تمهيد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد اللهم صلي وسلم وبارك عليه صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين ثم أما بعد...
فهذه أول مشاركة في موضوع شروط الحديث الصحيح , وقد نويت - والله تعالى ييسر لنا - أن أجعلها في ستة مشاركات بحيث تكون الأولى هي تمهيد للمادة ثم تكون كل مشاركة باقية في شرط من شروط صحة الحديث الخمسة.
وفي الحقيقة علم الحديث علم ضخم جدا , وعلماء الحديث خاصة لهم منة في أعناق المسلمين جميعا لا يوفيهم حقهم على ما بذلوا من مجهود إلا رب العالمين يوم القيامة.
فلولا علم الحديث وما قعدوه من قواعد راسخة لقبول الرواية لقال من شاء ما شاء.
فعلم الحديث خادم وجميع العلوم الأخرى مخدومة , ومن هنا يظهر شرف هذا العلم فكل العلوم تحتاج إلى هذا العلم.
والأحاديث أو الروايات بوجه عام تتكون من شقان إسناد ومتن.
أما الإسناد فهو سلسلة الرجال وأما المتن فهو الكلام .
على سبيل المثال يقول البخاري حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ- انتهى
فالسند هو سلسلة الرجال وله طرف علوي وطرف سفلي
أما العلوي فيبدأ بالنبي صلى الله عليه وسلم ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم علقمة بن وقاص الليثي رحمه الله ثم محمد بن إبراهيم التيمي رحمه الله ثم يحيى بن سعيد الأنصاري رحمه الله ثم سفيان بن عيينة رحمه الله ثم الحميدي رحمه الله شيخ البخاري ثم الإمام البخاري جبل الحفظ وإمام الدنيا في علم الحديث رحمهم الله جميعا.
هذا جميعا يسمى الإسناد وفيه شروط يأتي بيانها إن شاء الله تعالى, ثم المتن وهو الكلام - وفيه أيضا شروط يأتي بيانها إن شاء الله - فيبدأ من قوله صلى الله عليه وسلم ( إنما الأعمال ... )
وكلما قل عدد الرجال بين الراوي وبين النبي صلى الله عليه وسلم كلما اقترب الراوي من الضوء و ولذلك كان أهل العلم يحبون العلو أي في الإسناد حتى قال يحيى بن معين رحمه الله وهو في مرض الموت ( بيت خالي وإسناد عالي )
أهمية الأسانيد
الأسانيد لها أهمية عظمى في العلوم الشرعية كافة
فكم من أقوال نسبت لابن عباس وعن الصحابة مكذوبة عليهم
وحتى الكتب المصنفة فأحد طرق إثبات النسب لصاحبها هو النظر في الأسانيد.وكم من كتب نفي صلاتها بأصحابها مثل كتاب (الصلاة) و(الرد على الزنادقة) قال الذهبي أن الكتابان موضوعان على الإمام أحمد.
ومثل كتاب ( الحيدة )لعبد العزيز بن يحيي الكناني قال الذهبي أحسبه موضوعا لأن في إسناده واحد متروك أو كذاب فتفرد بهذه الرواية.
فإذا خرج كتاب إلى الوجود فيفتش في كتب الفهارس وفي الإسناد.
فالأسانيد إذا هي صمام الأمان للرواية , فلا تقبل رواية رواها مجهول أو قطع السند عنها فلا نعلم من دخل فيها ومن غير من ألفاظها وغير ذلك.
وليس هناك أحد معصوم من الخطأ أو الزلل أو النسيان أو الوهم من الناس جميعا إلا الرسول المُبلغ صلوات ربي وسلامه عليه , ولهذا كان يجب على المسلمين ان يحفظوا الروايات بألفاظها كما وردت وخرجت من فم المعصوم صلى الله عليه وسلم.
وإذا كانت عناية المسلمين في حفظ الألفاظ النبوية من الوهم أو التحريف الغير مقصود فكيف بمن يتعمد الكذب أو التدليس أو تبديل الألفاظ , ليغير من معالم الشريعة وأصول الديانة.
وبما أنه معلوم أن الألفاظ النبوية في مجال العبادات هي بمثابة الأحكام التشريعة فتغيير لفطة واحدة من الألفاظ النبوية كاف وقادر على تغيير الحكم الشرعي في ذلك.
وما دخل الخلط والخطأ في بعض كتب الفقه إلا عندما قل إعتناء بعض المصنفين للفقه بهذا العلم أي علم الحديث , فلربما كان يبذل جهدا كبيرا في الجمع بين الأقوال أو في التخصيص أو في النسخ ولا يدري أن رواية من التي بين يديه ضعيفة او ساقطة , وقد كان في مقدور هذا المصنف أن يريحنا من مجهود كبير في المطالعة إذا كان إعتناءه بعلم الحديث أكبر وإلمامه به أفضل.
بداية العناية بالأسانيد
وقد بدأ العناية بالإسناد عند الفتنة الكبرى وكما قال ابن عباس رضى الله عنهما قال إذا قال واحد قال رسول الله صلى الله وعليه وسلم فكانت تمتد إليه أعناقنا وآذاننا فلما وقعت الفتنة قلنا سموا لنا رجالكم.
لقد سمع الزهري ابن أبي فروة يحدث بغير الأسانيد فقال :قاتلك الله يا أبا فروة تحدثنا بأحاديث لا خطام لها ولا أزمة.
ولذلك قال ابن المبارك : لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء.
فكم تعبوا في التفتيش عن أحوال الرواة وكم تعبوا في التفتيش عن أحوال الرواة...
خاتمة
الإنسان لا ينجو إلا بالعلم الشرعي أما العبادة فإن أكثر أقدام العباد زلت بسبب قلة إعتناءهم بالعلم الشرعي.
وينبغي على طالب العلم أن يجرد النية لله تعالى , وأن يعلم أن كل ما يعلمه من علوم الشريعة لرفع الجهل أو الخطأ عن نفسه ثم عن غيره إن إستطاع ذلك.
وليعلم طالب العلم أن العلم الشرعي لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك , فهو كالضيف العزيز الكريم إذا أحس بأنك تنشغل عنه ولا تعطيه الإهتمام المطلوب له انصرف عنك.
وهذا العلم من علوم الأصول والتي يسميها بعض العلماء بعلوم الآلات , وهي من العلوم التي تحتاج إلى ملكة خاصة تختلف من إنسان لآخر , فإذا دخل المسلم في العلوم الشرعية وأراد الزيادة والتفقه علم من نفسه بعد معرفته للحد الأدنى في كل العلم , أقول علم من نفسه ملكة معينة ظاهرة في نفسه , بمعنى أنه قد يميل إلى الحديث أو الفقه أو التفسير أو العقيدة أو غير ذلك من العلوم الشرعية , يجد أنه يفهم أسرارها ويفقه دقائقها فيزداد فيها تعلما وقراءة وجمعا.
وليعلم أيضا طالب العلم أن العلم يحمل على كثير من الكبر ولا ينجيه إلا الإخلاص لله تعالى , فكل الناس تحب أو توصف بالعلم ولا توصف بالجهل أبدا...
كما قال على رضي الله عنه : كفي بالعلم شرفا أن يدعيه من ليس بأهله وكفى بالجهل عارا أن يتبرأ منه من هو فيه.
فالإنسان إذا لم يتق الله عز وجل لتاه على الخلق به.
ولذلك قال الشافعي بعدما بعد صيته وترك الشعر برغم تمكنه فيه.
فلولا الشعر بالعلماء يزُري لكنت اليوم أشعر من لبيد
ولولا خشية الرحمن ربي ظننت الناس كُلَهُمُ عبيدي
ولولا خشية الرحمن ربي ظننت الناس كُلَهُمُ عبيدي
وهذا من سلطان العلم وتمكنه فيه.
والإخلاص يرحمك من كل ذلك
ومن بركات الإخلاص أنك تخضع لمن يعلمك ولو كان من دونك.
وعلماءنا ضربوا أفضل مثل في هذا الباب (باب الخضوع لما لا يعلمون إذا علموا) وذلك مثل ما رواه البيهقي في سننه أن عبد الله ابن وهب قال سمعت مالكا يفتي الناس أنه ليس عليهم تخليل البراجم في الوضوء فقلت كيف تفتي بذلك وفيه عندنا سنة فروى حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي كان يخلل بين الأصابع فقال الإمام هذا حديث حسن وما سمعت به إلا الساعة. وقال ابن وهب ورأيته بعد ذلك يسأل فيفتي بذلك.
وابن وهب من تلاميذ الإمام مالك , فتأمل رحمك الله كيف يغير الشيخ مذهبه لما علم صحة الرواية عن خلاف ما كان يفتي من تلميذه.
وقال الشافعي:ما من أحد إلا و تعزب عنه سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد اشتهر عنه أنه قال للإمام أحمد : يا أحمد أنتم أعلم بالحديث منا فإذا كان عندك الحديث فأعلمني حتى أقول به كوفيا كان أم بصريا أم حجازيا
وقال الذهبي : ولم يقل مصريا لأن الشافعي كان أعلم بأحاديث أهل مصر من أحمد.
وهذا يدل على أن العلماء كانوا يعترفون بالعجز ولا يعترف بالعجز إلا بالمخلص.
وقال العلماء ليس الثقة الذي لا يخطئ ولكن الثقة هو الذي يخطئ فيبين.
وقال ابن معين : أنا لست أعجب من الذي يخطئ وإنما أعجب من الذي لا يخطئ – يشير إلى أنه ليس موجود.
فلئن يرفل الرجل في ثياب الجهل خير له من أن يعلم شيئا يحاجه به الله يوم القيامة ويكبه على وجه في النار.وأما حسن التوجه وحسن الدرك فيكون ذلك بمعرفة قصدك.
والحمد لله رب العالمين
يتبع إن شاء الله مع أول شرط من شروط الحديث الصحيح