فيه مسائل :
الأولى : سعة فضل الله .
الثانية : كثرة ثواب التوحيد عند الله .
الثالثة : تكفيره مع ذلك للذنوب .
الرابعة : تفسير الآية ( 82 ) التي في سورة الأنعام .
الخامسة : تأمل الخمس اللواتي في حديث عُبادة .
السادسة : أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان وما بعده ؛ تبين لك معنى قول : « لا إله إلا الله » وتبين لكم خطأ المغرورين .
السابعة : التنبيه للشرط الذي في حديث عتبان .
الثامنة : كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله .
التاسعة : التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات ، مع أن كثيرا ممن يقولها يخف ميزانه .
العاشرة : النص على أن الأرضين سبع كالسماوات .
الحادية عشرة : أن لهن عمارًا .
الثانية عشرة : إثبات الصفات خلافًا للأشعرية .
الثالثة عشرة : أنك إذا عرفت حديث أنس : عرفت أن قوله في حديث عتبان : « فإن الله حرم على النار من قال : لا إله إلا الله ؛ يبتغي بذلك وجه الله » أن ترك الشرك ليس قولها باللسان .
الرابعة عشرة : تأمُّلُ الجمع بين كون عيسى ومحمد عَبْدَيِ الله ورسولَيْه .
الخامسة عشرة : معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله .
السادسة عشرة : معرفة كونه روحا منه .
السابعة عشرة : معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار .
الثامنة عشرة : معرفة قوله : « على ما كان من العمل » .
التاسعة عشرة : معرفة أن الميزان له كفتان .
العشرون : معرفة ذكر الوجه .
شرح الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله
هذا الباب " باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب وما يكفر من الذنوب " يشمل التوحيد بأنواعه الثلاثة ؛ فالتوحيد بأنواعه الثلاثة ، له فضل عظيم على أهله . ومن أعظم فضله أنه به تُكَفَّر الذنوب ؛ ولهذا قال الشيخ - رحمه الله - في التبويب : " باب فضل التوحيد ، وما يكفر من الذنوب . فـ (ما) هنا موصول اسمي بدلالة وجود " من " البيانية مما يحول دون جعلها موصولا حرفيا ، فيكون المعنى : باب فضل التوحيد وبيان الذنوب التي يكفرها . فالتوحيد يكفر الذنوب جميعا ، لا يكفر بعض الذنوب دون بعض ؛ لأن التوحيد حسنة عظيمة ، لا تقابلها معصية إلا وأحرق نور تلك الحسنة أثر المعصية إذا كمل ذلك النور .
فهذا هو المقصود بقوله : " باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب " ؛ فمن كمل التوحيد بأنواعه الثلاثة - أعني : توحيد الربوبية ، وتوحيد الإلهية ، وتوحيد الأسماء والصفات - : فإنه تكفر عنه ذنوبه ، كما سيأتي بيانه في الباب بعده : أنه من حقق التوحيد : دخل الجنة بغير حساب .
فكلما زاد التوحيد محي من الذنوب بمقدار عظمه ، وكلما زاد التوحيد أمن العبد في الدنيا وفي الآخرة بمقدار عظمه ، وكلما زاد العبد في تحقيق التوحيد كان متعرضا لدخول الجنة على ما كان عليه من العمل ؛ فلهذا ساق الإمام - رحمه الله - آية الأنعام ، فقال : ( باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب ، وقول الله تعالى ) ثم ذكر الآيات .
ومن العلماء من قال : إن ( ما ) في قوله : ( وما يكفر من الذنوب ) موصول حرفي .
وقول الله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } [الأنعام : 82] . الظلم هنا : هو الشرك ، كما جاء في تفسير ذلك في الصحيحين من حديث ابن مسعود ، « أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية حينما استعظم الصحابة هذه الآية ، وقالوا : يا رسول الله ، أينا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ ! فقال : ليس الذين تذهبون إليه ، الظلم : الشرك ، ألم تسمعوا لقول العبد الصالح : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }» [لقمان : 13] » رواه البخاري ( 32 ) ، ( 336 ) ، ( 3428 ) ، ومسلم ( 124 ) ، فالظلم هنا - في مراد الشارع - : هو الشرك ، فيكون مقصود الشيخ من إيراد هذه الآية تحت هذا الباب : بيان فضل من آمن ووحّد ، ولم يلبس إيمانه وتوحيده بشرك ، وأن له الأمن التام ، والاهتداء التام ؛ فهذا هو وجه مناسبة الآية للباب . ومعنى الآية : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بشرك أولئك لهم الأمن وهم مهتدون .
وجاء الظلم في الآية مُنَكَّرًا ، في سياق النفي ، وهو قوله تعالى { وَلَمْ يَلْبِسُوا } ، وهذا يدل على عموم أنواع الظلم ، لكن هل المراد بالعموم هنا العموم المخصوص ، أو العموم الذي يراد به الخصوص ؟ الجواب : أن المراد بالعموم هنا : هو العموم الذي يراد به الخصوص ؛ لأن العموم عند الأصوليين تارة يكون باقيا على عمومه ، وتارة يكون عموما مخصوصا يعني دخله التخصيص ، وتارة يكون عموما مرادا به الخصوص يعني أن لفظه عام ، ولكن يراد به الخصوص فهذه أوجه ثلاثة ، والوجه الأخير هو الذي أراد الشيخ - رحمه الله - الاستدلال به من الآية . صحيح أن ( الظلم ) هنا جاء نكرة في سياق النفي ( لم ) : فيدل على العموم ، لكنه عموم مراد به الخصوص ؛ وهو خصوص أحد أنواع الظلم كلها ؛ لأن من أنواع الظلم : ظلم العبد نفسه بالمعاصي ، أو ظلم العبد غيره بأنواع التعديات ، ومنه ما هو ظلم من جهة حق الله - جل وعلا - بالشرك به ، فهذا هو المراد بهذا العموم ، فيكون عاما في أنواع الشرك ، وبهذا يحصل وجه الاستدلال من الآية ، فيكون معنى الآية : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ } يعني لم يلبسوا توحيدهم بنوع من أنواع الشرك .
{ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } فـ ( الأمن ) هنا : هو الأمن التام في الدنيا ، والمراد به أمن القلب وعدم حزنه على غير الله - جل وعلا - والاهتداء التام في الدنيا وفي الآخرة ، وكلما وجد نقص في التوحيد بغشيان العبد بعض أنواع الظلم الذي هو الشرك ، إما الشرك الأصغر ، أو الشرك الخفي ، وسائر أنواع الشرك ، ونحو ذلك ، ذهب منه من الأمن والاهتداء بقدر ذلك . هذا من جهة تفسير الظلم بأنه الشرك .
فإذا فَسَّرْتَ الظلم بأنه جميع أنوع الظلم - كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - فإنه يكون - على هذا التفسير - مقابلة بين الأمن والاهتداء ، وبين حصول الظلم ، فكلما انتفى الظلم : وُجد الأمن والاهتداء ، وكلما كمل التوحيد وانتفت المعصية : عظم الأمن والاهتداء ، وإذا زاد الظلم : قَلَّ الأمنُ واهتداء بحسب ذلك .
قال : ( وعن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم « من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، والجنة حق ، والنار حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل » أخرجاه ) مناسبة هذا الحديث للباب قوله : « على ما كان من العمل » ومعنى قوله : « على ما كان » يعني على الذي كان عليه من العمل ولو كان مقصرا في العمل وعنده ذنوب وعصيان ، فإن لتوحيده لله ، وشهادته له بالوحدانية ، ولنبيه بالرسالة ، ولعيسى بأنه عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، ولإقراره بالغيب ، وبالبعث : إن لذلك فضلا عظيما ، وهو : أن يدخله الله الجنة ولو كان مقصرا في العمل . فهذا الحديث فيه بيان فضل التوحيد على أهله .
قال : ولهما في حديث عتبان : « فإن الله حرم على النار من قال : لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله » رواه أبو داود برقم ( 1949 ) والترمذي ( 889 ) والنسائي ( 5 / 256 ) وابن ماجه ( 2015 ) .
قوله : « من قال : لا إله إلا الله » المراد بالقول هنا : القول الذي معه تمام الشروط ؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم : « الحج عرفة » (2) يعني إذا أتى ببقية الأركان والواجبات ، فيكون معنى قوله هنا : « من قال : لا إله إلا الله » يعني باجتماع شروطها ، وبالإتيان بلازمها .
وخرج بقوله : « يبتغي بذلك وجه الله » المنافقون ؛ لأنهم حين قالوها لا يبتغون بذلك وجه الله .
وقوله : « حرم على النار » تحريم النار في نصوص الكتاب والسنة يأتي على درجتين : الأولى : تحريم مطلق ، والثانية : تحريم بعد أمد ، فالتحريم المطلق يقتضي أن من حرم الله عليه النار تحريما مطلقا : فإنه لن يدخلها ، إما بأن يغفر الله له ، وإما بأن يكون من الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب ، الحديث يحتمل الأول ، ويحتمل الثاني .
« فإن الله حرم على النار من قال : لا إله إلا الله » : يعني أن الذي أتى بالتوحيد ، وانتهى عن ضده ، وكانت عنده بعض الذنوب والمعاصي ، ومات من غير توبة ، فهو تحت المشيئة ، إن شاء الله عذبه ثم حرم عليه النار ، وإن شاء الله غفر له وحرم عليه النار ابتداء .
فوجه الشاهد - إذًا - من الحديث للباب : أن هذه الكلمة ، وهي كلمة التوحيد وسيأتي بيان معناها مفصلا ، إن شاء الله تعالى لما ابتغى بها صاحبها وجه الله ، وأتى بشروطها وبلوازمها تفضل الله عليه ، وأعطاه ما يستحقه من أنه حرم عليه النار . وهذا فضل عظيم ، نسأل الله - جل وعلا - أن يجعلنا من أهله .
وفي حديث أبي سعيد الخدري - الوارد بعد حديث عتبان - وفيه قول وموسى - عليه السلام - : « يا رب علمني شيئا أذكرك به وأدعوك به . قال : قل - يا موسى - : لا إله إلا الله ، قال : يا رب كل عبادك يقولون هذا » : فهذا الحديث فيه دلالة على أن أهل الفضل ، والرفعة في الدين ، والإخلاص والتوحيد ، قد ينبهون على شيء من مسائل بالتوحيد ؛ فهذا موسى - عليه السلام - وهو أحد أولي العزم من الرسل ، وهو كليم الله - جل وعلا - أراد شيئا يختص به غير ما عند الناس ، وأعظم ما يختص به أولياء الله ، وأنبياؤه ورسله ، وأولو العزم منهم هو كلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) فأراد شيئا أخص من ذلك ، فأعلم أنه لا أخص من كلمته التوحيد ، فهي أفضل شيء ، وهي التي دُلّ عليها أولو العزم من الرسل ومن دونهم من الناس .
قال : « يا رب ، كل عبادك يقولون هذا ؟ قال : يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري » : يعني ومن في السماوات السبع من الملائكة ومن عباد الله - جل وعلا - .
« والأرضين السبع في كفة » : يعني لو تمثلت السماوات والأرضون أجساما ، ووضع الجميع في ميزان له كفتان ، وجاءت ( لا إله إلا الله ) في الكفة الأخرى لمالت بهن ( لا إله إلا الله ) .
فـ ( لا إله إلا الله ) كلمة توحيد فيها ثقل لميزان من قالها ، وعظم في الفضل لمن اعتقدها وما دلت عليه فلهذا قال : « مالت بهن لا إله إلا الله » .
ووجه الدلالة : أنه لو تصور أن ذنوب العبد بلغت ثقل السماوات السبع ، وثقل ما فيها من العباد والملائكة وثقل الأرض لكانت ( لا إله إلا الله ) مائلة بذلك الثقل من الذنوب ، وهذا هو الذي دل عليه حديث البطاقة حيث جُعِل على أحد العصاة سجلات عظيمة ( فقيل له : هل لك من عمل ؟ فقال : لا ، فقيل له : بلى ، ثم أخرجت له بطاقة فيها ( لا إله إلا الله ) ، فوضعت في الكفة الأخرى ، فطاشت سجلات الذنوب ، وثقلت البطاقة ) أخرجه أحمد ( 2 / 213 ) والترمذي ( 639 ) وقال : حديث حسن .
وهذا الفضل العظيم لكلمة التوحيد ، إنما هو لمن قويت في قلبه ، ذلك أنها في قلب بعض العباد تكون قوية ؛ لأنه مخلص فيها مصدق ، لا ريب عنده فيما دلت عليه ، معتقد ما فيها ، محب لما دلت عليه ، فيقوى أثرها ونورها في القلب فإذا كانت كذلك : فإنها تحرق ما يقابلها من الذنوب ، وأما من لم يكن من أهل تمام الإخلاص فيها ، فإنه لا تطيش له سجلات الذنوب ، فيكون هذا الحديث وحديث البطاقة يدلَّان على أن ( لا إله إلا الله ) لا يقابلها ذنب ، ولا تقابلها خطيئة ، لكن هذا في حق من كملها وحققها ، بحيث لم يخالط قلبه - في معناها - ريب ، ولا تردد ومعناها مشتمل على الربوبية بالتضمن ، وعلى الأسماء والصفات باللزوم ، وعلى الإلهية بالمطابقة ، فيكون من ينتفع بهذه الكلمة على وجه الكمال - ولو بلغت ذنوبه ما بلغت ، وكانت سجلاته كثقل السماوات والأرضين السبع - هو الذي كمل ما دلت عليه من التوحيد وهذا معنى هذا الحديث ، وحديث البطاقة ، وهذا أيضا هو الذي دل عليه الحديث الآخر الوارد في الباب نفسه عن أنس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « قال الله تعالى : يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة » وهذا من فضل التوحيد وتكفيره الذنوب .
ومناسبة هذا الحديث للباب ظاهرة ، وهي : أنه من أتى بذنوب عظيمة ، ولو كانت كقراب الأرض خطايا يعني كعظم وقدر الأرض خطايا ، ولكنه لقي الله لا يشرك به شيئا : لأتى الله ذلك العبد بمقدار تلك الخطايا مغفرة ، وهذا لأجل فضل التوحيد ، وعظم فضل الله - جل وعلا - على عباده بأن هداهم إليه ، ثم أثابهم عليه .