الحلقة الثالثة والعشرون
الحلقة الثالثة والعشرون
[FONT=Tahoma (Arabic)]
رغم صعوبة عام 1988 وقسوته وتراكم الأزمات فيه وطول نهاراته في العمل في خمسة أماكن تصيب المرء ذا القوة والبأس الشديدين بالارهاق، إلا أن بعض الومضات كانت تسعدني ، وخاصة تأثير إذاعة صوت العرب من أوسلو واكتشافي في نفسي القدرة على تقديم البرامج وقراءة نشرات الأخبار بصوتي وبدون أخطاء لغوية، مرتجلا أو قارئا.
قمت أيضا بزيارة الكويت في هذا العام بدعوة كريمة من الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح وزير الدفاع ( سمو ولي العهد )، وكانت سونيا في التاسعة من عمرها، ومعنا أيضا والدتها، وتركنا مجدي في النرويج مع خالته وكان في الرابعة من عمره.
[/FONT]
[FONT=Tahoma (Arabic)]
عام 1989 مشحون من ألفه إلى يائه، فنشاطاتي الفلسطينية أخذت من وقتي الكثير، وإذاعة صوت العرب من أوسلو منحازة إلى الانتفاضة الأولى، ومجلة طائر الشمال أكتبها من غلافها الأول إلى غلافها الأخير.
زيارتي الأولى لدولة قطر كانت غنية ومشحونة أيضا، وفي وقت الزيارة حدث تغيير حكومي تم بموجبه تعيين الشيخ حمد بن سحيم آل ثاني وزيرا للاعلام . تعرفت في الدوحة على مجموعة من الاعلاميين، وتسابق الكثيرون لاجراء أحاديث صحفية مع أعضاء الحكومة الجديدة ولم يحظ أي منهم بمثل ما حظي به الزميل حسام فتحي مراسل صحيفة ( الأنباء ) الكويتية في العاصمة القطرية.
تمكن في خمسة أيام من اجراء أحاديث مع أربعة وزراء مما أثار غيرة الكثيرين.
وعندما كنا في زيارة صحيفة ( الراية ) التي يترأس تحريرها الزميل أحمد علي حاول الأخير أن يقنع حسام فتحي بأن يختص صحيفته بأحد الحوارات التي أجراها مع الوزراء الجدد، لكن حسام فتحي قال له في حضوري: إنني مراسل ( الأنباء ) الكويتية، وأي نجاح أحققه هو من حق صحيفتي فقط . قال له أحمد علي: لكننا أصدقاء، وقضينا معا وقتا طيبا، ولعلك تتذكر رحلتنا إلى المغرب، ولا تنس أنك في قطر ومن أجريت معهم الحوارات الصحفية هم وزاء قطريون! وكان رد حسام فتحي قاطعا وهي أنها أمانة أخلاقية ومهما كانت الاغراءات فلن يستجيب لها.
قمت أيضا بزيارة ( الشرق ) القطرية وتعرفت على الأستاذ ناصر العثمان وهو أحد الرجال الاعلاميين الذين أحترمهم احتراما شديدا، واستمتع بالحديث معهم، وبدأت علاقة ودية ونشرت لي صحيفته في العام التالي أكثر من ثلاثين مقالا ، وأيضا حديثا هاما مع نيلسون مانديلا وآخر مع أمين الجميل. لم يحذف من مقالاتي حرفا واحدا، ونشر كل ما أرسلته باستثناء مقالين فقط رآهما تجاوزا الخطوط الحمراء في السياسة الخليجية، وهما ( هل تتحدث اللغة الآسيوية ؟ ) و الثاني ( حوار بين سمكتين في قاع البحر ).
خلال فترة الاحتلال العراقي الآثم لدولة الكويت اتصلت بالصحيفة في منتصف الليل مصادفة فردّ الأستاذ ناصر العثمان. قلت له مندهشا: الفجر يقترب من نهايات الليل وأنت مستيقظ ولم تغادر مكتبك؟ قال لي: أخي محمد، كيف يأتيني النوم والكويت التي أحبها محتلة؟
لهذا سارع باصدار ملحق لعبد الرحمن الأبنودي عن ( الاستعمار العربي )، وظل فاتحا صفحات ( الشرق ) لكل مناهض للاحتلال العراقي حتى تحررت الكويت.
كان الزميل حامد عز الدين مديرا لتحرير ( الشرق ) القطرية، وقضى سنوات طويلة في الدوحة، ويعمل كعادته أكثر من ثلثي النهار وليله، ولا يرى أولاده إلا قليلا فقد وهب حياته للعمل الاعلامي. وارتبطنا بصداقة حميمية وتابعت نشاطاته وقدرته الفائقة على صناعة صحيفة من الصفر تحت أحلك الظروف.
بعد فترة عاد إلى القاهرة ليتولى رئاسة تحرير ( الميدان )، ثم جاء الزميل أحمد الجار الله إلى القاهرة طالبا منه أن يعيد صناعة ( السياسة ) بعد أن هجرها الصحفيون المحترفون. وعاد به إلى الكويت.
كان حصان شغل يعمل فيجهد نفسه وصحته، لكنه يجني ثمرات تلك الصناعة التي لا يقدر عليها الكثيرون. هكذا فعل مع ( الدستور ) الصادرة عن مجلس الأمة الكويتي، وكذلك في ( الأنباء ) حتى أنني قمت بزيارة الزميل عدنان الراشد فوجدت حامد عز الدين في الثانية صباحا منهكا من العمل المتواصل، ومحققا لكل صحيفة يعمل بها نجاحات رائعة.
التقيت في الدوحة أيضا بالشاعر فاروق جويدة وسهرنا مع مجموعة اعلامية في الفندق، وأمتعني بحديثه وأذكر قوله للجميع بأنه لو قام كل الاعلاميين والشعراء بزيارة بغداد لتحية صدام حسين فسيظل هو بمفرده الذي يرفض السلام على طاغية.
مرت الزيارة سريعة واكتشفت أن للدوحة صلة قربى بمسقط رأسي، الاسكندرية حيث يتشابه مدخل البحر لقلب المدينه راسما نصف دائرة كالميناء الشرقي ، وبدلا من قلعة قايتباي هناك فندق شيراتون الدوحة.
كنت أجلس مع مجموعة من الاعلاميين في كافتيريا الفندق، ثم فجأة صاح زميل سعودي وهو رئيس تحرير مجلة نفطية اقتصادية، وأمسك بمجلة طائر الشمال في يده، وقال بصوت غاضب جهوري موجها حديثه لي: إن مقالك عن سرقة الدور الكويتي في لبنان هو محض أكاذيب، فالكويت ليس لها أي دور في اخراج اللبنانيين من أزمتهم، ونحن فقط في السعودية القوة القادرة على مساعدة شعب لبنان.
لا أتذكر كل ما قاله، لكن المشهد في ذهني مازال واضحا وهو اعلامي غاضب، تبرز عروق رقبته ويصيح بأعلى صوته، ويسمعه كل الجالسين كأنه يتهمني بجريمة كتابة مقال عن أهمية الدبلوماسية الكويتية في مساعدة اللبنانيين.
لم أكن قد زرت العراق من قبل، ولكن الحاح صلاح المختار مدير الاعلام الخارجي جعلني أستشير أصدقاء قبل الزيارة وكان على رأسهم الصديق رضا الفيلي وكيل وزارة الاعلام المساعد الذي تفهم أسباب الزيارة وطلب مني القيام بها لليلة واحدة على أن أترك متعلقاتي الشخصية في الفندق في الكويت.
حصلت على التأشيرة من سفارة العراق بعدما تردد حامد الملا في أن يمنحني إياها. تركت في الكويت كل ما يمكن أن يثير أجهزة الاستخبارات العراقية خاصة المطبوعات الممنوعة وصور مقالات وغيرها.
استقبلني صلاح المختار استقبالا جيدا ووديا وحَفيّاً وقضيت معه أكثر من ساعتين نتحدث عن الحرب العراقية الايرانية، واكتشفت أن لديه كل أعداد طائر الشمال، بل كان يقرأ كل حرف فيها، وقال لي بأن وزير الاعلام يرسلها إلى الرئيس صدام حسين!
وخلال الحديث جاءت كلماته التي فاجأتني كضيف لديه عندما قال: إننا نعرف أنك تكتب موضوعات حساسة للغاية ومنها مطالبتك بحدود آمنة وثابتة للكويت مع العراق، ومنها أفضال الكويت على العراقيين، وأيضا مقالك تحت عنوان ( موقف عراقي مؤسف ) الذي تنتقد فيه دعم القيادة العراقية لميشيل عون في الأزمة اللبنانية.
ثم أنهى حديثه قائلا: .. ومع ذلك فأنت في قلب بغداد آمن لدينا ولا يمسك سوء.
فهمت الرسالة، وعرفت أنها شدّ أذُن رقيق، وتهديد مبطن، وكرم صدّامي تعلمه تلاميذُ الرئيس فلا يدري المرء الفارق بين الترهيب والترغيب، ولا بين الحلو والمُرّ، فيتصور طعمَ العسل علّقَماً، وطعمَ الملح شهداً.
قبل المغادرة عرض تقديم أيّ هدية اختارها بنفسي كتعبير عما يحمله لي من مودة، فشكرته وطلبت مجموعة من الكتب. وفعلا قمت بجولة مع مسؤول من وزارة الاعلام على بعض مكتبات بغداد، واخترت منها كنوزا في الأدب والشعر والتاريخ، وكان مجموع ما اخترته 120 كتابا قيمّا. بعد أقل من شهرين اتصل بي مسؤول في سفارة العراق بالعاصمة السويدية استوكهولم، وقال لي بأن شحنة الكتب من بغداد لديهم، وأرسلوها بالفعل إلى أوسلو بعد أن قامت السفارة العراقية بسرقة 59 كتابا وتركوا لي 61 رغم أنني قمت بنفسي في بغداد بوضعها في الطرود الأربعة.
[/FONT][FONT=Minion Pro (Arabic)]
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 24 يونيو 2007 الساعة الثانية عشرة ظهرا
[/FONT]