مقال نقدي من العيار الثقيل !!!!!!!!!!!!

ذيب الظفير

عضو مميز

الحمدلله

اعتقد ان هناك قايئمة من الشعراء والنقاد

مبعدين من الساحة الشعرية بفعل فاعل

!!!!!!

وهذا احدهم

وهو الاستاذ

محمد مهاوش الظفيري

اترككم مع الابداع


- جولة في بعض النماذج الشعرية الشعبية -



زاد حديث الشعراء الشعبيين عن المرأة وكأنها اكتشفت حديثاً في آخر رحلة لعلماء الآثار . وأنا هنا لا انفي الدور الطاغي والمؤثر الذي تمثله المرأة في تفجير المشاعر ، والتلاعب بعقول أعتى الجبابرة .... ولكن .... هل الحديث عن المرأة دون سواها هو غاية الشعر ومطلب الشعراء ؟!
كل إنسان فارغ من الوعي والهم يجد أن الغزل والغرام هما السبيل الأوحد للكتابة ، لكن المتميزين يرون في المرأة أفقاً آخر للحديث عن معطيات الحياة الأخرى وتحدياتها الصعبة ، ولعل الشاعر الجميل عبد الله عطية الزهراني لخص بروعته المعهودة هموم أغلب الشعراء بهذه الأبيات الأنيقة :



ضيعت مستقبلي .... من شأن رعبوبةواليـوم راحـت لأبـو المستقـبـل الـزاهـر
ضيعـت ثنـيـن ... مستقـبـل ومحبـوبـةيـا كبرهـا يـا مـلا جرحيـن فــي خـاطـر
لـو كـل شاعـر لـقـى شـفـه ومطلـوبـهكـان البلـد مـا خـلـق فيـهـا ولا شـاعـر


ونظراً لتعدد المواضيع الشعرية التي طرقها الشعراء ذات العلاقة بالإنسان وهمومه ، ونظراً لتطور بعض التجارب الشعرية الحديثة ، واتساع أفق معظم الشعراء ، فإننا سنصب حديثنا عن موقف الشاعر الشعبي الحديث من القرية والمدينة المعاصرة .
إن الإحساس بالاغتراب في جو المدينة سبب لدى بعض الشعراء الشعبيين المعاصرين الشعور بعمق الصدام مع الحضارة المادية المنافية لبساطة البادية أو حياة القرية الهادئة الحالمة .
يطول حديث فرج صباح عن محبوبته منغرساً في مشاعرها عاكساً لنا ما بها من هموم أو ما يريد لها أن تقول ، لذلك يتقمص دور العاشق والمعشوق في نفس اللحظة ، حيث يعلو حديثه ويهبط في هذا السياق ، ليصل إلى درجة الشعور بالحزن .

. النفط مرادف بشع للمدينة الخليجية التي قامت على أنقاض القرية والبادية ، لهذا أعلن الشاعر استحالة الالتقاء بين " الفقارى " وهموم المساكين والبسطاء وعجلة النفط التي تدور كالطاحونة الهوائية في جو عاصف .
إن هذا الجفاء تجاه المدينة المعاصرة ، ليست حالة فردية لدى الشاعر بل حالة جمعية تكتسح شرائح عامة من الشعراء . وها هو محمد صلاح الحربي يعتز بالبداوة ، ويتباهي بأخلاقياتها رغم ما بها من تناقض وسذاجة .




غير أن الوضع عند صالح الظفيري يبدو متأزماً ومليئاً بالعقد النفسية .



هنا تبدو رغبة العيش في القرية البعيدة عن أجواء الحضارة المدنية . إذ يبدأ المشهد بالتحرك من الداخل إلى الخارج ، ومن الخاص إلى العام ، بشكل يجعل الجميع يدورون حول نقطة الغربة والضياع .
إن الحنين هنا إلى القرية ليس حنيناً ميتافيزيقيا ، يصعب الوصول إليه أو تصوره , لأنه حنين الروح إلى القرية وحنين القرية إلى الروح ، غير أن الروح والقرية كليهما يمتزجان ويتحدان في " الجهرا " .. الجهرا القرية لا الجهراء المدينة .
إن هذا الاغتراب الذي عانى منه الشاعر اغتراب في نفس البيئة " الجهراوية " بعد تحول الجهراء من قرية صغيرة حالمة إلى مدينة صاخبة وكبيرة .، ولا أظن أن الشاعر يرفض التطور والحضارة بقدر ما يرفض هذا الانشطار في الحياة وذلك التنازع بين صفاء الماضي وتعقيدات الحاضر .
نعم ... إن المتتبع لأشعار هذا الشاعر ، وخاصة التي تتعلق بالمدينة يجد أنها علاقة مشبوهة ، قائمة على عدم الثقة والإحساس بالأمان .
الأمر تعدى الخوف من الضجيج والازدحام والأضواء والمباني الشاهقة كما سيمر معنا في هذه الدراسة وذلك عند الشاعر عايض الظفيري . إذ تعدى الخوف حدود الأمكنة والزوايا وصار شبح الخوف يلاحق ابن المدينة بسبب شيوع الرشوة والمحسوبية وضياع الحقوق وحصول عدم تكافؤ الفرص ، كما يعلن طلال حمزة



هذا الإحساس ... الإحساس بالتنافس اللاشريف والصراع الطبقي على مستوى الفرد والمجتمع ، ولد لدى الشاعر المعاصر عقدة الإحباط كما هو الحال عند طلال حمزة وفرج صباح وفالح الدهمان ، أما عند صالح الظفيري ، فالأمر يختلف حيث أحس الشاعر بشيخوخة المنطقة التي تحولت من قرية صغيرة إلى مدينة كبيرة ، ضاعت منها الملامح الصافية النقية .
فالح الدهمان لم يذكر اسم المدينة التي أسهب في الحديث عنها في عدة نصوص . إما لأنه لا يريد ذكرها لاعتبارات خاصة كالخوف مثلاً أو لعدم الرغبة في التصريح ، لأنه يطمح إلى مدينة مثالية .
إن الإحساس بالوحدة والضياع والتلاشي ولد لدى هذا الشاعر الشعور بالغربة



ثم يستسلم لهذا الرفض المتغلغل في كيانه



في هذه الأبيات نزعة يسارية متطرفة وتمرد على الواقع والمجتمع والتقاليد الجبرية ، لذلك حاول الشاعر قلب موازين الحياة وترتيب الأشياء بشكل فوضوي .
إن هذا الإحساس بالنفور مما حوله غرس في نفس الشاعر الإحباط والذي جعله لا يمانع في استخدام أي مفردة تخطر عليه كالعفون والأصنام لوصف معارضيه أو خصومه ، ثم ذلك الرفض الصارخ لحياة " التمدن الزائف " وفي ختام هذه المقطوعة تبدو هذه النزعة الأممية المتطرفة الحادة التي تلغي الاهتمام بالوطن
والوطن أي أرضٍ تستر أمواتها
ولعل الشاعر خرج عن دائرة الوعي والسيطرة على النفس والأعصاب وصارت تتقاطر عليه المفردات من حيث لا يدري و لا يعلم



هنا منتهى الرفض والاحتجاج والسخرية . لقد أحس الشاعر بالحصار وسريان " الشتاء " في كل الزوايا . والشتاء غاية البرد ، والبرد من علامات الموت والنهاية .
والشتا يطرد الساحات والأودية
كن للريح وجدٍ في عتاباتها
هذا الإحساس ـ الإحساس بالنهاية ـ جعل الأشياء تتداخل أمامه : الحزن ، الخبز ، الأدوية وكأنها شيء واحد



إن المتأمل للأخوين : صالح وفالح " وللمعلومية أنهما شقيقان " ، يجد أن الأول ينظر إلى المدينة من الداخل بينما ينظر الثاني إليها من الخارج . الأول موقفه من المدينة موقف نفسي يحركه عنصران : التطلع للجمال والمثالية بينما موقف الثاني موقف مادي تداخل فيه الأشياء بالأشياء , الأول يريد العودة إلى الصفاء الروحي بينما يطمح الثاني للملذات الشخصية الصرفة . لهذا كان موقف فالح الدهمان من المدينة موقفاً مباشراً غير مبطن ، لا يحمل قضية إنسانية بقدر ما يتبنى موقفاً شخصياً .


لهذا لا يتورع في تهيش من لا يريدهم



وفي نص آخر يفكر بالخلاص والهروب لا من اجل اكتشاف ذاته أو الخلاص من هموم العالم ، بل يريد الوصول إلى رغباته الحسية .



غير أن الموقف مع عياد الشمري يختلف عن فالح الدهمان وعن بدر الحمد ، ويكاد يلتقى مع صالح الظفيري وفرج صباح في الموقف والنظرة .
غالباً ما تكون مفردات عياد قاسية متنافرة لا يربط بينها رابط إلا انجرافها وراء نسق تتابعي معين ... ألا وهو الوزن .



نلاحظ هنا استخدام الشاعر لكلمة " ذلولى " المستوحاة من حياة البدو والترحال ، لكنه يقول في بيت آخر



ففي هذا البيت نلمس فلسفة وواضحة ، تتمحور حول تميز حياة الصحراء عن أجواء المدينة ، تلك المدينة التي لا تريد العطاء ولا ترغب في أن يعيش الناس فيها حياة سعيدة ، في الوقت الذي تعتبر فيه الصحراء منبع الحرية والإنطلاق والتوحد
يلتقي بدر الحمد مع فالح الدهمان في النظرة إلى المدينة ، ففالح يبحث عن ملذاته الشخصية وبدر يبكي شبابه الضائع



حيث تتداعى مشاهد الحديث عن المرأة من خلال استحضاره صورة ( الجهرا ) وذلك من خلال هذه الدلالات " إنتي أول العمر – وكنت كل أسامينا – شفتك كبرتي – ما كنتى اللى سكنتى – ما عدت غنتي – رميتي ثوبك البالى – الترف والفنج " وكثير من المفردات التي تتحمل معانٍ أخرى كالنخيل وجدران الطين ، وما في هذه الألفاظ من إيحاءات جنسية ، وقد أكد هذا التصور عبارة " يغرينا " . والملاحظ أن فالح الدهمان كان يدندن حول هذه المشاهد الحسية , لكن ليس بالطريقة التي فعلها بدر الحمد ، فبدر الحمد اختصر الطريق وقدم لنا الجهراء كأنثى , أي أنه قدم لنا المشاهد الحسية بنفس رغبوي آدمي .



هذا الدعاء على الآخرين يتنافى مع شفافية المتحدثين عن الغربة والاغتراب ، وهي نزعة سادية موجودة في نفوس بعض المنغمسين في الغزل المادي الرغبواتي ، وكأن الخوف من فقدان المحبوبة وعدم الإستمتاع باللحظة العابرة حينما تسنح أو تمر , هو ما أفرز لديهم هذا الموقف ، وها هو مساعد الرشيدي يصب كل غضبه على الشعر من أجل من يحب



الأمر مع نايف صقر يختلف عن فرج صباح وصالح الظفيري والحميدي الثقفي – كما سنرى – ويكاد يتفق مع بدر الحمد وفالح الدهمان



فهو رغم استحضاره الصحراء وعناصرها كـ " الجمل – شداد – ذود – الحدا – الوبر – نجد العذية – " وغيرها من المفردات المتناثرة في بعض قصائده ، إلا أننا لا نلمس ملامح أجواء المدينة ، ولعله استعاض بعالم البحر عالماً آخر غير عالم المدينة " البحر – ملح – البحر – المرجان – المرساة – " ولعل هذا الحضور الواضح لمفردات البحر أغنى الشاعر عن عالم المدينة ، وفي هذا المجال تفوق فني يحسب للشاعر ، غير أننا لا نستطيع تكوين صورة واضحة للبحر إلا من خلال عالم الانغماس بملذات المرأة . أما الصحراء عند الشاعر جاءت متفقة مع مصلحة ذاتية شخصية للشاعر .



في قصيدة " صديقي البدوي " للشاعر بدر صفوق نرى أن الشاعر كان يبحث عن المثالية في صورة الرجل البدوي المقابل المجازي لصورة الإنسان النقي الكامنة في نفسية الشاعر ، فهو يحاول في هذه القصيدة القيام بانشطار اجتماعي بينه وبين الآخرين منفرداً بالتميز والأفضلية له ولصديقه ، وفي هذا الجنوح نرجسية وأنانية لم يستطع الشاعر إخفاءهما .
ويقول في قصيدة أخرى

يا المدينة
والسكون اللى !! يلفك
ولعل المبرر لهذا السكون ارتفاع المباني الشاهقة ودخان المصانع المتصاعد في طبقات الجو ، والذي ذكره بقوله
إن الشاعر اللى !! مرتقي
عرش ارتفاعك !! هالمسا
كان يتأمل
كل أطراف !! الزوايا
والمدى اللى كان أسود


بعيداً عن جو المشهد العام للنص ، أرى أن اقحام الشاعر لكثير من علامات التعجب وغيرها من العلامات في هذه القصيدة أو في غيرها ليس له ما يبرره ، وفي العودة للنص كان الشاعر يتعامل مع المدينة من خلال نفسية الغريب القادم إليها من المجهول

كان مثلي !! يالمدينة
لا شعر إنه !! غريب


وتتزاحم أمام عينيه البنايات والأرصفة والحياء المليئة بالتعب

يالمدينة
التمس من !! بعد
ترتيب التعب
داخل ضلوعك
أشعر بكل البكا
حاره !! وحاره
شارع وشارع
وبيت


لهذا يعلن الشاعر الرفض والإدانة لهذه المدينة التي سلبت من الإنسان وجوده كما هو الحال في آخر القصيدة .
وفي قصيدة أخرى يقول بدر صفوق

لأني ما عرفت
صفاء الدور
وعشة جدتي ( غيضة )
( وشبة ) جارنا منصور
لأني ما عرفت
أخشى وأنا امشي
من أطراف الصياهد
للصياهد


تبدو ملامح القرية القديمة وتقفز في مخيلة الشاعر لذلك يسترسل في ذكر المسميات وكأنه يراها رأي العين ، لهذا يتمنى الثورة على نفسه وعلى الواقع من أجل ترتيب أوضاعه التي تاهت في دوامة المدينة .
ولعل الشاعر بدر صفوق أكثر الشعراء وضوحاً في تعاطيه مع المدينة غير أنه لم يتجاوز هذه العقدة النفسية التي وقف عندها أكثر الشعراء أو كلهم – حسب علمي المحدود ، والتي سأتكلم عنها بشيء من الوضوح فيما بعد في هذه الدراسة.
يقول الحميدي الثقفي



يعلن الشاعر التحدي ، ويرفع هذا الشعار في وجه عالم المدن ، وبأنه قادم ليقتلع ما أمامه من مدن قذرة ، والتي رمز لها بـ " كهوف المعدن " والذي لا يتعدى أن يكون " رملاً غبياً " – كما يقول – ساخراً من الناس والعلاقات الاجتماعية الهشة " المرايا " التي تعكس الزيف والخداع والمظاهر وغير قادرة على تصوير المشاعر الإنسانية النبيلة لأنها تعكس الأجسام المادية الجامدة بعيداً عن عالم الروح .
إن قصائد هذا الشاعر تمتاز بالصرامة العاطفية والعنف الفكري ، فهو قاسٍ إلى درجة التمرد سواء في حديثه عن الحب أو في تكوين الآراء أو تحديد المواقف لهذا جاء الموقف من المدينة منسجماً مع هذا الخط ذي التكثيف التصاعدي المتمرد ، فهو لا يأتي بسلام ، ولا يريد أن يدخل عالم المدن بسلام " وادخل أبواب المدن ريح تدق أجراسها " ولعله يرمي إلى ضرورة الصراع ولا يحبذ المراوغة أو تقديم التنازلات ، وهنا يكاد أن يلتقي الثقفي مع الدهمان الذي تفوق عليه بالكم من حيث كثافة النصوص التي تتحدث عن المدينة بينما امتاز عليه الحميدي بالنوع والعمق فهو – أي الحميدي – أكثر قدرة على الإمساك بزمام اللغة ، واكثر قدرة على التعبير عما يريد بعيداً عن الانفعالات التي تعج بها غالبية قصائد فالح الدهمان .
أما عايض الظفيري ، هذا الشاعر الذي أفردت له بعض المطبوعات في فترة من الفترات ذراعيها واحتفت به أيما احتفاء ، غير أنه أدار ظهره لكل هذا مفضلاً الانكماش في زوايا النسيان . كان تعامل هذا الشاعر مع المدينة تعاملاً ينم عن وعي بما يقول وإدراك لما يجري حوله .
لقد نظر إلى عالم المدينة من خلال نفسية الشاعر الغريب الذي صدمته الحضارة المدنية



لقد فقد الإحساس بالوجود والأمان في عالم المدينة التي سلبت منه النقاء والعذوبة ، وغرست بين عينيه " الخطية " بما في هذه الكلمة من مفاهيم اجتماعية معقدة . إنها عقدة سيكولوجية عامة جعلته يفقد الإحساس بوجوده ووجود الآخرين من حوله منتقلاً من العام "
الناس " إلى الخاص " الجار " .



الأمر تعدى العلاقات الاجتماعية ، حيث ظل تائهاً في فراغ المدينة الروحي اللامتناهي ، فالشوارع مليئة بضجيج السيارات وصراخ الناس وصخب الحياة المعاصرة . إن روعة هذه الأبيات تكمن في قدرة شاعرها على تعامله مع المدينة بمعناها الأشمل والعام ، دون الانسياق وراء الانفعالات الطارئة مفضلاً الغوص في أعماق المشكلة من أجل الوصول إلى الإنسان المفقود في وجدان الشاعر . الشوارع ليست شوارع القرية الضيقة وكذلك البنايات ليست تلك البنايات الطينية التي بناها الإنسان بعرقه لا بعرق الآلات وضجيج المصانع ، لهذا كانت الهزة النفسية أعمق .



فعندما يحاول المدح والثناء تقفز أمامه عبارات الهجاء والسخرية من الآخرين وتفرض سياقها في التعامل " ابن ستين ... " وبإمكان أي شخص أن يتخيل الكلمة المعهودة التي تأتي دائماً في مثل هذه الأجواء ، غير أن نفسية الإنسان القروي الصادق تخرج أمامنا من عالم المجهول معلنة تصحيح مسار الأشياء في سلوك الشاعر .
وفي إطلالة عاجلة على بعض قصائد الشاعر ، ندرك أن الموقف المتأزم لم تفرضها حركة أبيات القصيدة ، بل أن الموقف المتأزم كان ممتداً مع الشاعر فهو يعلن في قصيدة أخرى أنه غير واثق من نفسه أو مما يقول في زمن أصبح فيه " التلصص " سمة العصر وعنوان الحياة المعاصر المعتمدة على القمع والرشوة .



نلاحظ مما سبق أن الإحساس بالشتات والدونية في بعض الأحيان دفع بعض الشعراء إن لم نقل معظمهم للصراع والتحدي والمباهاة بالذات البدوية أو القروية كما عند محمد صلاح الحربي وغيره من الشعراء ، وذلك من أجل التعويض النفسي عن عقدة الإحباط كما عند فالح الدهمان مثلاً . مما دفع هذا كثير من الشعراء إلى النفور من عالم المدينة والتباهي بأخلاقيات البادية ، ولذا فنحن لم نلمس أي رغبة في الاكتشاف لدى الشعراء لعالم المدن ، وعدم الرغبة في التعايش السلمي مع المدينة كواقع مفروض يجب التسليم به ، ومن ثم فهم هذا الواقع وهضمه وتجاوزه فيما بعد في تجربة شعرية متزنة .
وهنا يجدر التنبيه إلى تجربة مغايرة لكل ما سبق . ففي الوقت الذي يتباهى فيه محمد صلاح بالبادية أو يحن عياد الشمري إلى الصحراء أو يحلم بدر الحمد أو صالح الظفيري بطفولة الجهراء – الجهراء القرية – يعلن عمري الرحيّل أن البادية ليست ذلك المجتمع الميتافيزيقي المثالي الذي يصعب تكرره ، حيث تبرز الصورة عند هذا الشاعر – عمري الرحيّل – مختلفة عن الشعراء الآخرين .
بدو من ضروع المهازل رضعنا
نسبق على الغيمة ولا نحتريها
في هذا المشهد الخاطف تبدو لنا البداوة عبارة عن مهزلة متغلغلة الجذور ، وأنها استمرأت العيش في هذا الوضع المزري ، وهذا الإحساس أو الوضع ولد عندهم هذه الرغبة الشاذة والشبق اللامحدود في التعاطي مع معطيات الحياة ، فهم غير قادرين على انتظار المستقبل رغم وضوحه أمامهم " نسبق على الغيمة " وهي ذات دلالة واضحة على الخصب والعطاء فهم يجرون إليها ، إما لأنهم يريدون مسابقة الزمن ، وهذا غير صحيح لأن كل من تجرع المهازل يموت عنده الطموح ، وإما إنهم يريدون الخلاص والهرب من واقعهم الهزيل ، والقفز على حقائق الأشياء ، وهذا الاعتقاد يؤكده البيت التالي والذي صرح به الشاعر بكل وضوح .



هذا المفهوم يؤكده الشاعر في قصيدة أخرى معتبراً أن حياة البدو غربة نفسية يصعب عليها التعايش مع الواقع



أما عالم المدينة عند عمري الرحيّل فهو عالم غير واضح الملامح , إذ يأتي الحديث عنه مشوهاً مليئاً بالغموض ، خالياً من الايحاءات المتولدة ، ولا تأتي الإشارة له إلا على شكل عبارات عابرة تتطاير هنا وهناك كـ " حياة المصابيح " وذلك في قوله

شربت بك لذة حياة المصابيح

أو قوله في قصيدة أخرى

أمس ... وأنا أضمد جروحي ... بأهازيج المدينة


ولعل النظرة السوداوية التي اختزنت في مخيلة الشاعر تجاه البادية جعلته لا يكترث بعالم المدن , باعتبار أن ابن البادية انتقل من مهزلة الصحراء إلى مهزلة المدن .
وهنا أرى أن سبب كره ابن البادية لعالم المدن وتفضيله للبادية على المدينة سببه الإحساس بالدونية الاجتماعية وأنه مواطن من الدرجة الثانية ، وهذا واضح كل الوضوح في قول صالح الظفيري " غادة " تعتاض من حسنها ... بنت احضرى " وهذا ما جعل نايف صقر يتمنى الرجوع إلى الصحراء ولكن يثوب الإنسان الغنى " ذودٍ يدك البيد "
وفي ختام هذه الدراسة نلاحظ أن قصائد المدن ، أو قصائد الشعراء في هذا المجال تنقسم إلى قسمين :
النوع الأول : يمجد حياة القرية والبادية ويرى فيهما صورة الفردوس المفقود . والنوع الثاني : يخاف من المدينة ، أو قاسٍ في تعامله معها كما عند الحميدي الثقفى ، ولعل القسوة في بعض الأحيان الوجه الآخر للخوف .
إننا لا نستطيع الجزم أن علاقة الشاعر الشعبي بالمدينة علاقة نابعة عن عقدة نفسية مزمنة في الدرجة الأولى أو بسبب تدني الوضع المعيشي للكثير من الشعراء أو نتيجة لرغبة بعض الشعراء في التحليق والبحث عن مواضيع شعرية جديدة . لأن سير حياة كثير من الشعراء غير معروفة لدينا . ومع هذه الضبابة الواضحة نرى انه لا مانع من البحث بين ثنايا ما يكتب الشعراء لتأسيس نظرة واضحة المعالم رغم القصور الذي سيلحق بها ، لأن الشعر الجيد يجب أن يكرم ويوضع في المكان المناسب .

tl7.gif


التعليق :

مقال نقدي من اجمل ما قرات

لم أكن اعتقد انه يوجد ناقد عصري بكل هذا الجمال

أ محمد مهاوش الظفيري ( ما أروعك )

لا أعرف لمصلحة لمن ابتعادك عن الساحة الشعرية وعن الاضواء ؟؟؟؟

وبالتأكيد سيختفي بهذا الجمال بوجود مجلة المختلف وناصر السبيعي ومن

على شاكلتهم !!!!!!
tl7.gif


نشر بتاريخ 07-12-2008​
 
أعلى