تقاطع القطعيات

بوسند

عضو ذهبي
darwin.gif

استمتعت بحضور الندوة التي أقامها مركز التنوير عن نظرية داروين، وكذلك الحلقة النقاشية التي عُقدت يوم أمس الأربعاء 6-4-2010، في نفس الموضوع وزاد استمتاعي لجلوسي بجانب الزميل العزيز (مطقوق)، الذي لم يتوقف عن قفشاته الخفيفة طوال الجلسة.. وعندما رفعنا أيدينا للتعقيب كان الوقت قد انتهى، لذلك أضع تعليقي هنا..


كان هناك هجوم شرس على أي محاولة للتناول الديني لهذه النظرية، وذلك بحجة أن الدين أمر روحي يعتني بالعلاقة الشخصية بين الإنسان وخالقه، وأنه لا علاقة له البتة في القضايا العلمية، وذُكرت في هذا السياق العديد من المغالطات التي لا مجال لتناولها بالرد هنا..


كان واضحا من الهجوم على التناول الديني لهذه النظرية أن المتحمسين لها يُسقطون ما في الدين المسيحي من روحانيات وأمور مخالفة لقطعيات العقل على الدين الإسلامي، ويتعاملون معهما بمسطرة واحدة، وهذا بحد ذاته موقفٌ غير علمي. كما أن هناك عدمُ إدراك للأسس المعرفية للعقل الإسلامي والتي بناها القرآن الكريم، الذي قال الله فيه عنه : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأُخرُ متشابهات }

فالقرآن الكريم الذي هو في اعتقاد المسلم أنه قطعيّ الثبوت، يحتوي على آيات منها ما هو المحكم وهو الذي اتضحت دلالته بحيث تكون قطعية على المعنى المراد، فلا تقبل التأويل، وهذا القسم لا يمكن أن يخالف القطعيات العقلية أو العلمية. كما أن في القرآن المتشابه وهو الذي خَفيت دلالته، بحيث يكون محتمل الدلالة على خلاف الظاهر، ويتبع ذلك اختلاف في تعيين المراد، وهذا القسم من القرآن يمكن أن يخالف في معناه الظاهر شيء من الأدلة القطعية أو العلمية، وهنا يمكن اللجوء إلى التأويل الذي له قانون ينظمه، وقواعد ينبغي التزامها، مع مراعاة عدم اللجوء إلى التأويل إلا إذا قام دليل قطعي على ما يتناقض مع ظاهر المعنى المتبادر.


إن أصل الإيمان عند المسلم لم يُبن على الوجدانيات، والروحانيات، فهذه أمور تأتي تبعا، وإنما بُني في أساسه على قطعيات عقلية يقينية، مبنية على الاعتقاد القطعي العقلي الجازم بحدوث الكون من العدم، وبالتالي حدوث المادة التي نشأ منها الكون، ويلزم من الاعتقاد بحدوث المادة أنها مفتقرة ومحتاجة إلى محدث، وأن هذا المحدث لا يمكن أن يكون حادثا وإلا لزم التسلسل، وهو من المستحيلات العقلية، بل يلزم منه أن يكون قديما، والمادة لا يصلح وصفها بالقدم لأنها تحمل صفات الحوادث من حركة وتغير وجسم.. إلخ
(وبالإمكان الرجوع إلى كتب علم الكلام للاستزادة من مسألة القِدم والحدوث، مثل: شرح المقاصد للتفتازاني (2/7)، وكتاب بداية الحكمة للسيد محمد حسين الطباطبائي.. )


إن الاعتقاد بحدوث المادة يتقاطع مع الاعتقاد بأن المخلوقات تكونت من المادة بواسطة الحركة التي ليس لها سبب إلا نفسها، فالعقل الإسلامي يرفض أن يعتقد بأن الحياة مصدرها التولّد الذاتي، الذي يلزم من القول به “التسلسل”، أو حصول “الرجحان بدون مرجّح”؛ لأن هذين الأمرين – وحسب الأحكام العقلية القاطعة – مستحيلان، لايمكن للعقل تعقّلهما فضلا عن تصورّرهما.


كما أن الاعتقاد بأن الحياة انبثقت من المادة بطريق الصدفة عبر تجمع أجزاء المادة وحركتها الذاتية التي نشأت عنها العناصر الأصلية أمر لا يمكن للعقل الإنساني – فضلا عن الإسلامي- أن يتعامل معه بعلمية وعقلانية؛ لأن ثبوت القصد والحكمة – الذي تنطق به كل ذرة من ذرات الكون – يناقض وينقض احتمال الصدفة.


وأتساءل هنا – كما تساءل نديم الجسر من قبل – هل الأهون على العقل السليم أن يعتقد بأن كل ما في العالم من نظام وإبداع هو أثر لاجتماع المادة العمياء؟ أم الأهون عليه أن يصدق بأن ما في الكون من إحكام هو بإرادة مريد قادر وحكيم؟


فالمسلم عندما يرفض نظرية داوين باعتبارها حقيقة قطعية، فهو منسجم مع عقله ومع إيمانه الذي جاء نتيجة لمنظومة معرفية يحتل فيها العقل موقعا مركزيا، لا يسمح فيه بتقاطع القطعيات، لذلك فلاينبغي المزايدة على العقل والعلم في هذه القضية، كما ينبغي لمن يستخف بالتناول الديني الإسلامي لنظرية داروين أن يتعرّف بعمق على جذور الرفض وعلى بنائه المعرفي المتكامل.



تحياتي



بوسند​
 
أعلى