وفساده وإباحته بحسب النية الحاملة عليه المقتضية لوجوده، وثوابُ العامل وعقابُه وسلامته بحسب نيته التي بها صار العملُ صالحاً أو فاسداً أو مباحاً".
قوله: "فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرته لدُنيا يُصيبها أو امرأة ينكحها فهجرتُه إلى ما هاجر إليه".
الهجرة من الهَجر وهو الترك، وتكون بترك بلد الخوف إلى بلد الأمن، كالهجرة من مكة إلى الحبشة، وتكون من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، كالهجرة من مكة إلى المدينة، وقد انتهت الهجرة إليها بفتح مكة، والهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام باقية إلى قيام الساعة.
وقوله: "فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" اتَّحد فيه الشرط والجزاء، والأصل اختلافهما، والمعنى: من كانت هجرته إلى الله ورسوله نيَّة وقصداً، فهجرته إلى الله ورسوله ثواباً وأجراً، فافترقا، قال ابن رجب (1/72): "لَمَّا ذكر صلى الله عليه وسلم أنَّ الأعمالَ بحسب النيَّات، وأنَّ حظَّ العامل من عمله نيته من خير أو شرٍّ، وهاتان كلمتان جامعتان وقاعدتان كليَّتان، لا يخرج عنهما شيء، ذكر بعد ذلك مثالاً من أمثال الأعمال التي صورتُها واحدة، ويختلف صلاحُها وفسادُها باختلاف النيَّات، وكأنَّه يقول: سائر الأعمال على حذو هذا المثال".
وقال أيضاً (1/73): "فأخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ هذه الهجرة تختلف باختلاف النيَّات والمقاصد بها، فمَن هاجر إلى دار الإسلام حبًّا لله ورسوله، ورغبةً في تعلم دين الإسلام وإظهار دينه حيث كان يعجز عنه
في دار الشرك، فهذا هو المهاجرُ إلى الله ورسوله حقًّا، وكفاه شرَفاً وفخراً أنَّه حصل له ما نواه من هجرته إلى الله ورسوله، ولهذا المعنى اقتصر في جواب هذا الشرط على إعادته بلفظه؛ لأنَّ حصولَ ما نواه بهجرته نهايةُ المطلوب في الدنيا والآخرة.
ومَن كانت هجرتُه من دار الشرك إلى دار الإسلام لطلب دنيا يُصيبها أو امرأة ينكحها في دار الإسلام، فهجرته إلى ما هاجر إليه من ذلك، فالأوَّل تاجرٌ، والثاني خاطب، وليس واحد منهما بمهاجر.
وفي قوله:( من كانت هجرته إلى الله ورسوله ) ،الجواب : ( فهجرته إلى الله ورسوله ) ذكرها ، ( من كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأةٍ يتزوجها – أو ينكحها – فهجرته إلى ما هاجر إليه ) ،ولم يقل : ( إلى دنيا يصيبها أو امرأةٍ ينكحها ) ، لماذا ؟
تحقيراً لشأن ما هاجر إليه وهي الدنيا أو المرأة ،والهجرةُ لأمور الدنيا لا تَنحصر، فقد يهاجرُ الإنسانُ لطلب دنيا مباحة تارة ومحرَّمة أخرى، وأفراد ما يُقصد بالهجرة من أمور الدنيا لا تنحصر، فلذلك قال: "فهجرته إلى ما هاجر إليه" يعني كائناً ما كان".
قال ابن رجب (1/74 75): "وقد اشتهر أنَّ قصةَ مهاجر أمِّ قيس هي كانت سببَ قولِ النبَّيِّ صلى الله عليه وسلم: "من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها" وذكر ذلك كثيرٌ من المتأخرين في كُتُبهم، ولَم نرَ لذلك أصلاً بإسناد يَصحُّ، والله أعلم".
النيَّة محلُّها القلب، والتلفُّظ بها بدعة، فلا يجوز التلفُّظ بالنيَّة في أيِّ قُربة من القُرَب،
إذا قال قائل : قول الملبي : لبيك اللهم عمرةً ولبيك اللهم حجاًّ ولبيك الله عمرةً وحجاًّ ، أليس هذا نطقاً بالنية ؟ فالجواب : لا ، هذا إظهاراً للشعيرة ، ولهذا قال بعض العلماء : إن التلبية في النسك كتكبيرة الإحرام في الصلاة ، يعني إذا لم تلبِّ ما انعقد إحرامك كما أن تكبيرة الإحرام لو لم تكبر ما انعقدت صلاتك ، إذن قول الملبي : لبيك عمرةً أو حجاًّ أو عمرةً وحجاًّ ، ليس إلا لإظهار هذه الشعيرة فقط .
فوائد الحديث:
1-أنَّه لا عمل إلاَّ بنيَّة.
2-أنَّ الأعمال معتبرة بنيَّاتها.
3-أنَّ ثواب العامل على عمله على حسب نيَّته.
4-أنه يجب تمييز العبادات بعضها عن بعض والعبادات عن المعاملات 5-ضرب العالم الأمثال للتوضيح والبيان.
6- فضل الهجرة لتمثيل النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بها، وقد جاء في صحيح مسلم (192) عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "أمَا علمتَ أنَّ الإسلامَ يهدم ما كان قبله، وأنَّ الهجرةَ تهدم ما كان قبلها، وأنَّ الحجَّ يهدم ما كان قبله؟".
7- أنَّ الإنسانَ يُؤجرُ أو يؤزر أو يُحرم بحسب نيَّته.
8-أنَّ الأعمال بحسب ما تكون وسيلة له، فقد يكون الشيء المباح في الأصل يكون طاعةً إذا نوى به الإنسان خيراً، كالأكل والشرب إذا نوى به التقوِّي على العبادة.
9- أنَّ العمل الواحد يكون لإنسان أجراً، ويكون لإنسان حرماناً.
10-الحث على الإخلاص لله عز وجل .
11- حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ،وذلك بالتنويع تنويع الكلام وتقسيم الكلام وضرب الأمثلة.
---------------------------------------------
المصادر:
1-فتح الباري لشرح صحيح البخاري للشيخ ابن حجر العسقلاني رحمه الله .
2-شرح الأربعين للشيخ ابن عثيمين رحمه الله (أشرطة مفرغة).
3-شرح الأربعين للشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله .
عن أمير المؤمنين أبي حفصٍ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله عليه وسلم يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) .
أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن وغيرُهم، وقد تفرَّد بروايته عن عمر: علقمة بنُ وقاص الليثي، وتفرَّد به عنه محمد بن إبراهيم التيمي، وتفرَّد عنه يحيى بن سعيد
الأنصاري، ثم كثر الآخذون عنه، فهو من غرائب صحيح البخاري .
افتتح النووي أحاديث الأربعين بهذا الحديث، وقد افتتح جماعة من أهل العلم كتبَهم به، منهم الإمام البخاري افتتح صحيحه به، وعبد الغني المقدسي افتتح كتابه عمدة الأحكام به، والبغوي افتتح كتابيه مصابيح السنة وشرح السنة به، وافتتح السيوطي كتابه الجامع الصغير به، وعقد النووي في أول كتابه المجموع شرح المهذب فصلاً قال فيه (1/35): "فصل في الإخلاص والصدق وإحضار النية في جميع".
ونقل جماعة أنَّ السلف كانوا يستحبُّون افتتاح الكتب بهذا الحديث؛ تنبيهاً للطالب على تصحيح النيَّة وإرادته وجه الله تعالى بجميع أعماله البارزة والخفيَّة، ورُوينا عن الإمام أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله قال: لو صنَّفت كتاباً بدأت في أوَّل كلِّ باب منه بهذا الحديث، ورُوينا عنه أيضاً قال: مَن أراد أن يصنِّف كتاباً فليبدأ بهذا الحديث، وقال الإمام أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي الشافعي الإمام في كتابه المعالم رحمه الله تعالى: كان المتقدِّمون من شيوخنا يستحبُّون تقديم حديث "الأعمال بالنيات" أمام كلِّ شيء يُنشأ ويُبتدأ من أمور الدِّين؛ لعموم الحاجة إليه في جميع أنواعها".
وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/61): "واتَّفق العلماء
على صحَّته وتلقيه بالقبول، وبه صدَّر البخاري كتابَه الصحيح، وأقامه مقام الخُطبة له؛ إشارة منه إلى أنَّ كلَّ عمل لا يُراد به وجه الله فهو باطل، لا ثمرة له في الدنيا ولا في الآخرة".
السند:حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ
قوله: "حدثنا الحميدي" هو: أبو بكر عبد الله بن الزبير بن عيسى، منسوب إلى حميد بن أسامة، بطن من بني أسد بن عبد العزي بن قصي، رهط خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم يجتمع معها في أسد، ويجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصي.وهو إمام كبير مصنف، رافق الشافعي في الطلب عن ابن عيينة وطبقته، وأخذ عنه الفقه ورحل معه إلى مصر، ورجع بعد وفاته إلى مكة إلى أن مات بها سنة تسع عشرة ومائتين..قوله: "حدثنا سفيان" هو: ابن عيينة بن أبي عمران الهلالي أبو محمد المكي، أصله ومولده الكوفة، وقد شارك مالكا في كثير من شيوخه، وعاش بعده عشرين سنة، وكان يذكر أنه سمع من سبعين من التابعين.قوله: "عن يحيى بن سعيد" في رواية غير أبي ذر: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري.اسم جده: قيس بن عمرو وهو صحابي، ويحيى من صغار التابعين، وشيخه محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي من أوساط التابعين، وشيخ محمد علقمة بن وقاص الليثي من كبارهم.
الشرح:
قوله: "إنَّما الأعمال بالنيَّات"، (إنَّما): أداة حصر، و(ال) في (الأعمال) قيل: إنَّها خاصة في القُرَب، وقيل: إنَّها للعموم في كلِّ عمل، فما كان منها قُربة أثيب عليه فاعله، وما كان منها من أمور العادات كالأكل والشرب والنوم فإنَّ صَاحبَه يُثاب عليه إذا نوى به التقوِّي على الطاعة، والألف واللاَّم ب(النيات) بدلاً من الضمير (ها)، أي: الأعمال بنيَّاتها، ومتعلق الجار والمجرور محذوف تقديره معتبرة، أي: أنَّ الأعمال معتبرة بنيَّاتها، والنيَّة في اللغة: القصد، وتأتي للتمييز بين العبادات، كتمييز فرض عن فرض، أو فرض عن نفل، وتمييز العبادات عن العادات، كالغسل من الجنابة والغسل للتبرُّد والتنظُّف.
قوله: "وإنَّما لكلِّ امرئ ما نوى"، قال ابن رجب (1/65): "إخبارٌ أنَّه لا يحصل له من عمله إلاَّ ما نواه، فإن نوى خيراً حصل له خير ٌ، وإن نوى شرًّا حصل له شرٌّ، وليس هذا تكريراً مَحضاً للجملة الأولى، فإنَّ الجملة الأولى دلَّت على أنَّ صلاحَ العمل وفسادَه بحسب النية المقتضية لإيجاده، والجملة الثانية دلَّت على أنَّ ثوابَ العامل على عمله بحسب نيَّتِه الصالحة، وأنَّ عقابه عليه بحسب نيَّته الفاسدة، وقد تكون نيَّتُه مباحةً فيكون العملُ مباحاً، فلا يحصل له به ثوابٌ ولا
عقاب، فالعملُ في نفسه: صلاحه وفساده وإباحته بحسب النية الحاملة عليه المقتضية لوجوده، وثوابُ العامل وعقابُه وسلامته بحسب نيته التي بها صار العملُ صالحاً أو فاسداً أو مباحاً".
قوله: "فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرته لدُنيا يُصيبها أو امرأة ينكحها فهجرتُه إلى ما هاجر إليه".
الهجرة من الهَجر وهو الترك، وتكون بترك بلد الخوف إلى بلد الأمن، كالهجرة من مكة إلى الحبشة، وتكون من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، كالهجرة من مكة إلى المدينة، وقد انتهت الهجرة إليها بفتح مكة، والهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام باقية إلى قيام الساعة.
وقوله: "فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" اتَّحد فيه الشرط والجزاء، والأصل اختلافهما، والمعنى: من كانت هجرته إلى الله ورسوله نيَّة وقصداً، فهجرته إلى الله ورسوله ثواباً وأجراً، فافترقا، قال ابن رجب (1/72): "لَمَّا ذكر صلى الله عليه وسلم أنَّ الأعمالَ بحسب النيَّات، وأنَّ حظَّ العامل من عمله نيته من خير أو شرٍّ، وهاتان كلمتان جامعتان وقاعدتان كليَّتان، لا يخرج عنهما شيء، ذكر بعد ذلك مثالاً من أمثال الأعمال التي صورتُها واحدة، ويختلف صلاحُها وفسادُها باختلاف النيَّات، وكأنَّه يقول: سائر الأعمال على حذو هذا المثال".
وقال أيضاً (1/73): "فأخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ هذه الهجرة تختلف باختلاف النيَّات والمقاصد بها، فمَن هاجر إلى دار الإسلام حبًّا لله ورسوله، ورغبةً في تعلم دين الإسلام وإظهار دينه حيث كان يعجز عنه
في دار الشرك، فهذا هو المهاجرُ إلى الله ورسوله حقًّا، وكفاه شرَفاً وفخراً أنَّه حصل له ما نواه من هجرته إلى الله ورسوله، ولهذا المعنى اقتصر في جواب هذا الشرط على إعادته بلفظه؛ لأنَّ حصولَ ما نواه بهجرته نهايةُ المطلوب في الدنيا والآخرة.
ومَن كانت هجرتُه من دار الشرك إلى دار الإسلام لطلب دنيا يُصيبها أو امرأة ينكحها في دار الإسلام، فهجرته إلى ما هاجر إليه من ذلك، فالأوَّل تاجرٌ، والثاني خاطب، وليس واحد منهما بمهاجر.
وفي قوله:( من كانت هجرته إلى الله ورسوله ) ،الجواب : ( فهجرته إلى الله ورسوله ) ذكرها ، ( من كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأةٍ يتزوجها – أو ينكحها – فهجرته إلى ما هاجر إليه ) ،ولم يقل : ( إلى دنيا يصيبها أو امرأةٍ ينكحها ) ، لماذا ؟
تحقيراً لشأن ما هاجر إليه وهي الدنيا أو المرأة ،والهجرةُ لأمور الدنيا لا تَنحصر، فقد يهاجرُ الإنسانُ لطلب دنيا مباحة تارة ومحرَّمة أخرى، وأفراد ما يُقصد بالهجرة من أمور الدنيا لا تنحصر، فلذلك قال: "فهجرته إلى ما هاجر إليه" يعني كائناً ما كان".
قال ابن رجب (1/74 75): "وقد اشتهر أنَّ قصةَ مهاجر أمِّ قيس هي كانت سببَ قولِ النبَّيِّ صلى الله عليه وسلم: "من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها" وذكر ذلك كثيرٌ من المتأخرين في كُتُبهم، ولَم نرَ لذلك أصلاً بإسناد يَصحُّ، والله أعلم".
النيَّة محلُّها القلب، والتلفُّظ بها بدعة، فلا يجوز التلفُّظ بالنيَّة في أيِّ قُربة من القُرَب،
إذا قال قائل : قول الملبي : لبيك اللهم عمرةً ولبيك اللهم حجاًّ ولبيك الله عمرةً وحجاًّ ، أليس هذا نطقاً بالنية ؟ فالجواب : لا ، هذا إظهاراً للشعيرة ، ولهذا قال بعض العلماء : إن التلبية في النسك كتكبيرة الإحرام في الصلاة ، يعني إذا لم تلبِّ ما انعقد إحرامك كما أن تكبيرة الإحرام لو لم تكبر ما انعقدت صلاتك ، إذن قول الملبي : لبيك عمرةً أو حجاًّ أو عمرةً وحجاًّ ، ليس إلا لإظهار هذه الشعيرة فقط .
فوائد الحديث:
1-أنَّه لا عمل إلاَّ بنيَّة.
2-أنَّ الأعمال معتبرة بنيَّاتها.
3-أنَّ ثواب العامل على عمله على حسب نيَّته.
4-أنه يجب تمييز العبادات بعضها عن بعض والعبادات عن المعاملات 5-ضرب العالم الأمثال للتوضيح والبيان.
6- فضل الهجرة لتمثيل النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بها، وقد جاء في صحيح مسلم (192) عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "أمَا علمتَ أنَّ الإسلامَ يهدم ما كان قبله، وأنَّ الهجرةَ تهدم ما كان قبلها، وأنَّ الحجَّ يهدم ما كان قبله؟".
7- أنَّ الإنسانَ يُؤجرُ أو يؤزر أو يُحرم بحسب نيَّته.
8-أنَّ الأعمال بحسب ما تكون وسيلة له، فقد يكون الشيء المباح في الأصل يكون طاعةً إذا نوى به الإنسان خيراً، كالأكل والشرب إذا نوى به التقوِّي على العبادة.
9- أنَّ العمل الواحد يكون لإنسان أجراً، ويكون لإنسان حرماناً.
10-الحث على الإخلاص لله عز وجل .
11- حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ،وذلك بالتنويع تنويع الكلام وتقسيم الكلام وضرب الأمثلة.
---------------------------------------------
المصادر:
1-فتح الباري لشرح صحيح البخاري للشيخ ابن حجر العسقلاني رحمه الله .
2-شرح الأربعين للشيخ ابن عثيمين رحمه الله (أشرطة مفرغة).
3-شرح الأربعين للشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله .