تأملات في حسن الظن بالله للشيخ ابو محمد المقدسي حفظه الله

النذير

عضو ذهبي
بسم الله الرحمن الرحيم

أوراق من دفتر سجين
(( وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا ))


آية في كتاب الله تأملتها ووقفت عندها طويلا .. وحق لي أن أقف ..

وذلك قوله تعالى في سورة الشورى : (( وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد ))

فشاهدت في مخيلتي حال الناس وجزعهم على أنفسهم وذراريهم وأنعامهم وحرثهم ، وقد جف الضرع وماتت الأرض وسط رمضاء محرقة وقيظ قاتل وجفاف شديد ..

وقد رغبوا إلى الله وضجوا بالدعاء حتى تقطعت بهم الآمال ، وأيقنوا بالبوار والهلاك ..وإذا بالغيث يفجؤهم من السماء مدرارا ناشرا آثار رحمة الله في فجاج الأرض وشعابها ؛ لتحيى الأرض والنفوس والأرواح ! بعد يأسها وموتها ..

وكم هو جميل أن تختم الآية بإسمي الله (الولي الحميد) فهو سبحانه ولي العباد وحده , الذي تكفل بهم وتولى أمرهم في كل آن .. ولذلك كان وحده المستحق للحمد في كل حال ..

وكل ولي سواه فقد ينسى أو يضل أو يفرط أو يغفل ..

أما ( الولي الحميد ) فلا يضل ربي ولا ينسى ، سبحانه لا تأخذه سنة ولا نوم .. هو الحي القيوم .. ولذلك فإن كل من تولاه فإنه سيجده – ولا ريب – نعم المولى ونعم النصير .. ينشر رحمته لأوليائه في كل آن وفي كل مكان .. حتى في أضيق الأماكن وأحرج الساعات ..

ويمر في مخيلتي موكب الصالحين وقوافلهم السالكة السابقة في عمق الزمان ..

- فأتذكر إبراهيم الخليل وقد أحاط به قومه من كل جانب يتهمونه بكسر آلهتهم ويقرّرنه بذلك ويخوفونه ، فيجيبهم بثبات المحسن الظن بوليه ، كثبات الجبال أو أشد .. (( أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أن أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطان فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ))

أي الفريقين أحق بالاطمئنان والأمن وحسن الظن بمولاه ؟ من كان وليه جبار السموات والأرض الذي بيده ملكوت كل شيء ؟ أم من كان أولياؤه شركاء متشاكسون متفرقون لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضرر ولا نفعا ؟ ويأتي الجواب واضحا حاسما : (( الذين أمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم )) أي : بالشرك .. (( أولئك لهم الأمن وهم مهتدون )) .

فالأمن والأمان والاطمئنان الذي هو من آثار حسن الظن بالله ، كل ذلك من ثمرات التوحيد .. وأتخيل قومه وقد أحتملوه بين أيديهم وقذفوه في وسط الحميم ، فلا يزيد بقلبه المطمئن الواثق بمولاه إلا أن يقول : (( حسبنا الله ونعم الوكيل )) .

- ثم أتذكر زوجه المباركة التي تركها مع صغيرها في واد غير ذي زرع وقفى دون أن يلتفت وراءه وهي تناديه .. يا إبراهيم .. يا إبراهيم .. لمن تتركنا في هذا المكان ..؟ ثم تستدرك بعد أن تعجب من إصراره ومضيه دون أن يلتفت إليها .. فتقول : آلله أمرك بهذا ؟ فيقول : نعم .

فتجيب بثقة وحسن ظن بمولاها : ( إذن لا يضيعنا ) !! فلله در الزوج ولله در زوجه ..

- وأستذكر في تلك القافلة الكريمة نوح في عمق الزمان وهو يقف وحيدا فريدا في وجه قومه يتحداهم وهو الفريد الغريب ، ولكن المتأمل لكلماته يعلم عظم ثقته بمولاه وحسن ظنه بنصره تعالى : (( واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون )) .

- ومن بعده هود يواجه أعتا جبابرة الأرض الذين وصفهم الله تبارك وتعالى بالقوة ، ويقف في وجههم يقول بثقة المطمئن إلى نصر وليه المحسن الظن به ، وبأنه لن يخذله : (( قال إني اشهد الله واشهدوا أنى بريء مما تشركون من دونه فكيدون جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ))

- وأتذكر الفتية الكرام الذين أحسنوا الظن بمولاهم فخالفوا القريب والبعيد في سبيل مرضاته ففارقوا أقرب الناس فرارا إلى وليهم سبحانه ، من الشرك والفسوق والعصيان ..

واستبدلوا لأجل مرضاته ضيق الكهف بسعة العيش الرغيد ، فما كان إلا أن وسعه الله عليهم بما نشر لهم فيه من رحمته ((فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا ))

وأتأمل قوله تعالى (( ينشر لكم ربكم من رحمته )) فأعلم أن رحمة الله واسعة إذ بعضها أو قدر معلوم عند الله منها ؛ يكفي ليجعل ذلك الكهف أو ذلك السجن أو تلكم الزنزانة جنة أو روضة من رياض الجنة ..

وأرجع بذاكرتي إلى الآية الأولى فأتذكر كيف ينشر الله رحمته على العباد في الفضاء الرحب بإنزال الغيث بعدما قنطوا .. وكيف ينشر رحمته على الفتية في كهف خشن ضيق مظلم فيغدوا كالفضاء الرحب الفسيح .. فأسبح وأعظم مولاي ..

إنها معاملة الولي الحميد لأوليائه الذين وثقوا به ثقة من أحسن الظن به ، وعدمت تهمتهم له ، وصدّق بوعده ووثق بضمانه ، وسكن قلبه عن الاضطراب فهو مطمئن إليه ..

ولذلك يقول سبحانه وتعالى كما في الحديث القدسي الذي يرويه البخاري ومسلم. . ( أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه حين يذكرني ، إن ذكرني في نفسه ، ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ هم خير منهم ، وإن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ،وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ) فتأمل ما أرحمه وما أعدله من مولى .. (أنا عند ظن عبدي بي ) ..

فمن ظن بمولاه ظن السوء أنه خاذله وأنه مسلمه فسينال بعدل الله عقوبته على ذلك حسرة وخذلانا ..

ومن أحسن ظنه بمولاه وعلم أنه نعم المولى ونعم النصير ، ونزهه وسبحه عن أن يشبهه بسائر الأولياء المتفرقين ؛ الذين يخذلون أتباعهم ويغفلون عنهم وينسونهم ويضلونهم فكل منهم بئس المولى وبئس العشير ..

من نزه مولاه عن نقائصهم وعظمه سبحانه وأحسن الظن به وتوكل عليه حق التوكل فهو كافيه وحسيبه .. (( ومن يتوكل على الله فهو حسبه )) ..

والحسيب : الكافي ، وحسبنا الله : أي كافينا وحده سبحانه .

وبقدر ما يكون العبد حسن الظن بالله حسن الرجاء له ، صادق التوكل عليه فإن الله لا يخيب أمله البتة ، فإنه سبحانه لا يخيب أمل آمل ولا يضيع عمل عامل ..

ولذلك قالت أمنا خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما رجع من حراء يرجف فؤاده بعد أول لقاء له بالملك ..

قالت : ( كلا والله ، لا يخزيك الله أبدا ؛ إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين عن نوائب الحق ) .

فأقسمت رضي الله عنها أن الله لا يخزيه أبدا إحسانا منها بالظن بالله عز وجل في عادته سبحانه وتعالى مع عباده المحسنين .

وقد قرر الله تبارك وتعالى في كتابه (( إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون )) .

فحق لمن كان من المؤمنين أن يربأ بنفسه عن سبيل الكافرين ، فيحسن ظنه بالله في شؤون دنياه وأخراه .. وإذا كانت الآيه الأولى ظاهرها في أمور الدنيا ..

فقد قال تعالى في أمور الآخرة : (( قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم )) .

فهذه كما نص العلماء أرجى آية في كتاب الله سبحانه ، لاشتمالها على أعظم بشارة فإنه سبحانه أضاف أولا العباد فيها إلى نفسه لقصد تشريفهم ومزيد تبشيرهم ، فهو وليهم الحميد الذي لا يخذلهم إن أحسنوا الظن به ولاذوا بجنابه ، وأناخوا مطاياهم ببابه ، ثم عقب ذلك بنهيهم عن القنوط من الرحمة .. ثم بين لهم سبحانه بأوضح عبارة بأنه يغفر الذنوب جميعا لمن أناب إليه ..

فيا لها من بشارة تقر بها عيون الموحدين ، وترتاح لها قلوب المؤمنين المحسنين ظنهم بربهم ووليهم ، الصادقين في رجائه ، الخالعين لثياب القنوط ولسوء الظن بمن لا يتعاظمه ذنب ولا يبخل بمغفرته ورحمته على عباده ، المتوجهين الملتجئين المنيبين إليه ..

ولذلك قال تعالى بعد هذه الآية مباشرة : (( وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم .. ))

فإذا كان إحسان الظن بالله عند الإقبال عليه بين يدي الموت ، هو الاطمئنان إلى وعده للمؤمنين ، والوثوق بمولاه أنه غير خاذله ولا مضيع عمله وإحسانه في سالف الأيام .. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يموتن أحدكم إلا وهو حسن الظن بالله تعالى ) رواه مسلم وأبو داود .

فإحسان الظن بالله تعالى في حياة المرء كما نبهت الآيات في أعلاه ، تقتضي الإنابة واللجوء إليه والفرار بالأعمال الصالحة إلى مرضاته .. ومفارقة سبيل وطريق الذين أساؤوا ظنهم بربهم فعصوه ..

وهذا هو الفرق بين ( التمني على الله )الذي هو سبيل من عصوه سبحانه وتعالى ..

وبين ( إحسان الظن بالله ) الذي هو سبيل المؤمنين .

- فالتمني يكون مع العجز والكسل واتباع النفس للهوى ، وعدم سلوكها طريق الجد والاجتهاد والتوبة والإنابة والعمل ، ثم يتمنى على الله الأماني .

وأما حسن الظن المحمود والرجاء الشرعي ، يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل على الله .

فالأول كحال من يتمنى إن تكون له أرض يبذرها ويحصدها دون ان يحرك ساكنا أو أن يكلف نفسه عملا .. أو كمن يتمنى إن يكون له أولاد دون أن ينكح ؛ والثاني يشق أرضه ويفلحها ويبذر حرثه ثم يرجوا طلوع الزرع طيبا يافعا .. ولهذا أجمع العارفون على أن الرجاء وحسن الظن لا يصح إلا مع العمل .. وقد تقدمت كلمات أم المؤمنين رضي الله عنها الدالة باستقرائها وتجربتها أن الله لا يخزي من عمل صالحا أبدا .

فلكي يكون حسن الظن بالله حاديا يحدي القلوب إلى بلاد المحبوب ، ويطيب للسالك السير ويسهله لبلوغ الدار الآخرة ، فلا بد من اقترانه بالعمل ، وقد أكثر الصالحون من ذكر حسن الظن بالله ، وجميع مقالاتهم ترمي إلى هذا الشرط ، فروى ابن أبي الدنيا في كتاب " حسن الظن بالله تعالى " بإسناده عن علي بن بكار أنه سأل عن حسن الظن بالله تعالى فقال : ( أن لا يجمعك والفجار في دار واحدة ) يقصد النار دار البوار ..

ولازم ذلك وشرطه ان لا يجمعك بهم في دار الدنيا عمل سوء أو نهج ضلال ، أو دار فسق وفجور ، فمن فاصل أعداء الله في الدنيا وقاطعهم وعاداهم ونأى بنفسه ونهجه عنهم ، فإنه لقمن أن يحسن الظن بأن مولاه منجيه من مصيرهم وعذابهم ، مفرق بينه وبينهم في الدار الآخرة كما فارقهم في دار الدنيا ..

وإلا فقد قال تعالى متوعدا من خالف ذلك وكان قعيدهم وجليسهم وشريكهم في باطلهم بقوله تعالى : (( إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا )).

وعن سليمان بن الحكم بن عوانة أن رجلا دعا بعرفات فقال : ( لا تعذبنا بالنار بعد أن أسكنت توحيدك قلوبنا .. ثم بكى ، وقال : وما إخالك تفعل بعفوك ، ثم بكى وقال : وإن فعلت فبذنوبنا .. لا تجمعن بيننا وبين قوم ظالمين عاديناهم فيك ) أهـ 264 من التخويف من النار لابن رجب .

فمن عادى أهل الباطل في الدنيا وباين طرائقهم ونهجهم ، فإنه لقمن أن يلقى الله وهو يحسن الظن به .

وفي الكتاب نفسه ص 264 : ( عن حكيم بن جابر قال قال إبراهيم عليه السلام : ( اللهم لا تشرك بين من كان يشرك بك ومن كان لا يشرك بك ) أي ؛ بالمصير والعذاب ..

وفيه أيضا ص 265 : عن أبي نعيم بإسناده عن عون بن عبد الله قال : ( ما كان الله لينقذنا من شر ثم يعيدنا فيه (( وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها )) ، وما كان الله ليجمع بين أهل القسمين في النار : (( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت)) . ونحن نقسم جهد أيماننا ليبعثن الله من يموت ) أهـ .

فإلى بيعة مع مولاك مضمونة لا تخاف فيها غررا ولا بخسا ولا خذلانا. إن أحسنت وصدقت وأنبت واتبعت سبيل المؤمنين وأعرضت عن سبل المجرمين ..

(( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ))

وكتب / أبو محمد _ سجن السلط

في مساء اليوم الذي نجى الله فيه موسى من عدوه
من سنة 1419 من هجرة المصطفى عليه السلام .

اللهم فإنا نحسن الظن بك أنك منجينا كما نجيت نبيك
اللهم فنجنا برحمتك من كرب الدنيا والآخرة … آمين .
 
أعلى