الديمقراطية والمسعودي

سالم أحمد80

عضو فعال
في واقع حياتنا اليوم صور صارخة على أن دعوتنا للديمقراطية هباء منبث، وأن تداعينا للحرية ضرب من ضروب الكتابة على وجه الماء؛ لكننا لا نريد أن نستمع لهذه الصور، ونفهم عنها ما تبغي إيصاله لنا؛ فنحن مشغولون ببناء النظريات عن قياسها من خلال الواقع الذي يعيشه كل منا، ونظرياتنا الجليلة لا تغني عنا فتيلا ما دامت تسير في درب، وواقعنا في درب آخر، فهذه النظريات لم تنشأ إلا لتحدو وقائع الحياة، فتقترب منها أو تكاد؛ إذ ثمة تناوش دائم بين الفكرة والسلوك.

المسعودي رحمه الله رمز من رموز الانفتاح الإسلامي القديم، فتراه يسوق لقارئه كثيرا من المذاهب والنحل القديمة، ويكتفي بإيرادها، ولا يدخل وهو المسلم العارف بدينه والواعي بنصوصه في نقدها وشتم عقول أصحابها، والزراية بها على أسلافهم وآبائهم

كثيرون لا يفرقون بين الحديث عن المبادئ، والحديث عن تطبيقها، فيظنون أن الفاصل بين المبادئ وتطبيقها هو الحديث عنها فقط، فتراهم حال تنطق أنت بمبدإ ما يسارعون إليك بالحديث عن انتهاكاتك له، وخروجك عليه، وهم لو كان حاضرا في أذهانهم أن المبادئ إطار يحتكم إليه الناس في تقييم تصرفاتهم، ويرجعون إليه في قياس قربهم وبعدهم عنه، ما صنعوا ذلك، ولكان في تعقبهم لأفعالهم مشغلة لهم عن مطاردة الناس بما يقررونه من مبادئ، ويسعون إليه من رؤى؛ لكنهم ظنوا أن حديث غيرهم عن المبادئ يعني قيامهم بها كاملة غير منقوصة، ونسوا أن يُقلّبوا في أحاديثهم النظر، ويحدثونا عن تقارب النظرية عندهم مع الفعل، ولم تكن مشكلة التنظير في ثقافتنا (يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون. كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما تفعلون) مردها إلى كثرة الحديث، وتعاظم دوره، وغياب الفعل فقط، بل كانت المشكلة الدهياء التي أميل إلى أنها من أوائل المعاني المرادة بالآية الكريمة، هي أنّ الإنسان يُمارس الكلام بكثرة، ولا ينظر إلى فعله من خلال تنظيره؛ لكنه حين محاسبة الناس، ومعاملته لهم، يُطالبهم بالتطابق بين أقوالهم وأفعالهم، فينتظر منهم السير عليها على حين لا يُفكر في نفسه، ويقرن فعله بقوله.

يغيب عن هذا الفريق أن كثرة الحديث عن الشيء، ومداومة الناس عليه، وفشو الكلام في المجتمع عنه، هو برهان على غيابه فيهم، وندرته فيهم، وبعدهم عنه، وعجزهم عن نيل ما يرومونه منه؛ فمن القواعد الصالحة في تبيان صعوبة الشيء، وعسورة حصوله، كثرة الحديث عنه، ومداومة ذكره، سواء كان هذا الحديث صادرا من فرد أو حائما في مجتمع، فكلما رأيت الحديث عن أمر يكثر فاعلم أن كثرته على مقدار بعد الناس عنه، وشعورهم بصعوبة قربه، وتعدد العقبات في سبيله، وهذه هي حالنا نحن المسلمين اليوم مع الديمقراطية والحرية، فلا ماضينا يشهد بقربنا منهما، ولا حاضرنا يساعدنا على الوعي بهما، والتفريق بين حديثنا عنهما وقيامنا بأعبائهما، وما هذا من قبيل تقنيط العرب والمسلمين؛ لكنه من باب معرفة الداء قبل البحث عن الدواء.

هذا من حيث النظر في الخطاب السائد في ثقافتنا، ودلالته على أن الحديث عن الديمقراطية والحرية فيها كسراب بقيعة، يحسب فيه الظامئ ريّا. وأما إذا جئت اليوم إلى بلاد الإسلام وجُستَ فيها، وتأملت ما يحدث في العراق وسوريا ومصر وتونس وليبيا، ففي هذه الدول العربية العزيزة تتصارع أطياف المجتمع وتتقاتل، والداعي لهذا الصراع، والباعث على هذا التقاتل، هو تخوّف كل فريق من أن يكون وصول أي منها إلى سُدة الحكم سبيلا لفرض هيمنته على مفاصل الدولة، واستحواذه على دَفّة الأمور فيها؛ فالجميع ينظر للجميع من خلال أن القول غير الفعل، وأنّ الكلام لن تُصدقه الفِعال، فثمة شك يملأ النفوس، ويبعث اليأس في الرؤوس؛ لكننا مع ذلك ما زلنا نتحدث جميعا عن إمكان قيام الديمقراطية في بلادنا، وزراعة الحرية في عقولنا؛ لكن أحدا منا لا يسأل نفسه هذا السؤال: كيف تقوم الديمقراطية بين شعوب يشك بعضها في بعض، ويتخوّف فريق منها من فريق؟

ما يجري في العراق وسوريا ومصر وتونس وليبيا من فوضى واقتتال وتنابز بالألقاب صورة ناطقة أن هؤلاء جميعا يخافون من أن يحكمهم الآخرون، فالآخرون عندهم هم أعداء الديمقراطية والحرية؛ ولولا هذا الشعور القوي المتبادل بالمصير إلى الاستبداد من أي طرف جُمعت أزمة الدولة في يده ما كان لهذا الصراع والاقتتال من معنى! وما كان للاستقواء بالخارج مهما كان من سبب؛ لكنني حين أرى هذا أقول: كيف يستقيم حال الديمقراطية، وتنتعش مبادؤها، في مجتمعات تملأ الريبة من الآخرين قلوبها، ويحتلّ التوجس من الإخوة ذروة اهتماماتها؟.

إذن هؤلاء المتقاتلون والمتصارعون باللسان حينا وبالسنان حينا آخر ما كانوا ليضطروا لهذا الدرب لو كانوا يستشعرون بحق أن الدولة، التي سيتولى بناءها فريق منهم، دولة ديمقراطية حرة ومدنية! هؤلاء جميعا يشعرون بالارتياب من بعضهم، ويتخوفون من أن يلقوا في حكمهم أثرة! وأوضح معنى لهذا أن الديمقراطية عندهم ما زالت فكرة ترويجية لا فعلا مؤسساتيا، وهدفا إستراتيجيا.

لدينا طائفتان، كلتاهما تشك في دعاوى الأخرى حول الديمقراطية والحرية والمساواة، وهذا في ظني كاف في الدلالة على أن بين عالم الكلام وعالم الفعل هوة عظيمة، يعسر ردمها بسهولة، وتصعب الغفلة عنها، إلا حين نتخذ عالم الكلام ميزانا لفعل الناس لا فعلنا، فحينئذ يكون هذان العالمان كوجهي العملة، فهل نقنع بهذا الوصف، ونكتفي من ثقافة التكاذب، وندرك أن الحديث عن الديمقراطية والحرية في بلادنا يصدق عليه بقوة (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) فنسعى للتعرف على ما جعلنا نمارس الكذب في حق هذين المبدأين سرا وجهارا!

ويجتمع مع ما تقدم كون السقف الثقافي اليوم مذهبيا! ومثل هذا السقف لا يساعد على تكوين قادة مجتمعات وولادة حداة أمم، وذاك هدف من أهداف تقرير الحرية واستزراع الديمقراطية، بينما السقف المذهبي ينتج أفرادا على شاكلته (كل يعمل على شاكلته) وما لم تفدنا تصرفات فريق من دعاة هذا الزمن ووعاظه في زرع الشقاق بين أفراد المجتمع الواحد، وتدخلهم السافر أحيانا كثيرة في مجتمعات أخرى، في إدراك هذه القضية فلست أدري متى سينتبه كثير منا لها! ولست أدري كيف ستقبل جماهير تُغذى بمثل هذا الخطاب بالمخالف لها في الدين والمذهب، وتتعايش معه على المشركات الحياتية بعد أن استحال الاتفاق في الدين والمذهب: (ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك).

وإذا كانت هذه هي حالنا اليوم مع الديمقراطية، ففي التأريخ القديم شواهد كثيرة، ونماذج غير قليلة، تستحق أن تُدرس، ويُجال فيها النظر، ومن هذه وتلك المسعودي وتأريخه، فالمسعودي هو حفيد عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما ، وهو المؤرخ الكبير، والرحالة النهم الذي جاب العالم القديم، وقدّم وصفا رائعا لكثير مما كان فيه، وكان ذلكم الوصف حقيقا أن يُدرس اليوم، وتعاد قراءته؛ ففيه كثير من المثيرات والعجائب التي تجعل أمثال هذا العلم رمزا إسلاميا جديرا أن تدرس مؤلفاته، ويُبحث عن تراثه الذي اختطفت يد النسيان كثيرا منه.

المسعودي رحمه الله رمز من رموز الانفتاح الإسلامي القديم، فتراه يسوق لقارئه كثيرا من المذاهب والنحل القديمة، ويكتفي بإيرادها، ولا يدخل وهو المسلم العارف بدينه والواعي بنصوصه في نقدها وشتم عقول أصحابها، والزراية بها على أسلافهم وآبائهم. وهو يُمثل الموقف الإسلامي الذي أميل إليه، ويميل صوبه كثير من المفكرين والمثقفين في أمر الفلسفة (الحكمة)، فتراه يستشهد كثيرا بأقوال الفلاسفة، وهو غالبا يسميهم الحكماء، ومن شواهد ذلك قوله:" وقد تُنوزع في شكل البحار، فذهب الأكثر من الفلاسفة المتقدمين من الهند وحكماء اليونان إلا من خالفهم وذهب إلى قول الشرعيين أنّ البحر مستدير على مواضع الأرض. واستدلوا على صحة ذلك بدلائل كثيرة، منها أنك إذا لججت فيه غابت عنك الأرض والجبال شيئا بعد شيء، حتى يغيب ذلك كله، ولا ترى شيئا من شوامخ الجبال، وإذا أقبلت أيضا نحو الساحل ظهرت تلك الجبال شيئا بعد شيء، وإذا قربت من الساحل ظهرت الأشجار والأرض".

حين أقرأ في كتب المسعودي التي نفذت إلينا بعد وفاته بألف ومائة عام تقريبا أراه جديرا أن يكون مثالا من الأمثلة الإسلامية القديمة على ثقافة الانفتاح على أمم الأرض، وأراه حقيقا أن يكون جزءا من مشروع خادم الحرمين الشريفين في تربية النشء على الحوار وتزكية ثقافة الانفتاح على الآخرين، والتعايش معهم؛ فهو نموذج من النماذج التراثية الكثيرة التي تشهد على أن في عصورنا الماضية رجالا كانوا يطّلعون على كل شيء، ويُدوّنونه للناس بعدهم، لا يمنعهم من ذلك خشية على أديان الناس، ولا خوف على أخلاقهم.

ومن أطرف نصوص المسعودي، وأجدرها بمعرفة القارئ، نص يحكي فيه تعايش مسلمين في دولة يهود، وقيامهم بالدفاع عن هذه الدولة، فهم جيشها الذائد عن حماها، والمحارب في سبيل نصرتها، ولعل القارئ يستعجل هذا النص الذي يقول فيه المؤرخ الفذ: فأما اليهود فالملك وحاشيته الخزر من جنسه.. والغالب في هذا البلد المسلمون؛ لأنهم جند الملك.. وهم ذوو بأس وشدة، وعليهم يُعوّل ملك الخزر في حروبه، وأقاموا في بلده على شروط بينهم:

أحدها: إظهار الدين والمساجد والأذان. وثانيها: أن تكون وزارة الملك فيهم.. وثالثها: أنه متى كان لملك الخزر حرب مع المسلمين وقفوا في عسكره منفردين عن غيرهم، لا يحاربون أهل ملتهم، ويحاربون معه سائر الناس".

سنختلف كثيرا في قراءة هذا النص المثير، ونعجب منه؛ لكننا لن نختلف أبدا حول أنّ حسن الظن، وهو مبدأ ديني وشرط ديمقراطي، يقف وراء التعايش بين جماهير أمتين لم يُعرف عنهما سوى الخلاف والعداء.

وسيطول اختلافنا حول هذا النص، ويرتاب كثير منا من إخوانه المسلمين في ذلكم الزمن البعيد؛ لكننا ربما لن نختلف على أن المكانة التي حظي بها المسلمون في هذه الدولة اليهودية لم يكن لهم أن ينالوها لولا ما كانوا يقدّمونه لأهلها من منفعة، ويَسدونه من حاجة، وهكذا هي الديمقراطية؛ فهي تؤمن فقط بالإنسان ذي الإضافة، والمقدم للخدمة، والساد ثغرة، ولا تعبأ أبدا بكثرة الكلام، وتزويقه، خاصة إذا ما كان الإنسان يُحاسب غيره على الكلام وكثرته، ويذر نفسه، فنظرياته مفصولة عن فعله، ونظريات غيره يُنتظر أن تُطابقها أفعاله.

المصدر:
التعليق: ان التاريخ العربي الاسلامي غني بالعلماء والمفكرين اللذين قدموا للعالم اجمع اروع و أذكى الافكار والنظريات العلمية والفلسفية في كل المجالات و المسعودي رحمه الله يعتبر رمزا من رموز العلم والفقه الاسلامي
 
أعلى