التمهيد لشرح كتاب التوحيد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته إخواني أهل السنة والجماعة .

لا تخفى مكانة الكتاب العظيم ( كتاب التوحيد ) لشيخ الإسلام والمسلمين الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ، وأنا في هذا الموضوع سأنتقي لكم شرحاً من أفضل شروحه ، وهو ( التمهيد لشرح كتاب التوحيد ) للشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله .
 
التمهيد لشرح كتاب التوحيد

لفضيلة الشيخ العلامة

صالح بن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب

رحمهم الله أجمعين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي بعث عباده المرسلين بتوحيده ، وأقام بهم الحجة على عبيده ، فاتفقوا أولهم وآخرهم على توحيده وتفريده ، ونبذ الشرك وتنديده ، وأنه الإله الحق المستحق للعبادة دون من سواه ، وعبادة غيره - كائنا من كان - باطلة ؛ فإنه ما عُبد غير الله إلا بالبغي ، والظلم ، والعدوان .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، تأكيدا بعد تأكيد ؛ لبيان مقام التوحيد ، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله ، صلى عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، أما بعد : -

فهذا الكتاب - كتاب التوحيد - من مؤلفات الإمام المصلح المجدد شيخ الإسلام والمسلمين ، محمد بن عبد الوهاب ، وهو- رحمه الله- غني عن التعريف ؛ لما جعل الله - جل وعلا - لدعوته من أثر ظاهر النفع في جميع أنحاء الأرض : شرقا وغربا ، جنوبا وشمالا ، ولا غرو في ذلك فإن دعوته- رحمه الله- إحياء لدعوة محمد بن عبد الله - عليه أفضل الصلاة والسلام- .
وكتاب التوحيد- الذي نحن بصدد شرحه - كتاب عظيم جدا ، أجمع علماء التوحيد ، على أنه لم يصنف في الإسلام في موضوعه مثله ، فهو كتاب وحيد وفريد في بابه ، لم ينسج على منواله مثله ؛ لأن المؤلف - رحمه الله - طرق في هذا الكتاب مسائل توحيد العبادة ، وما يضاد ذلك التوحيد ، من أصله ، أو يضاد كماله ، فامتاز الكتاب بسياق أبواب توحيد العبادة مفصلة ، مُدَلَّلَةً ، وعلى هذا النحو ، بتفصيل ، وترتيب ، وتبويب لمسائل التوحيد ، لم يوجد من سبق الشيخ إلى ذلك ، فحاجة طلاب العلم إليه ، وإلى معرفة معانيه ماسة ؛ لما اشتمل عليه من الآيات ، والأحاديث ، والفوائد .

وقد شبه بعض العلماء هذا الكتاب بأنه قطعة من صحيح البخاري - رحمه الله - وهذا ظاهر ، ذلك أن الشيخ - رحمه الله - نَسَج كتابه هذا نَسْج الإمام البخاري صحيحه من جهة أن التراجم التي يعقدها ، تحتوي على آية وحديث - غالبا - والحديث والآية على الترجمة ، وما بعدها مفسِّرٌ لها ، وكذلك ما يسوقه - رحمه الله - من كلام أهل العلم من الصحابة ، أو التابعين ، أو أئمة الإسلام ، هو نسق طريقة الإمام أبي عبد الله البخاري -رحمه الله - فإنه يسوق أقوال أهل العلم في بيان المعاني .
وهذا الكتاب صنفه إمام الدعوة ابتداء في البصرة لمَّا رحل إليها ، وكان الداعي إلى تأليف ما رأى من شيوع الشرك بالله - جل جلاله - ومن ضياع مفهوم التوحيد الحق عند بعض المسلمين ، وما رآه عندهم من مظاهر الشرك : الأكبر ، والأصغر ، والخفي ، فابتدأ في البصرة جمع هذا الكتاب ، وتحرير الدلائل لمسائله ، ذكر ذلك تلميذه ، وحفيده الشيخ الإمام عبد الرحمن بن حسن - رحمه الله- في "المقامات" ، ثم إن الشيخ لمَّا قدم نجدا حرر الكتاب ، وأكمله ، فصار كتابه هذا - بحق- كتاب دعوة إلى التوحيد الحق ؛ لأن الشيخ - رحمه الله- بين فيه أصول دلائل التوحيد ، وبين فيه معناه وفصله ، كما بين فيه ما يضاده ، والخوف مما يضاده ، وبين - أيضا- أفراد توحيد العبادة ، وأفراد توحيد الأسماء والصفات إجمالا ، واعتنى ببيان الأكبر والأصغر وصورهما ، والذرائع المؤدية إليهما ، وبيَّن ما يُحْمى به التوحيد ، والوسائل إلى ذلك ، وبين أيضا شيئا من أفراد توحيد الربوبية . فـ "كتاب التوحيد" كتاب عظيم النفع جدا ، جدير بأن يعنى به عناية حفظ ، ودرس ، وتأمل ؛ فالعبد محتاج إليه للعمل به ، ولتبليغ ما فيه من العلم لمن وراءه من الناس ، سواءً أكانوا في المسجد
، أم في البيت ، أم في مقر عمله ، أم في أي جهة أخرى . والمقصود : أن مَن فهم هذا الكتاب فقد فهم أكثر مسائل توحيد العبادة ، بل يكون قد فهم جل مسائله وأغلبها .

وقد كنت نظرت في الكيفية التي ينبغي أن يشرح بها هذا الكتاب ، وطريقة ذلك ؛ لأن الكتاب - كما يُعلم - طويل لا يمكن استيعاب شرحه شرحا متوسطا أو مبسوطا في نحو ثمانية عشر مجلسا ، فتأملت منهج العلماء الذين شرحوه ، فوجدت شروحهم : ما بين بسيط ، ووجيز ، ووسيط ، فرأيت أن يقتصر الشرح على ذكر الفوائد التي يكثر التباسها على طلبة العلم ، مع بيان مناسبة الآي والأحاديث للترجمة ، وإبراز وجه الاستدلال من الآية أو من الحديث على المقصود ، وذكر شيء من تقرير الحجاج مع الخصوم في هذه المسائل ، ربما لا يطالعه كثير من طلبة العلم في الشروح . وهذه الطريقة التي سنسلكها : طريقة مختصرة ، سوف نأتي بها- إن شاء الله-على الكتاب كله ، مع عدم الإخلال بإفهامه ، وعدم الإقلال من معانيه ، ونسأل الله تعالى المدد ، والإعانة ، والتوفيق .
 
باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب

وقول الله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } الآية [الأنعام : 82] عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح ومنه ، والجنة حق ، والنار حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل » أخرجاه البخاري ( 3435 ) ومسلم ( 28 ) .

ولهما في حديث عتبان : « فإن الله حرَّم على النار من قال : لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله » أخرجه البخاري ( 425 ) و ( 667 ) و ( 6423 ) و ( 6938 ) ومسلم ( 33 ) .


وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « قال موسى : يا رب ، علمني شيئا أذكرك وأدعوك به ، قال : قل - يا موسى - : لا إله إلا الله ، قال : يا رب ، كل عبادك يقولون هذا؟ قال : يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري ، والأرضين السبع في كفة ، ولا إله إلا الله في كفة ، مالت بهن لا إله إلا الله » رواه ابن حبان والحاكم وصححه ، أخرجه ابن حبان ( 2324 - موارد ) والحاكم 1 / 528 وصححه ووافقه الذهبي .

وللترمذي - وحسنه - عن أنس : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « قال الله تعالى : يا ابن آدم ، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة » ، أخرجه أحمد 5 / 154 و172 والترمذي ( 3534 ) وقال : حديث حسن غريب . وله شاهد من حديث أبي ذر عند مسلم ( 2687 ) .


فيه مسائل :

الأولى : سعة فضل الله .

الثانية : كثرة ثواب التوحيد عند الله .

الثالثة : تكفيره مع ذلك للذنوب .

الرابعة : تفسير الآية ( 82 ) التي في سورة الأنعام .

الخامسة : تأمل الخمس اللواتي في حديث عُبادة .

السادسة : أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان وما بعده ؛ تبين لك معنى قول : « لا إله إلا الله » وتبين لكم خطأ المغرورين .

السابعة : التنبيه للشرط الذي في حديث عتبان .

الثامنة : كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله .

التاسعة : التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات ، مع أن كثيرا ممن يقولها يخف ميزانه .

العاشرة : النص على أن الأرضين سبع كالسماوات .

الحادية عشرة : أن لهن عمارًا .

الثانية عشرة : إثبات الصفات خلافًا للأشعرية .

الثالثة عشرة : أنك إذا عرفت حديث أنس : عرفت أن قوله في حديث عتبان : « فإن الله حرم على النار من قال : لا إله إلا الله ؛ يبتغي بذلك وجه الله » أن ترك الشرك ليس قولها باللسان .

الرابعة عشرة : تأمُّلُ الجمع بين كون عيسى ومحمد عَبْدَيِ الله ورسولَيْه .


الخامسة عشرة : معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله .

السادسة عشرة : معرفة كونه روحا منه .

السابعة عشرة : معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار .

الثامنة عشرة : معرفة قوله : « على ما كان من العمل » .

التاسعة عشرة : معرفة أن الميزان له كفتان .

العشرون : معرفة ذكر الوجه .

شرح الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله

هذا الباب " باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب وما يكفر من الذنوب " يشمل التوحيد بأنواعه الثلاثة ؛ فالتوحيد بأنواعه الثلاثة ، له فضل عظيم على أهله . ومن أعظم فضله أنه به تُكَفَّر الذنوب ؛ ولهذا قال الشيخ - رحمه الله - في التبويب : " باب فضل التوحيد ، وما يكفر من الذنوب . فـ (ما) هنا موصول اسمي بدلالة وجود " من " البيانية مما يحول دون جعلها موصولا حرفيا ، فيكون المعنى : باب فضل التوحيد وبيان الذنوب التي يكفرها . فالتوحيد يكفر الذنوب جميعا ، لا يكفر بعض الذنوب دون بعض ؛ لأن التوحيد حسنة عظيمة ، لا تقابلها معصية إلا وأحرق نور تلك الحسنة أثر المعصية إذا كمل ذلك النور .


فهذا هو المقصود بقوله : " باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب " ؛ فمن كمل التوحيد بأنواعه الثلاثة - أعني : توحيد الربوبية ، وتوحيد الإلهية ، وتوحيد الأسماء والصفات - : فإنه تكفر عنه ذنوبه ، كما سيأتي بيانه في الباب بعده : أنه من حقق التوحيد : دخل الجنة بغير حساب .


فكلما زاد التوحيد محي من الذنوب بمقدار عظمه ، وكلما زاد التوحيد أمن العبد في الدنيا وفي الآخرة بمقدار عظمه ، وكلما زاد العبد في تحقيق التوحيد كان متعرضا لدخول الجنة على ما كان عليه من العمل ؛ فلهذا ساق الإمام - رحمه الله - آية الأنعام ، فقال : ( باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب ، وقول الله تعالى ) ثم ذكر الآيات .

ومن العلماء من قال : إن ( ما ) في قوله : ( وما يكفر من الذنوب ) موصول حرفي .

وقول الله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } [الأنعام : 82] . الظلم هنا : هو الشرك ، كما جاء في تفسير ذلك في الصحيحين من حديث ابن مسعود ، « أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية حينما استعظم الصحابة هذه الآية ، وقالوا : يا رسول الله ، أينا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ ! فقال : ليس الذين تذهبون إليه ، الظلم : الشرك ، ألم تسمعوا لقول العبد الصالح : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }» [لقمان : 13] » رواه البخاري ( 32 ) ، ( 336 ) ، ( 3428 ) ، ومسلم ( 124 ) ، فالظلم هنا - في مراد الشارع - : هو الشرك ، فيكون مقصود الشيخ من إيراد هذه الآية تحت هذا الباب : بيان فضل من آمن ووحّد ، ولم يلبس إيمانه وتوحيده بشرك ، وأن له الأمن التام ، والاهتداء التام ؛ فهذا هو وجه مناسبة الآية للباب . ومعنى الآية : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بشرك أولئك لهم الأمن وهم مهتدون .

وجاء الظلم في الآية مُنَكَّرًا ، في سياق النفي ، وهو قوله تعالى { وَلَمْ يَلْبِسُوا } ، وهذا يدل على عموم أنواع الظلم ، لكن هل المراد بالعموم هنا العموم المخصوص ، أو العموم الذي يراد به الخصوص ؟ الجواب : أن المراد بالعموم هنا : هو العموم الذي يراد به الخصوص ؛ لأن العموم عند الأصوليين تارة يكون باقيا على عمومه ، وتارة يكون عموما مخصوصا يعني دخله التخصيص ، وتارة يكون عموما مرادا به الخصوص يعني أن لفظه عام ، ولكن يراد به الخصوص فهذه أوجه ثلاثة ، والوجه الأخير هو الذي أراد الشيخ - رحمه الله - الاستدلال به من الآية . صحيح أن ( الظلم ) هنا جاء نكرة في سياق النفي ( لم ) : فيدل على العموم ، لكنه عموم مراد به الخصوص ؛ وهو خصوص أحد أنواع الظلم كلها ؛ لأن من أنواع الظلم : ظلم العبد نفسه بالمعاصي ، أو ظلم العبد غيره بأنواع التعديات ، ومنه ما هو ظلم من جهة حق الله - جل وعلا - بالشرك به ، فهذا هو المراد بهذا العموم ، فيكون عاما في أنواع الشرك ، وبهذا يحصل وجه الاستدلال من الآية ، فيكون معنى الآية : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ } يعني لم يلبسوا توحيدهم بنوع من أنواع الشرك .


{ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } فـ ( الأمن ) هنا : هو الأمن التام في الدنيا ، والمراد به أمن القلب وعدم حزنه على غير الله - جل وعلا - والاهتداء التام في الدنيا وفي الآخرة ، وكلما وجد نقص في التوحيد بغشيان العبد بعض أنواع الظلم الذي هو الشرك ، إما الشرك الأصغر ، أو الشرك الخفي ، وسائر أنواع الشرك ، ونحو ذلك ، ذهب منه من الأمن والاهتداء بقدر ذلك . هذا من جهة تفسير الظلم بأنه الشرك .


فإذا فَسَّرْتَ الظلم بأنه جميع أنوع الظلم - كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - فإنه يكون - على هذا التفسير - مقابلة بين الأمن والاهتداء ، وبين حصول الظلم ، فكلما انتفى الظلم : وُجد الأمن والاهتداء ، وكلما كمل التوحيد وانتفت المعصية : عظم الأمن والاهتداء ، وإذا زاد الظلم : قَلَّ الأمنُ واهتداء بحسب ذلك .

قال : ( وعن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم « من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، والجنة حق ، والنار حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل » أخرجاه ) مناسبة هذا الحديث للباب قوله : « على ما كان من العمل » ومعنى قوله : « على ما كان » يعني على الذي كان عليه من العمل ولو كان مقصرا في العمل وعنده ذنوب وعصيان ، فإن لتوحيده لله ، وشهادته له بالوحدانية ، ولنبيه بالرسالة ، ولعيسى بأنه عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، ولإقراره بالغيب ، وبالبعث : إن لذلك فضلا عظيما ، وهو : أن يدخله الله الجنة ولو كان مقصرا في العمل . فهذا الحديث فيه بيان فضل التوحيد على أهله .

قال : ولهما في حديث عتبان : « فإن الله حرم على النار من قال : لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله » رواه أبو داود برقم ( 1949 ) والترمذي ( 889 ) والنسائي ( 5 / 256 ) وابن ماجه ( 2015 ) .


قوله : « من قال : لا إله إلا الله » المراد بالقول هنا : القول الذي معه تمام الشروط ؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم : « الحج عرفة » (2) يعني إذا أتى ببقية الأركان والواجبات ، فيكون معنى قوله هنا : « من قال : لا إله إلا الله » يعني باجتماع شروطها ، وبالإتيان بلازمها .

وخرج بقوله : « يبتغي بذلك وجه الله » المنافقون ؛ لأنهم حين قالوها لا يبتغون بذلك وجه الله .

وقوله : « حرم على النار » تحريم النار في نصوص الكتاب والسنة يأتي على درجتين : الأولى : تحريم مطلق ، والثانية : تحريم بعد أمد ، فالتحريم المطلق يقتضي أن من حرم الله عليه النار تحريما مطلقا : فإنه لن يدخلها ، إما بأن يغفر الله له ، وإما بأن يكون من الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب ، الحديث يحتمل الأول ، ويحتمل الثاني .


« فإن الله حرم على النار من قال : لا إله إلا الله » : يعني أن الذي أتى بالتوحيد ، وانتهى عن ضده ، وكانت عنده بعض الذنوب والمعاصي ، ومات من غير توبة ، فهو تحت المشيئة ، إن شاء الله عذبه ثم حرم عليه النار ، وإن شاء الله غفر له وحرم عليه النار ابتداء .

فوجه الشاهد - إذًا - من الحديث للباب : أن هذه الكلمة ، وهي كلمة التوحيد وسيأتي بيان معناها مفصلا ، إن شاء الله تعالى لما ابتغى بها صاحبها وجه الله ، وأتى بشروطها وبلوازمها تفضل الله عليه ، وأعطاه ما يستحقه من أنه حرم عليه النار . وهذا فضل عظيم ، نسأل الله - جل وعلا - أن يجعلنا من أهله .

وفي حديث أبي سعيد الخدري - الوارد بعد حديث عتبان - وفيه قول وموسى - عليه السلام - : « يا رب علمني شيئا أذكرك به وأدعوك به . قال : قل - يا موسى - : لا إله إلا الله ، قال : يا رب كل عبادك يقولون هذا » : فهذا الحديث فيه دلالة على أن أهل الفضل ، والرفعة في الدين ، والإخلاص والتوحيد ، قد ينبهون على شيء من مسائل بالتوحيد ؛ فهذا موسى - عليه السلام - وهو أحد أولي العزم من الرسل ، وهو كليم الله - جل وعلا - أراد شيئا يختص به غير ما عند الناس ، وأعظم ما يختص به أولياء الله ، وأنبياؤه ورسله ، وأولو العزم منهم هو كلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) فأراد شيئا أخص من ذلك ، فأعلم أنه لا أخص من كلمته التوحيد ، فهي أفضل شيء ، وهي التي دُلّ عليها أولو العزم من الرسل ومن دونهم من الناس .


قال : « يا رب ، كل عبادك يقولون هذا ؟ قال : يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري » : يعني ومن في السماوات السبع من الملائكة ومن عباد الله - جل وعلا - .

« والأرضين السبع في كفة » : يعني لو تمثلت السماوات والأرضون أجساما ، ووضع الجميع في ميزان له كفتان ، وجاءت ( لا إله إلا الله ) في الكفة الأخرى لمالت بهن ( لا إله إلا الله ) .


فـ ( لا إله إلا الله ) كلمة توحيد فيها ثقل لميزان من قالها ، وعظم في الفضل لمن اعتقدها وما دلت عليه فلهذا قال : « مالت بهن لا إله إلا الله » .

ووجه الدلالة : أنه لو تصور أن ذنوب العبد بلغت ثقل السماوات السبع ، وثقل ما فيها من العباد والملائكة وثقل الأرض لكانت ( لا إله إلا الله ) مائلة بذلك الثقل من الذنوب ، وهذا هو الذي دل عليه حديث البطاقة حيث جُعِل على أحد العصاة سجلات عظيمة ( فقيل له : هل لك من عمل ؟ فقال : لا ، فقيل له : بلى ، ثم أخرجت له بطاقة فيها ( لا إله إلا الله ) ، فوضعت في الكفة الأخرى ، فطاشت سجلات الذنوب ، وثقلت البطاقة ) أخرجه أحمد ( 2 / 213 ) والترمذي ( 639 ) وقال : حديث حسن .


وهذا الفضل العظيم لكلمة التوحيد ، إنما هو لمن قويت في قلبه ، ذلك أنها في قلب بعض العباد تكون قوية ؛ لأنه مخلص فيها مصدق ، لا ريب عنده فيما دلت عليه ، معتقد ما فيها ، محب لما دلت عليه ، فيقوى أثرها ونورها في القلب فإذا كانت كذلك : فإنها تحرق ما يقابلها من الذنوب ، وأما من لم يكن من أهل تمام الإخلاص فيها ، فإنه لا تطيش له سجلات الذنوب ، فيكون هذا الحديث وحديث البطاقة يدلَّان على أن ( لا إله إلا الله ) لا يقابلها ذنب ، ولا تقابلها خطيئة ، لكن هذا في حق من كملها وحققها ، بحيث لم يخالط قلبه - في معناها - ريب ، ولا تردد ومعناها مشتمل على الربوبية بالتضمن ، وعلى الأسماء والصفات باللزوم ، وعلى الإلهية بالمطابقة ، فيكون من ينتفع بهذه الكلمة على وجه الكمال - ولو بلغت ذنوبه ما بلغت ، وكانت سجلاته كثقل السماوات والأرضين السبع - هو الذي كمل ما دلت عليه من التوحيد وهذا معنى هذا الحديث ، وحديث البطاقة ، وهذا أيضا هو الذي دل عليه الحديث الآخر الوارد في الباب نفسه عن أنس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « قال الله تعالى : يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة » وهذا من فضل التوحيد وتكفيره الذنوب .


ومناسبة هذا الحديث للباب ظاهرة ، وهي : أنه من أتى بذنوب عظيمة ، ولو كانت كقراب الأرض خطايا يعني كعظم وقدر الأرض خطايا ، ولكنه لقي الله لا يشرك به شيئا : لأتى الله ذلك العبد بمقدار تلك الخطايا مغفرة ، وهذا لأجل فضل التوحيد ، وعظم فضل الله - جل وعلا - على عباده بأن هداهم إليه ، ثم أثابهم عليه .
 

أبو عمر

عضو بلاتيني / العضو المثالي لشهر أغسطس
أحسنت يا أخي جزاكم الله خيرا وأحسن إليكم


تابع هذا الموضوع الهام...


تسجيل متابعة
 
باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب

وقول الله تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [النحل : 120] وقال { وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ } [المؤمنون : 59] عن حصين بن عبد الرحمن ، قال : كنت عند سعيد بن جبير ، فقال : أيكم رأى الكوكب الذي انقضَّ البارحة ؟ فقلت : أنا ، ثم قلت : أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت ، قال : فما صنعت ؟ قلت : ارتقيت : قال : فما حملك على ذلك ؟ قلت : حديث حدثناه الشعبي ، قال : وما حدثكم ؟ قلت : حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال : " لا رقية إلا من عين أو حمة " ، قال قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي وليس معه أحد ، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي ، فقيل لي : هذا موسى وقومه ، فنظرت ، فإذا سواد عظيم ، فقيل لي : هذه أمتك ، ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب » ثم نهض فدخل منزله . فخاض الناس في أولئك ، فقال بعضهم : فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال بعضهم : فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ، فلم يشركوا بالله شيئا ، وذكروا أشياء . فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه . فقال : « هم الذين لا يَسْتَرْقُون ، ولا يكتوون ، ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون » فقام عكاشة بن محصن فقال : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال : « أنت منهم » ثم قام رجل ، فقال ادع الله أن يجعلني منهم فقال : « سبقك بها عكاشة » ( أخرجه البخاري ( 3410 ) ، ( 5705 ) ، ( 5752 ) ، ( 6472 ) ، ( 6541 ) ومسلم ( 220 ) . ) .


فيه مسائل :

الأولى : معرفة مراتب الناس في التوحيد .

الثانية : ما معنى تحقيقه .

الثالثة : ثناؤه سبحانه على إبراهيم بكونه لم يك من المشركين .

الرابعة : ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك .

الخامسة : كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد .

السادسة : كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل .

السابعة : عمق علم الصحابة لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل .

الثامنة : حرصهم على الخير .

التاسعة : فضيلة هذه الأمة بالكَمية والكيفية .

العاشرة : فضيلة أصحاب موسى .

الحادية عشرة : عرض الأمم عليه - عليه الصلاة والسلام - .

الثانية عشرة : أن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها .

الثالثة عشرة : قلة من استجاب للأنبياء .

الرابعة عشرة : أن من لم يجبه أحد يأتي وحده .

الخامسة عشرة : ثمرة هذا العلم ، وهو عدم الاغترار بالكثرة وعدم الزهد في القلة .


السادسة عشرة : الرخصة في الرقية من العين والحُمَة .

السابعة عشرة : عمق علم السلف لقوله ( قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ولكن كذا وكذا ) . فعُلِم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني .

الثامنة عشرة : بُعد السلف عن مدح الإنسان بما ليس فيه .

التاسعة عشرة : قوله « أنت منهم » عَلَمٌ من أعلام النبوة .

العشرون : فضيلة عُكَّاشة .

الحادية والعشرون : استعمال المعاريض .

الثانية والعشرون : حُسْنُ خُلُقِه - صلى الله عليه وسلم - .

الشرح

هذا الباب هو : " باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب " وقد ذكر في الباب قبله فضل التوحيد ، وما يكفر من الذنوب ، وهذا الباب أرفع رتبة من بيان فضل التوحيد فإن فضل التوحيد يشترك فيه أهله ، وأهل التوحيد هم أهل الإسلام ، ولا شك أن لكل مسلم نصيبا من التوحيد ، فيكون له - تبعا لذلك - نصيب من فضل التوحيد ، وتكفير الذنوب ، أما خاصة هذه الأمة فهم الذين حققوا التوحيد ؛ ولهذا عطف هذا الباب على الذي قبله ؛ لأنه أخص . وتحقيق التوحيد هو مدار هذا الباب ، وتحقيقه بمعنى تحقيق الشهادتين ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) ومعنى تحقيق الشهادتين : تصفية الدين من شوائب الشرك والبدع والمعاصي ، فصار تحقيق التوحيد يرجع إلى ثلاثة أشياء :
الأول : ترك الشرك بأنواعه : الأكبر ، والأصغر ، والخفي .


والثاني : ترك البدع بأنواعها .

الثالث : ترك المعاصي بأنواعها .

فيكون تحقيق التوحيد على هذا على درجتين : درجة واجبة ودرجة مستحبة ، وعليها يكون الذين حققوا التوحيد على درجتين أيضا ، فالدرجة الواجبة : أن يترك ما يجب تركه من الأشياء الثلاثة التي ذكرت ، فيترك الشرك خفيه وجليه ، صغيره وكبيره ، ويترك البدع ، ويترك المعاصي ، هذه درجة واجبة .


والدرجة المستحبة في تحقيق التوحيد - وهي التي يتفاضل فيها الناس من المحققين للتوحيد أعظم تفاضل - هي ألا يكون في القلب شيء من التوجه أو القصد لغير الله - جل وعلا - يعني : أن يكون القلب متوجها إلى الله بكليته ، ليس فيه التفت إلى غير الله ، فيكون نطقه لله ، وفعله وعمله لله ، بل وحركة قلبه لله - جل جلاله - ، وقد عبر عنها بعض أهل العلم - أعني هذه الدرجة المستحبة - بقوله : أن يترك ما لا بأس به حذرا مما به بأس ، يعني : في مجال أعمال القلوب ، وأعمال اللسان ، وأعمال الجوارح .

فإذًا رجع تحقيق التوحيد الذي هذا فضله - وهو أن يدخل أهله الجنة بغير حساب ، ولا عذاب - رجع إلى تينك المرتبتين ، وتحقيقه تحقيق الشهادتين : ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) ؛ لأن في قوله ، ( لا إله إلا الله ) الإتيان بالتوحيد ، والبعد عن الشرك بأنواعه ، ولأن في قوله : ( أشهد أن محمدا رسول الله ) البعد عن المعصية ، والبعد عن البدع ؛ لأن مقتضى الشهادة بأن محمدا رسول الله : أن يُطاع فيما أمر ، وأن يصدَّق فيما أخبر ، وأن يُجتَنَبَ ما عنه نَهَى وزَجَرَ ، وألا يعبد الله إلا بما شرع ، فمن أتى شيئا من المعاصي والذنوب ، أو البدع ثم لم يتب منها أو لم تكفر له فإنه لم يحقق التوحيد الواجب وإذا لم يأت شيئا من البدع ، ولكن حسَّنها بقلبه ، أو قال : لا شيء فيها ؛ فإن حركة قلب من ذا شأنه لما كانت في غير تحقيق التوحيد وفي غير تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله : فإنه لا يكون من أهل تحقيق التوحيد ، وكذلك أهل الشرك بأنواعه ليسوا من أهل تحقيق التوحيد . وأما مرتبة الخاصة التي ذُكِرَتْ ففيها يتنافس المتنافسون وما ثمَّ إلا عفو الله ، ومغفرته ، ورضوانه .


واستدل الشيخ في " باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب " بآيتين وبحديث ، أما الآية الأولى فهي قول الله تعالى { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [النحل : 120] وهذه الآية فيها الدلالة على أن إبراهيم - عليه السلام - كان محققا للتوحيد .


وجه الدلالة : أن الله - جل وعلا - وصفه بصفات :

الأولى : أنه كان { أمة } ، والأمة : هو الإمام الذي جمع جميع صفات الكمال البشري وصفات الخير ، وهذا يعني أنه لم ينقص من صفات الخير شيئا وهذا معنى تحقيق التوحيد . و { الأمة } تطلق في القرآن إطلاقات ، فمن تلك الإطلاقات : أن يكون معنى الأمة الإمام المقتدَى به في الخير ، وسُمِّي { أمة } ؛ لأنه يقوم مقام أمة في الاقتداء ؛ ولأن من سار على سيره يكون غير مستوحش ولا متردد ؛ لأنه ليس مع واحد فقط ، وإنما هو مع أمة .

الوصف الثاني الذي فيه تحقيق التوحيد : أنه قال : { قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا } وهاتان الصفتان : - القانت ، والحنيف - متلازمتان لأن القنوت لله معناه : دوام الطاعة لله - جل وعلا - وملازمتها فهو ملازم لطاعة الله - جل وعلا - . ولأن " الحنيف " - كما يقول العلماء - : هو ذو الحنف وهو الميل عن طريق المشركين ، فالحنيف هو المائل عن طريق المشركين المائل عن هدي وسبيل المشركين فصارت عنده ديمومة وقنوت وملازمة للطاعة وبُعْد عن سبيل المشركين ، ومعلوم أن سبيل المشركين الذي صار إبراهيم عليه السلام حنيفا ، أي مائلا بعيدا عنه : معلوم أنه يشتمل على الشرك ، والبدعة ، والمعصية فهذه الثلاث هي أخلاق المشركين : الشرك ، والبدعة ، والمعصية من غير إنابة ولا استغفار .


قال { وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } :

وقوله : { وَلَمْ يَكُ } كانت في الأصل : يكن ، ويجوز في حالة الجزم - بشروط - حذف نون ( يكن ) ؛ كما في الآية السابقة . وكما في قوله تعالى في سورة النحل : { وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } [النحل : 127] ويجوز إثباتها كما في قوله تعالى : { وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } في سورة النمل [النمل : 70] .


فإثبات النون وحذفها وجهان جائزان في اللغة - بشروطه المعروفة - .

وقوله تعالى : { مِنَ الْمُشْرِكِينَ } : المشركين : جمع تصحيح لـ ( المشرك ) ، والمشرك : اسم فاعل الشرك ، و ( أل ) - كما هو معلوم في العربية - إذا دخلت على اسم الفاعل أو اسم المفعول فإنها تكون موصولة ، كما قال ابن مالك في الألفية :


وصفة صريحة صلة أل ... وكونها بمعرب الأفعال قل


والاسم الموصول عند الأصوليين يدل على العموم ، فيكون معنى قوله - إذًا - : { وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } أنه لم يك فاعلا للشرك بأنواعه ، ولم يك منهم .

ودلَّ قوله - أيضا - { وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } على أنه ابتعد عنهم ، لأن { مِنْ } تحتمل أن تكون تبعيضية ، فتكون المباعدة بالأجسام ، ويحتمل أن تكون بيانية ، فتكون المباعدة بمعنى الشرك .


فالمقصود : أن الشيخ - رحمه الله - استحضر هذه المعاني من الآية فدلته على أنها في تحقيق التوحيد .

قال - جل وعلا - : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ذلك لأن من جَمَع تلك الصفات فقد حقق التوحيد ، ومن حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب .

وقد فسر إمام الدعوة - المصنف - الشيخ : محمد بن عبد الوهاب ، هذه الآية من أواخر سورة النحل ، فقال - رحمه الله - : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } ، لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين ، { قَانِتًا لِلَّهِ } لا للملوك ، ولا للتجار المترفين ، { حَنِيفًا } لا يميل يمينا ، ولا شمالا ، كحال العلماء المفتونين { وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } خلافا لمن كثر سوادهم ، وزعم أنه من المسلمين .


وهو من التفاسير الرائقة البعيدة المعاني { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } .

ثم قال بعد ذلك : ( وقوله : { وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ } [المؤمنون : 59] ) : وهذه الآيات في سورة المؤمنون ، وهي في مدح خاصة المؤمنين .

ووجه الاستدلال من الآية على الباب : أن الله قال : { وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ } فقوله : { لَا يُشْرِكُونَ } نفي للشرك ، وقد ذكرنا من قبل أن النفي إذا تسلط على الفعل المضارع ، فإنه يفيد عموم المصدر الذي يدل عليه الفعل ، فكأنه - جل وعلا - قال : والذين هم بربهم لا يفعلون شركا ، أو لا يشركون لا بشرك أكبر ، ولا أصغر ، ولا خفي .


والذين لا يشرك هو الموحد ، فصار عندنا لازم ، وهو أن من لم يشرك بالله أيَّ نوع من الشرك ، فإنه ما ترك الشرك إلا لتوحيده ، قال العلماء : قدم هنا قوله : { بِرَبِّهِمْ } في قوله : { وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ } ، لأن الربوبية تستلزم العبودية ، فصار عدم الإشراك في الربوبية معناه عدم الإشراك في الطاعة ، وعدم الإشراك في العبودية وهذا وصف الذين حققوا التوحيد ؛ لأنه يلزم من عدم الإشراك : ألا يُشرِك هواه ؛ لأن المرء إذا أشرك هواه : أتى بالبدع ، أو أتى بالمعصية ، فصار نفي الشرك نفيا للشرك بأنواعه ونفيا للبدعة ، ونفيا للمعصية ، وهذا هو تحقيق التوحيد لله - جل وعلا - .

فالآية - إذًا - دالة على ما ترجم له الإمام - رحمه الله - بقوله : ( باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب ) .


أما الحديث فطويل ، وموضع الشاهد منه قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( « فنظرت ، فإذا سواد عظيم ، فقيل لي : هذه أمتك ، ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب » ثم نهض فدخل منزله . فخاض الناس في أولئك ، فقال بعضهم : فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال بعضهم : فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ، فلم يشركوا بالله شيئا ، وذكروا أشياء ، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه . فقال : « هم الذين لا يَسْتَرْقُون ، ولا يكْتَوُون ، ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون » ) .

هذا الحديث في صفة الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ، وهذه صفة من صفاتهم ، وتلك الصفة خاصة بهم ، لا يلتبس أمرهم بغيرهم ؛ لأن هذه الصفة كالشامة يعرفون بها . فَمَنْ هم الذين حققوا التوحيد؟ الجواب في قوله : « هم الذين لا يَسْتَرْقُون ، ولا يكْتَوُون ، ولا يتطيرون » ، فذكر أربع صفات :

أنهم « لا يَسْتَرْقُون » : ومعنى يَسْتَرْقُون : يعني لا يطلبون الرقية ؛ لأن الطالب للرقية يكون في قلبه ميل للراقي ، حتى يرفع ما به من جهة السبب . وهذا النفي الوارد في قوله : « لا يسترقون » ؛ لأن الناس في شأن الرقية تتعلق قلوبهم بها جدا أكثر من تعلقهم بالطب ونحوه ، فالعرب في الجاهلية - وهكذا هو حال أكثر الناس - لهم تعلق بالرقية ، فالقلب يتعلق بالراقي ، ويتعلق بالرقية ؛ وهذا ينافي كمال التوكل على الله - جل جلاله - وأما ما جاء في بعض الروايات أنهم « الذين لا يرقون » فهذا غلط ؛ وهو لفظ شاذ ، لأن الراقي محسن إلى غيره ، والصواب ما جاء في هذه الرواية من أنهم « الذين لا يسترقون » يعني : الذين لا يطلبون الرقية ؛ وذلك لأن طالب الرقية يكون في قلبه ميل إلى هذا الذي رقاه وإلى الرقية ، ونوع توكل ، أو نوع استرواح لهذا الذي يرقي أو للرقية .


ثم قال : « ولا يكتوون » : والكي مكروه في أصله ؛ لأن فيه تعذيبا بالنار ، مع أنه مأذون به شرعا ، لكن فيه كراهة . والعرب تعتقد أن الكي يحدث المقصود دائما ؛ فلهذا تتعلق قلوبهم بالكي . فصار تعلق القلب بهذا الكي من جهة أنه سبب يؤثر دائما ، ومعلوم أن الكي يؤثر - بإذن الله جل وعلا - : إذا اجتمعت الأسباب ، وانتفت الموانع . فالنفي لأجل أن في الكي بخصوصه ما يتعلق الناس به من أجله .


ثم قال : « ولا يتطيرون » : والطيرة شيء يعرض على القلب من جراء شيء يحدث أمامه ؛ فيجعله يقدم على أمر ، أو يحجم عنه ، وهذه صفة من لم يكن التوكل في قلبه عظيما .

ثم قال بعدها : « وعلى ربهم يتوكلون » : وهي جامعة للصفات السابقة . وهذه الصفات ليس المقصود منها أن الذين حققوا التوحيد لا يباشرون الأسباب ، كما فهمه بعضهم ، وأن الكمال ألا يباشر سببا البتة ، أو ألا يتداوى البتة ! وهذا غلط ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رُقي ، ( أخرجه مسلم ( 2186 ) والترمذي ( 972 ) . ) ولأنه - عليه الصلاة والسلام - تداوى وأمر بالتداوي ( أخرجه أحمد ( 4 / 278 ) والترمذي ( 2039 ) . ) وأمر أيضا بعض الصحابة بأن يكتوي ( أخرجه البخاري ( 5680 ) ، ( 5681 ) . ) ونحو ذلك فليس في الحديث أن أولئك لا يباشرون الأسباب مطلقا ، أو لا يباشرون أسباب الدواء ، وإنما فيه ذكر لهذه الثلاث بخصوصها ، لأنه يكثر تعلق القلب والتفاته إلى الراقي ، أو إلى الكي ، أو الكاوي ، أو إلى التطير ، ففيها إنقاص من مقام التوكل . أما التداوي : فهو مشروع ، وهو : إما واجب ، أو مستحب ، وقد يكون في بعض الأحوال مباحا ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « تداووا عباد الله ولا تتداووا بحرام » ( أخرجه أبو داود ( 3874 ) والترمذي ( 2045 ) . ) فالمقصود من هذا : أن التداوي ليس خارما لتحقيق التوحيد ولكن الذي هو من صفة أهل تحقيق التوحيد أنهم لا يسترقون بخصوص الرقية ، ولا يكتوون بخصوص الكي ، ولا يتطيرون ، وأما ما عدا ذلك مما أذن به ، فلا يدخل فيما يختص به أهل تحقيق التوحيد .


والأظهر عندي أن قوله في هذا الحديث « لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون » أنه مخصوص بهذه الثلاثة .


قال : ( فقام عكاشة بن محصن فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال : « أنت منهم » ثم قام رجل آخر ، فقال : ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال : « سبقك بها عكاشة » ) : هذا فيه دليل على أن أهل تحقيق التوحيد قليل وليسوا بكثير ، ولهذا جاء عددهم في هذا الحديث بأنهم سبعون ألفا ، وقد جاء في بعض الروايات عند الإمام أحمد وعند غيره بأن الله - جل وعلا - أعطى النبي صلى الله عليه وسلم مع كل ألف من السبعين سبعين ألفا ( أخرجه أحمد في المسند ( 2 / 359 ) والبيهقي في الشعب ( 416 ) .


فيكون العدد قرابة خمسة ملايين من هذه الأمة ، فإن كان ذلك الحديث صحيحا - وقد صحح إسناده بعض أهل العلم - فإنه لا يكون للعدد في هذا الحديث مفهوم ، أو كان ذلك قبل سؤال النبي صلى الله عليه وسلم أن يُزاد في عدد أولئك الذين حققوا التوحيد .

فإن قيل : ما معنى أن يُزاد في عددهم ؟ فالجواب : أن المعنى أن الله - جل وعلا - يَمُنُّ على أناس من هذه الأمة - غير السبعين ألفا - ممن سيأتون بَعْدُ ، فيوفقهم لعمل تحقيق التوحيد ؛ فالله - جل وعلا - هو الذي يوفق ، وهو الذي يهدي ، ثم هو الذي يجازي . فما أعظمه من محسن ، بَرٍّ ، كريم ، رحيم .
 
أعلى