في ضيافة المعتمد..

البريكي2020

عضو فعال
في ضيافة المعتمد..


بقلم: أحمد مبارك البريكي
Twitter: @ahmad_alburaiki
Instagram: @ahmad_alburaiki



من تخفى عليه قصة المعتمد وحكايا زوجته الرميكيَّة.. عندما مرّ الملكُ يوماً في ذرا الجدول الأشبيليّ عند مرج الفضة، فرأى ذاك الوميض القُدسيّ في وجه لا يُعاب، جارية تغسلُ الملابس في النهر.
أنشد بياناً لحظتها.."صنع الريح من الماء زرد".. فردّت عليه سِحراً.. "أيُّ درعٍ لقتال لو جمد".. تعجّب المعتمد بن عباد من سرعة بديهة الحسناء وجمالها الأخّاذ، وفتنتها التي لا يقاومها قلب، فتلّها إلى عشّ البلاط وبهاء القصور ومنارات العُلو، فصارت زوجة أولى وأمّا لورّاث العرش، أحبها كثيراً وأغدق عليها كل غالٍ ليرضي رغباتها التي لا تقف عند حد.. والتاريخ لا ينسى "يوم الطين" الذي تناسته صاحبة البلاط!، عندما اشتاقت جارية الأمس وعظيمة اليوم المشي حافية على التراب، فأمر المعتمد المتيّم بعشقها بأن يُطحن لها الطيب والكافور والمسك ويُفرش في كل باحات القصر الأشبيليّ وحديقته الفارهة، ويُخلط بماء الورد، ليُعجن بعدها كل ذلك العبير مكوناً شيئاً يشبه الطين، لتمشي عليه اعتماد مع بناتها.. حتى أخذتهن نشوة الترف وطغوة الرفاه، فرُحن يتمرغن في كل ذلك الخليط المُعطر.. والمعتمد ينظر من سموٍّ لصُنعه البهيج.. أخذت الأيام دورتها فسقط المُلك على يد جنود ابن تاشفين، فاقتيد وزوجته أسرى إلى المغرب، واستقروا في ذلك السجن الوضيع في قرية أغمات بالصحراء المغربية، ومما يُروى عن المعتمد في أيام سجنه حادثة "العيد" التي تُدمي الصدور المتعقلة.. حينما حضرت زوجته وبناته اللاتي امتهنّ حرفة غزل الصوف في البيوت.. لتهنئته في سجنه يوم عيد الفطر، وهنّ في ثياب رثّة وبلا أحذية، ومظهرهن ينمّ عن مدى حال يرثى لها بعد العز والترف، فأنشد مكسوراً يقول:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا وكان عيدك باللذات معمورا
وكنت تحسب أن العيد مسعدة فساءك العيد في (أغمات) مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة في لبسهنّ رأيت الفقر مسطورا
معاشهنّ بُعيد العزّ ممتهن يغزلن للناس لا يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعة عيونهنّ فعاد القلب موتورا
قد أُغمضت بعد أن كانت مفتّرةً أبصارهنّ حسيراتٍ مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدام حافية تشكو فراق حذاءٍ كان موفورا
قد لوّثت بيد الأقذاء واتسخت كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا
لا خدّ إلا ويشكو الجَدب ظاهره وقبل كان بماء الورد مغمورا
لكنه بسيول الحزن مُخترقٌ وليس إلا مع الأنفاس ممطورا
أفطرت في العيد لا عادت إساءتُه ولست يا عيدُ مني اليوم معذورا
وكنت تحسب أن الفطر مُبتهجٌ فعاد فطرك للأكباد تفطيرا
قد كان دهرك إن تأمره ممتثلاً لما أمرت وكان الفعل مبرورا
من بات بعدك في ملكٍ يسرّ به أو بات يهنأ باللّذات مسرورا
ولم تعظه عوادي الدهر إذ وقعت فإنما بات في الأحلام مغرورا
ذاق الاثنان عقب ذلك ظلف العيش وقد شرِبا قبلها كأس الحياة، وختم الموت الفصل الأخير من حكاية هذين العاشقين، فدُفنا في ضريحين متجاورين في تلك القرية التي تسمّى (أغمات)، التي زرتها هذا النهار، فوجدتُ قبري ذلك الغريبين وأنا أجول كرائح غاد، أنظر هذا الثرى الذي ظفر بأشلاء الرميكية وابن عباد.
 
أعلى