أين أنت يا غبي ؟
وقبل أن يرتد طرف الرئيس ، كان مدير مكتبه واقفا أمامه باحترام ممزوج بالخنوع والذل ... فصاح به الرئيس ثانية :
أين الخطاب الذي سألقيه بمناسبة ذكرى استقلال الوطن ؟
بيد مرتعشة رفع مدير المكتب يده القابضة على الخطاب ، لم يستطع اخراج الكلمات :
- الخطـ .. الخطــ ...
صاح الرئيس ثانية :
لم يتبق سوى ساعتين على موعد الحفل وأنت لا زلت تخط ؟!!!
وأخيرا خرجت الكلمات من فم مدير المكتب :
- للـ .. للتو انتهيت منه ..
هنا انفرجت أسارير الرئيس للمرة الأولى ، ورسم على وجهه ابتسامه أعادت الروح لمدير مكتبه :
هات اسمعنا ماذا كتبت ، لنرى إن كان الخطاب يلزمه بعض التعديلات ...
وبشجاعة نادرا ما يمتلكها مدير مكتب الرئيس ، قال بلهجة واضحة :
- بالتأكيد لن نستغني عن توجيهات سموكم ...
فصرخ فيه الرئيس بلهجة جافة ساخرة لا مبالية أحبطت مدير المكتب :
بلا كلام فاضي .. واقرأ علي الخطاب ..
- أمرك سيدي ...
" أيها الشعب الحر الأبي
ان يومنا هذا ، هو يوم عزة وفخر لنا جميعا ، انه اليوم الذي نحتفل فيه بالذكرى السنوية لاستقلالنا العظيم وتحررنا من زمرة العدوان والاحتلال ، اني في هذا اليوم الأغر أتعهد لكم بمحاربة من جعلوا وطننا مرتعا للنهب والسرقة والتطاول على المال العام "
رفع الرئيس يده معترضا :
لا .. لا ... لا أريد أي ذكر للحرب والأعداء في خطابي .. اشطبها .. اشطبها ...
- على أمرك سيدي
كما أن هناك كلمة غير مقبولة وصعبة نوعا ما ... وهي "مرعتا" !!
- عفوا سيدي ... هي "مرتعا" ...
لا .. لا ... اشطبها .. صعبة النطق ولا أفهم معناها .... اشطبها ... أكمل ...
وبسرعة ، شطب مدير المكتب الكلمات المرفوضة ، وأكمل :
- "أيها الشعب الحر الأبي
لا كرامة اليوم لكل من يكن العداء لشعبنا الحر الوفي .. "
سحب الرئيس شهيقا طويلا ثم أطلقه زفيرا بقوة :
ألا تفهم ! لقد قلت لك ... لا أريد ذكر الأعداء في خطابي ... اشطبها وأكمل ...
شطب مدير المكتب وأكمل :
- "الذل والمهانة لأعداءنا الذين أرادوا المهانة لشعبنا الحبيب ، "
هز الرئيس رأسه متأسفا :
يبدو أن لا علاج لغباءك ... مرة أخرى تذكر الأعداء ... اشطب ... اشطب ...
- حاضر سيدي ..
ويكمل مدير المكتب :
- "والمجد والخلود لشهداءنا الذين ضحوا من أجل الوطن ، الذين أعطوا دروسا في الفداء لأعداءنا الجبناء .."
تنحنح الرئيس والتفت ثم همس :
شيء جميل أن نذكر شهداءنا ... ولكن ليس في هذه المناسبة ... الشعب سعيد ومبتهج ولا نريد تذكيره بالشهداء والدماء التي رووا بها تراب هذا الوطن ... أليس كذلك ؟
- بالتأكيد يا سيدي ... هو كذلك يا سيدي ...
واشطب أيضا كلمة الأعداء ..
وأمسك مدير المكتب قلمه مرة أخرى وشطب ثم أكمل :
- " أيها الشعب الحر الابي
هدفنا ... سعادة المواطن ، وعدالتنا لا تفرق بين الغني والفقير ، و .."
صاح الرئيس مقاطعا :
توقف توقف ...
- نعم يا سيدي ...
عدالتنا معروفة فلا داعي لذكرها ... فقد يعتبرها البعض تبحجا ...
- اشطبها ؟!!
اشطبها وأكمل ... واشطب الإشارة إلى فقر مواطنينا ...
ويكمل مدير المكتب المسكين بعد أن يشطب :
- "وأملنا في الحياة هو تسهيل كل معاملات هذا المواطن ، وواجبنا ..."
يهز الرئيس كرشه ويبتسم مفتخرا :
لا .. لا .. لا أحب ذكر واجباتي للشعب ... لأنها من صميم عملي كحاكم للشعب ... اشطبها وأكمل ...
ويكمل مدير المكتب المخلص بعد ان يشطب :
- "ينصب على مساعدته ولكن ليس على حساب المواطن الفقير ."
هنا قاطعه الرئيس مقهقها :
ماذا ؟ ينصب ؟ يا عزيزي ...حاول التخفيف من استخدام اللغة العربية الصعبة من أجل العامة من الشعب ، اشطب كلمة ينصب والكلمات التابعة لها ...
- أمرك سيدي ...
أكمل ...
- "يا شعبي الحبيب
أيها المواطنون الشرفاء
لنمارس جميعا الوطنية ، ولا تجعلوا الوطنية هي العادة "
وكالعادة أوقفه الرئيس :
لحظة ... هنا كررت كلمة الوطنية ... ومعهما كلمة مواطنون ... وهذا غير مستحب ... اشطب العبارات عن الوطنية ... واستمر في القراءة ...
يمسح مدير للمكتب عرقه ، ويشطب ويكمل ككل مرة :
- "بل لتكن عبادة ، وابتعدوا عن الأشياء السرية وأمور التلاعب ، "
يا عزيزي .. هذا ليس خطاب ديني ... لذا لا داعي لذكر العبادة وغيرها وأيضا اشطب كلمات عامية مثل كلمتي الأشياء والتلاعب ...
- أمرك سيدي ...
أكمل ...
ويُكمل :
- "ولنتبع الشفافية ، ولنكن واضحين امام كل العالم في ممارساتنا ."
هذه عبارة جميلة ... ثبتها ...
ابتسم مدير المكتب بارتياح ... وأكمل بحماسة :
-"أيها الشعب الحر الأبي
في نهاية خطابي هذا ، أقول لكم بكل الحب أحييكم ،"
فصاح الرئيس مقاطعا :
ستوب ... أي حب واي تحية ؟ نحن في نهاية الخطاب ... اشطب العبارة والا ضحك علينا الأعداء ...
- حاضر سيدي ....
أكمل ...
- "ولأعداء الوطن أقول خبتم وخابت مطالبكم وعليكم لعنة الله يا رعاع."
هز الرئيس هز رأسه بعدم رضا :
قلت لك اشطب أي ذكر لأعداء .. فلا أريد تمجيدهم في خطابي ...
- صدقت يا سيدي ... عين الصواب ...
أكمل ...
- والسلام عليك ورحمة الله وبركاته
هنا انتبه الرئيس :
ها .. نهاية الخطاب ... حسنا ... اذهب الآن واطبعه بالتعديلات الجديدة ... واحتفظ به حتى تراني وقد وقفت على منصة الاحتفال... سلمه لي ... واجعل الخط كبيرا ... فلا أريد التلعثم أثناء القاء الخطاب لأن الاحتفال منقول على كل فضائيات العالم وبخمس لغات عالمية ... هيا ..
- أمرك سيدي ...
وخرج مدير المكتب مهرولا لانجاز أوامر الرئيس ...
وبعد أقل من ساعتين ... كان الرئيس بكامل أناقته يقف على المنصة ... يوزع ابتساماته لكاميرات الصحافة والفضائيات ... ثم التفت على مدير مكتبه الذي أسرع باخراج الخطاب وتسليمه له ...
وضع الرئيس الخطاب أمامه ، ثم التفت على الحضور وهو يُخرج نظارة القراءة التي ارتداها بهدوء وبطء ، ونفش ريشه حتى بدا كالطاووس الذي يُنادي أنثاه ... تنحنح ... ثم بدأ بقراءة خطابه بصوت حماسي :
أيها الشعب الحر الأبي
ان يومنا هذا ، هو يوم عزة وفخر لنا جميعا ، انه اليوم الذي نحتفل فيه بالذكرى السنوية لاستقلالنا العظيم وتحررنا من زمرة العدوان والاحتلال ، اني في هذا اليوم الأغر أتعهد لكم بمحاربة من جعلوا وطننا مرتعا للنهب والسرقة والتطاول على المال العام
أيها الشعب الحر الأبي
لا كرامة اليوم لكل من يكن العداء لشعبنا الحر الوفي ..
الذل والمهانة لأعداءنا الذين أرادوا المهانة لشعبنا الحبيب ، والمجد والخلود لشهداءنا الذين ضحوا من أجل الوطن ، الذين أعطوا دروسافي الفداء للجبناء الأعداء ...
أيها الشعب الحر الابي
هدفنا ... سعادة المواطن ، وعدالتنا لا تفرق بين الغني والفقير ، وأملنا في الحياة هو تسهيل كل معاملات هذا المواطن ، وواجبنا ينصب على مساعدته ولكن ليس على حساب المواطن الفقير .
يا شعبي الحبيب
أيها المواطنون الشرفاء
لنمارس جميعا الوطنية ، ولا تجعلوا الوطنية هي العادة بل لتكن عبادة ، وابتعدوا عن المعاملات السرية وأمور التلاعب ، ولنتبع الشفافية ، ولنكن واضحين امام كل العالم في ممارساتنا .
أيها الشعب الحر الأبي
في نهاية خطابي هذا ، أقول لكم بكل الحب أحييكم ، ولأعداء الوطن أقول خبتم وخابت مطالبكم وعليكم لعنة الله يا رعاع.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته