الدعوة القبلية هي دعوة جاهلية
إن الدول الحديثة تعتمد في أساسها على سيادة القانون في المجتمع. وهي تعتمد أيضاً على مبادئ المساواة بين مواطينها بغض النظر عن أعراقهم أو أديانهم أو مذاهبهم أو الوانهم. والدولة المدنية في أساسها، وإن كانت تحترم التنوع الثقافي والعرقي بين بين أبنائها، تعتمد على إنسجام من نوع ما بين أطياف مواطنيها عندما يتعلق الأمر بمصالح الدولة ونظامها السياسي والتربوي والإقتصادي. فلا نسمع مثلاً في تلك الدول أن "عرقـاً" ما قد قرر أن "يلتزم" بالتصويت وإنتخاب مرشح ما، لا لشيء، إلا لأنه ينتمي إلى هذا العرق. ولا نسمع مثلاً في أمريكا الشمالية أو دول أروبا الغربية، اللهم إلا إذا إستثنينا إيرلندا، أن مرشحاً ما قد حصل على تأييد من أبناء مذهبه أو طائفته أو دينه، لا لشيء، إلا لأنه ينتمي إلى هذا المذهب أو الطائفة أو الدين. والسبب إننا لا نسمع عن تلك الممارسات هناك هو أن هذه الممارسات مخالفة لروح الدولة المدنية ومناهضة لأي محاولة للإنسجام الإجتماعي ومعاكسة لكل مبادئ التفكير الحضاري السليم. بل هي في الحقيقة معاكسة لمصلحة المجتمع كمجموع وللفرد على وجه الخصوص.
قد يتسائل المرء عن السبب في أن دولة قد مضى على إكتشاف وتدفق النفط والأموال عليها منذ ما يفوق الآن الستين سنة وهي لا تزال تمثل، وبجدارة، دول العالم الثالث في كل شيء اللهم إلا النمط الإستهلاكي المتطرف. ووجه الغرابة هنا هو أن اليابان، كمثال، قد إبتدأت من الصفر تقريباً، ومن نفس الفترة الزمنية والتي أعقبت إنتهاء الحرب العالمية الثانية، ولتنتهي إلى أحد أهم إقتصاديات العالم على الإطلاق، بينما نحن وفي نفس المدة الزمنية لم يتغير علينا شيء إلا نوعية السكن والمأكل والمشرب ووسائل التنقل ووفرة الخدم والخادمات في المنازل لا غير.
قد يعزو البعض، وكما جرت العادة في دول العالم العربي من المحيط إلى الخليج، السبب إما إلى الحكومة أو أمريكا. لأنه جرى العرف عندنا إن أردت أن تتكلم في السياسة، فقط إلقي اللوم على حكومتك أو أمريكا في كل المشاكل والبؤس والتخلف والبدائية في المنهج والتفكير وسوف تتلقى التأييد والإستحسان والتصديق مباشرة. ولكن حقيقة الإشكالية تتعدى هذه النظرة الساذجة بكثير.
الإشكالية تتبدى في الخلط بين مفهومين متباينين تماماً، وهما مفهوم "التحضر" ومفهوم "التمدن". فبينما "التمدن" لا يعدو إستخدام أدوات المدنية الحديثة المتوفرة بسبب تقدم العلوم والتكنولوجيا وإقتصاديات السوق الحر، فإن "التحضر" هو منهج تفكير وقناعات مع ما يستتبعه ذلك من تصرفات وممارسات على المستوى الشخصي والعام. فليس كل متمدن هو متحضر بالضرورة، وأيضاً فإن العكس ليس بصحيح. فإنني إن قررت أن أجلب شخصاً ما من مجاهل الغابات من وسط أفريقيا أو الأمازون مثلاً، ثم ألبسته ما يليق بحياة المدينة ووفرت له جميع أدوات المدنية المتاحة، فإن ذلك الآتي من الغابات قد أصبح "متمدناً" بسبب هذا، ولكن نمط تفكيره وتصرفاته وقناعاته سوف تبقى معاكسة ومخالفة لأبسط معايير "التحضر". وبسبب هذا هو لا يزال يُصنف ضمن غير المتحضرين. وأيضاً، فإن المجتمعات الفقيرة والتي لا تتوفر فيها أسباب المدنية وأدواتها قد تكون "متحضرة" في تصرفاتها وقناعاتها وأنماط تفكيرها وإن غابت عنها الكثير من أدوات المدنية الحديثة. فهذين المفهومين هما متباينين تماماً من حيث المحتوى والمضمون.
إشكالية مجتمعاتنا تتبدى في أن هذين المفهومين قد إختلطا في ذهن مواطنينا. فالتحضر أصبح مساو ٍ في المعنى للتمدن ومرادف له. فبينما أصبح نمط حياتنا أكثر تمدناً وأكثر راحة بإستخدام أدوات المدنية، بقي نمط تفكيرنا وقناعاتنا وتصرفاتنا كما كانت عليه منذ ستين سنة أو تزيد. هذا الخلط والتطابق في مجتماعاتنا بين هذين المفهومين هو السبب الرئيسي في تخلفنا على أكثر من جانب وصعيد. فلا تزال أعراف "القبيلة" وأدواتها تسيطر على جوانب كثيرة من أول مستويات عدة في الهرم السياسي الكويتي ونهاية بالفرد الكويتي العادي وتصرفاته في داخل مجتمعه ومفاهيمه وقناعاته والتي يبثها في محيطه. وهذا ناتج بالضرورة عن الخلط الواضح بين الدولة المدنية والتي تحاول التسلق على سلم التحضر وبين "التمدن" والذي ينعكس فقط على المظهر الخارجي للفرد والدولة ولكن يبقى اللب معتقلاً بمفاهيم القبيلة وعصبيتها وأعرافها وأدواتها وتفاعلاتها. وبمفاهيم القبيلة أنا أقصد ذلك المفهوم العام الشامل والذي يحتوي حتى على العصبيات المذهبية والعرقية والطبقية والتي تكون فاعلة بأعراف القبيلة وأدواتها.
هذا التباين بين هذين المفهومين على مستويات عديدة هو أساس تأخرنا في سلم التحضر وهو أساس أشكاليتنا. وإن كان يجب أن نعترف بأن التوجهات الحكومية لفترة الخمس والثلاثين سنة الماضية أو أكثر قليلاً قد ساهمت بشكل ملحوظ وواضح في ترسيخ هذا التمازج بين المفهومين وتركيز أعراف "القبيلة" في شئون الدولة وإدراتها، فإننا لا يمكن أن ننكر دور الإستعداد الفردي للمواطن الكويتي في تبني هذه الأعراف والمفاهيم.
منذ أيام قليلة نشرت الصحف خبراً عن قيام قبيلة الدواسر بتزكية مرشحيها لإنتخابات الهيئة العامة للتعليم التطبيقي. جاء في خطاب أحد الحضور ما يلي: "ولعل الفكرة ليست فكرة النجاح في الانتخابات، فالفكرة هي إثبات وجود، لذا أنتم تمثلون قبيلة الدواسر والقبيلة يجب أن تجتمع وأن يكون لها مرشح، فنحن لا نجتمع الآن إلا لتأييد القبيلة ووجود القبيلة". وقال أيضاً: "يجب أن نثبت لجميع أبناء القبائل أن أبناء القبيلة إن أرادوا فعل شيء، يفعلونه وهم على قلب واحد وأنتم تمثلون الدواسر في الكويت والدعم المطلق لقائمة المستقبل الطلابي فنجاحها هو نجاح الدواسر، وترجمة هذا الإجتماع هو دعمكم المطلق والعمل على نجاح مرشح قبيلة الدواسر في التطبيقي". للمصدر، رجاءاً إضغط هنا.
فإذا غضضنا النظر عن أن هذه الإنتخابات تتم في صرح تعليمي يجب أن ينئى أصلاً عن التقسيمات العرقية والمذهبية، فإن ما ما يصدمنا في هذا الخطاب هو التأكيد على الهوية القبلية في وجه الآخر المختلف والذي يشترك معهم في المواطنة. فليس المعيار هنا في التفاضل هو البروز الأكاديمي أو التميز النقابي أو حتى المعيار الإنتخابي في نقد الآخر المنافس، ولكن المعيار هو الإنتماء القبلي في وجه ذلك الآخر الخارج عنها. وبما أن هنا المعيار هو الإنتماء العرقي فإن معايير النجاح والتميز في الإنتخابات الديموقراطية والتي تتم في دول أخرى كثيرة سبقتنا في ميدان الحضارة والعلوم سوف تكون غائبة هنا ولاشك.
إن المعايير القبلية والطائفية والعرقية والطبقية في أي إنتخابات ديموقراطية هي بلاء على هذا الوطن ومستقبله. ولا يغرنكم إدعاء من يدعي بإن ما يسمى بالإنتخابات الفرعية تتم حتى في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن هذا الإدعاء مليء بالتدليس والخديعة على أحسن الأحوال. فإن ما يتم هناك أبعد ما يكون عن إنتخابات عرقية أو طائفية أو طبقية، وشتان بينهم وبيننا.
إذا كانت الحكومة لدينا تصر على غض النظر عن الممارسات الخارجة عن القانون في الإنتخابات الفرعية أو القبلية أو الطائفية، فليكن لنا نحن الكويتيون موقف من أية إنتخابات تتم بإسمها. لأن ذلك يتعلق بمستقبلنا وبمستقبل أولادنا.
لنتذكر بأن لا شيء يدوم على حاله، ولن يبقى في المستقبل لأبنائنا إلا نتيجة أفعالنا في يومنا هذا.
فرناس