برهان جديد يتطلب قرار , إجابات لأسئلة تتحدى المسيحيين في القرن 21

جورج واشنطن

عضو مميز
برهان جديد يتطلب قرار , إجابات لأسئلة تتحدى المسيحيين في القرن 21


بقلم : چـوش ماكـدويل


preface_dar_el_thakafa.gif

يعتقد البعض أن الإيمان يتطلب عدم التفكير، وكذا التسليم بأمور لا منطقية ولا يمكن التحقق منها. ويظنون أن البحث والاجتهاد في الفكر يفقد الإيمان عمقه وروحانيته. وهذا الاعتقاد يقود إلى فكر ديني مشوش ومستند على تصورات ذاتية غير قابلة للبرهان أو المناقشة.

غير أن الإيمان المسيحي بعيد كل البعد عن هذه الصورة الخاطئة، فهو إيمان يمكن أن نعرِّضه للبحث والدراسة، وهو قائم على أساسات راسخة منحها لنا الله لكي نستطيع دائماً أن نتثبت من حقيقة إيماننا، ونعلنه بلا شكوك أو ريبة. ولكن كيف يمكننا أن نصل إلى البراهين الراسخة التي تدعم الإيمان وتساعدنا في التيقن من صحة ما نؤمن به من عقائد؟

هذا الكتاب يجيب على هذا السؤال من خلال جهد بحثي فريد قام به فريق متكامل من الباحثين بقيادة الكاتب والباحث الشهير جوش مكدويل. وهو يهدف إلى مناقشة الكثير من القضايا الإيمانية الجوهرية بشأن مدى ثقتنا في صحة ودقة الكتاب المقدس، وإيماننا بشخص الرب يسوع المسيح. كما يهتم بتناول أهم الأفكار والفلسفات الحديثة التي تواجه المسيحية، ويرد عليها بأسلوب موضوعي وشامل وقاطع.

ودار الثقافة يسعدها أن تهدي هذا العمل المتميز إلى كل من لديه إيمان باحث عن فهم، وإلى كل من يبتغي أن يؤسس إيمانه على الصخر لا الرمل










1(أ) فريد في ترابطه

إن الكتاب المقدس هو الكتاب الوحيد الذي:


1- كُتِبَ علي مدي خمسة عشر قرناً من الزمان تقريباً.
2- كتبه أكثر من أربعين كاتباً يعملون فى مختلف نشاطات الحياة، فمنهم الملوك والقادة العسكريون والفلاحون والفلاسفة والصيادون وجباة الضرائب والشعراء والموسيقيون ورجال الدولة والعلماء والرعاة. فعلي سبيل المثال:
- موسى: قائد سياسي وقاضي، تعلم في مصر.
- داود: ملك وشاعر وموسيقي وراعي غنم ومحارب.
- عاموس: راعي غنم.
- يشوع: قائد عسكري.
- نحميا: ساقي أحد الملوك الوثنيين.
- دانيال: رئيس وزراء.
- سليمان: ملك وفيلسوف.
- لوقا: طبيب ومؤرخ.
- بطرس: صياد.
- متَّى: جابي ضرائب.
- بولس: معلم ديني.
- مرقس: سكرتير لبطرس.
3- كُتب في أماكن مختلفة:
- كتب موسى في البرية.
- كتب إرميا في جب السجن.
- كتب دانيال على جانب التل وفي القصر.
- كتب بولس داخل السجن.
- كتب لوقاً أثناء رحلاته.
- كتب يوحنا وهو في المنفى في جزيرة بطمس.
4- كتب فى أوقات مختلفة:- كتب داود في أوقات الحرب والبلاء.
- كتب سليمان في أوقات السلم والرخاء.
5- كتب فى أحوال نفسية مختلفة:
- كتب البعض وهم في قمة الابتهاج.
- آخرون كتبوا وهم في عمق الأسى واليأس.
- كتب البعض في أوقات الثقة والطمأنينة.



- كتب آخرون في أوقات القلق والحيرة.
6- كتب فى ثلاث قارات:



- آسيا.
- أفريقيا.
- أوربا.


7- كتب بثلاث لغات:



- العبرية: وهي لغة شعب إسرائيل والعهد القديم كله تقريباً. وصفت في ملوك 18: 26-28 وفي نحميا 13: 24 باللسان اليهودي، وفي إشعياء 19: 18 لغة كنعان.



اللغة العبرية لغة تصويرية لا تصف الأحداث الماضية فحسب بل ترسم صورة لفظية لها. وهي لا تقدم صورة عريضة فقط بل مشهداً متحركاً. إن تسلسل الأحداث يعاد تصويره مرة أخرى داخل العقل. (لاحظ الاستخدام المتكرر لكلمة انظر behold وهو تعبير عبري انتقل إلى العهد الجديد.)
إن مثل هذه التعبيرات العبرية: قام وذهب، فتح شفتيه وتكلم، رفع عينيه ونظر، رفع صوته وبكى، توضح القوة التصويرية للغة العبرية. (Dockery, FBI, 214)


- الآرامية: وهي اللغة الشائعة للشرق الأدنى حتى عصر الإسكندر الأكبر (من القرن السادس حتى القرن الرابع ق.م.)Albright, AP, 218) ) كتبت الأصحاحات 2 إلى 7 من سفر دانيال ومعظم عزرا 4 إلى 7 باللغة الآرامية، كما توجد عبارات متفرقة في العهد الجديد كتبت بالآرامية أشهرها صرخة يسوع وهو فوق الصليب: إيلي، إيلي، لما شبقتني؟ وتعني: إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟ (مت 27: 46).


اللغة الآرامية قريبة جداً من الناحية اللغوية، من اللغة العبرية ومشابهة لها من حيث التركيب. كتبت النصوص الآرامية الموجودة في الكتاب المقدس بنفس أشكال الحروف للكتابة العبرية.
وخلافاً للغة العبرية، تستخدم الآرامية مدى أوسع من المفردات اللغوية كما تشمل الكلمات المستعارة، ومجموع أكبر من أدوات الربط. وتشتمل الآرامية أيضاً على نظام مركب من الصيغ الزمنية للفعل نشأ عن استخدام تصاريف الفعل المختلفة مع الضمائر أو مع الأشكال المختلفة من فعل الكينونة. ورغم أن اللغة الآرامية أقل موسيقية وشعرية من اللغة العبرية، إلا أنها قد تكون أكثر تفوقاً من جهة الدقة التعبيرية.



ولعل الفترة التي عاشتها اللغة الآرامية كلغة حية هي من أطول الفترات عرفتها أي لغة. فقد استخدمت خلال عصر الآباء الكتابي ولا يزال القليلون يتحدثون بها اليوم. لقد انبثقت عن اللغة الآرامية، وشقيقتها السرياينة، لهجات كثيرة في أماكن وعصور مختلفة. ولما كانت الآرامية تتميز بالبساطة والوضوح والدقة، فقد تلاءمت بسهولة مع شتى متطلبات الحياة اليومية. وهي كلغة تناسب العلماء والطلاب والمحامين والتجار بنفس الكفاءة. ولقد وصفها البعض بأنها اللغة السامية المتكافئة مع اللغة الإنجليزية. (Dockery, FBI, 221)


- اليونانية: وهي لغة العهد الجديد كله تقريباً. وكانت أيضاً هي اللغة العالمية في عصر المسيح،كما أصبحت الإنجليزية في عالمنا المعاصر:


اعتمدت الكتابة اليونانية على هجائية يعتقد أنها مستعارة من اللغة الفينيقية وتم توفيقها مع النظام الصوتي واتجاه الكتابة للغة اليونانية. كانت اللغة اليونانية في بادئ الأمر تكتب من اليمين إلى اليسار مثل اللغات السامية الغربية، ثم أصبحت تكتب في الاتجاهين جيئة وذهاباً، وأخيراً أصبحت تكتب من اليسار إلى اليمين.

عملت الغزوات التي قام بها الإسكندر الأكبر على نشر اللغة والثقافة اليونانية. إذ حلت اليونانية الهلّينية أو الشائعة Koine محل اللهجات الإقليمية على نطاق واسع ... وأضافت اللهجة الشائعة الكثير من التغييرات الإقليمية إلى اليونانية الفصحى، ومن ثم أصبحت أكثر عالمية. كما عمل تبسيط القواعد اللغوية أيضاً على توفيق أوضاع اللغة اليونانية لتناسب الثقافة العالمية.
وأصبحت اللغة الجديدة، بعد أن عكست لغة الكلام الشعبي البسيط، هي اللغة الشائعة الاستخدام في الأمور التجارية والدبلوماسية. وهكذا فقدت اللغة اليونانية الكثير من ملامح الأناقة والدقة البالغة بها نتيجة لتطورها من اليونانية الكلاسيكية إلى اليونانية الشائعة. ومع ذلك فقد احتفظت بصفاتها المميزة من قوة وجمال ووضوح وقدرة بلاغية منطقية.
ومن الجدير بالملاحظة أن الرسول بولس كتب رسالته إلى المسيحيين في روما باللغة اليونانية وليس اللاتينية. كانت الإمبراطورية الرومانية في ذلك الوقت عالماً يونانياً من الناحية الثقافية، باستثناء المعاملات الإدارية.



إن المفردات اللغوية اليونانية في العهد الجديد بها من الثراء ما يكفي للتعبير عن الفروق الدقيقة في المعنى على النحو الذي يريده الكاتب. فعلي سبيل المثال، استخدم العهد الجديد كلمتين مختلفتين للتعبير عن المحبة (نوعين مختلفين من المحبة)، وكلمتين مختلفتين للتعبير عن كلمة آخر (آخر من نفس النوع أو آخر من نوع مختلف)، وكلمات عديدة للدلالة على أنواع شتى من المعرفة. ومن الجدير بالذكر أن بعض الكلمات قد أهملت، مثل كلمة eros (وتعبر عن نوع ثالث من الحب) وبعضها شاع استخدامه في الثقافة الهلِّينية إبان هذا العصر. (Dockery, FBI, 224-25, 227








4(أ) فريد في بقائه
1(ب) على مر الزمن






رغم أن الكتاب المقدس قد دِّون أول مرة على مواد قابلة للفناء، وكان من الضروري نسخه مرات ومرات لمئات السنين قبل اختراع آلات الطباعة، إلا أنه ظل صحيحاً أسلوباً ومعنىً ولم يواجه خطر الفناء. وإذا ما قورن بغيره من الكتابات القديمة، فإن الكتاب المقدس له ما يؤيده من المخطوطات ما يفوق مخطوطات أي عشرة أعمال أدبية من الكلاسيكيات القديمة مجتمعة معاً. (طالع الفصل الثالث).



ويشير جون وارويك مونتجمري إلى أن الشك في نصوص أسفار العهد الجديد من شأنه أن يلقي بالشك على جميع الأعمال الكلاسيكية القديمة، فليس هناك وثيقة من العصر القديم تثبت المراجع صحتها على النحو الذي تثبت به العهد الجديد. (Montgomery, HC 71, 29) ويعبر عن الفكرة نفسها بروس ميتسجر، أستاذ جامعة برينستون وأحد رواد نقد النص الكتابي في العالم، قائلاً إنه على النقيض من النصوص الأخرى القديمة، يقف الناقد لنصوص العهد الجديد موقف الحائر أمام غزارة مخطوطاته. (Metzger, TNT, 34)


ويعلق برنارد رام على دقة وكثرة مخطوطات الكتاب المقدس قائلاً: لقد حفظ اليهود هذه المخطوطات بعناية شديدة لم تعرفها أي مخطوطة أخرى. فمن خلال المازورا massora العليا والوسطى والسفلى حافظوا محافظة شديدة على كل حرف ومقطع وكلمة وفقرة. وكان عندهم طبقات خاصة من الشعب مهمتها الوحيدة حفظ ونقل هذه الوثائق بأمانة ودقة تامة، فكان هناك الكتبة والفريسيون والمازوريين. فـأي شخـص أحصى حروف ومقاطع وكلمات كتابات أفلاطون أو أرسطو أو شيشرون أو سينكا؟ (Ramm, PCE 53, 230-231)





ويقارن چون لي في كتابه أعظم كتاب في العالم بين الكتاب المقدس وكتابات شكسبير:
في بحث نشرته مجلة «نورث أمريكان رفيو» أورد أحد الباحثين بعض المقارنات المثيرة للاهتمام بين كتابات شكسبير والكتاب المقدس، وهي تبين أن مخطوطات الكتاب المقدس قد نالت من الاهتمام والعناية ما لم تنله أي كتابات أخرى حتى عندما سنحت الفرصة للحفاظ على النص الأصلي الصحيح بوسائل الطباعة بدلاً من استخدام وسائل النسخ اليدوي. كتب يقول: من الغريب أن نصوص شكسبير التي بقيت لفترة تقل عن المائتين والثمانية أعوام لا تحظى بالثقة والصحة التي يحظى بها العهد الجديد، الذي له الآن أكثر من ثمانية عشر قرناً من الزمان، منها خمسة عشر قرناً على الأقل كان خلالها عبارة عن مخطوطات ... باستثناء عشرة أو عشرين آية فقط يمكن القول بأن كلمات كل آية من آيات العهد الجديد صحيحة تماماً باتفاق العلماء، حتي أن أي خلاف ينشأ فيما يختص بقراءتها يرجع إلى تفسير معاني الكلمات وليس إلى الكلمات نفسها. ولكن في كل عمل من أعمال شكسبير السبعة والثلاثين هناك مئات القراءات المختلف عليها بين الدارسين وأكثرها يؤثر جوهرياً في معنى الفقرات التي توجد بها. (Lea, GBW, 15)













(أ) كيف كُتب الكتاب المقدس؟


يتساءل الكثيرون عن خلفية الكتاب المقدس وأقسامه والمواد المستخدمة في كتابته. ويتناول هذا الفصل التعريف ببنية الكتاب المقدس وكيف تم جمعه.





1(ب) المواد المستخدمة في كتابة الكتاب المقدس:
1(ج) مواد الكتابة 1(د) ورق البردي



يعد السبب الرئيسي في عدم قدرتنا على الحصول على الكثير من المخطوطات القديمة (المخطوطة هي نسخة مكتوبة باليد للكتاب المقدس) استخدام مواد تبلى للكتابة. كتب ف.ف. بروس: كل المخطوطات الأصلية فقدت منذ زمن بعيد. ولم يكن بد من ذلك، إذ أنها كتبت على ورق البردي، ولأن ورق البردي لا يمكن أن يبقى لفترات طويلة إلا في ظل ظروف معينة. (Bruce, BP, 176)



ومن بين مواد الكتابة التي كانت متاحة في فترات كتابة الكتاب المقدس، يعد ورق البردي أشهرها، وكان يصنع من نبات البردي. كان هذا النبات ينمو في الأنهار والبحيرات الضحلة لمصر وسوريا. كانت ترسل شحنات كبيرة من ورق البردي عبر ميناء بيبلوس السوري. ويعتقد أن الكلمة اليونانية biblos التي تعني كتب قد أشتقت من اسم هذا الميناء. وجدير بالذكر أن الكلمة الإنجليزية Paper (التي تعني ورق) قد أشتقت من الكلمة اليونانية لورق البردي (Papyrus. Ewert, ATMT, 19-20)


ويقدم لنا تاريخ الكتاب المقدس الصادر عن جامعة كمبريدج شرحاً لطريقة إعداد ورق البردي للكتابة: كانت الأعواد تقشر وتقطع طولياً إلى شرائح رقيقة قبل أن تدق وتكبس معاً وتوضع كل طبقتين معاً بحيث تكون إحداهما طولية والأخرى مستعرضة فوقها. وبعد أن تجف ينعمون سطحها الأبيض بحجر أو غير ذلك من الأدوات. ويشير بليني إلى وجود نوعيات مختلفة ذات سُمك وأسطح متباينة من ورق البردي قبل عصر المملكة الجديدة عندما كان الورق رقيقاً جداً في أغلب الأحيان. (Greenlade, CHB, 30)


وترجع أقدم البرديات المعروفة لنا إلى عام 2400 ق.م. (Greenslee, INTTC, 19) كتبت أقدم المخطوطات على ورق البردي وكان من الصعب أن تعمر طويلاً إلا في الأماكن الجافة مثل صحاري مصر أو في الكهوف مثل كهوف قمران حيث اكتشفت مخطوطات البحر الميت.
ولقد كان ورق البردي شائع الاستخدام حتى القرن الثالث الميلادي تقريباً. (Greenlee, INTTC, 20)


2(د) الرقوق Parchment



وهذا الاسم يطلق على جلود الأغنام والماعز والغزلان وغيرها من الحيوانات. وهذه الجلود كان يتم إعدادها بنزع الشعر عنها وحكها حتى تصبح صالحة للكتابة عليها وتدوم طويلاً. ويضيف ف.ف. بروس أن كلمة Parchment اشتقت من اسم مدينة Pergamum برغامس في آسيا الصغرى لأن إنتاج هذه الرقوق المستخدمة في الكتابة كان في وقت ما يرتبط ارتباطاً خاصاً بهذا المكان. (Bruce, BP, 11)



3(د) الرق Vellum



وكان هذا الاسم يطلق على جلود العجول. وكانوا غالباً يصبغونه باللون الأرجواني. وبعض المخطوطات التي لدينا الآن عبارة عن رقوق أرجوانية من جلود العجول. وكانت الكتابة على هذه الرقوق تكون عادة باللون الذهبي أو الفضي.

ويقول ج. هارولد جرينلي أن أقدم المخطوطات الجلدية ترجع إلى حوالي 1500 ق.م. (Greenlee, INTTC, 21)



4(د) مواد الكتابة الأخرى



الفخار: وهو الفخار غير المصقول وكان شائعاً لدى العامة من الناس. والاسم الفني له هو الكسر الخزفية. ولـقد عـثر علـى الكثــير منـه فـي مصر وفلسطين. (أي 2 : 8)

الأحجار: وعثر علماء الآثار على أحجار عادية عليها كتابة منحوتة بأقلام من حديد.
الألواح الطينيـة: وينـقـش علـيهـا بـأداة حادة وتجفف لتصبح سجلاً باقياً (إر17:13، خر4:1). وكانت هذه الألواح من أرخص مواد الكتابة وأكثرها دواماً.
الألواح الشمعية:وهي عبارة عن ألواح خشبية مسطحة عليها طبقة من الشمع يكتب عليها بأقلام معدنية خاصة.


2(ج) أدوات الكتابة



الأزميل:وهو عبارة عن أداة من الحديد تستخدم للحفر على الأحجار.

القلم المعدنى: وهو أداة مثلثة الجوانب مسطحة الرأس. وكانت تستخدم للنقش على الألواح الطينية والشمعية. ((Geisler, GIB, 228
القلم: وهو عبارة عن عود مدبب الرأس كان يصنع من نبات الأسل وطوله 6-16 بوصة ونهايته مشطوفة كالإزميل حتى يمكن كتابة الخطوط الرفيعة والسميكة بأحد الجانبين العريض أو الضيق. وقد استعمل أهل ما بين النهرين هذا القلم في العصور القديمة جداً. أما فكرة القلم الريشة فربما تكون قد ظهرت أولاً عند اليونان في القرن الثالث ق.م. (إر8:8) (Greenslade, CHB, 31) وقد استخدم هذا القلم للكتابة على رقوق الحيوانات والعجول وعلى ورق البردي. الحبر:وكان يصنع في العالم القديم عادة من الفحم والصمغ والماء. (Bruce, BP, 1.)





2(ب) أشكال الكتب القديمة



الدرج:وكان يصنع عن طريق لصق أوراق البردي معاً وطيها حول عصا. وكانت صعوبة الاستخدام تحد من طول الدرج. وكان يكتب على جانب واحد من الدرج عادة. وأحياناً كان يكتب على جانبي الدرج opisthograph (رؤ 5: 1) وبعض الأدراج وصل طولها إلى 144 قدماً. أما الدرج المتوسط الحجم فكان طوله يتراوح بين عشرين وخمسة وثلاثين قدماً. ولا عجب أن يقول كاليماخوس، أحد مصنِّفي الكتب المحترفين بمكتبة الإسكندرية قديماً: الكتاب الكبير مجلبة للتعب. (Metzger, TNT, 5)
الكتاب: لتسهيل القراءة كانت أوراق البردي تجمع معاً في كتاب ويكتب على جانبيها. ويقول جرينلي إن انتشار المسيحية كان السبب الرئيسي في ظهور هذا الشكل من الكتب


(ب) أنواع الكتابة


1(ج) كتابة الحروف البوصية
طبقاً لبروس ميتسجر، أحد علماء العهد الجديد فإن: الأعمال الأدبية ... كانت تكتب بشكل معين من أشكال الكتابة اليدوية يطلق عليها الحروف البوصية uncials. وتتميز هذه الكتابة بالتزام التأني والحرص عند نقش الحروف، حيث تتباعد الحروف عن بعضها البعض ويشبه ذلك كتابة الحروف الإنجليزية الكبيرة المنفصلة إلى حد ما. (Metzger, TNT, 9)

ويشير جايسلر ونيكس إلى أنه: تعتبر المخطوطات البوصية الرائعة التي ترجع إلى القرن الرابع الميلادي وما بعده من أهم مخطوطات العهد الجديد بوجه عام. وظهرت هذه المخطوطات في أعقاب اعتناق قسطنطين للمسيحية والسماح بنسخ الكتاب المقدس في مجمع نيقية (عام 325). (Geisler/Nix, GIB, 391)
ولعلَّ أقدم وأهم المخطوطات البوصية المخطوطة الفاتيكانية (حوالي 325-350م) والمخطوطة السينائية (حوالي 340م).



2(ج) كتابة الحروف الصغيرة




وهي كتابة بحروف أصغر وبخط متصل (مشبك) وقد استخدمت لإنتاج الكتب في بداية القرن التاسع الميلادي تقريباً.(Metzger, TNT, 9)



3(ج) المسافات وحروف العلة



كانت المخطوطات اليونانية تكتب بدون فواصل بين الكلمات، بينما كانت النصوص العبرية تكتب بدون حروف علة حتى أضافها المازوريون بين القرن الخامس والقرن العاشر الميلادي.

وقد يبدو هذا مستغرباً بالنسبة للقارئ الحديث، ولكن بالنسبة للقدماء ممن كانوا يتحدثون اليونانية أو العبرية كان هذا أمراً عادياً وكانت الكتابات مفهومة وواضحة. ولم يكن اليهود بحاجة إلى كتابة حروف العلَّة إذ أنهم تعلموا لغتهم وتعملوا كيف ينطقونها ويفسرونها. كذلك لم يكن لدى الشعوب المتحدثة باليونانية أي مشكلة في قراءة لغتها بدون مسافات فاصلة بين الكلمات. ويوضح ميتسجر قائلاً: كانت هناك قاعدة في تلك اللغة، باستثناء بعض الحالات القليلة جداً، أن تنتهي الكلمات اليونانية بحرف علة (أو أكثر من حرف مركبة معاً) أو أحد الحروف الساكنة الثلاثة: V,P,S. ولا يجب الاعتقاد بأن الكتابة المتصلة كان بها صعوبات خاصة في القراءة، لأنه كان من المعتاد قديماً أن يقرأ المرء بصوت مرتفع، حتى ولو كان بمفرده. ومن ثم فإنه على الرغم من عدم وجود مسافات فاصلة بين الكلمات، كان المرء سرعان ما يعتاد على قراءة الكتابة المتصلة من خلال قراءة المرء على نفسه ما هو مكتوب مقطعاً بمقطع بصوت مرتفع. (Metzger, TNT, 13)






4(ب) أقسام الكتاب المقدس


1(ج) الأسفار



انظر الجزئيات الخاصة بالأسفار القانونية لاحقاً في هذا الفصل.


2(ج) الأصحاحات
1(د) العهد القديم
جرى أول تقسيم قبل السبي البابلي الذي بدأ عام 586 ق.م، إذ قسمت الأسفار الخمسة الأولى إلى 154 مجموعة تسمي سيداريم sedarim وكانت تهدف إلى تقسيم هذه الأسفار إلى أجزاء تقرأ دورياً على مدى ثلاث سنوات. (Geisler, GIB, 339)

وفي أثناء السبي البابلي وقبل عام 536 ق.م، قسمت الأسفار الخمسة الأولى إلي أربعة وخمسين قسماً تسمي «باراشيوثparashiyyoth ... » وهذه بدورها قسمت فيما بعد إلى 669 قسماً لتسهيل الرجوع إليها. وقد كانت تلك الأقسام تستخدم في القراءة على مدى عام واحد. (Geisler, GIB, 339)
وحوالي عام 165 ق.م. قسمت أسفار العهد القديم التي تسمى الأنبياء .
وأخيراً، بعد الإصلاح البروتستانتي، اتبع الكتاب المقدس العبري في معظمه نفس تقسيم الأصحاحات للعهد القديم البروتستانتي. ودونت هذه التقسيمات على هامش الكتاب لأول مرة في عام 1330. (Geisler, GIB, 339)



2(ب) العهد الجديد




قسَّم اليونانيون العهد الجديد إلى فقرات لأول مرة قبل انعقاد مجمع نيقية (325م)، وربما يرجع ذلك إلى عام 250م.


أما أقدم نظام لتقسيم الأسفار إلى أصحاحات فيرجع إلى عام 350م تقريباً، ويظهر على هامش المخطوطة الفاتيكانية. إلا أن هذه التقسيمات أقل حجماً بكثير من التقسيم الحالي للأصحاحات. فعلى سبيل المثال في التقسيم الحالي للكتاب المقدس يقسم إنجيل متّى إلى ثمانية وعشرين أصحاحاً ولكن في المخطوطة الفاتيكانية يقسم إنجيل متّى إلى 170 قسماً.
ويقول جايسلر ونيكس: لم يتغير هذا التقسيم حتى القرن الثالث عشر حيث تغير التقسيم تدريجياً. قام ستيفن لانجتون، الذي كان أستاذاً بجامعة باريس ولاحقاً رئيساً لأساقفة كانتربرى، بتقسيم الكتاب المقدس إلى أصحاحات كما نعرفه الآن (حوالي عام 1227). وكان ذلك قبل استحداث الطباعة المتحركة. ومنذ استحداث هذه الطريقة في الطباعة في مؤسسة وايكليف للكتاب المقدس (عام 1382) أصبح هذا التقسيم هو التقسيم المتبع عند طباعة الكتاب المقدس إلى هذا اليوم. (Geisler, GIB, 340)



3(ج) الأعداد

1(د) العهد القديم
كان أول ما يشير إلى الأعداد في العهد القديم المسافات الفاصلة بين الكلمات إذ كانت الكلمات تكتب تباعاً بشكل متصل في سفر معين... فبعد السبي البابلي، ولأغراض القراءة والتفسير العامة، استخدمت المسافات الفاصلة كمواضع للوقف،كما أضيفت فيما بعد علامات أخرى. إلا أن هذه العلامات لم يتم وضعها بشكل منظم، فاختلفت من موضع لآخر. ولم يوضع لذلك نظاماً ثابتاً حتى عام 900م. (Geisler, GIB, 339)

2(د) العهد الجديد



لم يظهر التقسيم الحالي لآيات العهد الجديد حتى منتصف القرن السادس عشر. وقد تلا هذا تقسيم الأصحاحات، بهدف تسهيل القراءة والرجوع إلى الآيات. وظهر هذا التقسيم أولاً في الطبعة الرابعة للعهد الجديد اليوناني الذي نشره روبرت ستيفانوس الفرنسي عام 1551، ولقد أدخل وليم ويتنجهام في أكسفورد هذا التقسيم على النسخة الإنجليزية للعهد الجديد في عام 1557 . وفي عام 1555 أدخل ستيفانوس هذا التقسيم على نسخة الفولجاتا اللاتينية، ومن ذلك الوقت استمر هذا التقسيم إلى يومنا هذا. (Geisler, GIB, 341)

يتبع ...
 

جورج واشنطن

عضو مميز
( ملاحظة : المضوع مفتوح للمناقشة للخروج بفائدة بعيدا عن التهريج والانفعال العاطفي )




2(أ) من الذي حدد أسفار الكتاب المقدس؟





إن مسألة تحديد أسفار الكتاب المقدس هي مسألة قانونية الأسفار. وقد يتساءل المرء لماذا أدرجت بعض الأسفار في قائمة الأسفار القانونية بينما استبعدت أسفار أخرى.


1(ب) معني كلمة الأسفار القانونية Canon




أ- اشتقت كلمة الأسفار القانونية Canon من كلمة قصبة في الإنجليزية Cane وفي العبرية ganeh وفي اليونانية Kanon. وكانت القصبة تستخدم كقضيب للقياس ثم أصبحت تعني معيار .

وقد استخدم أوريجانوس، أحد آباء الكنيسة في القرن الثالث، هذه الكلمة للإشارة إلى ما نسميه «قانون الإيمان»، أي المعيار الذي نقيِّم به. وأصبح هذا المصطلح لاحقاً يعني قائمة أو فهرس (Bruce, BP, 95). وبالنسبة للكتاب المقدس يعني هذا المصطلح قائمة بالكتب المقبولة رسمياً. (Earle, HWGOB, 31) ومن الجدير بالملاحظة أن الكنيسة لم تقرر قانونية الأسفار فهي لم تحدد أي الأسفار هي الأسفار المقدسة والموحي بها من الله. ولكنها أدركت أو اكتشفت ما هي الأسفار الموحي بها من البداية. وبعبارة أخرى لا يعد أي سفر كلمة الله لأن شعب الله قبله. ولكن شعب الله قبله لأنه كلمة الله. أي أن الله هو الذي يعطي السفر سلطانه الإلهى، وليس شعب الله. فهم يكتشفون السلطان الإلهي الذي يعطيه الله للسفر ليس إلا ويبين الجدول التالي هذا المبدأ الهام (Geisler, GIB, 221)





2(ب) معايير الحكم على قانونية الأسفار




من خلال قراءتنا للكتاب المقدس وتاريخ الكنيسة يمكننا ملاحظة خمسة مبادئ على الأقل حكمت عملية التعرف على الأسفار الإلهية الصادقة الموحى بها، وجمعها. ويقدم جايسلر ونيكس هذه المبادئ على النحو التالي (Geisler / Nix, GIB, 223-231) :




1- هل كتب السفر بواسطة أحد أنبياء الله؟ فإذا كان كاتبه يتحدث باسم الله حقاً، إذا فهو كلمة الله.


2- هل كان الكاتب مؤيداً بأعمال الله؟ كثيراً ما كانت المعجزات تفصل بين الأنبياء الحقيقيين والأنبياء الكذبة. فأعطي موسي قوات عظيمة ليثبت دعوته الإلهية (خر4: 1-9). كما انتصر إيليا على أنبياء البعل الكذبة بمعجزة خارقة للطبيعة (1مل 18). أما يسوع فقد تبرهن... من قِبَل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده (أع 2: 22) ... والمعجزة هي عمل الله الذي يؤيد كلمة الله التي يقدمها نبي الله لشعب الله. إنها العلامة التي تثبت بشارته والآية التي تؤيد رسالته.



3- هل تعلَّم رسالة السفر بالحق عن الله؟ لا يمكن أن يناقض الله نفسه (2كو1: 17-18). ولا يمكن أن يتكلم بالكذب (عب6: 18). ومن ثم لا يمكن للسفر الذي يتكلم بالأكاذيب أن يكون كلمة الله. ولهذه الأسباب اتَّبع آباء الكنيسة المبدأ القائل: إذا خامرك الشك في سفر فألقه جانباً. وقد دعم هذا صحة تمييزهم للأسفار القانونية.




4- هل تظهر قوة الله في السفر؟ كان آباء الكنيسة يؤمنون أن كلمة الله «حية وفعالة» (عب 4:12)، ومن ثم فلابد أن يكون لها قوة مؤثرة للتعليم (2تي3: 17) والتبشير (1بط1:23). فإن لم تحقق رسالة السفر هدفها المنشود، ولم يكن لها سلطان على تغيير الحياة، لم يكن الله هو مصدرها. إن وجود السلطان الإلهي الفعال كان يشير بقوة إلى أن السفر مختوم بالختم الإلهي.


5- هل قبل رجال الله السفر؟ قال بولس في الرسالة إلى أهل تسالونيكي: نحن أيضاً نشكر الله بلا انقطاع، لأنكم إذ تسلمتم منا كلمة خبر من الله قبلتموها لا ككلمة أناس، بل كما هي بالحقيقة ككلمة الله. (1تس2: 13). وأي خلاف ينشأ بعد ذلك بشأن قانونية سفر معين، فإن أفضل من يحكم على صدق وحيه هم الذين عرفوا كاتب السفر حق المعرفة. ومن ثم فإنه على الرغم من الخلافات اللاحقة التي نشأت بشأن قانونية بعض الأسفار، فإن الدليل القاطع على صحتها هو قبول المؤمنين المعاصرين لها. فإن كان أناس الله قد قبلوا السفر وقرأوه واستخدموه ككلمة الله، فإنه كان يعتبر سفراً قانونياً. وهذا الأمر نراه في الكتاب المقدس نفسه. ومن أمثلة ذلك اعتراف الرسول بطرس بكتابات بولس كأسفار مقدسة تماماً مثل الأسفار المقدسة للعهد القديم. (2بط3: 16).







3(ب) الأسفار القانونية المسيحية (العهد الجديد)


1(ج) اختبار قانونية العهد الجديد



كان العامل الأول في اكتشاف قانونية أي سفر من أسفار العهد الجديد هو الوحي الإلهي، والمعيار الرئيسي لذلك هو الرسولية. ويقول جايسلر ونيكس: بلغة العهد الجديد كانت الكنيسة مبنية «على أساس الرسل والأنبياء» (أف2: 20) الذين وعدهم المسيح بأن يرشدهم إلى «جميع الحق» (يو16: 13) بالروح القدس. وكانت الكنيسة في أورشليم تواظب على تعليم الرسل (أع 2: 42). أما مصطلح رسولي الذي يستخدم لاختبار قانونية السفر لا يعني بالضرورة «الكتابة الرسولية» أو «أن يكون السفر معداً تحت إشراف الرسل» (Geisler/Nix, GIB, 283)

ويواصل جايسلر ونيكس قولهما: نتفق مع لويس جوسن، وب.ب. وارفيلد، وتشارلز هودج، وج.ن.د. كيلي ومعظم البروتستانت على أن السلطان الرسولي أو القبول الرسولي هو المعيار الرئيسي لقانونية أي سفر وليست مجرد الكتابة الرسولية. (Geisler/Nix, GIB, 283)
ويشير ن.ب. ستونهاوس إلى أن السلطان الرسولي الذي يظهر في العهد الجديد لا ينفصل أبداً عن سلطان الرب. وهناك إقرار ثابت في رسائل العهد الجديد أن هناك سلطان مطلق وحيد، وهو سلطان الرب نفسه. فحيثما كان الرسل يتحدثون بسلطان، كانوا يستخدمون سلطان الرب. فعلى سبيل المثال عندما كان الرسول بولس يدافع عن سلطانه كرسول، كان يسند دفاعه مباشرة إلى إرسالية الرب له فقط (عل 1و2)، وعندما يستخدم حقه في تنظيم الحياة بالكنيسة، فإنه يستند في ذلك إلى سلطان الرب، حتي لو لم يتسلم الكلمة مباشرة من قِبَل الرب (1كو14: 37 وقارن ذلك مع 1كو7: 10). (Stonehouse, ANT, 117-118)
ويعلق جون موراي قائلاً: إن الشخص الوحيد الذي يتحدث في العهد الجديد بسلطان ذاتي غير مستمد من أحد هو الرب.




2(ج) الأسفار القانونية للعهد الجديد

1(د) أسباب جمعها
1(هـ) أسفار نبوية
إن أول أسباب جمع وحفظ أسفار الوحي هو كونها أسفار نبوية، أي أنها كتبت على يد أنبياء أو رسل الله، وبالتالي لابد أن تكون ذات قيمة ومن ثم ينبغي حفظها. وتظهر هذه الفكرة في العصور الرسولية إذ تم جمع وتداول رسائل الرسول بولس. (2بط 3: 15-16 وكو4: 16). (Geisler, GIB, 277)




2(هـ) احتياجات الكنيسة الأولى




كانت الكنائس بحاجة إلى معرفة أي الأسفار التي ينبغي لها أن تقرأها وتبجلها وتستخدمها في ظروفها المختلفة وغير المستقرة في أغلب الأحيان وسط مناخ ديني واجتماعي معاد بوجه عام. إذ واجهت هذه الكنائس الكثير من المشكلات وكانت بحاجة لأن تطمئن بشأن الأسفار التي تتخذ منها مصدراً للسلطان.


3(هـ) ظهور الهراطقة




في وقت مبكر جداً وتحديداً في عام 140م وضع مارسيون الهرطوقي قائمة خاصة به للأسفار القانونية وبدأ في الترويج لها. وكانت الكنيسة بحاجة إلى مواجهة تعاليمه عن طريق جمع كافة أسفار العهد الجديد.



4(هـ) انتشار الكتابات الموضوعة




استـخدمت الكثـير من الكنائس الشرقية أسفاراً زائفة في خدمتها. وقد استدعى هذا تحديد الأسفار القانونية.




5(هـ) البعثات التبشيرية




لقد انتشرت المسيحية بسرعة إلى البلاد الأخرى، وكانت هناك حاجة إلى ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغات الأخرى... وبحلول النصف الأول من القرن الثاني ترجم الكتاب المقدس إلى السريانية واللاتينية العتيقة. ولما كانت البعثات التبشيرية بحاجة إلى ترجمة الكتاب المقدس، فقد برزت مسألة أي الأسفـار تنتمـي حقاً إلـى الأسفـار الـقانونيـة الـمسيحيـة المعترف بها. (Geisler, GIB, 278)


6(هـ) الاضطهاد



أصدر دقليديانوس (303م) مرسوماً بالقضاء على الأسفار المقدسة للمسيحيين. ومن الذي يجرؤ على الموت من أجل كتاب ربما كان دينياً ولكنه غير مقدس؟ ومن ثم كان المسيحيون بحاجة إلى معرفة أي الأسفار مقدسة حقاً.




2(د) الأسفار القانونية المعترف بها


1(هـ) أثناسيوس الإسكندرى




قدم لنا أثناسيوس (367م) أول قائمة لأسفار العهد الجديد وهي تطابق تماماً أسفار العهد الجديد التي بين أيدينا اليوم. ووردت هذه القائمة في رسالة أرسلها إلى الكنائس في أحد الأعياد. ويقول فيها: ومرة أخري لا أكلّ عن أن أتحدث إليكم عن أسفار العهد الجديد، وهي الأناجيل الأربعة: متي ومرقس ولوقا ويوحنا. ثم سفر أعمال الرسل والرسائل (أو الأسفار الجامعة)، وهي سبعة: واحدة ليعقوب واثنتان لبطرس وثلاثة ليوحنا وواحدة ليهوذا. وهناك أيضاً أربع عشرة رسالة لبولس مرتبة على النحو التالي: الأولى إلى رومية واثنتان إلى كورنثوس وواحدة إلى غلاطية وواحدة إلى أفسس وواحدة إلى فيلبي وواحدة إلى كولوسي واثنتان إلى تسالونيكي وواحدة إلى العبرانيين واثنتان إلى تيموثاوس وواحدة إلى تيطس وأخيراً واحـدة إلى فليمـون. ويضـاف إلى ما سبق رؤيا يوحنا. (Athanasius, L, 552)


2(هـ) جيروم وأغسطينوس



وبعد أن أرسل أثناسيوس قائمة بالأسفار القانونية إلى الكنائس، سار جيروم (إيرونيموس) وأغسطينوس على نفس المنوال فحـددوا الأسـفار القانونية للعهد الجديد التي تضم سبعة وعشـرون سفـراً.(Bruce, BP, 112 )



3(هـ) بوليكاربوس ومعاصريه




ويشير بوليكاربوس (115م) وأكليمندس الإسكندري (حوالي 200م) وغيرهما من آباء الكنيسة الأولين إلى أسفار العهدين القديم والجديد بعبارة: كما قيل في الكتب المقدسة.



4(هـ) چاستن مارتر




كتب چاستن مارتر (100م - 165م) في دفاعه الأول مشيراً إلى عشاء الرب: وفي يوم الأحد يجتمع جميع سكان المدن والضياع إلى مكان واحد حيث تقرأ كتب الرسل والأنبياء كلما كان هناك متسع من الوقت. وعندما يتوقف القارئ عن القراءة، يقدم الرئيس كلمة الوعظ ويدعو الحاضرين إلى هذا التقليد الطيب.


وفي حواره مع تريفون صفحات 49، 103، 105، 107 نجده يستهل اقتباساته من الأناجيل بكلمة مكتوب. ولابد أنه هو وتريفون كانا يعرفان ماذا تعني هذه الكلمة وأنها تدل على وحي الكتاب المقدس.


5(هـ) إيريناوس
كتب ف.ف. بروس عن مكانة إيريناوس (180م) قـائـلاً:


وتكمن أهمية كتاباته في اتصاله بالعصر الرسولي وفي علاقاته المسكونية. نشأ في آسيا الصغرى متعلماً على يد بوليكاربوس تلميذ يوحنا، وأصبح أسقفاً على ليون في بلاد الغال عام 180م. وتشهد كتاباته بقانونية الأناجيل الأربعة وأعمال الرسل ورسالة رومية والرسالتان إلى كورنثوس والرسالة إلى غلاطية والرسالة إلى أفسس والرسالة إلى فيلبي والرسالة إلى كولوسي والرسالتان إلى تسالونيكي والرسالتان إلى تيموثاوس والرسالة إلى تيطـس ورسالـة بطـرس الأولي ورسالة يوحنا الأولي وسفر الرؤيا. وفي بحثه ضد الهرطقات يتضح أنه بحلول عام 180م كانت الأناجيل الأربعة قد أصبحت من الحقائق المسلم بها في العالم المسيحي بأسره حتى أنه يمكن القول بأنها كانت حقيقة راسخة وطبيعية وواضحة وحتمية مثل الجهات الأصلية الأربع للبوصلة كما نسميها نحن (Bruce, BP, 109)


6(هـ) أغناطيوس



كتب أغناطيوس (50م - 115م): لا أريد أن آمركم كبطرس وبولس، فقد كانا رسولين. (Trall. 3.3)


7(هـ) المجامع الكنسية



يقول ف.ف. بروس: وعندما وضع أخيراً أحد المجامع الكنسية - سنودس إيبون عام 393م - قائمة بأسفار العهد الجديد السبعة والعشرين، لم يمنحها أي سلطان لم يكن لها من قبل، ولكنه فقط سجل قانونيتها المعهودة قبلاً. (أعُلن قرار سنودس إيبون مرة أخري بعد أربع سنوات في سنودس قرطاج الثالث) (Bruce, BP, 113)

ومنذ ذلك الوقت لم يقم خلاف بشأن الأسفار السبعة والعشرين المعترف بها في العهد الجديد من قبل الكنيسة الكاثوليكية أو البروتستانية أو الأرثوذكسية الشرقية.



3(د) استبعاد الأسفار غير القانونية



تم استبعاد الأسفار غير القانونية من العهد الجديد على النحو التالي:


(ج) أبوكريفا العهد الجديد


1(د) قائمة بالأسفار الأبوكريفية في العهد الجديد



رسالة برنابا الزائفة (70-79م)

الرسالة إلى أهل كورنثوس (حوالي 96م)
العظة القديمة أو ما يعرف باسم رسالة أكليمندس الثانية (حوالي 120-140م)
راعي هرماس (حوالي 115-140م)
تعاليم الاثنى عشر (حوالي 100-120م)
رؤيا بطرس (حوالي 150م)
أعمال بولس وتكلا (170م)
الرسالة إلى أهل لاودكية (القرن الرابع الميلادى)
إنجيل العبرانيين (65-100م)
رسالة بوليكاربوس إلى أهل فيلبي (حوالي 108م)
رسائل أغناطيوس السبعة (حوالي 100م)
هذه بعض الكتابات الزائفة التي لم تقبلها الكنيسة. (Geisler, BP, 297-316)


2(د) لماذا رفضت الكنيسة هذه الأسفار




يلخص لنا جايسلر ونيكس الموقف القانوني لهذه الأسفار: (1) لم يلق أي منها القبول إلا لفترة وجيزة أو على نطاق محدود. (2) معظمها لا يتسم بالصفة القانونية الكاملة فلم توجد إلا ملحقة بالمخطوطات المختلفة أو ذكرت في بعض الفهارس. (3) لم يأتِ ذكرها في أي مجمع كنسي أو أي قائمة رئيسية للأسفار القانونية الموحي بها للعهد الجديد. (4) يستند القبول المحدود لمعظم هذه الأسفار إلى أنها تربط نفسها ببعض الإشارات التي وردت في الأسفار القانونية (مثل الإشارة إلى الرسالة إلى أهل لاودكية في كو4: 16) أو تنسب نفسها إلى الرسل (مثل أعمال بولس ). وعندما اتضحت هذه الأمور، لم يعد هناك شك في عدم قانونية هذه الأسفار. (Geisler, GIB, 317)







4(ب) الأسفار القانونية للعهد القديم
1(ج) نظرية جامنيا




ذهب كثير من الدارسين إلى أن اجتماع رجال الدين اليهود في جامنيا بالقرب من يافا، عام 90م أقر أخيراً أي الأسفار سيعد ضمن الأسفار القانونية العبرية وأيها سيرفض. والمشكلة في هذه النظرية أن مجمع جامنيا لم يصل إلى هذه النتائج. لم يحدد رجال الدين اليهود الأسفار القانونية، ولكنهم ناقشوا مسألة وجود أسفار معينة بين الأسفار القانونية. والأسفار التي رفض المجمع أن يضمها إلى الأسفار القانونية لم تكن بين هذه الأسفار فعلاً. فكان الهمّ الأول للمجمع هو بحث مسألة حق بعض الأسفار في أن تبقي ضمن الأسفار القانونية، وليس قبول أسفار جديدة.(Ewert, ATMT, 71) لقد ناقش رجال الدين اليهود مسائل تتعلق بالأسفار التالية: سفر أستير وسفر الأمثال وسفر الجامعة وسفر نشيد الأنشاد وسفر حزقيال. ومع ذلك، يجب التأكيد على أنه بينما أثيرت التساؤلات حول هذه الأسفار، لم تكن هناك أية نية لاستبعادها من الأسفار القانونية، إذ لم تكن المناقشات في جامنيا تدور حول قبول بعض الكتابات ضمن الأسفار القانونية، ولكن حق هذه الكتابات في البقاء ضمن الأسفار القانونية.(Ewert, ATMT, 72)



كتب هـ.هـ. رولي يقول: إننا لا نعرف بالضبط إلى أي مدى يمكننا الحديث عن مجمع جامنيا. إننا نعرف أن مناقشات دارت بين رجال الدين اليهود ولكننا لم نسمع عن صدور أي قرار رسمي أو ملزم، وربما دارت المناقشات بشكل غير رسمي، ومع ذلك فقد عملت على بلورة وتثبيت التقليد اليهودي. (Rowley, GOT, 170)


والحقيقة هي أنه لم تجعل أي سلطة بشرية أو أي مجلس لرجال الدين اليهود من أي سفر (في العهد القديم) سفراً قانونياً. على حد قول دافيد أيورت أحد علماء الكتاب المقدس. لقد كانت هذه الأسفار موحى بها من الله وكان عليها الختم الإلهي من البداية. وباستعمالها لفترة طويلة من قِبَل المجتمع اليهودي ظهر سلطانها وأدرجت في الوقت المناسب ضمن الأسفار القانونية. (Ewert, ATMT, 72)



2(ج) الأسفار القانونية المعترف بها





تشير القرائن إلى أن الأسفار القانونية العبرية قد تم إقرارها قبل نهاية القرن الأول الميلادي وهناك احتمال قوي أن يرجع ذلك إلى القرن الرابع قبل الميلاد. ولكن الأمر المؤكد أن إقرارها لم يتعد عام 150م. والسبب الرئيسي لهذه النتيجة يرجع إلى اليهود أنفسهم الذين كانوا مقتنعين تماماً منذ القرن الرابع قبل الميلاد فصاعداً أن صوت الله انقطع عن التحدث مباشرة. (Ewert, ATMT, 69) وبعبارة أخرى سكتت الأصوات النبوية. إن عدم إعلان أي كلمة من قبل الله يعني عدم إعلان أي كلمة جديدة من قبل الله. وبدون الأنبياء، لا يكون هناك وحي كتابى.

وفيما يختص بفترة ما بين العهدين (حوالي أربعمائة سنة بين نهاية العهد القديم وبداية العهد الجديد) يقول إيورت: في سفر المكابين الأول 14: 41 نقرأ عن سمعان الذي عُين قائداً وكاهناً «حتي يقوم نبي أمين»، وقبل ذلك يتحدث عن الأسى في إسرائيل «الذي لم يكن مثله منذ أن توقف ظهور الأنبياء». ويشكو كاتب سفر باروخ من أن «الأنبياء وقع عليهم ثبات». إن الأسفار التي كُتبت بعد انتهاء عصر الأنبياء كانت تعتبر خارج نطاق الكتاب المقدس. (Ewert, ATMT, 69-70)



إن آخر الأسفار التي كتبت وكانت تعتبر ضمن الأسفار القانونية هي ملاخي (كتـب حوالي 450-430 ق.م.) وأخبار الأيام (كتب قبـل عـام 400 ق.م. (Walvoord, BKCOT, 589, 1573) وتظهر هذه الأسفار ضمن الأسفار القانونية العبرية في الترجمة اليونانية للأسفار القانونية العبرية وعرفت هذه الترجمة بالترجمة السبعينية وقام بها سبعون عالماً حوالي 250-150 ق.م.(Geisler, GIB, 24; see also Ewert, ATMT, 104-108 and wrthwein, TOT, 49-53)
ويؤكد ف.ف. بروس أن: أسفار الكتاب المقدس العبري عددها أربعة وعشرون مقسمة إلى ثلاثة أقسام. (Bruce, CS, 29)



وهذه الأقسام الثلاثة هي الشريعة والأنبياء والكتب. والجدول التالي يوضح تقسيم الأسفار القانونية العبرية كما ورد في الكثير من الكتب مثل الطبعات الحديثة للعهد القديم اليهودي.
راجع الكتب المقدسة المازورية، الموسوعة العبرية، رادولف كتيل، بولس كهل.


ورغم أن الكنيسة المسيحية لديها نفس الأسفار القانونية للعهد القديم، إلا أن عددها يختلف لأننا نقسّم كل من أسفار صموئيل، والملوك، وأخبار الأيام، وعزرا- نحميا إلى سفرين ونقسم أسفار الأنبياء الصغار بدلاً من جمعهم في سفر واحد كما يفعل اليهود ويطلقون عليها اسم الاثنا عشر. كما أعادت الكنيسة ترتيب الأسفار فرتبت الأسفار بحسب موضوعاتها بدلاً من الترتيب الرسمي لها. (Geisler, GIB, 23)



3(ج) شهادة المسيح للأسفار القانونية للعهد القديم
 

جورج واشنطن

عضو مميز
(د) لوقا 24 : 44



قال يسوع لتلاميذه في العلية: إنه لابد أن يتم جميع ما هو مكتوب عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير. وبهذه الكلمات أشار إلى الأقسام الثلاثة للكتاب المقدس العبري وهي الشريعة (الناموس) والأنبياء والكتب (ويطلق عليها هنا المزامير ربما لأن سفر المزامير هو أول وأطول أسفار هذا القسم). (Bruce, BP, 96)




2(د) يوحنا 10: 31-36 ، لوقا 24: 44




لم يوافق يسوع على التقليد الشفهي للفريسيين (مرقس 7، متي 15)، ولكنه لم يبد أي اعتراض على الأسفار القانونية العبرية. (Bruce, BP, 104) ليس هناك ما يشير إلى وجود أي خلاف بين يسوع وبين اليهود فيما يتعلق بقانونية أي سفر من أسفار العهد القديم. (Young, AOT, 62)




3(د) لوقا 11: 51 (وأيضاً متي 23: 35):



«من دم هابيل إلى دم زكريا» بهذه الكلمات أكد يسوع شهادته لأسفار العهد القديم. كان هابيل أول شهيد يذكر في الكتاب المقدس (تكوين 4: 8)، وكان زكريا آخر شهيد يذكر في أسفار العهد القديم المرتبة على حسب الترتيب العبري، وكـان زكـريـا قد رجم بالحجارة في أثناء حديثه للشعب في دار بيت الرب (2 أخ 24: 21). وقد كان سفر التكوين هو أول سفر في الأسفار القانونية العبرية بينما كان أخبار الأيام هو آخر سفر فيها. وكأن يسوع كان يقول: من التكوين إلى أخبار الأيام. أو من التكوين إلى ملاخى وفقاً للترتيب الذي بين أيدينا. وهكذا أكد على سلطان الوحي الإلهي للأسفار القانونية العبرية كافة.





4(ج) شهادات المؤرخين

1(د) مقدمة سفر حكمة يشوع بن سيراخ




لعل أقدم الإشارات إلى التقسيم الثلاثي للعهد القديم يرد في مقدمة سفر حكمة يشوع بن سيراخ (حوالي 130 ق.م.) كتبت المقدمة على يد حفيد كاتب السفر ويقول فيها: الناموس والأنبياء وكتب الآباء الأخرى. وهو يشير بذلك إلى الأقسام الثلاثة للأسفار القانونية العبرية. (Young, AOT, 71)




2(د) فيلو
إبان زمن المسيح (حوالي 40م) شهد فيلو إلى التقسيم الثلاثي للعهد القديم مشيراً إلى الناموس والأنبياء (أو النبوات) والمزامير والكتب الأخرى التي تنشئ وتتمم المعرفة والتقوى. (Geisler, GIB, 246)




3(د) يوسيفوس
تحدث أيضاً المؤرخ اليهودي يوسيفوس (نهاية القرن الأول الميلادي) عن الأقسام الثلاثة للعهد القديم. كما تحدث عن جميع الأسفار المقدسة العبرية قائلاً:


أما إلى أي مدى نثق في أسفار أمتنا هذه فيتضح من خلال سلوكياتنا، إن أحداً لم يجرؤ على أن يزد عليها شيئاً أو يحذف منها شيئاً أو يغير فيها شيئاً، فيصبح أمراً طبيعياً بالنسبة لجميع اليهود منذ نعومة أظافرهم أن يعتبروا هذه الأسفار تضم بين دفتيها الشرائع الإلهية وأن يلهجوا فيها وأن يموتوا لأجلها عن طيب خاطر إذا ما اقتضت الضرورة ذلك. وليس جديداً على شهدائنا، الكثيرين على مر الزمن، أن يظهروا كل شجاعة في احتمال كافة ألوان التعذيب والموت في الساحات حتى لا يضطرون إلى التجديف على شريعتنا والأسفار التي تحويها (Josephus, FJAA, 609)



4(د) التلمود




التلمود هو كتاب قديم يضم مجموعة من الشرائع والأحكام والشروحات لناموس موسى كتبها رجال الدين اليهود وهي تحتفظ بالتقليد الشفهي للشعب اليهودي. تم جمع التلمود في أورشليم حوالي سنة 350-425م. وتم جمعه مرة أخرى على نطاق أوسع في بابل حوالي سنة 500م. وتعرف كل نسخة باسم المكان الذي جمعت فيه - فهناك التلمود الأورشليمي والتلمود البابلي.




1(هـ) يقول التلمود (Tosefta Yadaim 3:5) : «إن الإنجيل وكتب الهراطقة الأخري لا تنجس الأيدي، فكتب ابن سيراخ وغيرها من الكتب التي كتبت منذ عصره ليست كتباً قانونية».(Pfeiffer, IOT, 63) .



إن الإشارة إلى كتاب ينجس الأيدي تعني أن الكتاب كان موحي به من الله ومن ثم فهو مقدس. لقد كان من يتعاملون مع الكتب المقدسة بحاجة إلى غسل أيديهم بعد لمس صفاحاتها المقدسة. ومن خلال القول بأن الكتب المقدسة تنجس الأيدي، كان رجال الدين اليهودي يحمونها من التعامل غير الحذر وغير اللائق بقداستها، إذ أنه من الواضح أن أحداً لن يتعامل معها بغير احتراس إذا كان عليه أن يغسل يديه عقب كل مرة يفعل فيها ذلك. (Beckwith, OTC, 280) والكتاب الذي لا ينجس الأيدي ليس من الله. إن هذا النص يفترض أن الكتب التي توجد ضمن الأسفار القانونية هي وحدها التي يمكننا أن نقول عنها إنها كلمة الله.
2(هـ) (Seder Olam Rabba 30) وحتي ذلك الوقت (قدوم الإسكندر الأكبر وانقضاء الإمبراطورية الفارسية) تنبأ الأنبياء بالروح القدس. ومنذ ذلك الوقت أمل أذنك واستمع إلى كلام الحكماء. (Beckwith, OTC, 370)



3(هـ) Tos. Sotah 13:2: baraita in Bab.


«بموت الأنبياء المتأخرين حجي وزكريا وملاخي انقطع إعلان الروح القدس من إسرائيل». (Beckwith, OTC, 370)


5(د) مليتو أسقف ساردس




سجل مليتو أول قائمة لأسفار العهد القديم مستقياً إياها من الأوساط المسيحية (حوالي 170م) ويسجل لنا يوسابيوس (Ecclesiastical History IV. 26) أقواله: قال مليتو إنه حصل على هذه القائمة الموثوقة في أثناء سفره إلى سوريا. ويقول مليتو في رسالة بعث بها إلى أنسيميوس صديقه: 'وهذه أسماؤها ... خمسة أسفار لموسى: التكوين والخروج والعدد واللاويين والتثنية. يشوع بن نون والقضاة وراعوث. أربعة كتب للمملكة واثنان لأخبار الأيام ومزامير داود وأمثال سليمان (وتسمى أيضاً الحكمة) والجامعة ونشيد الأنشاد وأيوب. ومن الأنبياء: إشعياء وإرميا والاثنا عشر في سفر واحد ودانيال وحزقيال وعزرا.'




ويعلق ف. ف. بروس قائلاً: من المرجح أن يكون مليتو قد أدمج المراثي مع إرميا ونحميا مع عزرا (رغم غرابة وضعه سفر عزرا مع الأنبياء). وفي هذه الحالة تضم قائمته جميع الأسفار القانونية العبرية (مرتبة وفقاً لترتيب الترجمة السبعينية) فيما عدا سفر أستير. ولعله لم يكن موجوداً ضمن القائمة التي جمعها من مصادره في سوريا. (Bruce, BP, 100)


6(د) المشنا




إن التقسيم الثلاثي للعهد القديم اليهودي الحالي (الذي يضم إحدى عشر سفراً في 'الكتب') مأخوذ عن المشنا. (Baba Bathra tractate, fifth century A.D.) (Geisler, GIB, 24)





5(ج) شهادة العهد الجديد للعهد القديم ككتاب مقدس


متَّى 21: 42، 22:29، 26:54، 56
لوقا 24
يوحنا 5: 39 ، 10: 35
أعمال الرسل 17: 2 و11 ، 18: 28
رومية 1: 2 ، 4: 3 ، 9: 17 ، 10: 11 ، 11: 2 ، 15: 4 ، 16: 26
كورنثوس الأولى 15: 3 و 4
غلاطية 3: 8 ، 3: 22، 4: 30
تيموثاوس الأولى 5: 18
تيموثاوس الثانية 3: 16
بطرس الثانية 1: 20 و21، 3: 16
إن عبارة «كما قال الكتاب» (يوحنا 7: 38) عندما كانت تسبق أي نص كانت تشير إلى أن قولاً أو قصة أو سفراً معيناً هو كلمة الله المعلنة من قبل أنبياء الله.



6(ج) الكتابات الأبوكريفية العبرية
إن كلمة أبوكريفا أشتقت من الكلمة اليونانية apokruphos وتعني المخبأة أو المخفية.

وكان أول من أطلق على هذه الكتابات اسم أبوكريفا هو جيروم في القرن الرابع الميلادي. وتتكون الأبوكريفا من مجموعة أسفار أضافتها الكنيسة الكاثوليكية إلى العهد القديم. أما البروتستانت فلا يعدونها ضمن الأسفار القانونية.



1(د) لماذا هذه الأسفار ليست قانونية؟




ورغم أن قاموس أنجر للكتاب المقدس يخص الأسفار الأبوكريفية للعهد القديم بقيمة معينة إلا


أنه يورد أربعة أسباب توجب استبعادها من الأسفار القانونية العبرية:




1- أن هذه الأسفار مليئة بالأخطاء التاريخية والجغرافية.

2- أن بها تعاليم خاطئة تتنافى مع تعاليم الكتاب المقدس الموحى به.

3- تعمَّد إلى استخدام الأساليب الأدبية ويظهر بها التكلف في المحتوى والأسلوب، وهذا يخالف أسلوب الأسفار المقدسة الموحى بها.

4- تعوزها الخصائص المميزة لأسفار الوحي المقدس الصادقة مثل السلطة النبوية والأحاسيس الشعرية والدينية. (Unger, NUBD, 85)

2(د) ملخص أسفار الأبوكريفا

في دليله الدراسي الرائع كيف وصل إلينا الكتاب المقدس ، يلخص لنا رالف إيرل محتويات كل سفر من أسفار الأبوكريفا. ولدقة هذا الملخص وإحكامه، أقدمه هنا للقارئ ليلمس قيمة هذه الأسفار مع كونها غير قانونية:

إسدراس الأول (حوالي 150 ق.م.) يحكي عن رجوع اليهود إلى فلسطين بعد السبي البابلى. ويقتبس كثيراً من أسفار أخبار الأيام وعزرا ونحميا، ولكن الكاتب يضيف الكثير من القصص الأسطورية.

وأهم ما ورد بهذا السفر هو قصة الحراس الثلاثة . كان الحراس الثلاثة يتجادلون عن أقوى شئ في العالم. فقال أحدهم: الخمر، وقال الآخر: الملك، وقال الثالث: المرأة والحق. ووضعوا هذه الآراء الثلاثة تحت وسادة الملك. وعندما استيقظ طلب من الرجال الثلاثة أن يدافعوا عن آرائهم.

ووصل الجميع إلى أن: الحق هو أقوى شئ على الإطلاق. ولما كان زربابل هو صاحب هذا الرأي فقد منحه الملك تصريحاً بإعادة بناء الهيكل في أورشليم كمكافأة له.

إسدراس الثانى (حوالي 100م) وهو سفر رؤوي يحوي سبع رؤى. وقد تضايق مارتن لوثر من تشوش هذه الرؤي حتى قيل إنه ألقي بالسفر في نهر الألب.

طوبيا (بداية القرن الثاني ق.م.) وهو عبارة عن رواية قصيرة. وبنبرة فريسية متشددة، يؤكد على حفظ الناموس والأطعمة الطاهرة والغسلات الطقسية والصدقة والصوم والصلاة. أما تعليمه بأن الصدقة تكفر عن الخطية فهذا يتنافى مع تعاليم الكتاب المقدس.

يهوديت (حوالي منتصف القرن الثاني ق.م.) وهو عبارة عن قصة فريسية خيالية. وبطلة هذه القصة يهوديت الأرملة اليهودية الجميلة. وعندما حاصر الأعداء مدينتها أخذت جاريتها وبعض الأطعمة اليهودية الطاهرة وخرجت متجهة إلى خيمة قائد جيش الأعداء. فأعجب بجمالها وأدخلها إلى خيمته. ولحسن الحظ فقد أكثر من الشراب فسكر ووقع عليه سبات. فأخذت يهوديت سيفه وقطعت رأسه. ثم تركت هي وجاريتها معسكر العدو حاملة في حقيبة مؤنها رأس هذا القائد. وعُلقت الرأس على سور إحدى المدن القريبة فانهزم الجيش الأشوري.
تتمة أستير (حوالي 100 ق.م.) ينفرد سفر أستير دون أسفار العهد القديم كلها بأنه لا يورد اسم الله. فهو يحكي لنا أن أستير ومردخاي صاما ولكنه لا يذكر أنهما صليا. ولتعويض هذا النقص، تنسب هذه التتمة صلوات طويلة لهما، كما تورد رسالتان تنسبهما للملك أحشويروش.
حكمة سليمان (حوالي 40م) وكتب ليحفظ اليهود من السقوط في الشك والمادية والعبادة الوثنية. وهو يشخص الحكمة كما في سفر الأمثال. وفي السفر الكثير من الأخلاقيات النبيلة.
يشوع بن سيراخ (حوالي 180 ق.م.) ويبلغ هذا السفر مرتبة عالية من الحكمة الدينية شبيهة بعض الشئ بسفر الأمثال. وبه الكثير من النصائح العملية. فمثلاً في موضوع حديث ما بعد العشاء يقول (32: 8): تحدث بالاختصار وقال ما قلَّ ودلَّ. تصرف كإنسان يعرف أكثر مما يقول.

ويقول أيضاً (33: 4): أعدد ما ستقوله، فيصغي إليك الناس. ويقتبس چون ويسلي مرات عديدة من هذا السفر. ولا يزال يستعمل على نطاق واسع في الأوساط الأنجيلكانية.


باروخ (حوالي 100م) ويقدم كاتب السفر ذاته على أنه باروخ كاتب النبي إرميا في عام 582 ق.م. ولعله يحاول تفسير خراب أورشليم عام 70م. والسفر يحث اليهود على عدم الثورة مرة أخرى وعلى الخضوع للإمبراطور. ورغم ذلك فقد قامت ثورة باركوكبا ضد الحكم الروماني بعد فترة وجيزة عام 132-135م. ويحوي الأصحاح السادس من سفر باروخ ما يسمى رسالة إرميا التي تحذر بشدة من العبادة الوثنية - ويرجح أنه موجه إلى يهود الإسكندرية في مصر.


إن سفر دانيال الذي نعرفه يحوي اثنا عشر أصحاحاً. وفي القرن الأول قبل الميلاد أضيف إليه أصحاح آخر يحكي قصة سوسنة. وكانت زوجة جميلة لأحد القادة اليهود في بابل، وكان يتردد على منزل هذا القائد شيوخ اليهود وقضاتهم. وقد شغف بها اثنان من هؤلاء الشيوخ وحاولوا الإيقاع بها. وعندما صرخت قال الشيخان إنهما وجداها في أحضان أحد الشبان. فأحضروها للمحاكمة، ولما كان هناك شاهدان قد اتفقا ضدها فقد أدينت وحكم عليها بالموت.


وهنا تدخل شاب اسمه دانيال وقاطع المحاكمة وبدأ يستجوب الشاهدين. فسأل كل منهما على حدة تحت أي شجرة في الحديقة وجد سوسنة مع الشاب. ولما لم تتفق شهادتهما فقد حكم عليهما بالموت ونجت سوسنة.


أما قصة بيل والتنين فقد أضيفت إلى السفر إبان الوقت نفسه وعرفت باسم الأصحاح الرابع عشر من سفر دانيال. والغرض الأساسي منها إظهار مدى حمق العبادة الوثنية وهي تحتوي على قصتين.



في القصة الأولى سأل الملك كورش دانيال لماذا لا يعبد بيل الإله الذي تظهر عظمته في التهامه يومياً لكباش كثيرة مع دقيق وزيت كثير. وفي المساء نثر دانيال رماداً على أرض الهيكل حيث كان يوضع الطعام. وفي صباح اليوم التالي اصطحب الملك دانيال ليريه كيف أكل بيل كل الطعام أثناء الليل. ولكن دانيال لفت أنظار الملك إلى آثار أقدام الكهنة وعائلاتهم الذين دخلوا سراً من تحت المائدة. وعندئذ قتل الكهنة وهدم الهيكل.



أما قصة التنين فواضح أنها قصة أسطورية أيضاً. وهاتان القصتان وقصص طوبيا ويهوديت وسوسنة يمكن تصنيفها كقصص يهودية خيالية ذات قيمة دينية ضئيلة أو بلا قيمة بالمرة.


نشيد الثلاثة فتية العبرانيين: وهو يلي دانيال 3: 23 في الترجمة السبعينية وفي الفولجاتا. وهو يأخذ كثيراً عن المزمور 148، وهو نشيد غنائي به عبارة تكرارية مثل مزمور 136 حيث يتكرر به القرار التالي اثنين وثلاثين مرة: سبحوه وزيدوه علواً إلى الأبد.

صلاة منسي: وقد كتبت في زمن المكابيين (القرن الثاني ق.م.) ونسبت إلى منسى الملك الشرير لمملكة يهوذا. ومن الواضح أنها مستوحاة من العبارة المذكورة في أخبار الأيام الثاني 33: 19، وصلاته والاستجابة له ... ها هي مكتوبة في أخبار الرائين. ولما لم تكن هذه الصلاة مذكورة في الكتاب المقدس، فقد ألَّفها أحد الكتبة لتعويض النقص!


المكابيين الأول (القرن الأول ق.م) ولعلَّ هذا السفر هو أكثر أسفار الأبوكريفا قيمة. وهو يصف مآثر المكابيين الثلاثة الإخوة: يهوذا ويوناثان وسمعان. ويعد هذا السفر مع كتابات يوسيفوس من أهم مصادرنا التاريخية لهذه الفترة الحاسمة والهامة من التاريخ اليهودي.


المكابيين الثانى (كتب في نفس الفترة) وهذا السفر ليس تكملة لسفر المكابيين الأول ولكنه موازياً له، يروي فقط انتصارات يهوذا المكابي. وبه أساطير أكثر من المكابيين الأول.(Earle, HWGOB, 37-41)



3(د) الشهادة التاريخية لاستبعاد أسفار الأبوكريفا



يقدم لنا جايسلر ونيكس عشر شهادات تاريخية لعدم الاعتراف بأسفار الأبوكريفا:

1- اقتبس الفيلسوف اليهودي الإسكندري فيلو (20ق.م.-40م) من العهد القديم بشكل واسع كما أشار إلى التصنيف الثلاثي، ولكنه لم يقتبس قط من أسفار الأبوكريفا كأسفار موحى بها.


2- يستبعد المؤرخ اليهودي يوسيفوس (30-100م) أسفار الأبوكريفا ويحسب أسفار العهد القديم اثنين وعشرين سفراً. كما أنه لا يقتبس منها باعتبارها أسفار قانونية.


3- لم يقتبس المسيح ولا الرسل كتَّاب العهد الجديد ولو مرة واحدة من أسفار الأبوكريفا، رغم أن هناك مئات الاقتباسات والإشارات لمعظم الأسفار القانونية للعهد القديم.

4- لم يعترف علماء اليهود في مجمع جامنيا (90م) بأسفار الأبوكريفا.


5- لم يعترف أي مجمع للكنيسة المسيحية بأسفار الأبوكريفا كأسفار موحى بها ولم تذكره أي قائمة للأسفار القانونية على مدى القرون الأربعة الأولى.


6- كتب الكثيرون من آباء الكنيسة الأولين ضد أسفار الأبوكريفا مثل أوريجانوس وكيرلس الأورشليمي وأثناسيوس.


7- رفض جيروم (340-420م) العالم الكبير ومترجم الفولجاتا اللاتينية، أسفار الأبوكريفا كأسفار قانونية. وقال إن الكنيسة تقرأها كمثال للسلوك في الحياة وتهذيب الأخلاق ولكن لا تستمد منها أي عقيدة. ولقد دارت بينه وبين أغسطينوس مساجلات حولها عبر البحر المتوسط. وفي بداية الأمر رفض جيروم أن يترجم أسفار الأبوكريفا إلى اللاتينية، ولكنه ترجم بعد ذلك القليل منها على عجل. وبعد موته ورغماً عنه أدخلت أسفار الأبوكريفا إلى فولجاتته اللاتينية من النسخة اللاتينية القديمة مباشرة.



8- رفض الكثيرون من علماء الكنيسة الكاثوليكية في عصر الإصلاح أسفار الأبوكريفا.



9- رفض لوثر وغيره من المصلحين الدينيين قانونية أسفار الأبوكريفا.


10- لم تأخذ أسفار الأبوكريفا صفتها القانونية الكاملة حتى عام 1546م عندما انعقد مجمع ترنت (1545-1563م) وهو مجمع عقدته الكنيسة الكاثوليكية كرد فعل لحركة الإصلاح الدينى. (Geisler/Nix, GIB, 272-273)
خاتمة


بعد استعراض البراهين المختلفة، توصَّل كل من دافيد دوكري وكينيث ماثيوس وروبرت سلون في كتابهم الحديث أسس التفسير الكتابي ، فيما يتعلق بالأسفار القانونية للكتاب المقدس: لا ينبغي لأي مسيحي يثق في عناية الله ويعرف حقيقة قانونية كلمته أن يقلق بشأن موثوقية الكتاب المقدس الذي بين أيدينا الآن. (Dockery, FBI, 77, 78)
 

جورج واشنطن

عضو مميز
1(أ) موثوقية مخطوطات العهد القديم


يركز هذا الفصل على الموثوقية التاريخية للعهد القديم، حيث أن الكثير من البراهين التي نتناولها هنا تختلف عن تلك التي للعهد الجديد. وفي الفصلين الثالث والرابع نتناول الموثوقية التاريخية للكتاب المقدس وليس صحة وحيه. أما وحي الكتاب المقدس فيغطيه الجزء الثاني من هذا الكتاب.


تظهر موثوقية العهد القديم من خلال ثلاثة محاور رئيسية على الأقل: (1) النقل النصي (دقة عمليات النسخ على مرّ التاريخ، (2) البراهين القاطعة التي كشف عنها علم الآثار والتي تؤيد صحة العهد القديم، (3) البراهين الوثائقية التي كشف عنها أيضاً علم الآثار.




1(ب) النقل النصي: ما مدى دقة عملية النسخ؟



إن جزءاً من دراسة الموثوقية التاريخية للعهد القديم يتعلق بفحص النقل النصي (انتقال النصوص الأصلية للكتابات حتى تصل إلى النسخ المطبوعة لدينا اليوم). وكما هو الحال بالنسبة لكتابات العصور القديمة، ليس لدينا الوثائق الأصلية للعهد القديم. ولكن دقة النسَّاخ العبرانيين مذهلة إذا ما قارنَّا الكتاب المقدس بغيره من نصوص الكتابات القديمة.




يقول جليسن أركر:


ما ينبغي علينا إدراكه في هذا المقام (أي موضوع انتقال النص)، هو أن العهد القديم يختلف عن جميع الأعمال الأدبية الأخرى التي كتبت قبل المسيحية والتي نعرفها. وننبِّر هنا على أنه ليس لدينا مثل هذا الكمّ الكبير من المخطوطات التي وصلت إلينا من عصور متباعدة لأي من المؤلفات الوثنية كما هو الحال بالنسبة للعهد القديم. وأينما وجدت مثل هذه المؤلفات، مثل «كتاب الموتى» المصري، فإن الاختلافات فيما بينها كثيرة وخطيرة للغاية. إذ أن هناك فارق كبير مثلاً بين الفصل الخامس عشر الموجود في بردية أني (التي كتبت في زمن الأسرة الثامنة عشرة) وبردية تورين (التي ترجع إلى زمن الأسرة السادسة والعشرين أو ما بعد ذلك)، إذ أُدرجت جملاً بأكملها وحُذفت أخرى. كما يتفاوت المعنى بين الأعمدة المتناظرة للنصوص بشكل كامل في بعض الأحيان. وبغضّ الطرف عن العناية الإلهية التي حفظت النصوص العبرية حتى وصلت إلينا، فليس هناك سبب لعدم وجود ظاهرة التنوع والاختلاف نفسها بين المخطوطات العبرية التي دوِّنت في قرون متباعدة. فعلى سبيل المثال، رغم أن النسختين المكتشفتين لسفر إشعياء في كهف قمران الأول بالقرب من البحر الميت عام 1947 كانتا أقدم بألف عام من أقدم مخطوطة كانت معروفة آنذاك (980م)، إلا أنهما برهنتا على مطابقتهما لنص الكتاب المقدس العبري الذي بين أيدينا بنسبة 95 بالمائة من مجمل النص. أما الخمسة بالمائة الباقية فتشتمل بشكل رئيسي على زلات النسخ واختلافات في الأشكال الإملائية للكلمات. ولا تؤثر هذه على رسالة الوحي بأي حال من الأحوال. (Archer, SOT, 23-25)


ويتتبع روبرت ديك ويلسون من خلال ملاحظاته الرائعة صحة وموثوقية الكتاب المقدس منذ زمن الحضارات القديمة التي كانت تحيط بإسرائيل في العهد القديم:



تحوي الأسفار المقدسة العبرية أسماء ستة وعشرين ملكاً أو أكثر ذُكرت أسماؤهم في وثائق معاصرة لهؤلاء الملوك. وقد تبين أن هجاء أسماء معظم هؤلاء الملوك المنقوشة على آثارهم أو المدونة في وثائق ترجع إلى العصر الذي كانوا يحكمون فيه هو نفس الهجاء الوارد في نصوص العهد القديم. أما اختلافات الهجاء في البعض الآخر فهي تتفق مع قواعد علم الصوتيات التي كانت سائدة وقت تدوين النصوص العبرية. وفي حالتين أو ثلاثة فقط هناك حروف أو أشكال للهجاء لم يتم التأكد من تفسيرها حتى الآن. إلا أنه حتى في هذه الحالات القليلة لا يمكن اعتبار الهجاء الذي ورد في النص العبري هجاءً خاطئاً. ومن ناحية أخرى، فإن أسماء الكثيرين من ملوك يهوذا وإسرائيل وجِدت في الوثائق الأشورية المعاصرة لهم بنفس الهجاء الذي ورد في النص العبري الموجود الآن.



وفي 144 حالة للنقل من اللغات المصرية والأشورية والبابلية والموآبية إلى اللغة العبرية وفي 40 حالة أخرى للنقل في الاتجاه المعاكس، أي في 184 حالة تشير الأدلة إلى أنه على مدى 2300-3900 عام تم نقل الأسماء بدقة بالغة في مخطوطات الكتاب المقدس العبري. أما وأن الكتبة الأصليين قد دوَّنوها بهذه الدقة البالغة ومراعاتهم للقواعد اللغوية الصحيحة، فهو دليل رائع على علمهم وحرصهم الشديد، فضلاً عن ذلك فإن نقل النسَّاخ للنص العبري عبر هذه القرون الطويلة يعد ظاهرة لا مثيل لها في تاريخ الأدب. (Wilson, SIOT, 64, 71).

ويواصل ويلسون قائلاً:



ولا ينبغي لدارسي نصوص الكتاب المقدس سواءً كانوا مهاجمين له أو مدافعين عنه أن يفترضوا ولو لحظة واحدة أن هذه الترجمة الدقيقة وهذا النقل الصحيح لأسماء الأعلام هو أمر سهل أو عادي. وفي هذا المقام أود أن ألفت انتباه القارئ الذي ليس له دراية بهذه الأمور إلى أسماء ملوك مصر كما ذكرها مانيتو وكما تظهر على الآثار المصرية. كان مانيتو رئيساً للكهنة لهياكل الأوثان في مصر في زمن بطلميوس فيلادلفيوس أي حوالي 280 ق.م. وقد ألَّف عملاً عن أسر ملوك مصر، بقيت بعض أجزائه في أعمال يوسيفوس ويوسابيوس وغيرهم. ومن بين ملوك 31 أسرة يذكر 40 اسماً من 22 أسرة. ومن بين هذه يظهر 49 اسماً على الآثار بشكل يوافق الهجاء الذي ذكره مانيتو، وهناك 28 اسماً آخر يمكن التحقق منها جزئياً. أما الأسماء الثلاثة والستون الباقية فلا يمكن التحقق من أي مقطع فيها. وإن كان صحيحاً أن مانيتو نفسه نقل هذه القوائم من السجلات الأصلية -إذ أن نقله لتسعة وأربعين اسماً بشكل صحيح يؤيد هذا الفرض- فإن مئات الاختلافات والأخطاء في خمسين أو أكثر من هذه الأسماء التي لم يمكن التحقق منها لابد أنها ترجع إلى أخطاء مانيتو في النسخ أو أخطاء النسَّاخ الذين نقلوا النص من بعده. (Wilson, SIOT, 71-72).




ويضيف ويلسون أن هناك ما يقرب من أربعين من هؤلاء الملوك عاشوا فيما بين عامي 2000 ق.م. و400 ق.م. ويظهر كل منهم في تسلسل تاريخي: بالإشارة إلى ملوك هذه الدولة وملوك الدول الأخرى ... ليس هناك دليل آخر يمكن تصوره على دقة روايات العهد القديم أقوي من هذه المجموعة من الملوك. وفي ملاحظة هامشية يحسب ويلسون احتمال حدوث ذلك عن طريق الصدفة: وحسابياً، فهناك احتمال من بين 750 ألف مليون مليون مليون احتمال أن تكون هذه الدقة من قبيل الصدفة. .(Wilson, SIOT, 74-75)


وانطلاقاً من هذه البراهين يصل ويلسون إلى النتيجة التالية:



لا يمكن إنكار الدليل على أن نسخ الوثائق الأصلية قد وصلت إلينا بشكل صحيح تماماً على مدى أكثر من ألفي عام. أما انتقال النسخ التي وجدت منذ ألفي عام على نحو مماثل انحداراً من النسخ الأصلية فلا يُعد أمراً ممكناً فحسب، ولكنه، وكما أوضحنا، أصبح كذلك عن طريق التماثل بين الوثائق البابلية التي توجد الآن، والتي لدينا النصوص الأصلية لها والنسخ المنقولة عنها، حيث يفصل بينهما آلاف السنين، وكذلك التماثل بين عشرات المخطوطات البردية التي تبين عند مقارنتها بالنسخ الحديثة للمؤلفات الكلاسيكية أنه لم يطرأ على النصوص سوى تغييرات طفيفة على مدى أكثر من ألفي عام، كما يتبين ذلك من البراهين العلمية على الدقة التي نقلت بها أسماء الملوك وطريقة هجائها الصحيحة وكذلك المفردات الأجنبية الكثيرة الموجودة في النصوص العبرية. (Wilson, SIOT, 65).


أما ف.ف. بروس فيقول: وصل نص الكتاب المقدس العبري المكتوب بحروف ساكنة والذي حرره علماء المازورا إلى العصر الذي عاشوا فيه بدقة تامة في النقل على مدى ما يقرب من ألف عام. (Bruce, BP, 178).


ويخلص وليم جرين إلى أنه: يمكننا أن نقول بثقة إنه ليس هناك نص آخر باق من العصور القديمة انتقل بمثل هذه الدقة البالغة. (Green, GIOT, 81)

وفيما يتعلق بدقة نقل النص العبري، يقول أتكينسون، الذي كان مشرفاً ثانياً لمكتبة جامعة كمبريدج، أنها تكاد تكون معجزية.
ولمئات من السنين، اهتم علماء اليهود بنقل النص العبري، والتزموا إجراءات الحيطة الشديدة. ويلقي هذا الفصل الضوء على ما أسفر عنه ذلك.
 

جورج واشنطن

عضو مميز
1(أ) ما هي أسفار موسى الخمسة؟



كما ذكرنا من قبل، فإن الأسفار الخمسة الأولى: التكوين، الخروج، اللاويين، العدد، والتثنية - تعرف باسم أسفار موسى الخمسة. إن كلمة Pentateuch (أسفار موسى الخمسة) مشتقة من الكلمة اليونانية Pentateuchos التي تعني «خمس كتب مجموعة» (أي جُمعت) أو «خمس مجلدات». (Aalders, ASIP, 13). ويسمى التقليد اليهودي هذه الكتب الخمسة التوراة (التي اشُتفت من الكلمة العبرية Tara، التي تعني الوصايا أو الأوامر)، أو كتاب الناموس، ناموس موسى أو ببساطة الناموس (Albright, ACBC 903). كان أوريجانوس وهو أب من آباء الكنيسة في القرن الثالث أول من أعطى اسم «أسفار موسى الخمسة» لهذه الكتب الخمسة التي يفترض أن موسى كتبها. (Harrison, IOT,495)





2(أ) ما الذي تحتويه هذه الأسفار؟



يحلل هاريسون محتويات الأسفار الخمسة كما يلي:

1- التاريخ البدائي مع خلفية من الحقب التاريخية السحيقة: (تكوين 1-11).

2- تاريخ الآباء: (تكوين 12-50).

3- اضطهاد إسرائيل واستعدادات الخروج: (خروج 1-9).

4- الخروج، الفصح، والوصول إلى سيناء: (خروج 10-19).

5- الوصايا العشر والعهد الذي أعطاه الله لإسرائيل في سيناء: (خروج 20-24).

6- الشريعة فيما يخص خيمة الاجتماع وكهنوت هارون: (خروج 25-33) .

7- الانتهاك الوثني للعهد: (خروج 32-34) (عبادة عجل الذهب).

8- إنجاز النظام الخاص بخيمة الاجتماع: (خروج 35-40) .

9- شرائع التقدمات: (لاويين 1-7) .

10- رسامة الكهنة وتقديم الذبائح: (لاويين 8-10).

11- قوانين الطهارة: (لاويين 11-15).

12- يوم الكفارة: (لاويين 16).

13- قوانين خاصة بالأخلاق والطهارة: (لاويين 17-26).

14- النذور والعشور: (لاويين 27).

15- التعداد والنواميس: (عدد 1-9).

16- الرحلة من سيناء إلى قادش: (عدد 10-20).

17- التيهان إلى مؤاب: (عدد 21-36).

18- استعادة التاريخ الماضي لفترة البرية: (تثنية 1- 4).

19- الخطاب الثاني، مع مقدمة تحذيرية: (تثنية 5- 11).

20- الفرائض والأحكام: (تثنية 12-26) .

21- اللعنات والبركات: (تثنية 24-30) .

22- تولي يشوع القيادة وموت موسى: (تثنية 31 - 34) (Harrison, IOT,496).






3(أ) الغرض من الأسفار الخمسة وأهميتها:



الكتاب المقدس هو تاريخ، ولكنه تاريخ من نوع خاص جداً، إنه تاريخ فداء الله للبشرية، وأسفار موسى الخمسة هي الفصل الأول من هذا التاريخ (Unger,IGOT,187-88).


ويتوسع انجر فيقول:

كان لكاتب الأسفار الخمسة خطة محددة. إنه لم يكرس نفسه لتسجيل قصة تاريخ البشرية.
ولكن كانت مهمته بالحري أن يعطي وصفاً لتدبير الله لخلاص البشرية. طبقاً لهذا، فإن أسفار التوراة الخمسة هي تاريخ له باعث خلفه، باعث ديني عميق يصبغ كل هذه الأسفار. من الناحية الأخرى فإن المبدأ الديني الكامن خلف هذا التاريخ لا ينقل الأحداث بأسلوب غير تاريخي. ولكنه فقط يمنح بعض الأحداث أهمية أكثر تتجاوز الأزمنة التي كُتبت فيها، وتصل في أهميتها لتطبيقها على أي أمة وأي شعب، مانحة إياهم قيمة ثمينة للغاية لكل الجنس البشري..


إن الفشل في فهم أسلوب وغرض أسفار التوراة الخمسة قاد كثيراً من النقَّاد إلى إنكار حقيقتها التاريخية كلية، أو تبِّني وجهات نظر تقلل من مصداقيتها. فمثلاً إذا كانت قصة الإقامة المؤقتة في مصر، والخلاص المعجزي، والتجوُّل في البرية كلها خرافات، فإن ارتباطها الحيوي ليس فقط بالتاريخ العبري ولكن بكل الخطة الكتابية عن الخلاص لابد أن تُثير المشكلة التي لا يمكن تفسيرها عن كيف يمكن لهذه الأحداث الرائعة أن تكون مجرد قصص مختلفة ووهمية. (Unger,IGOT,188-89)


يتحدث هوبارد عن الأهمية الرئيسية لأسفار التوراة الخمسة في فهم علاقة إسرائيل بالله:
تشهد الأسفار الخمسة عن أعمال الخلاص التي صنعها الله الذي هو سيد التاريخ والطبيعة. إن الحدث المركزي الذي عمله الله في تلك الأسفار (وفي الحقيقة في كل العهد القديم) هو الخروج من مصر. هنا يبدأ الله عملاً في وعي الإسرائيليين، وكشف عن نفسه أنه الله المخلِّص. إن البصيرة التي كسبوها من هذا الكشف مكَّنتهم تحت قيادة موسى أن يُعيدوا تقييم تقاليد الأسلاف، وأن يروا فيها بداية تعاملات الله التي رأوها بوضوح في تحريرهم من عبودية مصر (Hubbard, NBD,963).




وحتى لانجدون جيلكي وهو عالم يكاد يكون غير محافظ، يسمى الخروج واختبار سينا «النقطة المحورية في الديانة الكتابية». (Gilkey, COTBL, 147)
لهذا السبب فإن أسفار موسى الخمسة تشغل مكاناً هاماً في وجهة النظر المسيحية للكون إذا أنها تسجل أول كشف يكشفه الله عن نفسه للبشرية.
وكما يقول جيلكي إن حادثة الخروج لها أهمية عقائدية وأيضاً أهمية تاريخية. إن مسألة ما عمله الله في سيناء هي ليست مسألة يهتم بها الباحثون في الديانة السامية، ولكنها أكثر تهم المؤمن المعاصر الذي يريد أن يشهد اليوم عن أعمال الله في التاريخ. (Gilkey, COTBL,147).








4(أ) أصل وتاريخ نظرية أن موسى ليس الكاتب




بحسب يوحنا الدمشقي، فإن الناصريين، وهم جماعة مسيحية يهودية المنشأ كانت تعيش في القرن الثاني، هذه الجماعة أنكرت أن موسى هو الذي كتب تلك الأسفار الخمسة (Young, IOT, 113).




إن عظات كليمنتين، وهي مجموعة من الكتابات القديمة التي كتبت بعد القرن الثاني نصَّت على أن أسفار التوراة الخمسة قد كُتبت بواسطة سبعين رجلاً حكيماً بعد وفاة موسى.
ومع أنه كانت هناك العديد من المجموعات والأفراد من القرنين الأولين بعد الميلاد الذين أنكروا كتابة موسى للأسفار الخمسة، فإننا نلاحظ ما يقوله يونج فيما يلي:



أثناء القرنين الأولين من العصر المسيحي لا يوجد أي نقد سُجِّل يعد معادياً للكتاب المقدس بين آباء الكنيسة أو في الكنيسة الأرثوذكسية نفسها. وقبل زمان آباء كنيسة نيقية كانوا يعتقدون أن موسى هو الذي كتب الأسفار الخمسة، وأن العهد القديم كتاب مقدس.



إن مثل هذه المراحل من النقد العدائي التي بدأت في الظهور في هذه الفترة يأتي إما من مجموعات كانت تعتبر هرطوقية من العالم الوثني الخارجي. أو أن هذا النقد عكس افتراضات فلسفية معينة لها سمة منحرفة وغير علمية (Young, IOT,113-114).



هكذا فإن الإدّعاء أن موسى لم يكتب الأسفار الخمسة بدأ أثناء القرنين الأولين بعد الميلاد. إن الأساس الذي يستقر عليه هذا الإتهام كان بسبب وجود فقرات كان يُفترض أنها كُتبت بعد عصر موسى.


ومع أنه كان هناك قليل من الشك أن موسى هو الكاتب أثناء القرون التالية، فإن الجدال لم يتحرك إلى أساس جديد حتى القرن الثامن عشر وسرعان ما ظهرت نظرية عدم كتابة موسى لهذه الأسفار وتطورت بطريقة متسعة. (ولنظرة شاملة على التطورات منذ القرن الثالث وحتى القرن الثامن عشر انظر: E.J. Young, An, Introduction to the Old Testament) (Young, IOT,116-20
 

جورج واشنطن

عضو مميز
1(أ) مقدمة



هنالك مصطلح يحتاج إلى أن نشرح معناه، ألا وهو «ما وراء الطبيعة» أو «الميتافزيقا» طالما أن هذا هو لب الموضوع الذي نشرحه في هذا الفصل.


تقليدياً كان يشار إلى «ما فوق الطبيعة» في الدراسات الفلسفية بأنها هي دراسة الشيء كما هو في نفسه، وهذا يعنى: البحث عن الحقيقة كما هي في كينونتها. «ما وراء الطبيعة» تجيب على أسئلة مثل : ما هي الحقيقة؟ وما هو شكل هذه الحقيقة؟.
هناك تعبير آخر هو الـ «إبستمولوجيا» وهو علم يختص بتحديد كيفية الوصول إلى المعرفة.
وقاموس «أكسفورد للتعبيرات الفلسفية» يعرف هذا العلم بأنه «نظرية المعرفة»، أو كيف يتسني لنا أن نتعرَّف على ما نعرفه. مثلا، هل نعلم ما إذا كانت ملكاتنا وحواسنا تخدعنا بالطريقة التي تخبرنا به عن الحقائق المحيطة بنا؟. لهذا يجب أن نركِّز الجهد على التعرف على الحقيقة ثم ندرج بعد ذلك نحو كيفية التعرف عليها.










2(أ) ما هي الحقيقة؟




الحقيقة هي كل ما يتوافق ويتطابق مع ما يشير إليه. وحقائق ما وراء الطبيعة هي تلك التي تتوافق مع الوقائع التي نتلمسها أو تعكس هذه الوقائع- وما هي مدي واقعيتها.


ونحن نعني بالتوافق أنه «التلائم مع شئ ما» وفي هذه الحالة، فإن الفكرة أو الجملة التي تختص بهذا الواقع يجب أن تتوافق مع هذا الواقع. ونعني بكلمة "الواقع" بأنه هو ما هو قائم أو متواجد أمامنا. وما إذا كانت هذه الوقائع متوافقة أم لا، فإننا سوف نناقشها في الفصل التالي المعنون «معرفية الحقيقة».





1(ب) الحقيقة تتوافق مع الوقائع (عكس الذاتية)




التوافق يشرح موقفاً فيه حقيقة واضحة، وهناك إيمان بوقوع هذه الحقيقة. والتوافق يعني أن هذا الإيمان حقيقي عندما يعكس بكل دقة هذه الحقيقة.


على العكس، نجد أنه في الذاتية تتحدد الحقيقة أو الوقائع داخلياً بواسطة شخص أو الذات.






1(ج) الحقيقة عند أرسطو





ميَّز أرسطو، الفيلسوف اليونانى، الفرق بين ما هو صواب وما هو خطأ، بالشكل الآتى: "لأن نقول بأن هذا الشئ هو كذلك بينما هو ليس كذلك، أو أن ننكر بأن هذا الشئ هو كذلك بينما هو في الواقع كذلك، يعتبر ذلك هو الخطأ. لكن عندما نقول عن الشئ بأنه كذلك وهو في الواقع كذلك، وأن نقول عن الشئ بأنه ليس كذلك وهو فعلا ليس كذلك، إذن هذا هو الصواب. لذلك فإن كل من يقول عن شئ ما بأنه كذلك أو ليس كذلك، فإنه بذلك يحدد ما هو صواب وما هو خطأ. (Aristotle, M, 4.7. 1011b 25- 30)





يؤكد أرسطو بأن الحقيقة تعتمد على التواجد الفعلى للشئ الذي تتعلق به فكرة أو جملة:



إذا تواجد رجل أمامنا، فإن الجملة التي تقول بأن هناك رجلاً متواجداً تعتبر صحيحة وبشكل تبادلى- طالما أن الجملة التي تؤكد تواجد الرجل صحيحة، إذن (في الحقيقة) هناك رجل. وبينما لا تعتبر هذه الجملة سبباً بأي شكل من الأشكال على تواجد الشئ، لذا يعتبر تواجد الشئ هو المسبب لصحة الجملة: أي أنه بسبب تواجد الشئ أو عدم تواجده هو الذي جعل من الجملة صواب أو خطأ. (Aristotle, C,12. 14b, 15- 22)



يقترح أرسطو بأن العبارة يمكن أن تتغير من صواب إلى خطأ فقط إذا تغير وضع الشئ الذي تصفه:

العبارات والاعتقادات... لا يحدث لها أي تغيير، ولكن لسبب تغيُّر أحوال الشئ فإنه يحدث أمر عكسي لها. فالعبارة التي ينطق بها الفرد تظل صحيحة؛ لكن ما يحدث من تغيير في الشئ هو الذي يجعل منها صواباً في آن وخطأ في آن آخر. وهكذا بالنسبة للاعتقادات... لأنه لا يطرأ أي شئ يمكن أن يغيِّر من العبارات والاعتقادات إلى ضدها، لكن السبب يعود إلى حدث آخر. فتواجد الشئ أو عدم تواجده هو الذي يحدد ما إذا كانت الجملة صحيحة أم خطأ، وليس بسبب قبولها هي ذاتها لما هو ضد. (Aristotle, C, 5.4 a 35- 4b 12)







2(ج) الحقيقة عند توما الأكوينى




يؤكد توما الأكويني أن الحقيقة تتحدد «بتوافق الفكر مع الشئ»؛ وما أن نحيط بهذا الفكر فإن الفطنة سوف تتعرف حينذاك على الحقيقة. هنا نجد أن توما الأكويني يعرِّف الحقيقة بأنها هي الترابط والتلاحم ما بين الفهم وما هو مطلوب فهمه:



كل أنواع المعرفة يتم الحصول عليها بنوع من الاستيعاب ما بين الساعي للمعرفة والشئ الذي يود معرفته. هو استيعاب يؤدي إلى خلْق المعرفة: لذلك فإن العين تدرك الألوان بسبب حدوث تأثير معين عليها فتميز الألوان. لذا بالطريقة المبدئية هو أن يلحق الشئ بفهم العقل ثم يتواءم معه. هذا التواؤم هو الذي نطلق عليه توافق الإدراك مع الشئ- من هذا التوافق يتحقق التصوُّر الواقعي للحقيقة. (Aquinas, OT, 1.1)


ويضيف الأكوينى، لأن معني الحقيقة يتكون من توافق الشئ مع الإدراك، وتوافق وتنوُّع الفروض المسبقة وليس تحديداتها، لذا فإن فكرة الحقيقة تظهر أولاً في منطقة الفهم والاستيعاب عندما يبدأ هذا الفهم في التقاط شئ يخصُّه ليس متوافراً في المجال الخارجى، لكن مع هذا هو متصل بالشئ، ومن المتوقع أن يتوافق معه. (Aquinas, OT, 1.3)






3(ج) الحقيقة عند الفلاسفة الحاليين





يحدد ج. مور الاعتقاد الصائب والخاطئ بأنه، عندما نقول بأن هذا الاعتقاد صائباً، فكأنك بذلك تقول إن هناك حقيقة كونية ترتبط بهذا الاعتقاد. وأن تقول إن هذا الاعتقاد خاطيء، فكأنك تقول أنه لا يوجد في الكون كله أي حقيقة مرتبطة بهذا الاعتقاد.



ويضيف مور قائلاً: عندما يكون الاعتقاد حقيقياً، فإنه بالتأكيد يرتبط مع حقيقة؛ وعندما يرتبط بحقيقة إذن هو صائب قطعا. ومشابهاً لذلك عندما يكون الاعتقاد خاطئاً، فإنه بالتأكيد لا يرتبط بأي حقيقة، ولأنه لا يرتبط بأي حقيقة، إذن هو اعتقاد خاطئ. (Moore, SMPP, 279)



يقرر مور أيضاً أن الحقيقة هي خاصية يمكن أن تلحق بأي اعتقاد مرتبط بالحقائق:




قلنا فيما سبق بأنه عندما نقرر صحة أمر ما فهذا يعني أنه مرتبط بحقيقة ما؛ ومن الواضح أن هذه الخاصية ربما ترتبط بها وكذلك ترتبط باعتقادات أخرى. فعلاً، إن اعتقاد البقال أن الطرد الذي طلبه هذا الصباح قد أُرسل له، ربما يكون هذا مرتبطاً بحقيقة ما (كأن يكون الطرد قد تم شحنه فعلاً). وهذا مماثل تماماً بالاعتقاد بأنه قد خرج ليتسلمه. الأمر حقيقي أيضاً بالنسبة للخاصية التي حددناها الآن في شأن خطأ الاعتقاد. وخاصية خطأ الاعتقاد تنحصر في عدم ارتباط الواقعة بأي حقائق (الطرد لم يرسل بعد). (Moore, SMPP, 277 -78)



برتراند راسل، الذي يؤمن باللاأدرية، يميز بين حقيقتين تختصان بالاعتقادات، الفعل الذي يصدق، يصدق بحق عندما تكون هناك تركيبات متواصلة لا تختص بالعقل والذهن، ولكن تتواجد أغراضها فقط. هذا التطابق يؤكد الحقيقة، وغيابها يحدث الخطأ طالما نأخذ في الحسبان في آن واحد لحقيقتين تقرران أن الاعتقاد (أ) يعتمد في وجوده على الذهن، والفكر (ب) لا يعتمد في وجوده على الذهن والفكر. (Russell, PP, 129)


ويجادل راسل ويقول بأن هناك عالم من الحقائق الموضوعية مستقلة تماماً عن الذهن: " الحقيقة الأولي المسلَّم بها والتي أود أن ألفت النظر إليها - وآمل أن تتفقوا معي بأن ما أدَّعيه هي مسلمات واضحة تماماً لدرجة أنه من المضحك أن أذكرها- هي أن العالم ملئ بالحقائق، وهي كما هي وبمقدار ما نختار التفكير فيه. وأن هناك أيضاً اعتقادات، لها صلة بالحقائق، ومن هذه الصلة نكتشف الصواب والخطأ. .(Rassell, LK, 182)



يشير الفيلسوف التوماستي آتين جيلسون إلى أنه لتحقيق التوافق ما بين طالب المعرفة والشئ المطلوب معرفته يجب أن يكون هناك فرق بين الاثنين:



تعريف الحق كتوافق أو تحقيق للمطلوب بين الشئ والذهن... هو تعبير بسيط كحقيقة. إن مشكلة الحقيقة لا يمكن أن يكون لها مفهوم إلا إذا تمَّ اعتبار الفكر واضحاً بالنسبة لأهدافه...
الحق ليس سوي الاتفاق ما بين المنطق الذي يحكم الأمور والواقع الذي يؤكده هذا الحكم. من جانب آخر، فإن الخطأ ليس سوي عدم الاتفاق.



ويستكمل جيلسون قوله: عندما أقول بأن بطرس موجود، وإذا كان حكم التواجد هذا حقيقياً، فإن هذا بسبب أن بطرس موجود فعلاً وحقاً، وعندما أقول أن بطرس هذا هو حيوان ناطق، إذا كان هذا حقيقي، فإن هذا يكون بسبب أن بطرس هو فعلاً كائن حي لديه موهبة المنطق والفكر والنطق. (Gilson, CPSTA, 231)



ويوضح ف. ب. رامسي الفرق ما بين الفكر والحقائق:


افترض أنني في هذه اللحظة بالذات أقرر أن قيصر قد اُغتيل: لذا فمن الطبيعي أن نميز في تلك الحقيقة فكري أنا من جانب، أو حالتي الذهنية الحالية، أو الكلمات والصور التي ترتسم في مخيلتي، والتي سوف نسميها العامل أو العوامل الذهنية، ومن جانب آخر إما قيصر نفسه، أو مقتل قيصر، أو قيصر ومقتله؛ وأفتراض أن قيصر قد قُتل، هذا سوف ندعوه العامل أو العوامل الموضوعية، وعندما أفترض أن الحقيقة التي أحكم عليها وهي أن قيصر قد قُتل، هي في الواقع تتكون من الإمساك ببعض العلاقة أو العلاقات بين هذه العوامل الذهنية والموضوعية. (Ramsey, FP as cited in Mellor, PP, 34)


يشرح كل من بيتر كريفت ورولاند تاسيلي أن الحقيقة تعني التوافق ما بين ما تعرفه أو تقوله وبينها هي ذاتها. فالحقيقة تعني الإخبار عنها كما هي في ذاتها. ثم يضيفون بقولهم:



كل النظريات التي تتكلم عن الحق، عندما يتمَّ التعبير عنها بكل وضوح وبساطة، تفترض تواجد الفكر العادي الشعوري للحقيقة المحفوظة في كلمات اللغة وتقاليد الاستخدام، وتحديداً نظرية التوافق. فكل نظرية تدَّعي بأنها حقيقية، هذا يعني، أنها تتطابق مع الواقع بينما الأخريات خاطئة، وهذا يعني، إن هذه قد فشلت في التوافق مع الواقع. (Kreeft, HCA, 364, 366)
يقول ج.ب مورلاند إن الحقيقة هي، صلة توافق وتطابق ما بين فكرة ما والعالم. إذا أمكن لفكرة ما أن تشرح العالم بكل دقة، إذن هي حقيقية. هي حينذاك تقف بالنسبة للعالم في علاقة ترابط. (Moreland, SSC, 81- 82)



ويؤمِّن على ذلك نورمان. ل. جيسلر:



الحقيقة هي تلك التي تتوافق وتتطابق مع ما تشير إليه (الفكرة التي تشير إليها الكلمة). حقيقة الواقع هي في التوافق الذي تكون عليها الأشياء فعلياً. الحقيقة هي التدليل عليها بكيانها ذاته. وهذا التوافق يستخدم وقائع مجردة وكذلك وقائع فعلية. هناك حقائق رياضية، وأيضاً هناك حقائق تختص بالأفكار والآراء. في كل الحالات هناك واقع تعبِّر عنه الحقيقة تماما. الخطأ حينذاك هو في كل ما لا يتوافق أو يتطابق، أي أنها تخبر عما ليس فيها، عندما يكون القصد من الجملة غير ملائم وليس في محله. حينئذ نقول إنها تفتقر للتوافق الجيد، هي مزيفة. (Geisler, BECA, 743)



ويذكر مورتيمر أدلر: كما أن صحة الحديث ينتج من التوافق ما بين ما يقوله شخص لآخر وما يفكر فيه الشخص أو يقوله، لذا فحقيقة الفكر تتكون من الاتفاق أو التواصل بين ما يفكر فيه الانسان أو ما يعتقد فيه أو يظنه وبين ما هو موجود على أرض الواقع أو ما لا يوجد في أرض الواقع مستقلاً عن أذهاننا وتفكيرنا.



ويشرح بيتر فان انواجن هذا الموضوع بقوله:



كل اعتقاد من اعتقاداتنا يمثل العالم كما هو بشكل ما. هذه الاعتقادات تكون صحيحة وصواباً إذا كان العالم فعلاً هكذا، وخاطئة إذا لم يكن هكذا، كما يعبِّر عنها ذلك الإنسان، وحيث ينتصب العالم حقاً طبقاً لاعتقاداتنا وقناعتنا! وإذا لم يحدث هكذا فإننا نعتبر بذلك مقصِّرين في أداء واجباتنا، وهذا خطأ منا وليس من العالم.


اعتقاداتنا وقناعتنا تنتسب هكذا للعالم كما تنتسب الخريطة لمنطقة معينة. يجب أن تنتسب الخريطة لمنطقة معينة، وإذا لم يحدث هذا، فذاك دليل على خطأ الخريطة وليس خطأ المنطقة. (Van Inwagen, M, 56)


ويلاحظ روبرت أودى، وهو شخصية قيادية في مجال علم الإبستمولوجي المعاصر (دراسة نظريات المعرفة):


عادة، الحالات والعمليات الداخلية التي تنصف اعتقاداتنا تربط هذه الاعتقادات بالحقائق الخارجية فيما يختص بصحة هذه الاعتقادات. انني أفكر في اقتراحات صحيحة، سواء كانت مصدَّقة أم لا، على طول خطوط شكل من أشكال نظرية الارتباط، التي مبحثها الأساسي هو الاقتراحات الحقيقية (أو الجمل التي تعبِّر عن الحقائق ) تتوافق أو تتطابق مع الواقع. ومن المعتاد أن يضاف إلى ذلك أنها حقيقية عند النظر إلى هذا التوافق. لذلك، فإن الحديث عن وجود حقل أخضر أمامي هو أمر حقيقي إذا كان هناك فعلاً حقل أخضر يقع أمامي، ويمكن أيضاً أن يقال إن هذا حقيقي بمقتضى تواجده أمامي. (Audi, ECITK, 239)


ويطور وليم ب. ألستون، أستاذ الفلسفة بجامعة سيراكيوز نظريته الخاصة في مجال تصوُّر الواقعي من الحقيقي وذلك بأسلوب مماثل: الجملة التي تبدأ بكلمة (أقترح، أعتقد) تعتبر صحيحة فقط إذا كان ما تقوله هذه الجملة تعبير عن الحالة بشكل واقعي. مثلاً، الجملة التي تقول إن الحديد يتمدد بالحرارة تعتبر جملة صحيحة إذا كان الحديد فعلاً يتمدد بالحرارة. هنا نجد أن محتوى الجملة -ما تظهره- تمدنا بكل شئ نحتاجه لنحدد ما إذا كانت الجملة صحيحة أم لا... ولا يوجد شئ آخر لضمان صحة الجملة، وليس هناك شيء أقل من ذلك يكفى. (Alston, RCT, 5-6)
 

جورج واشنطن

عضو مميز
(ج) نتائج إنكار المنظور التوافقي



هناك نتائج عديدة يجب أن تتَّبع إذا كانت الحقيقة لا تتوافق مع الواقع.


فلسفياً، الكذب مستحيل بدون ربطه بالواقع. إذا كانت كلماتنا ليست في حاجة لأن تتوافق مع الحقائق، لذا لا يمكن أبداً أن تكون غير صحيحة. وبدون نوع من التوافق مع الحقيقة، فلن يتواجد الصواب والخطأ. لن يكون هناك فرق في تحديد مدي دقة نظام ما في شرح حقيقة موضوعة، لأنه لا يمكن لنا أن نلجأ إلى حقيقة ما كدليل. العبارات لا يمكن أن يحكم عليها إنها صحيحة أو خاطئة، لكن إلى أي حد هي مرتبطة أم لا. بالتأكيد يوجد فرق بين أفكارنا عن الأشياء والأشياء نفسها عندما نقول عن شئ ما إنه صائب أو خاطئ. (Geisler and Brooks, WSA, 263)


والأكثر من ذلك:


كل التوافقات والارتباطات سوف تتحطم. العبارات التي تدلُّك على شئ ما يجب أن تتوافق مع الحقائق التي تدَّعي أنها تمدنا بمعلومات. لكن إذا كانت هذه الحقائق لن تستخدم لتقييم العبارة، إذن أنا لم أخبرك بأي شيء، انني أهذي وعليك أن تمعن النظر وتقيس ما أقوله بالنسبة إلى نظامك الخاص في منطقة الأفكار. والآن هذا يعتبر خطراً للغاية إذا كنت عابراًَ للطريق بينما عبارتي تخبرك بأن هناك سيارة ضخمة قادمة. ما هو قدر الوقت اللازم لتتمعن ما إذا كانت العبارة تتوافق مع اعتقاداتك الراسخة أم لا؟ (Geisler and Brooks, WSA, 263)







2(ب) الحقيقة مطلقة (عكس النسبية)



النسبية هي النظرية التي تقول ليس هناك معيار موضوعي يمكن بها أن نحدد الحقيقة والصواب، وبذلك تختلف الحقائق طبقاً للأفراد والظروف. (Trueblood, PR, 348)




1(ج) تعارض الحقيقة المطلقة والنسبية




واقع تعارض الحقيقة المطلقة مع النسبية يمكن أن نلاحظها في الاعتبارين التاليين (1) الحقيقة ليست نسبية مع الزمان والمكان، (2) الحقيقة ليست نسبية مع الأشخاص.



1(د) الحقيقة غير نسبية مع الزمان والمكان





من يعتقد في صحة المنظور النسبي سوف يعلِّق على الجملة التي تقول القلم على يسار مجموعة الكتب بأنها جملة نسبية طالما أنها تعتمد على تحديد أي جهة من المكتب أنت تقف. المكان دائماً ما يكون نسبياً مع التصوُّر، كما يقولون. لكن الحقيقة قد ترتبط بالزمن أيضاً. في وقت ما، كان صحيحاً أن نقول إن ريجان هو رئيس الجمهورية. لكن من الصعب أن يقول أحد ذلك الآن. إنها جملة صحيحة في زمن ما، لكن ليس الآن. الحقيقة في هذه الجملة ملتزمة بشكل باتّ بالزمن الذي قيلت فيه. لكن هذا التصور يفهم في جمل تختص بالزمان والمكان:



يبدو أن تفسير من يعتقد بالنسبية غير صحيح، فبالنسبة للزمان والمكان، فإن تصوُّر المتكلم لهما يفهم من الجملة. مثلاً جملة ريجان رئيس للجمهورية عندما قيلت سنة 1986 كانت حقيقية ودائماً ما كانت كذلك، وليس في وقت من عام 1986 توقفت من أن تكون صحيحة. أما إذا استخدم شخص ما نفس الجملة سنة 1990، فإنه يتقدم بجملة مختلفة، لأن استخدام الزمن الحاضر قد خصم منه أربعة سنوات من سياق الجملة. والسياق الزمني والمكاني هو جزء لاصق وملتحم بسياق الجملة الذي يحدد هذا المعني بالتأكيد. مع ذلك، إذاً كانت جملة ريجان رئيس للولايات المتحدة (قيلت عام 1986) فإنها تكون صحيحة دائماً لكل شخص وفي كل مكان، إذاً هي حقيقة مطلقة. ونفس الشئ يقال عن القلم الموضوع فوق المكتب. تصوُّر المتكلم يفهم كجزء من سياق الجملة. إنها حقيقة مطلقة.




يشرح لنا مورتمر أدلر أكثر من ذلك، الجملة التي تقول (ربما يكون هذا الأمر صحيحاً في العصور الوسطى، لكن لم تعد صحيحة الآن) أو (هذا ربما يكون صالحًا للبدائيين من الناس، لكنه لا يناسبنا)، هي مبنية على نوعين من الالتباسات. أحياناً تتعثر الحقيقة عندما نفكر فيها، وهناك مجموعة غالبة من الناس في زمان ومكان معين يعتبرونها صحيحة، كما في المثال التالي:



جزء من الجنس البشري منذ عدة قرون سابقة كان يعتقد بصحة أن الأرض مسطحة. هذا الرأي قد تم إنكاره الآن. هذا لا يعني أن الحقيقة الموضوعية قد تغيرت - إن ما كان صحيحا في زمن ما لم يعد صحيحا الآن... ما تغَّير ليس هي الحقيقة في حد ذاتها، لكن هو دوام هذا الرأي الذي توقف من أن يكون منتشراً ومصدقاً.



وهناك نوع ثان من الارتباك ينتج عندما نهمل سياق الجملة زمانياً ومكانياً:



عدد سكان أي دولة يتغير من وقت لآخر، لكن الجملة التي تصف عدد سكان دولة ما في وقت معين سوف يظل صحيحاً في وقت لاحق عندما يتزايد عدد سكان هذه الدولة. فتواجد تاريخ جملة ما تسجل عدد سكان الولايات المتحدة في سنة معينة يحقق صحة هذه الجملة طالما أنها هي في الواقع سليمة. (Adler, SGI, 43)



ويضيف أدلر الاتجاه نحو التراجع عما قد يعتبره الكثيرون كادِّعاء يتشفع لهم، يمكن لنا أن نتحقق منه بتذكر أن هذا الادِّعاء لا يعوق التعرُّف على أن أحكامنا الخاصة بالصواب والخطأ التي تتغير من زمن لآخر ومن مكان لغيره. الشئ المتقلب والمتغير مع ظروف الوقت والمكان هي الآراء التي نتمسك بها فيما يختص بالصحيح والخاطئ، وليس ما هو صحيح وخاطيء بشكل موضوعي.



2(د) الحقيقة ليست نسبية للأفراد





حتى اللاأدري برتراند راسل يؤكد أن الحقيقة ليست نسبية بالنسبة للأذهان. سوف نلاحظ أن أذهاننا لا تصطنع الحقيقة أو الزيف، إنها تخلق الاعتقادات. لكن ما أن تنشأ هذه الاعتقادات، فإن العقل هو الذي يجعل منها الصائب والمخطئ، إلا في الحالة الخاصة وهي ما يختص بأمور مستقبلية وتحت سلطة الشخص وإمكاناته، مثل اللحاق بقطار. ما يجعل الاعتقاد صحيحاً هو حقيقة ما، هذه الحقيقة (إلا في أحوال استثنائية) لا تستغرق عقل المؤمن بها بأي شكل من الأشكال. الحالة الخاصة قد تكون جملة مثل «يستقر في داخلي حلم»، حيث يخلق الذهن اعتقاداً مبنياً على حقيقة التي هي بالتالي لها صلة بالذهن. مع ذلك، فإن المبدأ سوف يظل سارياً. هناك حقيقة واقعية وهناك اعتقاد- الاعتقاد يعتبر صحيحاً عندما يعكس بكل دقة الحقيقة.





ويشرح الفيلسوف جوزيف أوينز هذا بقوله: طالما أن الوجود غير متوافق مع عدم الوجود في نفس اللحظة وبنفس الظروف، فهو يظهر نفسه كأمر مطلق. بالتالى، وإلى هذا الحد، يمدنا بقياس مطلق للحقيقة. عندما يهطل المطر هنا، فإن هذا المطر لم يتآلف وجوديا مع عدم الهطول. هذا أمر مطلق وغير نسبي بالنسبة للملاحظ. من وجهة النظر هذه، تكون وجهة النظر هذه حقيقة الحكم التي لها صفة مطلقة، لأنها تقاس بتواجد مطلق. (Owens, CEI, 208)
يلاحظ أدلر بأن الجملة التي تقول: هذا صواب بالنسبة لك، لكن بالنسبة لي ليست صواب». هذه الجملة ليست خاطئة لكن كثيرا ما يساء تفسيرها. سوء التفسير هذا ناتج من الفشل في التمييز ما بين الصواب والزيف المرتبط باقتراح أو جملة، وكذلك الحكم الذي يطلقه الشخص بالنسبة للصواب والخطأ الذي في الجملة محل التساؤل. وربما نختلف في أحكامنا بما يختص بالصواب والخطأ، لكن هذا لا يؤثر على حقيقة المادة ذاتها. (Adler, SGI, 41)


ويضيف أدلر:




صواب أو خطا أي جملة ينشأ من مدي علاقتها بيقينية الحقائق، وليس من الأحكام التي يطلقها الناس. أستطيع أنا أن أؤكد جملة ما وأقول إنها صحيحة بينما هي في الواقع خاطئة. ويمكن لك أن تنكر جملة ما على أنها خاطئة بينما هي في حقيقتها صائبة. تأكيدي وإنكارك لن يغيِّر أبداً من صواب أو خطأ الجملة التي أخطأنا فيها نحن الاثنان. إنها تحتوي على صواب وخطأ بغضّ النظر عما نظنَّه، أو الآراء التي ننتهجها أو الأحكام التي نطلقها. (Adler, SGI, 41)
بذلك يميز أدلر ما بين ذاتية أحكامنا على الحق وموضوعية الحق ذاته. ويشرح ذلك: المظهر الذاتي للحق يقع في الدعوة التي يطلقها الفرد لخلق الصدق في أحكامه. والمظهر الموضوعي يقع في التوافق أو التواصل بين ما يؤمن به الشخص والواقع الذي بسببه يطلق حكما عندما يتمسك برأي معين أو اعتقاد خاص. الشكل الموضوعي هو المتقدم والأول. (Adler, SGI, 42)
ويقول أدلر: «هؤلاء الذين يفشلون في تلمُّس هذا التمييز سمحوا لأنفسهم أن يتراجعوا نحو الشك المتزايد وذلك برفضهم أن يعرفوا بأن الاختلافات الشخصية للآراء الخاصة بالصواب والخطأ يمكن أن تحلّ بجهود تهدف إلى تأكيد ما هو صحيح أو خاطيء بشكل موضوعي، متذكرين أن حقيقة أي جملة تقع في منطقة علاقتها بالواقع وليس بصلتها بحكم الشخص عليها».
إذا كان هناك حقل أخضر أمامي، فهذه ليست حالة ذهنية، إنها تبدو كأمر موضوعي مستقل عما يدور في ذهن أحد. واللون الأخضر سوف يتواجد بغض النظر عن إيماننا بذلك أم لا. في الحقيقة، ما إذا كان اعتقادي صحيحاً يتحدد إذا كان الحقل متواجدا فعلاً أم لا. حقيقة هذه الاعتقادات الخاصة بالملاحظة تعتمد على حقائق خارجية، وبالتالي هي لا تعتمد على ما نعتقد أو نؤمن به. (Audi, ECITK, 239)



إذن، الواقع الخارجي أو الحقائق الخارجية، هي ما هو مستقل عن فكر البشر. ويستنتج أودي من ذلك، إذا كانت الحقيقة غير معتمدة على الذهن والإدراك، بهذا هي تعتبر موضوعية، إذن نحن لدينا صيغة معينة من الأمر الواقع، وبشكل تقريبي لدينا المشهد الذي يدل على أن الأمور الخارجية تعمل كما هي مستقلة كما نألفها.



ويلاحظ وليم ب. ألستون أن صحة جملة الحديد يتمدد بالحرارة بأنها ليست نسبية لكل إنسان:


ليس مطلوباً من أي شخص أو مجموعة من البشر، مهما كانت محدودة، أن تعرف أن الحديد يتمدد بالحرارة أو هناك مبرراً أو منطقاً في تصديق ذلك. ليس ملزما أن يعمل الإعلام في هذا الحدث الذي قرره الله منذ قديم الأزل، ونحو ما يستلزمه ذلك من الاستفسار بأن الحديد يتمدد بالحرارة. هذه الحقيقة ليست ملزمة لأن يتمّ قبولها من أغلبية واضحة من أعضاء جمعية فلاسفة أمريكا. ليس هناك إلزام أن تصبح محملة بمجموعة من الدلائل التجريبية. طالما أن الحديد يتمدد بالحرارة، لذا فكل ما قلته صحيحاً بالرغم من الحالة المعرفية لهذا الرأي الذي ينتهجه أي فرد أو جماعة. (Alston, RCT, 5- 6)



يلاحظ الأستاذ بيتر فان انواجن أن: العالم يتواجد وحوله خصائص معينة مستقلة تماماً عن اعتقاداتنا وتأكيداتنا. من هذا الرأي يستنتج أن صحة أو خطأ اعتقاداتنا وتأكيداتنا هي لذلك موضوعية، بمفهوم أن الصواب والخطأ قد غطَّى على هذه الاعتقادات والتأكيدات بأغراضها، وبالأشياء التي تفصح عن ذاتها. (Van Inwagen, M, 56)


ويضيف فان انواجن بقوله:



وكيف يمكن لموضوعية اعتقاداتنا وتأكيداتنا أن تؤمن بالصواب فيها؟ ... إذا أكدت أن مدينة ألباني هي عاصمة ولاية نيويورك، فإن ما أكدته هو حق وصواب إذا كانت ألباني هي ليست سوى عاصمة الولاية، وخاطيء إذا لم تكن ألباني عاصمة ولاية نيويورك. إذا كان باركلي يؤمن أنه لا يوجد شئ مستقل عن الفكر، لذا فإن ما يؤمن به هو حقيقي، إذن وإذا فقط لم يتواجد شئ ما مستقل عن الذهن والفكر. إذا ردَّد شخصان، أنا وأنت، نفس الاعتقاد عن شئ -ربما يؤمن كلانا بأن ألباني هي عاصمة ولاية نيويورك- إذن فالصواب والخطأ ينتقل إلى اعتقاداتنا العادية بخصائص هذا الشئ المحدد. إذن الحقيقة هي واحدة، ولا يوجد شئ يماثل القول بأن الحقيقة هي صحيحة بالنسبة لي، لكنها ليست صحيحة بالنسبة لك. إذا استجاب صديقك المدعو ألفريد لكلام نطقت أنت به، ثم يقول لك هذا صائب بالنسبة لك، لكن ليس هو بالنسبة لى، فإن كلماته هذه ينظر إليها باعتبار أنها غير سليمة. هنا كأنه يقول هذا ما تظنه أنت، لكن ليس ما أظنه أنا. (Van Inwagen, M, 56- 57)







2(ج) طبيعة التدمير الذاتي للمنظور النسبي




يتقدم مايكل جوبين، أستاذ الفلسفة بجامعة كاليفورنيا - ديفيز، بحجة مماثلة ضد المنظور النسبي:



إما أن النسبية هي نظرية عبقرية حيث تتسم براهينها بالوضوح والتأكيد، أو العكس هو الصحيح. لكن أي محاولة لتناول النسبية بدون الاعتماد على الحقيقة المطلقة سوف يقود بلا شك إلى الفشل، لأنها سوف تقود إلى نكوص غير محدود. وبالطبع، أي تأكيد للنسبية بدون اعتمادها على الحقيقة (المطلقة) سوف تفشل. إذن هناك تأكد واضح بأن النسبية إما أن تفشل، أو أنها ليست مؤكدة، إنها تشبه الهتاف الحربي الفارغ. (Jubin, CM, 89)
النكوص غير المحدود الذي ذكره جوبي يحدث عندما يدَّعي المعتنق لنظرية النسبية بأنها نظرية صحيحة. هذه النظرية إما أنها صحيحة بشكل مطلق (لكل الناس، في كل زمن وكل مكان) أم هي نسبية. إذا كانت النظرية صحيحة إطلاقاً، إذن فالنسبية باطلة، لأنه على الأقل هناك حقيقة صحيحة تماماً وبشكل مطلق. لكن إذا كانت النظرية صحيحة نسبياً، فالسؤال الذي يجب أن يُطرح لمن هي صحيحة (بشكل نسبي)؟. لنفترض أنها صحيحة لشخص اسمه جون، إذن فهذه النسبية تعتبر مؤكدة وصحيحة بالنسبة لجون، لكن هذا الادِّعاء وهو أن نظرية النسبية صحيحة في نظر جون، هل هي صحيحة بشكل مطلق أم نسبي؟. إذا كانت بشكل مطلق، إذن فنظرية النسبية باطلة، لكن إذا كانت نسبية، إذن هي نسبة لمن؟ هل هي نسبية لجون؟
وهل هي نسبية لشخص آخر؟


فلنفترض أن ادِّعاء صحة هذه النظرية قائمة بالنسبة لشخص آخر ندعوه سوزى، لذا على المؤمن بنظرية النسبية أن يشرح لنا ما إذا كانت الحقيقة مطلقة أم نسبية، وإذا كانت الأخيرة، لمن إذن هي تعتبر صحيحة، والآن فإن المؤمن بهذه النظرية يسير في طريق مسدود. أخيراً سوف يُصرِّح هذا الشخص بأنه يوجد على الأقل حقيقة مطلقة، وفي كل حالة فالنسبية زائفة، وإلا فإنه لن يستطيع القول ما الذي تم تأكيده عندما ادَّعي أن النظرية النسبية حقيقية. لذا فإن النسبية إما إنها تحمل بداخلها ما ينجم عنه تدمير ذاتي لها (وبذلك هي زائفة) أو إنها غير مؤكدة.



يعلق على ذلك جيسلر بقوله: «الطريقة الوحيدة التي بها يتجنب المؤمن بالنظرية النسبية المعضلة المؤلمة التي تواجهها هي أن يعترف بأن هناك عدداً من الحقائق المطلقة. وكما أوضحنا فإن معظم النسبيين يؤمنون أن النسبية هي حقيقة مطلقة وأنه يجب على كل إنسان أن يكون نسبياً، وفي داخل هذا يستقر عامل الدمار والهلاك لنظرية النسبية. الرجل النسبي يقف على قمة حقيقة مطلقة ويود أن يحقق النسبية لكل شئ آخر. (Geisler, BECA, 754)
وعلى نفس النمط يعِّلق كل من كريفت وتاسيلي بقولهما:



الذاتية العالمية باطلة بطلاناً سريعاً، بنفس الطريقة التي حدثت للتشككية. إذا كانت الحقيقة ذاتية، أي إنها صحيحة بالنسبة لي وليست بالنسبة لك، لذا فهذه الحقيقة أيضاً، الحقيقة الذاتية ليست صائبة، لكنها فقط حقيقية بالنسبة لي، لذلك فهذا الذاتي لا يقول بأن الذاتية حقاً صحيحة وأن الموضوعية حقاً زائفة، أو أن الموضوعي على خطأ واضح. أنه لا يتحدى خصمه ولا يجادل ولا ينازل، إنه فقط يشاركه المشاعر. أشعر بشعور طيب وهذه لا تبطل مفعول جملتك التي تقول لكن أنا أشعر بالمرض. الذاتية ليست فلسفة، إنها لا تصل إلى مستوى أن تأخذ بتلابيب انتباهنا أو رفضها. ادِّعاؤها يشبه «أنا أهرش» وليس «أنا اعرف». (Kreeft, HCA, 372)







3(ج) مشاكل إضافية تواجه المنظور النسبي




إذا كانت النسبية صحيحة، إذن لامتلأ العالم بأمور متناقضة، لأنه إذا كان هناك أمر ما صحيحاً بالنسبة لي وخطأ بالنسبة لك، إذن سوف نواجه حالات متناقضة ومتنافرة. لأنه إذا قلتُ: «يوجد لبن في الثلاجة» وأنت تقول: «لا يوجد لبن في الثلاجة»- وكلانا صواب، وهنا سوف يوجد ولا يوجد لبن في الثلاجة في نفس الوقت، لكن هذا مستحيل. لذا إذا كانت الحقيقة نسبية، تكون الاستحالة أمر واقع. (Geisler, BECA, 745)




في مناقشة ما بين رجل مسيحي وآخر ملحد، يبدو أن المسيحي على حق عندما يقول إن الله موجود، والملحد أيضاً على حق عندما يقول إن الله ليس له وجود. لكن من المستحيل أن يوجد الله ولا يوجد في نفس الوقت وبنفس المفهوم.


ويجادل جيسلر بقوله: «إذا كانت الحقيقة نسبية، إذن لا يتعرض أحد للخطأ - حتى عندما يحدث هذا لهم. طالما أن هناك شيئاً صحيحاً بالنسبة لى، فإنني سوف أكون على حق حتى ولو كنت مخطئاً. المشكلة هي أنني لن أتعلم شيئاً أيضاً، لأن التعليم هو عملية انتقال- من اعتقاد خاطيء إلى اعتقاد صحيح- وهذا يعني الانتقال من اعتقاد خاطيء بشكل مطلق إلى اعتقاد صائب بشكل مطلق. (Geisler, BECA, 745)







4(ج) النسبية الأخلاقية




النسبية الأخلاقية تستخدم للحكم على أخلاقيات المجتمع. ويشرح لنا ج.ب. مورلاند في كتابه «تحب الله من كل قلبك» إن النسبية تتمسك بأنه يجب على كل فرد أن يتصرف طبقًا لنظام مجتمعه... وهذا يدعو إلى القول بان الادِّعاءات الأخلاقية ليست هي بكل بساطة صحيحة أو خاطئة في حد ذاتها. (Moreland, LYG, 150)



ويتقدم مورلاند بخمسة تحليلات نقدية عن النسبية الأخلاقية:




(1) من الصعوبة بمكان تحديد نوعية المجتمع، أو أن نحدد في حالة معينة ما هو المجتمع الملائم. إذا تواجد رجل من المجتمع (أ) وأجري علاقة جنسية مع امرأة من المجتمع (ب) في فندق يخص المجتمع (ج)، فما هو المجتمع الملائم الذي يحدد ما إذا كان هذا العمل الذي صنعه صائباً أم خطأ ؟



(2) هناك اعتراض آخر خاص بحقيقة أننا كثيراً ما نكون أعضاء في مجتمعات مختلفة في آن واحد ولها قيم اجتماعية مختلفة: أسرتنا، عائلتنا الكبري الممتدة، جيراننا، المدرسة، الكنيسة، الأندية الاجتماعية، مكان عملنا، مدينتنا، محافظتنا، وطننا والمجتمع العالمي. فما هو المجتمع الملائم لنا ؟ إذا ما كنت أنا عضواً في مجتمعين والواحد منهما يقبل نوع من التصرفات والآخر يرفضه، ما الذي يمكن أن أفعله في تلك الحالة ؟




(3) النسبية الأخلاقية تعاني من مشكلة تُعرف بأنها مشكلة المصلح. إذا كانت النسبية المعيارية صحيحة، لذا فإنه يستحيل منطقياً أن يكون لمجتمع ما مصلح فاضل مثل يسوع المسيح، غاندى، مارتن لوثر كنج ، لماذا ؟



المصلح هو عضو في مجتمع، يقف خارجاً عن معايير هذا المجتمع الذي ينطق بحاجته للإصلاح والتقويم في معاييره. مع ذلك، إذا كان أي فعل صحيح يتماشي مع معايير مجتمع معين، حينئذ يقال عن المصلح ذاته إنه إنسان غير أخلاقي لأن آراءه مخالفة تماما لمجتمعه. وسوف يكون المصلحون على خطأ دائم لأنهم يقفون باستمرار ضد معايير مجتمعاتهم. لكن أي وجهة نظر تدعو للقول بأن المصلحين الاجتماعيين غير مرغوب فيهم يعتبر عملاً معيباً، لأننا نعلم جميعاً أن المصلحين قد وجدوا فعلاً! لكن بشكل مغاير. فإن الأخلاق النسبية توحي بأنه ليس الثقافات (إذا كانت التقليدية في الحسبان) ولا الفردية (إذا كانت الذاتية في الحسبان ) يمكن أن تصلح من معاييرهم الأخلاقية.




(4) بعض الأعمال تعتبر خاطئة بغضّ النظر عن الاعتقادات الاجتماعية. والمدافعون عن هذا الاعتقاد يتخذون موقفاً من الخصوصية ويدَّعون بأن كل الناس يستطيعون أن يعلموا بأن هناك شيئاً ليس على ما يرام، مثل تعذيب الأطفال وكذلك السرقة والطمع وهكذا، بدون الحاجة إلى منهج لمعرفة ذلك وكيف يتصرفون ويعرفون هذه الأمور. لذلك، فإن فعل مثل تعذيب الأطفال يمكن أن يكون فعلاً خاطئاً ومعروفاً أنه عمل خاطئ حتى إذا قرر المجتمع أنه عمل صائب، وهناك عمل يمكن أن يكون صائباً ومعلوماً حتى إذا دمغه المجتمع بأنه عمل خاطئ. في الحقيقة، يمكن لعمل ما أن يكون صائباً أو خاطئاً حتى إذا لم يذكر المجتمع أي شئ عنه.



(5) إذا كانت النسبية الأخلاقية على صواب، إذن يصعب علينا أن نقرر كيف أن مجتمعاً ما يكون على حق عندما يلوم مجتمعاً آخر في حالات معينة. طبقاً للنسبية الأخلاقية، يجب أن ألتزم بمعايير مجتمعي وعلى الآخرين أن يلتزموا بمعايير مجتمعاتهم. إذا فعل سميث عملاً صائباً طبقًا لمعاييره، لكنه غير مناسب بالنسبة لمعاييري، كيف أصف تصرفه بأنه عمل خاطئ ؟ يمكن للإنسان أن يتجاوب مع هذا الاعتراض بالإشارة إلى المجتمع (أ) الذي ربما تحتوي معاييره الأخلاقية على المبدأ الذي يقرر أن على الإنسان أن ينتقد عملاً مثل، الجريمة، بغض النظر عن مكان حدوثها. لذا فإن أفراد المجتمع (أ) ينتقدون مثل تلك الأفعال التي قد تحدث في مجتمعات أخرى. لكن مثل هذه الأحكام تكشف أيضاً عدم التوازن في نظرية النسبية المعيارية. إذا أخذنا في الاعتبار هذه القاعدة وحقيقة أن النسبية المعيارية حقيقية وينتهجها أعضاء المجتمع (أ)، لذا سنجد أن أعضاء المجتمع (أ) سيبدون متمسكين بالرأي القائل بأن أعضاء المجتمع (ب) يجب أن يرتكبوا الجرائم (طالما أن معايير المجتمع (ب) تعتبر أن هذا عمل مشروع). وعليَّ أن أنتقد أعضاء المجتمع (ب) لأن معاييري تحتِّم عليَّ أن أفعل هذا. لذلك، أتهم أنا أعضاء المجتمع (ب) وأقول إن الأخلاق القويمة تنقصهم، وفي نفس الوقت أتمسك بأن فعلهم يجب أن يحدث ويتمّ. أكثر من ذلك، لماذا يهتم أعضاء المجتمع (ب) بما يفكر فيه أعضاء المجتمع (أ) ؟ ومع كلٍّ، إذا كانت المعايير النسبية صحيحة، فلا يوجد شئ جوهري صواب بالنسبة لوجهات نظر المجتمع (أ) الأخلاقية أو أي مجتمع آخر. لذا بسبب هذا الموضوع وللأسباب الأخرى، يجب رفض الأخلاق النسبية.







5(ج) لماذا يتم رفض الحقيقة المطلقة

يعلق على ذلك كل من كريفت وتاسيلى: ربما يكون المصدر الرئيسي للذاتية هذه الأيام، على الأقل في أمريكا، هي الرغبة في القبول، وأن نكون معها، على الموضة، مستعدين في نطاق المعرفة بدلاً من أن نكون بعيدين عنها ومنكرين لها. كل هذا عرفناه ونحن أطفال صغار- ثم نرتبك ونحسّ بمخاوف مطلقة ونحن في سنوات المراهقة- لكن نضع فوقها حجاباً كثيفاً من الدراسة والاقتناع عندما نصل إلى مرحلة البلوغ. (Kreeft, HCA, 381)





مصدر آخر للذاتية طبقا لرأي كريفت وتاسيلي هو الخوف من التغيير الراديكالي - هذا يعنى، الخوف من التحوُّل، أن نولد من جديد، وأن يكرِّس الفرد حياته كلها وإرادته لخدمة إرادة الله، الذاتية هنا تعتبر أكثر راحة، هي مثل الرحِم أو الحلم أو الخيالات النرجسية. (Kreeft, HCA, 381)



وطبقا لرأي سي. أس. لويس، فإن أحد مصادر السم الكامن في الذاتية. كما يطلق عليها، هو الإيمان بأن الإنسان هو نتاج عملية تطور عمياء:




بعد أن درس الإنسان بيئته، بدأ في دراسة ذاته، وحتى هذه النقطة، ظنَّ وافترض عقله أنه أحاط بكل شئ آخر. الآن، أصبح عقله هو الموضوع: وهذا يبدو كأننا قد أخرجنا عيوننا خارجاً لكي ننظر إليهما. وما أن تمَّت دراستها، بدا له عقله كأنه ظاهرة ثانوية تصاحب تفاعلات كيمائية أو كهربائية في قشرة الدماغ هي في ذاتها عبارة عن منتج ثانوي لعملية تطويرية عمياء. إذن عقله، وهو الملك الذي يهيمن على الأحداث التي تقع في العوالم الممكنة، يجب أن تخضع له، وتصبح ذاتية مجردة. ليس هناك سبب لافتراض أنها سوف تنتج الحقيقة. (Lewis, PS, as cited in hooper, CR, 72)



ويتأمل انواجن في الحقيقة المعقدة التي ينكرها بعض الناس وهي موضوعية الحقيقة:
أكثر الأمور إثارة في موضوع الحقيقة الموضوعية هو أن بعض الناس ينكرون وجودها. إن الإنسان يعجب من تواجد هؤلاء المنكرين لحقيقة تواجد الحقيقة الموضوعية. على الأقل أنا أستطيع. في الحقيقة، حدث لي هذا كثيراً. لبعض الناس، يسير التفسير هكذا. إنهم معادون بكل عنف لكل شيء يمكن أن يقف مناوئاً لأحكامهم. الفكرة التي يعارضونها ويعادونها هى، بالطبع، تواجد الله. لكن أيضاً نجدهم معادين لفكرة تواجد كون موضوعياً لا يهتم بما يفكرون فيه، ويمكن له أن يجعل من أكثر اعتقاداتهم المحببة مزيفة حتى بدون أخد آرائهم (لكن هذه لا يمكن أن تكون هي القصة بأكملها، طالما تواجد هؤلاء الذين ينكرون هذه الحقيقة الموضوعية ويؤمنون أيضاً بوجود الله. وما يحفز هؤلاء الناس يعتبر شئ غامض من وجهة نظرى). فلنحذر القراء، يجب أن يكون واضحاً أنني لن أتمسك بأقل درجة من التعاطف الخيالي مع هؤلاء المعارضين لوجود الحقيقة الموضوعية. لذا فإنني لا أُعتبر مرشداً مناسباً لآرائهم. ربما، وحقاً، لا أتفهَّم وجهات نظرهم. إنني أفضِّل أن أؤمن أن لا أحد يصدِّق، ما يبدو على السطح، على الأقل، حيث يبدو أن بعض الناس يؤمنون بذلك. (Van Inwagen, M, 59)
 

جورج واشنطن

عضو مميز
(أ) مقدمة: هل الحقيقة قابلة لأن نعرفها؟



حيث أننا قد عرفنا الحقيقة بأنها التوافق والترابط ما بين أفكارنا والعبارات التي ننطق بها لكي تشير للواقع الموضوعي، لذا يجب علينا أن نقدم دليلاً يدافع عن الحقيقة التي تقول إنه من الممكن أن نعرف حدوث هذا الترابط، بمعني، ما إذا كان في مقدورنا أن نعرف الحقيقة. هذا يعني أنه لكي نعرف ما إذا كانت أفكارنا أو جملنا تتوافق مع الواقع، يجب علينا أولاً أن يكون في مقدورنا أن نعرف الواقع أو الحقيقة.




حقل الفلسفة الذي يتعامل مع كيفية المعرفة يطلق عليه نظرية المعرفة أو الإبستمولوجي. ويكفي في حالتنا هذه أن نعطي دليلاً لحقيقة أننا نعلم الحقيقة فعلاً، فليس مهماً في هذه المرحلة أن نشرح كيف يحدث هذا. لذلك، الدليل الذي نعرضه أدناه ليس الإجابة على السؤال الذي يقول كيف نعلم؟ لكن هو: هل نعلم؟



وهذا تحديد هام، لأن كل الفلسفات الحديثة التي تنكر إمكانية معرفتنا للواقع، وبالتالي تنكر أننا نتعرف على الحقيقة، تقع في خطأ بناء النظم المعرفية لشرح كيف نعلم الواقع بدون التعرف على حقيقة أن نعرف. وعندما يبدأون داخل مجال الفكر ويعلمون أنهم غير قادرين على بناء معبر إلى الواقع، حينئذ يعلنون أنهم غير قادرين على تلمس الواقع. هذا يشبه القيام برسم خريطة مغلوطة لطريق ما قبل فحص هذا الطريق، ثم يعلنون أنهم غير قادرين على معرفة كيف يصلون من شيكاغو إلى نيويورك.


في هذا الفصل، سوف نقدم الدليل في الاقتراح الذي يحدد أننا نعرف الواقع، وبالتالي نعرف الحقيقة- وهي التي تتوافق وترتبط بالواقع.








2(أ) معرفة الحقيقة
1(ب) المبادئ الأولية للمعرفة




المبادئ الأولية هي أساس كل الاستنتاجات التي يتمّ رسمها وتصويرها في منطقة خاصة بالمعرفة، سواء في مجال العلم أو الفلسفة.



الفيلسوف أرسطو يذكر كيف أن البرهان يعتمد على المبادئ الأولية، وهو الذي قال: «الظاهرة يجب أن تؤسس على مقدمات سابقة وأفضل معرفياً من الاستنتاجات. لأنه من المستحيل أن يكون هناك إثبات لكل شئ بشكل مطلق» (Aristotle, AP, 1.3.72b. 25) (سوف يكون هناك نكوص لا حد له، لذلك سوف يظل هناك غياب للإثباتات). (Aristotle, M, 4.4. 10061006a)
ويوضح لنا توما الأكويني ما يقصد به تعريف المبادئ وهي «أي شيئاً يسبق شئ آخر بطريقة ما ندعوه بالمبدأ». ويقول الأكويني: «المبدأ الأول لا يوضح الأسبقية (في الزمن) ولكن في المصدر». (Caquinas, ST, 1.33.1)


ويحدد ج. سوليفان المبادئ الأولية بأنها هي الأحكام التعميمية المفهومة والأكثر وضوحاً، والتي لا تفترض مسبقاً شيئاً آخر بنفس الترتيب لبرهنتها ومضمرة داخل كل حكم. (Sullivan, EFPTB, 33)


يذكر جيسلر أن المبدأ الأول هو:



نقطة البداية النهائية التي منها يتمّ رسم وتخطيط كل الاستنتاجات في منطقة معينة من المعارف أو الواقع. المبادئ الأولية تعتبر مكوِّنات ضرورية لكل المعارف، لكنها لا تمدنا بأي قدر من المعلومات.


هناك العديد من المبادئ الأولية، وكذلك هناك تنويعات من المعارف والوقائع. وطالما أن المبدأ الأول الذي تنبع منه باقي الأشياء في نظام معين، فإن المبادئ الأولية هي المقدمات المنطقية الأساسية والتي ينبع منها أي شئ آخر في نطاق المعرفة. (Geisler, TA, 72- 73)



لأي فرد يهدف إلى الوصول إلى المعرفة الدقيقة، يجب توافر نقطة بداية صحيحة. نقطة البداية هذه تخلق الأساس المعرفي ولا تحتاج إلى إثبات آخر للقول بأنها حقيقة. وهذا ما نعنيه بالمبدأ الأول.


ويذكر لنا ل. ريجيس الآتي: لذلك فإن المبدأ الأول هو، الأول ضمن أوائل، ويضيف قائلاً: تعبير المبدأ الأول يجب لذلك أن يُفهم بأنه مجموعة من الأحكام التي بها تستطيع ملكات الإنسان أن تلاحظ تواجد الروابط الضرورية بين تصورات مبدئية عديدة، هي روابط تدعو إلى التعريف بها بالإثبات أو فصلها بالنفي. (Regis, E, 378)







2(ب) المبادئ الأولية هي الأساس ذاتي البرهان لكل المعارف




نعني بذاتية البرهان، أنها ليست في حاجة لإثبات. إنها تظهر ذاتها بأنها حقيقية. لذلك، فإن المبادئ الأولية ليست في حاجة لأن تستنتج من واقع مبادئ أخرى. ويمكننا أن نعتبرها هي أساس كل المعارف.




ويذكر توما الأكويني أنه من الضروري تواجد نقطة بداية من الظواهر، إذا كان هناك نكوص غير محدود في الظواهر، فإن الإثبات سوف يكون مستحيلاً، لأن نتيجة أي ظاهرة تتأكد بالرجوع إلى المبدأ الأول لهذه الظاهرة. (Aquinas, CMA, 224)




يقول الأكويني بأن المعرفة يجب أن تتأسس على شئ نحن متأكدون منه: «المعرفة الأكيدة يلزمها اليقين، لهذا لا يمكن القول بأننا عرفنا بدون أن نعلم ما هو البديل». (Aquinas, PH, 1.8)
ويعيد جيسلر صياغة هذه النقطة بقوله: «إذا توخينا التأكيد الشامل، لذا يجب أن تتأسس المعارف على بعض المبادئ التي لا يشوبها شائبة». (Geisler, TA, 71)



ويلخص ذلك بقوله: «ليس من المعقول أن نتخطاها، حيث لا يمكن للإنسان أن يكون متفتحاً عما إذا كانت صحيحة. ولا يكون للإنسان أي نوع من أنواع الفكر بدونها». (Geisler, BECA, 259)
ويقول جورج مافرودس إن المبادئ الأولية أساسية بالأكثر بالمقارنة بالحجج. ويستنتج من ذلك، إذا كان هناك معارف، إذن سوف يكون هناك مصدر لهذه المعارف أكثر من الحجج والبراهين. (Mavrodes, BG, 49)



ويتفق مع ذلك سي. أس. لويس بقوله: «المبادئ الأولية ذات الأسباب العملية تعتبر ضرورية لكل المعارف والحجج. وعندما ننكرها كأننا ننكر كل المعارف، ولا فائدة من محاولة النفاذ من خلال المبادئ الأولية. إذاً رأيت كل شيء، إذا كل شئ يعتبر شفافاً. لكن العالم الشفاف كلية هو عالم خفي لا نرى من خلاله كل الأشياء. ويشبه هذا تماماً كأننا لا نرى شيئاً». (Lwis, AM, 87)


ويجادل الفيلسوف جيمس ب. سوليفان بأنه لا يمكن أن يكون هناك نكوص لانهائي من الإثباتات:



كحقيقية واقعية، نفس نظام منطقة الأمور تستلزم أن يكون للسلسلة بداية. لأن الاستنتاجات تعرض من خلال مقدمات منطقية التي هي أما أن تكون ذاتية- الوضوح أو قادرة على إثبات ذاتها من خلال المقدمات الأخرى. لا يمكن أن يكون هناك نكوص لانهائي، حتى في نظام المنطق. إذا لم يكن هناك مقدمات في السلسلة ذاتية- الوضوح، فإن كل السلسلة ولن تحتوي على برهان. ولا يهم المدى الذي قد يسلكه الانسان، فسوف يظل هناك مقدمات مطلوب أن يبرهنها. لا، يجب أن يصل الانسان في النهاية إلى مقدمات ذاتية- الوضوح لا تحتاج إلى برهان من خارجها. (Sullivan, EEPTB, 25 - 26)






3(ب) المبادئ الأولية للمعرفة مستنبطة من أكثر الأشياء الأساسية المرتبطة بالواقع إنه كيانه




يذكر توما الأكويني أن الشيء الأولي الذي نفهمه هو أن هناك نظام معين يمكن العثور عليه في هذه الأشياء المفهومة عالميا. هذه الأشياء التي، قبل كل شئ، تخضع للفهم، هي، الفكر المحتوي في كل الأشياء مهما كان في مقدرة الانسان أن يتفهم. (Aquinas, ST, 1.2.94.2)

ويتفق رودلف بانداس مع ذلك بقوله: ما أن تتوافق مع الواقع، مهما كان شأن الشيء الذي أثار احساساتنا، فإن التصور الأول الذي نحصل عليه هو الوجود ذاته.


ويوضح بانداس بأن ما نفهمه ليس فقط فكرة تختص بالوجود، لكنه الوجود ذاته، العالم المادي هو الذي يمكن أن نقتحمه بشكل مباشر، وفيه يجب علينا أن نكتشف الحقائق الميتافيزيقية، حتى أكثرها علوا وسموا. إنها الميتافيزيقية الحقيقية لأنها ميتافيزيقا الحقيقة، كونها مثل هذا، وغرضها ليس هو فكرة الوجود. ولكنه هو الوجود الذي منه نحصل على فكرة. (Bandas, CPT, 34)


ويذكر الأكويني أن ملكاتنا وإدراكاتنا تعرف بطريقة طبيعية الوجود وخصائصه، وفي هذه المعرفة تستقر معرفة المبادئ الأولية. (Aquinas, CG, 2.83)


ويشير مورتمر أدلر إلى أن الفكر هو الذي يتوافق مع الواقع، وليس الواقع مع الفكر:


يوضع تعريف توافق وارتباط الحقيقة وزيفها، وهما فرضان قام بهما كل من أرسطو والأكويني، والذان طبقاً لحكمي، يمكن الدفاع عنهما فلسفياً شرعياً.



الأول يقول بتواجد واقع مستقل عن الفكر الإنساني، وهو إما أن يتوافق أو لا يتوافق. وبكلمات أخرى، ما نفكر فيه لا يخلق أو يؤثر فيما نفكر فيه. إنه هو كما هو، سواء فكَّرنا فيه أم لا، وبغض النظر عما نفكِّر فيه بشأنه.


الفرض الآخر هو أن الواقع المستقل هو محدَّد بشكل كامل. هذا هو مبدأ التناقض الميتافيزيقي لأرسطو. لا يمكن أن يتواجد شئ ما ثم لا يتواجد في آن واحد. وكل شئ موجود لا يمكن له أن يكون أو لا يكون له شأن ما في نفس الوقت.


يلاحظ رودلف بانداس أننا لسنا مضطرين أن نفكر في المبادئ الأولية، نحن نتصورها في تواجدها: هذه المبادئ الأولية يدركها ويتصورها الذكاء الإنساني في تواجدها. (Bansas, CPTP, 66)



في الفصل التالي سوف نرى أن هناك مبادئ أولية ترد إلى أصلها وهو مبدأ عدم التناقض. يلخص بانداس هذا الواقع، والوجود، وفعل المعرفة، ومبدأ عدم التناقض بأنها جميعاً متضامنة ومتصلة ببعضها البعض:


إذا كانت فكرة الوجود لا تمتلك قيمة منطقية (وجود حقيقي)، فإن مبدأ التناقض سوف يصبح قانون المنطق لكن ليس بالضرورة أن يكون خاصاً بالواقع. مع ذلك، فإن هذا الافتراض هو أيضاً لا يمكن التفكير فيه بشكل ذاتي: فكرة الوجود بسيطة بشكل مطلق ولا يمكن لشيء أن يتوافق معها جزئياً فقط. فكل ما يتطابق معها هو وجود، وما لا يتطابق هو ليس له وجود. إذن ذكاؤنا وفعلنا الخاص بالمعرفة هو ضروري بشكل قصدي ومتناسب مع الوجود. وإذا رفضت هذه العلاقة، فإن كل شئ يصبح غير واضح. (Bandas, CPTP, 65)





4(ب) قائمة بالمبادئ الأولية



كل من هذه المبادئ حقيقية في نطاق الانطولوچيا (علم الكائنات والموجودات) ويطبق أيضاً على منطقة نظم المعرفة (الإبستمولوچيا).


1(ج) الهوية أو التطابق (ب هو ب)



الكيان:
الشئ يطابق ذاته، إذا لم يكن كذلك، إذن هو ليس هو.



المعرفة (النتيجة): الوجود واضح وجِّلي، إذا لم يكن كذلك. فلا يمكن أن نتصور أو نفهم أي شيء.

2(ج) عدم التناقض (ب ليس هو نقيض ب)




الكيان:
الموجود لا يمكن أن يكون ليس موجوداً، لأن هذا ضد ذاك. والأضداد لا يمكن أن تتطابق. (Geisler, BECA, 251)




المعرفة (النتيجة): هناك طريقتان للتعبير عن هذا المبدأ:


(1) يستحيل أن تكون العبارات المتناقضة صحيحة في وقت واحد.


(2) إذا كانت العبارة المتناقضة الأولى صحيحة، فإن الأخرى ستكون خاطئة بالضرورة. (Regis, E, 388- 89)


3(ج) الوسط المستبعد ( إما ب أو ليس- ب)




الكيان:
طالما أن الوجود وعدم الوجود ضدان (متناقضان)، والأضداد لا يمكن أن تكون ذاتها، لذا لا يمكن لشئ أن يندَّس في الخبايا ما بين الوجود وعدم الوجود. الاختيارات الوحيدة هي: الوجود وعدم الوجود. (Geisler, BECA, 251)


المعرفة(النتيجة): الافتراض إما أن يكون صائباً أو خاطئاً. (Geisler, TA, 73)


4(ج) السببية (ما ليس هو ب لا يمكن أن يسبب ب)

الكيان:
فقط ما هو كائن الذي يسبب الوجود. لا شئ غير موجود. والشئ الوحيد فقط الذي يوجد يمكن له أن يسبب الوجود. وطالما أن تصوُّر السبب يشير إلى تواجد شيء له القدرة على التأثير في شيء آخر. فمن لا شيء المطلق ينتج لا شيء المطلق. (Geisler, BECA, 251)



المعرفة (النتيجة): ليس كل افتراض يمكن أن يعتمد في إثبات صحته على آخر. كل افتراض لا يتحقق فيها البرهان الذاتي، يعتمد في صحته على حقيقة افتراض له برهان ذاتي. (Geisler, TA, 64)

5(ج) الغائية (كل وسيلة تعمل لأجل غاية)



الكيان:
كل وسيلة تعمل لأجل غاية.



المعرفة: (النتيجة): كل افتراض له غاية منظورة، من الضروري أن يؤدي كل افتراض إلى معنى معين، والفكر يتواصل ويرتبط بما هو واضح وجليّ. (Geisler, TA, 74)



6(ج) المبادئ الأولية الأخرى يمكن ردها لمبدأ عدم التناقض



يصوِّر الأستاذ جسلر كيف أن كل من المبادئ التي ذكرت أعلاه يمكن ردها لمبدأ عدم التناقض:

أولوية مبدأ عدم التناقض واضحة طالما أن مبادئ الهوية أو التطابق والوسط المستبعد عبارة عن ظواهر معتمدة عليها. إذا كان التناقض ممكنا، إذاً لا يوجد شئ ما مطابق لنفسه (الهوية)، ولن يكون أحد الأضداد مخالف لأخيه (الوسط المستبعد). مبدأ السببية أيضا يرد إلى مبدأ عدم التناقض، لأنه بفحص التعبيرات فإنه يصبح الأمر متناقضاً لنؤكد أن كائن غير ضروري الوجود (معتمد) هو كائن ضروري الوجود ومستقل. وهكذا أيضاًَ، فإن مبدأ الغائية يستقر أيضاً حول مبدأ عدم التناقض، طالما الكائن يمكن أن يتصل بشئ غير الوجود، فإن الذكاء سوف يتواصل مع شيء مخالف لما هو واضح. (Geisler, TA, 76)


يضع أرسطو شرطين لأكثر المبادئ تأكيداً:


المبدأ الأكثر تأكيداً هو الذي يتحقق فيه استحالة خطأه، لأن مثل هذا المبدأ يجب أن يتحقق له أن يكون معروفاً بالأكثر ويكون أيضاً غير مفترض. هذا إذن، هو المبدأ الأكثر تأكيداً، حيث أنه يتطابق مع التحديد الموضَّح أعلاه. لأنه من المستحيل لأي فرد أن يصدق بأن نفس الشيء يمكن أن يتواجد ولا يتواجد في آن واحد. وهذه هي النقطة المبدئية حتى بالنسبة للمبادئ الأخرى. (Aristotle, M, 4.3, 10055 emphasis mine)




ويذكر أرسطو أيضاً: لقد أوضحنا الآن أنه من المستحيل أن يكون الشيء متواجداً وغير متواجد في آن واحد، وبهذا بيننا أن هذا هو أكثر المبادئ التي لا يمكن إنكارها.



ويلخص توما الأكويني الطبيعة البنائية لقانون عدم التناقض الذي اكتشفه أرسطو بقوله:



يقول أرسطو بأنه لا يستطيع أحد أن يتصور أن شئ ما يتواجد ولا يتواجد في وقت واحد، ولأن يفكر هكذا فإنه يؤكد وينكر في شهقة نفس. إن هذا سوف يدمر اللغة، وينكر كل المادة، كل الحقيقة، كل الاحتمالات وكل درجات الاحتمالات، إنها سوف تكون إخماداً لكل رغبة، وكل عمل سوف سيختفي ويضمحل. لأنه إذا تحددت كل التعارضات والأضداد (جعلت كنفسها)، حينئذ تكون نقطة المغادرة في الحركة محددة مع نهاية الطريق والشيء المفترض أن يكون حركة سوف يصل قبل أن يغادر.




لذا يوافق الأكويني بأن المبدأ الأول الذي يمكن برهنته هو أن نفس الشئ لا يمكن إثباته وإنكاره في نفس الوقت، وهو مبني على فكرة التواجد وعدم التواجد: وعلى هذا المبدأ يتأسس كل شئ. (Aquinas, ST, 1.2.94.2)




يلاحظ أدلر أن عدم التعارض والوجود والواقع تربطها صلة وثيقة مع بعضها البعض: بين أوائل مبادئ المنطق اليوناني هي القاعدة التي تحكم الصواب والخطأ بالنسبة إلى الافتراضات غير متوافقة: إما أن الاثنين على صواب، أو أن الاثنين قد يكونا على خطأ، أو أن أحدهما صحيح، إذن الآخر على خطأ. في داخل هذه القاعدة تتواجد بديهيات خاصة بعلم الكائنات والموجودات - حقيقة تختص بالواقع- حيث أن الفكر اليوناني كان ذاتي- الوضوح، وتحديداً، إنه لا يمكن لشيء أن يكون في آن واحد متواجداً وغير متواجد. (Adler, Tr, 70, 71)



في قائمة المبادئ الأولية نرى أنها جميعاً لديها مظهر وجودي ومظهر إبستمولوجي (كيف نعرف الشيء). ويوضح أدلر التحديد الهام بينهم في قانون عدم التناقض: قانون التناقض كتعبير عن الواقع يشتمل داخله قانون التناقض كقاعدة للفكر. قانون التناقض كتعبير عن الواقع يشرح الطريقة التي تكون عليها الأشياء. قانون التناقض كقاعدة فكر تصف الطريقة التي يجب أن نفكر بها إذا رغبنا أن يكون التفكير مطابقاً للحالة التي عليها الأشياء. (Adler, AE, 140)
ويسجل لنا ريجلند جاريجو- لاجرانج عالمية نظرية عدم التناقض، طبقا للواقعية التقليدية، كما عبر عنها أرسطو والأكويني، الفكرة العالمية تتواجد في العالم الحسي، ليس بشكل تكويني، لكن بشكل أساسي، وطبقاً لكل الآراء يعتبر الوجود هو الأكثر عالمية، وعليه نشأ قانون التناقض. (Garrigou - Lagronge, R, 372373)





ويتفق أدلر مع ذلك بقوله: «منطق الحقيقة هو ذاته لكل الادِّعاءات الاستثنائية للحقيقة- ادِّعاءات تقول بأن هناك شيئاً يتمّ الحكم عليه بأنه صحيح، وإن كانت الأحكام على العكس، فهي غير صحيحة. المسألة قد تكون نظرية في الرياضيات، تقييم علمي، استنتاج خاص ببحث تاريخي، مبدأ فلسفي أو مقالة تناقش الإيمان الديني. (Adler, TR, 10)
ويوضح أدلر الطبيعة ذاتية البرهان لنظرية عدم التناقض:




قانون التناقض، كتعبير عن الواقع، يشرح ما هو جاري وواضح للإدراك السليم. فهناك شيء- مهما كان - لا يمكن أن يتواجد ولا يتواجد في نفس الوقت. إنه إما أن يتواجد أو لا، لكن ليس نفس الحالتين في ذات الوقت. الشيء لا يمكن أن يكون له خاصية ولا يكون له تلك الخاصية في نفس الوقت. التفاحة التي أنظر إليها وهي في يدي لا يمكن في نفس اللحظة تكون حمراء اللون وليست حمراء. هذا الأمر واضح لدرجة أن أرسطو دعاه قانون التناقض ذاتي- البرهان. فبالنسبة له، ذاتية- البرهان تعني عدم إنكارها. يستحيل أن نفكر في تفاحة تكون حمراء وليست حمراء في نفس الوقت. (Adler AR, 140)








5(ب) يقينية المبادئ الأولية

1(ج) الطبيعة ذاتية البرهان للمبادئ الأولية




ليس علينا أن نتأمل في المبادئ الأولية لنعلم ما إذا كانت صحيحة أم لا، لأنها جميعاً واضحة (ذاتية- البرهان). فهي صحيحة بمجرد تفهُّم التعبيرات المستخدمة. الخمسة مبادئ المذكورة سابقاً هي جميعا ذاتية- البرهان وصحيحة.



هناك مثال كلاسيكي وهي المسألة التي تقول (المجموع أكبر من مجموع أجزاءه). وبمجرد أن نعرف كل من المجموع والأجزاء، سوف نعلم حالاً أن المسألة صحيحة. حالاً لا تعني في هذا المفهوم بسرعة، لكن الأفضل أن نقول: إنها لا تستغرق تفكيراً عميقاً وبعملية تمعن شديدة، هذا يعني، أنه ليس علينا أن نتأمل بعمق في المسألة قبل أن نعرف أنها على صواب.



يقول توما الأكويني إن الفكر لا يمكن أن يكون على خطأ بالنسبة لتلك التعبيرات المعروفة بمجرد ما تُفهم ألفاظها، كما في المبادئ الأولية التي نتقدم فيها نحو استنتاجات تكون تأكيداتها العلمية لها عصمة الحق ذاته.



ويضيف الأكويني قائلاً: الفكر دائماً على حق فيما يختص بالمبادئ الأولية، طالما لم يحدث خداع لنفس السبب الذي بسببه لم يحدث خداع عن كينونة الشيء، لأن المبادئ المعروفة بديهياً يتم التعرف عليها فور فهمنا لألفاظها، ومن حقيقة أن الافتراض متضمن داخل تعريف الموضوع. (Aquinas, ST, 1.17.3)




المبادئ الأولية مسائل ذاتية- البرهان (مثلاً: يظهر من شكلها أنها صحيحة). ولا يمكن أن نخطئ في المسائل ذاتية - البرهان، لذا فإننا لن نخطئ في المبادئ الأولية.


يعلِّق سكوت ماكدونلد ويقول بأن المسائل العاجلة تعتمد على الواقع، وهي الأساس الواقعي لكل التداخلات، ويستحيل أن نخطئ في شأنها:



إذن فالمسائل العاجلة، تعتمد فقط على الطبيعة الواقعية التي هي عليها ومدى العلاقات التي تربطهم سوياً، أي أنها في التركيب الأساسي للعالم، وليس على السيكولوجية والتراكيب الاعتقادية لأي موضوع معرفي. إذن، حالة التبرير غير الاستنتاجي تتكون في وعي الفرد بشكل مباشر للحقائق العاجلة التي تغرس الصحة الضرورية للمسألة. عندما يجد الإنسان أن هناك مسألة تعبِّر عن حقيقة عاجلة من هذا النوع، لن يخطئ أبداً في الإمساك بها. (Mac Donald, TK, as cited in Kretzmann, CCA, 170- 171)


النقطة التي أشار إليها ماكدونلد هي أن المسائل العاجلة لا يحدث لها تصفية ضمن أي نظام اعتقادي. هذه النقطة يجب أن نأخذها في الحسبان عندما نبدأ في نقد العبارات ذاتية- الهدم لهؤلاء الذين ينكرون أن الحقيقة معلومة. سوف نرى، أنه بالرغم من أساليبهم الفلسفية، لا يمكن للفلاسفة أن يتجاهلوا الواقع ومبادئ عدم التعارض. إنهم يودون أن يعملوا على تصفية الواقع من خلال نظامهم، لكن في حالة المبادئ الأولية، الواقع ليس ملزماً.
 

جورج واشنطن

عضو مميز
2(ج) العقل يميل إلى الحقيقة



يذكر توما الأكويني أن العقل يميل إلى الحقيقة، «الحقيقة هي نتاج الذهن، وهي تعبير عن تنصيبه الطبيعي، وكما أن الأشياء بدون معرفة تصل إلى منتهاها بدون العلم بذلك، لذا أحيانا ما يميل العقل الانساني نحو الحقيقة بالرغم أنه لا يتخيل طبيعتها». (Aquinas, P, 10.5)


يلاحظ الأكويني أن العقل له شهية طبيعية نحو الحقيقة - ويشرح ما يعنيه بذلك: «الشهية الطبيعية هي الميل الذي يصبغ كل شيء، كشيء طبيعي فيها، لشيء ما، حيث تميل كل قوة بشهيتها الطبيعية إلى ما هو مناسب لها». (Aquinas, ST, 1.78.1)


ويوضح مورتمر أدلر بأنه ليس لدينا تأكيدات للحقيقة، وكل ما نملكه هو الحقائق ذاتية- البرهان: العقل الإنساني يقبض على الحقيقة إلى الدرجة التي تبدو أحكامها متوافقة أو متطابقة مع الواقع- الطريقة التي بها أو ليست بها الأشياء. لأن نقول إن هذا لا يخصنا عندما ندَّعي بأن العقل البشري لديه قبضة حازمة، نهائية وعنيدة على أي حقيقة، بالرغم أنني أعتقد شخصياً أن هناك عدد من الحقائق ذاتية- البرهان بشكل نسبي نمسك بها في حزم وبشكل نهائي. مع ذلك، ومهما كان الأمر، يجب علينا أن نعرف أن الحقيقة يمكن الحصول عليها بشكل مبدئي، بالرغم من عدم تمكننا أبداً من القبض على الحقيقة بشكل كامل. (Adler, TR, 116- 17)






6(ب) المبادئ الأولية لا يمكن إنكارها ولا يمكن برهنتها

1(ج) عدم الإنكار



نحتاج أن نكون واضحين فيما نقوله في هذه النقطة. عندما نقول إن المبادئ الأولية لا يمكن إنكارها، نحن لا نقدم برهاناً إيجابياً عن المبادئ الأولية لكن بالأولى برهاناً سلبياً به نؤكد أن المبادئ الأولية لا يمكن إنكارها.



جيمس سوليفان يلخص منظومة أرسطو التي فيها يدافع عن عدم إنكارية المبادئ غير المتناقضة، ويسجل ثماني نتائج حتمية.


ثماني نتائج منطقية خاصة بإنكار قانون عدم التناقض




1- إن إنكار أهمية وصحة مبدأ التناقض، سوف يكون بمثابة انتزاع الكلمات من معانيها المحددة وتصير لغة الحديث بلا معني.

2- إن حقيقة الأمور الجوهرية يجب أن تهمل، سوف تقوم أحداث بلا أحداث، طيران بدون طيور؛ تغيرات بدون من يحدث لهم التغيير.


3- سوف لا يكون هناك تمييز بين الأشياء- الكل سيصبح واحداً. السفينة، الجدران، الرجل. الكل سيصبح واحداً.


4- هذا سوف يعني تدمير الحقيقة، فالصواب والخطأ سيكونون سواء.


5- سوف تدمر كل فكر، وحتى الآراء، لأن إثباتها سيكون هو نفيها.


6- الرغبات والتفضيلات سوف تكون غير لازمة، سوف لا يكون هناك فرق ما بين الخير والشر؛ لن يكون هناك سبباً للذهاب إلى المنزل، لأن الذهاب إلى المنزل لن يختلف عن البقاء في نفس المكان.


7- كل شئ سوف يكون صواباً وخطأ في نفس الوقت، لذلك لن يكون هناك رأي أكثر خطأ من غيره حتى بالنسبة لدرجته.


8- سوف يستحيل حدوث تغيير، أو حركة. لأن هذا يعني حدوث تغيير من حالة لأخرى؛ لكن إذا كانت مبادئ التناقض مزيفة، فإن كل حالات الوجود ستكون بنفس الشكل. (Sullivan, EFPTB, 121- 22)


ويكتب جون دونس سكوتس مقترحاً نتيجة أخرى لازمة لأي فرد ينكر المبادئ الأولية: « هؤلاء الذين ينكرون المبدأ الأول يجب أن يتم ضربهم أو يعرِّضوا للنار حتى يوافقون على أن الضرب وعدمه والحرق وعدمه ليست متطابقة». (Avicenna, M, as dited in Scotus, PW, 10)
ويسجل ريجنالد جاريجو- لاجرانج هذه النتيجة الغريبة:


إن لم يكن مبدأ التناقض ليس مطلقاً، لذا سوف تكون مقولة ديكارت: «أنا أفكر، إذن أنا موجود» فاقدة لكل معنى لها وتصبح مجرد ظاهرة فكرية. إذا كان ممكنا أن أنكر هذا المبدأ، لذا يمكن أن أقول، ربما أنا أفكر ولا أفكر في نفس الوقت، ربما أنا موجود وغير موجود، ربما أنا هو أنا وأنا لست أنا، ربما أنا أفكر هي غير شخصية مماثلة للفظة إنها تمطر. بدون إطلاق التناقض، فإنني لن أعرف الوجود الموضوعي لشخصي المفرد. (Garrigou- Lagrange, R, 372)




يجب على الفرد أن يستخدم المبدأ الأول لكي ينكر المبدأ الأول، وهذا شئ غريب:



المبادئ الأولية ليست منكرة أو متناقضة حتى درجة عدم الإنكار. هي إما أن تكون ذاتية- البرهان أو ترد إلى أمور ذاتية -البرهان. والمبادئ ذاتية - البرهان إما أنها صحيحة بطبيعتها أو أنها لا يمكن إنكارها لأن المسنود قابل للرد إلى الموضوع. ولأن المسنود قابل للرد إلى الموضوع تعني أن الإنسان لا يمكن له أن ينكر المبدأ بدون استخدامه. ومثال على ذلك هو أن مبدأ عدم التناقض لا يمكن أن يُنكر بدون استخدامه في موضوع الإنكار هذا.




ويوافق على ذلك رافي زاكارياس بقوله: «لا توجد طريقة لإنكار هذه القوانين الخاصة بالمجادلة، لأنه من الطبيعي أن يضطر الانسان لاستخدامها لكي يبطلها». (Zacharias, CMLWG, 11)
ويلاحظ جوزيف أوينز أكثر من ذلك أنه لا يمكن إنكار عدم التناقض في الفكر، «مهما كانت قدرتك على إنكارها في مجال الكلمات، إلا أنه لا يمكن إنكارها في مجال الفكر. فكل محاولة لإنكارها تعني إثباتها. تبعا لذلك هي ليست قابلة سواء للشك أو التصحيح. أنه حكم يتم التعبير عنه عالمياً عن الكيان الذي يمكن تلمسه في الأشياء المقتصرة على الحواس الخارجية ومن ذات الشخص نفسه من خلال الوعي». (Owens, ECM, 269- 70)




ويشرح مورتمر أدلر بأن العقل السليم يجد أن يدرك عدم التناقض هو خاصية غير منكرة للواقع، العقل السليم لن يتردد لحظة لكي يؤكد في لحظة معينة عن شيء ما أنه متواجد أو غير متواجد، إن ما حدث قد وقع أو لم يقع، إن شيئاً ما يعتبر له خاصية معينة أو ليست له هذه الخاصية. وبعيداً عن كون الفرد غير معقول، أو مخطئ، فإن افتراضات الواقع تتجاوب معها آرائنا أو لا تتجاوب. هذا الشكل من الواقعية يبدو أنه غير منكر بالنسبة للإدراك السليم. (Adler, SGI, 36)




2(ج) عدم إمكانية البرهنة


علينا أن نوضح هنا أننا لا نقول إن عدم البرهنة (مسألة غير مؤهلة للبرهنة عليها) هي دليل على كونها من المبادئ الأولية. الأفضل، نحن نقول إن عدم البرهنة هي حقيقية بالنسبة للمبادئ الأولية. تذكر أنه لا يوجد دليل آخر للمبادئ الأولية سواها. إنها ذاتية- البرهان. إنها أساسنا لكل الظواهر والمجادلات الأخرى.




يقول أرسطو بأن «عدم البرهنة» تعني أنه ليس كل المعارف قابلة للبرهنة: على العكس، معارف المقدمات لا تقبل البرهنة (أهمية ذلك واضحة؛ لأنه طالما يجب علينا أن نعرف المقدمات المنطقية السابقة التي يأتي منه البرهان، وطالما أن ذلك يجب أن ينتهي إلى حقائق جديدة، لذا يجب أن تكون تلك الحقائق غير قابلة للبرهنة. (Aristotle, AP, 1.3.72b)



ويعلن أرسطو أنه: من المستحيل أن يكون هناك إثبات لكل شئ على إطلاقه، حيث يظل دائماً هناك نكوص لانهائي لكي يظل هناك دائما عدم برهان. (Aristotle, M, 4.4.10062)
ويوضح الأكويني لا جدوى النكوص اللانهائي للبرهان:



نفرض أن أحدهم لديه برهان (لنتيجة ما) يجري على قواعد القياس المنطقي، على أساس مقدمات مبرهنة. هذا الشخص إما أن يمتلك قدرة على برهنة هذه المقدمات أو لا. إذا لم يكن لديه هذه القدرة، إذاً ليس في حوزته معلومات مناسبة لهذه المقدمات، وبالتالي ليس لديه معلومات بالنسبة للنتيجة التي يتمسك بها على حساب المقدمات، لكنه إذا كان لديه برهان لهذه المقدمات، فإنه سوف يتقابل مع مقدمات جديدة يصعب عليه برهنتها، وطالما أنه في حالة البرهان لا يمكن للإنسان أن يستمر إلى ما لا نهاية...ولذلك فإنه يجب أن يكون البرهان مستمداً من المقدمات الثابتة إما بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال وسائط أخرى.(Aquinas, PA,1.4,14)



ويوضح ألاسدير ماكنتاير الأمر بقوله: البحث في المبادئ الأولية لا يمكن أن يعتمد على البراهين، لأن البرهان نفسه نابع من المبادئ الأولية. (Macintyre, FP, 35)



ويناقش مورتمر أدلر هذا الموضوع بقوله: إنه لا يوجد دليل عن الحقيقة «ذاتية- البرهان» بعيداً عن ذاتها:


الحقائق ذاتية- البرهان تمدنا بأوضح الأمثلة للمعرفة بأفضل صورة لهذا التعبير. إنها تسمى ذاتية- البرهان لأن تأكيداتنا لا تعتمد على الدليل الجاري في تعضيدها وليس على المنطق المرسوم لإظهار أنها عبارة عن نتائج صحيحة تمّ التوصل إليها بالاستنتاج المنطقي. نحن نكتشف صدقها حالاً أو بشكل مباشر من فهمنا لما تؤكده. نحن مقتنعون- وليـس مجبورون- بحقيقتها لأننا نجد أنه من المستحيل أن نفكر بعكس ما تؤكده. نحن لسنا أحراراً بأي شكل بأن نفكر العكس. (Adler, SGI, 52)


7(ب) الاعتراضات التي تواجه المبادئ الأولية


1(ج) المبادئ الأولية هي طريقة غربية للتفكير



يجب علينا أن نلاحظ طبيعة عنصر الهدم- الذاتي لهذا الاعتراض.




البعض يقول إن هناك نوعاً آخر من المنطق، منطق شرقي (أو ربما من الشرق الأقصى)، يتمسك بفكرة أن الواقع، في صميمه، يتعانق مع المتناقضات. مع ذلك، فإن وضع حدود جغرافية لأي قانون عالمي هو مستحيل منطقياً. وطبقاً للمنطق الشرقي، يمكن للواقع أن يكون منطقياً أو غير منطقي، لكن إذا كان هناك شيئاً منطقياً وليس منطقياً، فإن هذا يمثل تعارضاً ولا معني له. لذا فبالنسبة للمنطق الشرقي فإن كل شيء هو بلا معنى تماماً. مع ذلك، إذا كان كل شيء بلا معنى، فهكذا يكون أيضاً التفرقة ما بين المنطق الغربي والشرقي هي تفرقة لا معنى لها. (Geisler and Bocchino, WSA,np)



ويعلن مورتمر أدلر: أساسيات المنطق يجب أن تكون عامة الثقافة كالرياضيات التي ترتبط بها مبادئ المنطق. مبادئ المنطق ليست غربية أو شرقية، لكن هي عالمية. (Adler, TR, 36)
ويخبرنا رافي زاكارياس القصة التالية التي تنير الطريق الذي يوضح مدى عدم جدوى الحديث في هذا الموضوع:



عندما كان الأستاذ يشرح ويعبِّر عن قانون عدم التناقض، أنهي كلامه بالجملة التالية، منطق (إما/ أو) هو طريقة غربية للنظر إلى الواقع. المشكلة الحقيقية هي أنك ترى المتناقضات كرجل غربي، بينما يجب أن تتقارب نحوها كإنسان شرقي. علماً بأن (كلاً/ و) وهي الطريقة الشرقية للنظر إلى الواقع.


بعد أن شرح كل من الفكرتين وهما (أما/ أو)، (كلاً/و) ولبعض الوقت، سألته عما إذا كان في إمكاني أن أقاطع تيار أفكاره وأسأله سؤالاً.



قلت له: سيدي، هل تريد أن تقول لي بأنني عندما أدرس الهندوسية فإنني إما أن أستخدم منطق (كلاً/و) أو لا شئ آخر؟


هنا حدث صمت رهيب، لذا أعدت تكرار نفس السؤال.


لذا طرح الأستاذ رأسه خلفاً وأجاب: إن (إما/ أو)، تبدو إنها قد بزغت من هذا السؤال أليس كذلك؟


قلت حـقاً، لقد بزغـت في هذا السؤال. وكأمر واقعي، فإنه حتى في الهند نحن ننظر إلى كل من الاتجاهين عندما نعبر الشارع، إنه إما الأتوبيس أو أنا، وليس كلانا.

هل تلمح الخطأ الذي وقع فيه ؟ إنه كان يستخدم منطق (إما/ أو) لكي يبرهن( كلاً/و). كلما حاولت أن تدمر قانون عدم التناقض كلما دمرك هو.


ويشير زاكارياس إلى، ما الذي يجعل الكثيرين لا يدركون الفلسفة «الشرقية»:



كل الطريقة التعليمية للفيلسوف الهندي شانكارا كانت سقراطية المنبع عندما كان ينازل الأفكار ليس بمنهج ديالتيكي ( كلاً/ و) لكن بمنهج عدم التناقض (إما/ أو)، كان يتحدي معارضيه ليثبتوا أنه على خطأ، وإذا لم يكن الأمر هكذا، فليستسلموا لآرائه. النقطة الهامة إذن ليس أننا نستخدم منطقاً شرقياً أو غربياً، إننا نستخدم المنطق الذي يعكس الواقع، وقانون عدم التناقض يستخدم بكل ثقة في الغرب والشرق. (Zacharias, CMLWG, 130)


2(ج) القوانين المنطقية مثل قانون التناقض ليست سوى قوانين شكلية لبناء نظم شكلية؛ وهي لا تنطبق على الواقع




ويجيب على ذلك رونالد ناش: «قانون عدم التناقض ليس هو بكل بساطة قانون خاص بالفكر، إنه قانون للفكر لأنه هو في المبدأ قانون وجودي. ليس القانون هو شئ يمكن لفرد ما أن يتناوله أم لا. إنكار قانون عدم التناقض يقود إلى العبثية في التفكير. إنه أمر مستحيل بشكل معقول أن تنكر قوانين المنطق. إذا تمَّ إنكار قانون عدم التناقض، إذن فلا شيء له معنى. إذا لم تعن قوانين المنطـق أولاً بما تعبر عنه فلا شيء آخر سيكون له معنى، ويشمل في ذلك أيضاً إنكار القوانين». (Nash, WVC, 84)



ويوافق على ذلك رددلف بانداس:



إذا كانت فكرة الوجود ليست لها قيمة منطقية، سوف يكون مبدأ التناقض قانوناً منطقياً لكن ليس بالضرورة خاصاً بالواقع. ولذلك، هذا الافتراض، لا يمكن التفكير فيه: فكرة الوجود هي فكرة بسيطة بشكل مطلق وليس هناك شيء يستطيع أن يتوافق معها إلا جزئياً. كل ما يتطابق «مع» هو متواجد: وكل ما ليس كذلك، لا يتواجد. إذن، هو عمدي بالضرورة ونسبي التواجد. إذا تم إنكار هذه العلاقة، فإن كل شئ سيصبح غير واضح. (Bandas, CPTP, 65)


3(ج) إن الدفاع عن قانون أو مبدأ عدم التناقض باستخدام عدم التناقض هو جدل دائري



ويجيب على ذلك نورمان جيسلر:




هذا اعتراض يربك الموضوع، لأن قانون عدم التناقض لا يُستخدم كأنه مصدر دليل صحته غير المباشر؛ إنه يستخدم بكل بساطة في مجال الدفاع عن أحقيته. خذ المثال والجملة التي تقول إنني لا أستطيع أن أتكلم كلمة باللغة العربية. هذه الجملة ذاتية - التدمير، طالما أنها تفعل ما تقول إنها لا تستطيع فعله. إنها تستخدم اللغة العربية لإنكار أنها يمكن أن تستخدم اللغة العربية، لذا هي لا تبرهن ذاتها. الدليل غير المباشر لقانون عدم التناقض هو مشابه لذلك. لا يمكن أن ننكر قانون عدم التناقض بدون استخدامها في نفس الجملة التي ننكرها. لأن الجملة التي تنكر عدم التناقض تقدَم كجملة غير متناقضة. إذا لم يكن كذلك، فلا معنى لها.




وبنفس الطريقة، إذا قلت أستطيع أن أنطق كلمة بالعربية. فإنه من الواضح أنني نطقت بكلمة عربية عند قيامي بنطق هذه الجملة. لكن لا توجد ذاتية- التدمير في شأن استخدام اللغة العربية عندما أقول أنا أستخدم اللغة العربية. هناك فقط شئ ذاتي التدمير في شأن استخدام العربية لإنكار إمكانية استخدامي لهذه اللغة. ومماثلاً لذلك، ليس من الخطأ استخدام مبدأ عدم التناقض للدفاع عنه. هناك فقط شئ خاطئ عند استخدام مبدأ عدم التناقض لإنكار هذا المبدأ. (Geisler, TA, 79)


4(ج) لا يمكن أن نعرف المبادئ الأولية (بعيداً عن التجربة) طالما أن الذهن فارغ تماماً إلى أن يختبر شيئاً ما.



يقول توما الأكويني: المعارف المختبرة ليست هي كل أسباب المعارف الذهنية... لذا ليس من المستغرب أن المعارف الذهنية تمتد أكثر من المعارف المختبرة. (Aquinas, ST, 1.84.6)

ويشرح نورمان جيسلر ويقول: إن معارف المبادئ الأولية هي «طبيعية». المعارف الطبيعية تُعرف بشكل طبيعي لأن لدينا القدرات الطبيعية أن نتصورها ونفهمها. (Geisler, TA, 90)
ويستخدم بيتر هوينن اللفظ «طبيعياً»: مثل المبادئ الأولية الأخرى، يحكم مبدأ عدم التناقض كل من الفكر والكيان، كذلك العلاقات بين الاثنين. وكنتيجة للسهولة التي يمكن بها أن نتعرف على هذه المبادئ- ليس دائماً مشكلة مع ذلك- هي تنتمي للعقل الانساني كأمر طبيعي. (Hoenen, PJ, 208)




يشرح جيمس سوليفان ما الذي يقصد باستخدام كلمة طبيعيا: الشخص الذي يضع حكماً ملموساً ليس على وعي واضح لهذه المبادئ في ذلك الوقت، لكن يمكن بكل سهولة وسلاسة أن تسحب منه السؤال، حتى إذا لم يفكر فيها أبداً سابقاً. وطالما أنه يقال إنه يمتلك مبادئ بالعادة أو الفعل، منذ بداية حياته المدركة. وهذا ما يعني بقولنا إن المبادئ الأولية تأتي بشكل طبيعي، ويتم التعرف عليها طبيعيا. (Sullivan, EFPTB, 33)



يلاحظ الأكويني أن هذه المعارف الطبيعية تحدث عندما يتقدم شيء إلى الذهن: «في كل إنسان يوجد قدر معين من المعارف، وبالتحديد نور الفكر الفعَّال، والذي من خلاله تستقر بعض المبادئ لكل أنواع العلوم حيث تفهم بمجرد ما تقدم للذهن». (Aquinas, ST, 1.117.1)


5(ج) كيف تكون معارف المبادئ الأولية من نتائج الخبرة ومع ذلك تكون فطرية؟
تذكَّر أنه حينما يُسأل أي إنسان باستخدام صيغة السؤال كيف يطلب معلومات معينة، هو بذلك يبحث في مجال الإبستمولوجي. لقد ذكرنا سابقاً أنه ليس من الضروري الإجابة عن صيغة السؤال عن كيف عند إعطاء دليل أي شئ ما هي الحالة في الحقيقة؛ مع ذلك، سوف نقدِّم إجابة عن هذا الاعتراض.



للإجابة عن هذا السؤال:


يقدم الأكويني مساهمة واضحة للإبستمولوچيا، إذ أنه يوحد ما بين عناصر (الملقن) و (المكتسب) في مجال المعارف. الإنسانية لديها غريزة فطرية وقدرة طبيعية أو شكل من أشكال حقيقة المبادئ الأولية التي زُرعت في طبيعتهم من قبل الله. لديهم المبادئ الأولية بشكل طبيعي كاستعداد لكل الأنشطة الإدراكية. وعندما نمتلئ من هذه القدرة الفطرية بمحتوى خبرات الحواس، نكون قادرين بالانعكاس الواعي أن ندرك المعارف الخاصة بالمبادئ الأولية، والتي هي جزء حيوي في طبيعتنا، هي تمكننا من إدراك الوعي بها. هي كأننا نقول، إننا نستطيع أن نعرف المبدأ الأول إذا استخدمنا المبادئ الأولية لمعرفتها، وإلا، لن تتيسر لنا الوسيلة التي يمكن بها تحقيق المعرفة بها. نحن نحصل عليها عن طريق التلامس قبل أن نعرفها عن طريق الوعي. (Geisler, TA, 90)



يلخص ايتين جيلسون إجابة الأكويني عن موضوع سؤال «كيف» بالآتي:


نحن نجد بذور كل المعارف في الإدراك ذاته. هذه البذور السابقة التكوين والتي لدينا عنها معرفة طبيعية هي المبادئ الأولية. من صفات هذه المبادئ هي أنها التصورات الأولىة التي تكونت بملكاتنا عندما نتصل مع المعقولات. وكوننا نقول بأنها سابقة الوجود لا يعني أن الملكات تمتلكها فعلاً، بشكل مستقل عن الفعل الذي تمارسه أذهاننا، إنها تعني بكل بساطة أولىة التجليات التي تستطيع إدراكاتنا أن تصل إليها في البداية من الخبرة الواعية. إدراك هذه المبادئ ليست أكثر فطرية من نتائج المجادلات الاستدلالية، لكن ما أن نكتشف السابق بشكل طبيعي، سنضطر أن نصل إلى التالي بجهد بحثي. (Gilson, PSTA, 246)

6(ج) لكن المنطق لا ينطبق على الواقع

للإجابة على هذا الاعتراض:



توجد فقط ثلاث وجهات نظر معقولة لها صلة بالعلاقة ما بين الضرورة المنطقية والواقع:


(1) المنطق لا يستطيع أن ينطبق على الواقع.

(2) المنطق ربما لا ينطبق على الواقع.

(3) المنطق يجب أن ينطبق على الواقع.

نحن نقول إن البديل الأول هو فكرة ذاتية الهدم، الثاني لا معنى له، لذلك فإن الثالث هو الرأي الوحيد المناسب. هذا يتركنا مع بديل وحيد ذو معنى، وهو: المنطق يجب أن ينطبق على الواقع. لأن الرأي القائل بأن المنطق لا يمكن أن ينطبق على الواقع يؤكد أن المنطق ينطبق فعلاً على الواقع في نفس المحاولة لإنكار ذلك.


والوضع الذي فيه المنطق ربما ينطبق على الواقع هو فرض لا معنى له، إلا إذا تطابق مع لفظ المنطق مع معنى الاصطلاح الواقع و ممكن في الجملة التي تدَّعى أن المنطق ربما لا ينطبق على الواقع. (Geisler, MPOA, 292- 93)


ويؤكد رافي زاكارياس أن: قوانين المنطق يجب أن تتطابق مع الواقع؛ وإلا كنا نعيش في مسكن للمجانين. (Zacharias, CMLWG, 11)


7(ج) لا توجد حقيقة تتوافق مع الواقع




يوضِّح رافي زاكارياس الطبيعة الانهزامية لهذه الجملة: لكل فرد يأخذ في حسبانه تلك الجملة بمحمل الجد وأنه ليس هناك حقيقة تتوافق مع الواقع يهدم الجملة ذاتها بالإيحاء بأنها ليست انعكاس للواقع، إذا كانت هناك جملة لا تعكس الواقع، لماذا إذن ننظر إليها بجدية ؟ الحقيقة كمبدأ يجب أن تتواجد حتى إذا رفض الإنسان وجودها، ويجب أن يكون قادراً على تحمل إمكانية التعريف بها.





ويشرح جيسلر هذا الأمر: حتى نظرية التعمدية تعتمد على نظرية التوافق مع الحقيقة. نظرية التعمدية تدَّعي بأن هناك شيئاً سليماً وصحيحاً إذا تممت ما انتويت عليه وتعمدت فعله. لكن هذا يعني أن هذا حقيقي إذا كان الإتمام يتواصل مع القصد والنية. لذا بدون تواصل للنيات والحقائق المستكملة لا توجد حقيقة. (Geisler, CTID, 335- 36)


8(ج) إذا لزم أساس معين لكل المجادلات، إذن أليست المبادئ الأولية في حاجة إلى أساس أيضاً؟




يوضح جيسلر: «إن قضيتنا ليست منحصرة في أن كل شئ في حاجة إلى أساس، لكن فقط الأشياء التي ليست ذاتية- البرهان. الأشياء التي ليست واضحة في حد ذاتها يجب أن توضِّح في تعبيرات تختلف عن الجمل ذاتية - البرهان. وما أن يصل الإنسان إلى مرحلة ذاتية - البرهان، فإنه حينذاك ليس في حاجة إلى التوضيحات بجمل وعبارات أخرى. (Geisler, BECA, 260)




هذه نقطة حساسة نتذكرها عندما نناقش هذه المسألة مع هؤلاء الذين يحتاجون إلى دليل للمبادئ الأولية؛ ولا يوجد دليل للمبادئ الأولية خلاف ذاتها - لأنها بكل بساطة ذاتية - البرهان.


9(ج) ليست كل إنسان يرى أن هذه المبادئ ذاتية- البرهان.



مع ذلك، وبكل بساطة، لأنه يوجد هناك بعض الأشياء ليست واضحة لكل فرد. لا يعني هذا إنها ليست ذاتية - البرهان. السبب الذي من أجله تكون الحقيقة ذاتية- البرهان غير كذلك لبعض الناس، ربما يكون ذلك لأنه لم يحللها بشكل جيد. لكن فشلهم في ذلك ليس سبباً لكي لا تتحقق الطبيعة الذاتية البرهان للمبادئ الأولية. (Geisler, BECA, 260)


10(ج) أنت فقط تحاول أن تفترض أن كل الظواهر تعتمد على إرجاعها إلى المبادئ الأولية، لكي تبرهن على أنه لا يمكن أن يتواجد نكوص لانهائي للإثباتات



ويجيب على ذلك جيمس سوليفان، هذه الاستنتاجات صارت مؤكدة ويقينية بإحالتها إلى المبدأ الأول للظواهر، وهو ليس مبدأً خاصاً باستقلالية الخبرة فيه يفشل النكوص اللانهائي للظواهر لأنه يتطابق؛ إنه على الأكثر نتيجة مشتقة من استحالة النكوص اللانهائي. (Sulivan, EFPTB, 26)
 

جورج واشنطن

عضو مميز
(أ) موثوقية مخطوطات العهد القديم



يركز هذا الفصل على الموثوقية التاريخية للعهد القديم، حيث أن الكثير من البراهين التي نتناولها هنا تختلف عن تلك التي للعهد الجديد. وفي الفصلين الثالث والرابع نتناول الموثوقية التاريخية للكتاب المقدس وليس صحة وحيه. أما وحي الكتاب المقدس فيغطيه الجزء الثاني من هذا الكتاب.
تظهر موثوقية العهد القديم من خلال ثلاثة محاور رئيسية على الأقل: (1) النقل النصي (دقة عمليات النسخ على مرّ التاريخ، (2) البراهين القاطعة التي كشف عنها علم الآثار والتي تؤيد صحة العهد القديم، (3) البراهين الوثائقية التي كشف عنها أيضاً علم الآثار.







1(ب) النقل النصي: ما مدى دقة عملية النسخ؟





إن جزءاً من دراسة الموثوقية التاريخية للعهد القديم يتعلق بفحص النقل النصي (انتقال النصوص الأصلية للكتابات حتى تصل إلى النسخ المطبوعة لدينا اليوم). وكما هو الحال بالنسبة لكتابات العصور القديمة، ليس لدينا الوثائق الأصلية للعهد القديم. ولكن دقة النسَّاخ العبرانيين مذهلة إذا ما قارنَّا الكتاب المقدس بغيره من نصوص الكتابات القديمة.





يقول جليسن أركر:



ما ينبغي علينا إدراكه في هذا المقام (أي موضوع انتقال النص)، هو أن العهد القديم يختلف عن جميع الأعمال الأدبية الأخرى التي كتبت قبل المسيحية والتي نعرفها. وننبِّر هنا على أنه ليس لدينا مثل هذا الكمّ الكبير من المخطوطات التي وصلت إلينا من عصور متباعدة لأي من المؤلفات الوثنية كما هو الحال بالنسبة للعهد القديم. وأينما وجدت مثل هذه المؤلفات، مثل «كتاب الموتى» المصري، فإن الاختلافات فيما بينها كثيرة وخطيرة للغاية. إذ أن هناك فارق كبير مثلاً بين الفصل الخامس عشر الموجود في بردية أني (التي كتبت في زمن الأسرة الثامنة عشرة) وبردية تورين (التي ترجع إلى زمن الأسرة السادسة والعشرين أو ما بعد ذلك)، إذ أُدرجت جملاً بأكملها وحُذفت أخرى. كما يتفاوت المعنى بين الأعمدة المتناظرة للنصوص بشكل كامل في بعض الأحيان. وبغضّ الطرف عن العناية الإلهية التي حفظت النصوص العبرية حتى وصلت إلينا، فليس هناك سبب لعدم وجود ظاهرة التنوع والاختلاف نفسها بين المخطوطات العبرية التي دوِّنت في قرون متباعدة. فعلى سبيل المثال، رغم أن النسختين المكتشفتين لسفر إشعياء في كهف قمران الأول بالقرب من البحر الميت عام 1947 كانتا أقدم بألف عام من أقدم مخطوطة كانت معروفة آنذاك (980م)، إلا أنهما برهنتا على مطابقتهما لنص الكتاب المقدس العبري الذي بين أيدينا بنسبة 95 بالمائة من مجمل النص. أما الخمسة بالمائة الباقية فتشتمل بشكل رئيسي على زلات النسخ واختلافات في الأشكال الإملائية للكلمات. ولا تؤثر هذه على رسالة الوحي بأي حال من الأحوال. (Archer, SOT, 23-25)



ويتتبع روبرت ديك ويلسون من خلال ملاحظاته الرائعة صحة وموثوقية الكتاب المقدس منذ زمن الحضارات القديمة التي كانت تحيط بإسرائيل في العهد القديم:




تحوي الأسفار المقدسة العبرية أسماء ستة وعشرين ملكاً أو أكثر ذُكرت أسماؤهم في وثائق معاصرة لهؤلاء الملوك. وقد تبين أن هجاء أسماء معظم هؤلاء الملوك المنقوشة على آثارهم أو المدونة في وثائق ترجع إلى العصر الذي كانوا يحكمون فيه هو نفس الهجاء الوارد في نصوص العهد القديم. أما اختلافات الهجاء في البعض الآخر فهي تتفق مع قواعد علم الصوتيات التي كانت سائدة وقت تدوين النصوص العبرية. وفي حالتين أو ثلاثة فقط هناك حروف أو أشكال للهجاء لم يتم التأكد من تفسيرها حتى الآن. إلا أنه حتى في هذه الحالات القليلة لا يمكن اعتبار الهجاء الذي ورد في النص العبري هجاءً خاطئاً. ومن ناحية أخرى، فإن أسماء الكثيرين من ملوك يهوذا وإسرائيل وجِدت في الوثائق الأشورية المعاصرة لهم بنفس الهجاء الذي ورد في النص العبري الموجود الآن.




وفي 144 حالة للنقل من اللغات المصرية والأشورية والبابلية والموآبية إلى اللغة العبرية وفي 40 حالة أخرى للنقل في الاتجاه المعاكس، أي في 184 حالة تشير الأدلة إلى أنه على مدى 2300-3900 عام تم نقل الأسماء بدقة بالغة في مخطوطات الكتاب المقدس العبري. أما وأن الكتبة الأصليين قد دوَّنوها بهذه الدقة البالغة ومراعاتهم للقواعد اللغوية الصحيحة، فهو دليل رائع على علمهم وحرصهم الشديد، فضلاً عن ذلك فإن نقل النسَّاخ للنص العبري عبر هذه القرون الطويلة يعد ظاهرة لا مثيل لها في تاريخ الأدب. (Wilson, SIOT, 64, 71).



ويواصل ويلسون قائلاً:




ولا ينبغي لدارسي نصوص الكتاب المقدس سواءً كانوا مهاجمين له أو مدافعين عنه أن يفترضوا ولو لحظة واحدة أن هذه الترجمة الدقيقة وهذا النقل الصحيح لأسماء الأعلام هو أمر سهل أو عادي. وفي هذا المقام أود أن ألفت انتباه القارئ الذي ليس له دراية بهذه الأمور إلى أسماء ملوك مصر كما ذكرها مانيتو وكما تظهر على الآثار المصرية. كان مانيتو رئيساً للكهنة لهياكل الأوثان في مصر في زمن بطلميوس فيلادلفيوس أي حوالي 280 ق.م. وقد ألَّف عملاً عن أسر ملوك مصر، بقيت بعض أجزائه في أعمال يوسيفوس ويوسابيوس وغيرهم. ومن بين ملوك 31 أسرة يذكر 40 اسماً من 22 أسرة. ومن بين هذه يظهر 49 اسماً على الآثار بشكل يوافق الهجاء الذي ذكره مانيتو، وهناك 28 اسماً آخر يمكن التحقق منها جزئياً. أما الأسماء الثلاثة والستون الباقية فلا يمكن التحقق من أي مقطع فيها. وإن كان صحيحاً أن مانيتو نفسه نقل هذه القوائم من السجلات الأصلية -إذ أن نقله لتسعة وأربعين اسماً بشكل صحيح يؤيد هذا الفرض- فإن مئات الاختلافات والأخطاء في خمسين أو أكثر من هذه الأسماء التي لم يمكن التحقق منها لابد أنها ترجع إلى أخطاء مانيتو في النسخ أو أخطاء النسَّاخ الذين نقلوا النص من بعده. (Wilson, SIOT, 71-72).





ويضيف ويلسون أن هناك ما يقرب من أربعين من هؤلاء الملوك عاشوا فيما بين عامي 2000 ق.م. و400 ق.م. ويظهر كل منهم في تسلسل تاريخي: بالإشارة إلى ملوك هذه الدولة وملوك الدول الأخرى ... ليس هناك دليل آخر يمكن تصوره على دقة روايات العهد القديم أقوي من هذه المجموعة من الملوك. وفي ملاحظة هامشية يحسب ويلسون احتمال حدوث ذلك عن طريق الصدفة: وحسابياً، فهناك احتمال من بين 750 ألف مليون مليون مليون احتمال أن تكون هذه الدقة من قبيل الصدفة. .(Wilson, SIOT, 74-75)


وانطلاقاً من هذه البراهين يصل ويلسون إلى النتيجة التالية:




لا يمكن إنكار الدليل على أن نسخ الوثائق الأصلية قد وصلت إلينا بشكل صحيح تماماً على مدى أكثر من ألفي عام. أما انتقال النسخ التي وجدت منذ ألفي عام على نحو مماثل انحداراً من النسخ الأصلية فلا يُعد أمراً ممكناً فحسب، ولكنه، وكما أوضحنا، أصبح كذلك عن طريق التماثل بين الوثائق البابلية التي توجد الآن، والتي لدينا النصوص الأصلية لها والنسخ المنقولة عنها، حيث يفصل بينهما آلاف السنين، وكذلك التماثل بين عشرات المخطوطات البردية التي تبين عند مقارنتها بالنسخ الحديثة للمؤلفات الكلاسيكية أنه لم يطرأ على النصوص سوى تغييرات طفيفة على مدى أكثر من ألفي عام، كما يتبين ذلك من البراهين العلمية على الدقة التي نقلت بها أسماء الملوك وطريقة هجائها الصحيحة وكذلك المفردات الأجنبية الكثيرة الموجودة في النصوص العبرية. (Wilson, SIOT, 65).



أما ف.ف. بروس فيقول: وصل نص الكتاب المقدس العبري المكتوب بحروف ساكنة والذي حرره علماء المازورا إلى العصر الذي عاشوا فيه بدقة تامة في النقل على مدى ما يقرب من ألف عام. (Bruce, BP, 178).



ويخلص وليم جرين إلى أنه: يمكننا أن نقول بثقة إنه ليس هناك نص آخر باق من العصور القديمة انتقل بمثل هذه الدقة البالغة. (Green, GIOT, 81)



وفيما يتعلق بدقة نقل النص العبري، يقول أتكينسون، الذي كان مشرفاً ثانياً لمكتبة جامعة كمبريدج، أنها تكاد تكون معجزية.


ولمئات من السنين، اهتم علماء اليهود بنقل النص العبري، والتزموا إجراءات الحيطة الشديدة. ويلقي هذا الفصل الضوء على ما أسفر عنه ذلك.
 

جورج واشنطن

عضو مميز
(ج) عدد المخطوطات




رغم أن العهد القديم لا يتمتع بمثل عدد مخطوطات العهد الجديد، إلا أن عدد المخطوطات المتاحة له اليوم جديرة بالملاحظة. وقد اقترحت أسباب لقلة المخطوطات العبرية القديمة. أول هذه الأسباب وأكثرها وضوحاً هو قِدم المخطوطات وقابليتها للفناء، إذ أن فترة تصل إلى ما بين ألفين وثلاثة آلاف عام تعد فترة طويلة لا يتوقع معها بقاء الوثائق القديمة. ومع ذلك تشير الشواهد العديدة إلى أن المخطوطات الباقية لا تزال بحالة جيدة. ومن الأهمية بمكان أن نحدد أولاً عدد المخطوطات الباقية. هناك عدة مجموعات هامة من المخطوطات العبرية اليوم.



والمجموعة الأولي من المخطوطات العبرية قام بجمعها بنجامين كينكوت (1776-1780م) ونشرتها جامعة أكسفورد وتضم 615 مخطوطة للعهد القديم. وبعد ذلك قام جيوفاني دي روسي (1784-1788م) بنشر قائمة تحوي 731 مخطوطة. وأهم اكتشاف للمخطوطات في العصر الحديث هي مخطوطات جنيزة القاهرة (في التسعينات من القرن التاسع عشر) ومخطوطات البحر الميت (1947م وما بعدها). وفي مخزن المجمع اليهودي بالقاهرة (جنيزة) اكتشفت مخطوطات قديمة، حيث وجد مائتي ألف من المخطوطات والقصاصات. (Kahle, CG, 13, and Wurthwein, .TOT, 25) ومنها ما يقرب من عشرة آلاف مخطوطة لأسفار الكتاب المقدس. .(Goshen-Gottstein, BMUS, 35)



قرب نهاية القرن التاسع عشر، اكتشفت الكثير من القصاصات التي ترجع إلى الفترة فيما بين القرن السادس والثامن في مجمع يهودي قديم في القاهرة بمصر، والذي كان حتى عام 882م كنيسة للملاك ميخائيل. ووجدت هذه المخطوطات في جنيزة أو مستودع كان يوضع به المخطوطات التالفة وغير السليمة حتى يتم التخلص منها بشكل ملائم. وقد تم عزل هذا المستودع ببناء حائط أمامه، فظل منسياً حتى تم الكشف عنه في ذلك الوقت. وفي هذه الحجرة الصغيرة كان هناك ما يقرب من 200.000 قصاصة تضم نصوصاً للكتاب المقدس بالعبرية والآرامية. وهذه المخطوطات الكتابية ترجع إلى القرن الخامس الميلادي. (Dockery, FBI, 162-163).



وما يقرب من نصف هذه المخطوطات التي وجدت بالمستودع تحفظ الآن بجامعة كمبريدج. أما الباقي فيوجد في أماكن متفرقة حول العالم. ولقد تعرَّف بول كال، مدير جنيزة القاهرة، على أكثر من 120 من المخطوطات النادرة كانت قد أعدتها مجموعة بابلية من الكتبة المازوريين.



إن أكبر مجموعة من المخطوطات العبرية للعهد القديم في العالم هي مجموعة فيركوفيتش في ليننجراد. وهي تضم 1.582 مخطوطة للكتاب المقدس بحسب النص المازوري مدوَّنة على الرقوق (725 مخطوطة مدونة على ورق)، هذا بالإضافة إلى 1.200 قصاصة من المخطوطات العبرية في مجموعة أنطونين. (Wurthwein, TOT, 23).كما يؤكد كاهل أيضاً على أن هذه المجموعة من المخطوطات والقصاصات أخذت جميعها من جينزة القاهرة. (Kahle, CG, 7).



وفي مجموعة فيركوفيتش هناك أربع عشرة مخطوطة عبرية للعهد القديم ترجع إلى ما بين عامي 929م، و1121م وكانت أصلاً في جنيزة القاهرة.


إن مخطوطات جنيزة القاهرة موزعة في أنحاء مختلفة من العالم. ويوجد بعض من أفضل هذه المخطوطات بالولايات المتحدة في مجموعة إنلو التذكارية بمعهد اللاهوت اليهودي بنيويورك. (Goshen- Gottstein, BMUS, 44f).




يحتوي المتحف البريطاني على 161 مخطوطة عبرية للعهد القديم.

وفي جامعة أكسفورد تحتوي مكتبة بودليان على 146 مخطوطة للعهد القديم، وكل منهما به عدد كبير من القصاصات.(Kahle, CG, 5) ويقدر جوشن جوتشتاين عدد المخطوطات الساميَّة الموجودة بالولايات المتحدة وحدها بعشرات الآلاف، حوالي خمسة بالمائة منها خاصة بالكتاب المقدس - أي أكثر من خمسمائة مخطوطة.(Goshen-Gottstein, BMUS, 30).



إن أهم المخطوطات العبرية للعهد القديم ترجع إلى ما بين القرن الثالث ق.م. والقرن الرابع عشر الميلادي. وأهم هذه المخطوطات هي مخطوطات البحر الميت التي ترجع إلى ما بين القرن الثالث ق.م. والقرن الأول الميلادي. وهي تضم مخطوطة كاملة لسفر إشعياء وآلاف القصاصات التي تشكِّل معاً جميع أسفار العهد القديم ما عدا سفر أستير. Geisler, BECA, 549 (انظر مخطوطات البحر الميت لاحقاً في هذا الفصل).



ترجع الأهمية البالغة لمخطوطات البحر الميت إلى أنها تؤكد صحة المخطوطات الأخرى اللاحقة لها. فمثلاً مخطوطة القاهرة (895م) هي أقدم مخطوطة مازورية قبل اكتشاف مخطوطات البحر الميت. وهي توجد الآن في المتحف البريطاني، وتسمي أيضاً المخطوطة القاهرية. وقامت بنسخها أسرة موسي بن أشير، وتضم الأنبياء المتقدمين والمتأخرين. أما باقي أسفار العهد القديم الأخرى فلا توجد بها. (Bruce, BP, 115-16)



مخطوطة ليننجراد للأنبياء (916م) تضم إشعياء وإرميا وحزقيال والاثنى عشر نبياً الصغار.
أما أقدم مخطوطة كاملة للعهد القديم فهي المخطوطة البابلية (1008م) وهي موجودة في ليننجراد. وقد نسخت عن مخطوطة مضبوطة نسخها الحاخام هرون بن موسي بن أشير قبل عام 1000م. (Geisler, GIB, 250)



مخطوطة حلب (900م) وهي مخطوطة هامة جداً. وقد تعرَّضت للضياع مرة، واكتشفت مرة أخرى عام 1958 . ولكنها لم تسلم من التلف. ففي أحداث الشغب التي حدثت في إسرائيل عام 1947 تعرضت للتلف جزئياً. ومخطوطة حلب هي أقدم مخطوطة مازورية كاملة للعهد القديم كله.



مخطوطة المتحف البريطاني (950م) وتشتمل على أجزاء من التكوين إلى التثنية.


مخطوطة روخلن للأنبياء (1105م) ونسخها المازوري ابن نفتالي. وهذه المخطوطات تثير تساؤلاً بشأن مدى الأمانة في نقل نصوص الكتاب المقدس. هناك العديد من أشكال الأخطاء التي يمكن أن تقع في المخطوطات، وهذه يلاحظها الناقد النصي للمخطوطات القديمة للعهد القديم (نتناول هذا الموضوع لاحقاً في هذا الفصل)، ولكن هل هذه الأخطاء من الأهمية والخطورة حتى تفسد الرسالة ذاتها أو تجعل من المستحيل نقل المعنى الصحيح؟ لو كانت كذلك، لكان قصد الله قد خاب، إذ أنه لم يستطع أن يحفظ وحيه حتى تستطيع الأجيال اللاحقة أن تدركه على النحو الصحيح. ولو أنه لم يهيمن بقدرته على الكتبة الذين دونوا النسخ المعروفة والمعتبرة للأسفار المقدسة لأفسدوا وحرفوا رسالته. ولو حرفت الرسالة، لفشلت خطة الله بأكملها لإعلان وحيه وتدوينه، ولكان الكتاب المقدس مزيجاً من الحق والباطل وفقاً لحكم البشر عليه (بدلاً من أن يكون مُحكَماً لهم).







2(ج) تاريخ نص العهد القديم




وقال الحاخام أكيبا، القرن الثاني الميلادي، النقل الدقيق (المازوري) للنص يحافظ على التوراة. (Harrison, IOT, 211) وفي اليهودية، كان يعهد للعلماء المتعاقبين بوضع معايير ثابتة للحفاظ على النص الكتابي ومن ثم استبعاد وقوع أي خطأ:




- السوفريم (كلمة عبرية تعني الكتبة) وهم العلماء اليهود القائمون على حفظ النصوص الكتابية بين القرنين الخامس والثالث ق.م.



- الزوجوث (اثنان من علماء النصوص) وكانوا يعيَّنون لهذا الغرض في القرنين الثاني والأول قبل الميلاد.


- التنايم (المعيدون أو المعلمون) واستمر نشاطهم حتى عام 200 م. وبالإضافة إلى العمل على حفظ وصيانة نص العهد القديم، نجد عملهم في المدراش (التفسير النصي)، والتوسيفتا (إضافة)، والتلمود (التعليم)، وهذا الأخير ينقسم إلى المشنا (التكرارات) والجيمارا (مادة التعليم). وقد تم جمع التلمود على نحو تدريجي بين عامي 100م، و500م. وكان من الطبيعي أن يعمل التنايم على صيانة الكتاب المقدس العبري إذ أن عملهم كان يتعلق بجمع تعاليم معلمي اليهود على مدى عدة قرون اعتماداً على النص الكتابي.

- علماء التلمود (100-500م)

يوضح جايسلر ونيكس التقليد الثاني للكتبة الذي يمتد من حوالي 400 ق.م. إلى 1000م:
بعد العصر الأول للتقليد الذي اتَّبعه كتبة العهد القديم في عصر السوفريم (حوالي 400 ق.م. - 200م) ظهر عصر ثاني وهو العصر التلمودي (حوالي 100-500م) وهذا تلاه التقليد المازوري الشهير (حوالي 500- 900م). وكان عزرا يعمل مع أول هذه المجموعات حيث كانوا يعتبرون حافظي الكتاب المقدس حتى العصر الذي تلي عصر المسيح. وفيما بين 100-500م، نما التلمود (التعليم) كمجموعة من القوانين المدنية والدينية العبرية التي تعتمد على التوراة.




ويمثل التلمود بالأساس آراء وقرارات معلمي اليهود من حوالي عام 300 ق.م. إلى حوالي عام 500م، وهو يشتمل على قسمين أساسيين: المشنا والجيمارا. (Geisler, GIB, 306)
وفي ذلك العصر أمضي العلماء الوقت الكثير في وضع القوانين المدنية والدينية العبرية. وضع علماء التلمود نظاماً معقداً بعض الشئ لنسخ كتبهم الدينية.

ويصف صموئيل ديفيدسون بعضاً من النظم التي وضعها علماء التلمود فيما يتعلق بالأسفار المقدسة. وهذه القواعد الصارمة - وسأستخدم هنا النظام الذي أورده جايسلر - وهو على النحو التالي:



(1) يجب أن يدون درج المجـمع على جـلد حيـوان طـاهر، (2) ويجب أن يعده للاستخدام الخاص من قِبَل المجمع شخص يهودي. (3) يجب أن تُضَم صفحات الدرج معاً بخيوط مأخوذة من حيوانات طاهرة. (4) يجب أن تحتوي كل صفحة من الجلد على عدد معين من الأعمدة ثابت في المخطوطة كلها. (5) يجب ألا يقل طول أي عمود عن 48 سطراً وألا يزيد عن 60 سطراً، ويجب أن يشتمل السطر على ثلاثين حرفاً. (6) يجب أن تحاذي أوائل السطور في النسخة كلها، وإذا وجِدت ثلاث كلمات دون محاذاة لا يعتد بهذه النسخة. (7) يجب أن يستخدم الحبر الأسود وليس الأحمر أو الأخضر أو أي لون آخر، ويجب أن يعد طبقاً لمواصفات محددة. (8) يجب أن يتم النقل عن نسخة معتمدة لا يحيد عنها الناسخ بأي حال من الأحوال. (9) يجب ألا يعتمد الناسخ على ذاكرته في تدوين أي كلمة أو حرف ولو كان أصغر الحروف، ما لم يكن الكاتب قد نقل عن المخطوطة التي أمام عينيه... (10) يجب أن يفصل بين كل حرفين ساكنين مسافة شعرة أو خيط. (11) وأن يفصل بين كل فقرتين مسافة تسعة حروف ساكنة. (12) وبين كل سفرين ثلاثة أسطر. (13) يجب أن ينتهي السفر الخامس من أسفار موسى بسطر تام وليس هذا ضرورياً بالنسبة للأسفار الأخرى. (14) علاوة على ذلك، يجب أن يرتدي الناسخ الثياب اليهودية كاملة. (15) وأن يغسل بدنه كله، (16) وألا يبدأ في كتابة اسم الله بقلم حالما أخرجه من مدواة الحبر، (17) وإن خاطبه ملك أثناء تدوينه لهذا الاسم يجب ألا يلتفت إليه. (Davidson, HTOT, 89)



ويضيف دفيدسون أن: الكتب التي لا يلتزم عند تدوينها بهذه القواعد كان مصيرها الدفن في الأرض أو الحرق، أو كانت تؤخذ إلى المدارس حيث كانت تستخدم ككتب للقراءة
 

جورج واشنطن

عضو مميز
كان علماء التلمود مقتنعين تماماً أنهم إذا ما انتهوا من نسخ إحدى المخطوطات فإنهم بذلك قد حصلوا على نسخة مطابقة للأصل، ومن ثم يمكنهم أن يعتمدوا النسخة الجديدة ويعطوها نفس الصلاحيات.

وفيما يتعلق بالتخلُّص من النسخ القديمة يضيف فريدريك كنيون في كتاب «كتابنا المقدس والمخطوطات القديمة» إلى ما سبق:


إن الحرص الشديد الذي كان يتَّبع عند نسخ المخطوطات هو نفسه السبب في اختفاء النسخ القديمة. فعندما كانت تنسخ المخطوطة طبقاً للمواصفات الدقيقة المنصوص عليها في التلمود، وبعد أن يتم التحقق من صحتها تماماً كانوا يقبلونها كنسخة معتمدة، لها نفس قيمة النسخ الأخرى. وإذا تطابقت نسختان تماماً وبشكل صحيح فإن عنصر القِدَم لم يكن عنصر إيجاب للإبقاء على المخطوطة بل عنصر سلْب، إذ أن المخطوطة كانت عرضة للبلاء والتلف بمرور الوقت. وكانت النسخة التالفة أو غير السليمة تفرز حالاً وتعد غير ملائمة للاستخدام.



وكان ملحقاً بكل مجمع جنيزة Gheniza وهي خزانة للأشياء القديمة كانت توضع بها المخطوطات التالفة جانباً، ومن هذه الخزانات تم اكتشاف بعض المخطوطات الأكثر قِدَماً في العصور الحديثة.


ومن هنا لم تجري العادة اليهودية على اعتبار النسخة الأقدم من الأسفار المقدسة هي الأكثر قيمة، ولكن على تفضيل النسخة الأحدث كنسخة سليمة لا يلحقها التلف. أما النسخ القديمة التي كانت تودع في الجنيزة فكان يصيبها التلف والفناء بشكل طبيعي إما بسبب الإهمال أو بسبب حرقها بشكل مقصود عندما كانت الجنيزة تمتلئ عن آخرها.



ومن ثم فإن غياب النسخ القديمة جداً للكتاب المقدس العبري لا يجب أن تثير دهشتنا أو قلقنا. وإذا أضفنا للأسباب التي ذكرناها عصور الاضطهاد المتكررة (بما فيها من تدمير للممتلكات) التي تعرض لها اليهود، يمكننا تعليل اختفاء المخطوطات القديمة،كما يمكننا قبول المخطوطات الباقية بما تحفظه لنا - أي النص المازوري. (Kenyon, OBAM, 43).



المازوريون هم علماء اليهود الذين قاموا فيما بين 500-900م بإخراج الشكل النهائي لنص العهد القديم. كان خراب الهيكل عام 70م، تشتت اليهود بعيداً عن أرضهم دافعاً قوياً، أولاً: لوضع نظام ثابت للنص الذي يعتمد على الحروف الساكنة، وثانياً: لوضع نظام ثابت للترقيم واستخدام حروف العلة لضبط عملية النطق والقراءة. وقد أطلق عليهم اسم المازوريين لأنهم قاموا بحفظ التقليد الشفهي (المازورا) مكتوباً وذلك فيما يختص بحروف العلة وعلامات النطق الصحيحة وعدد مرات ورود الكلمات النادرة ذات الأشكال الإملائية الغريبة. لقد تسلموا النص المدوَّن بحروف ساكنة غير مشكَّلة (مثل الإنجليزية المكتوبة بدون حروف علة) من السوفريم وأدخلوا عليه علامات التشكيل التي أعطت لكل كلمة نطقها المضبوط وشكلها النحوي. كما أنهم اهتموا بالنقد النصي. وأينما ساورهم الشك في وقوع خطأ بكلمة معينة في النص المكتوب بحروف ساكنة، أصلحوه ببراعة تامة. إذ أنهم كانوا يتركون الحروف الساكنة الأصلية للكلمة كما أخذوها عن السوفريم. ولكنهم كانوا يدخلون عليها علامات التشكيل التي تظهر في الشكل الجديد للكلمة ثم يدخلون الحروف الساكنة للكلمة الجديدة ذاتها حيث يدونها بحروف صغيرة في حاشية النص. (Archer, SOT, 63)





كان هناك مدرستان أو مركزان رئيسيان للنشاط المازوري - مستقل أحدهما عن الآخر - المدرسة البابلية والمدرسة الفلسطينية. وأشهر المازوريين هم علماء اليهود الذين عاشوا في طبرية بالجليل، موسي بن أشير (وابنه هارون) وموسي بن نفتالي في أواخر القرن التاسع والقرن العاشر. والنص الذي دوَّنه ابن أشير هو النص العبري القياسي اليوم وأفضل ما يمثله مخطوطة ليننجراد ومخطوطة حلب.




وقد أخذ المازوريون (من المازورا أي التقليد) على عاتقهم العمل المضني لتحرير وتقنين النص. وكانوا يتمركزون في طبرية. والنص الذي ضبطه المازوروين يسمى النص المازوري. وهذا النص يحوي علامات التشكيل التي أضيفت لضبط النطق. ويعد النص المازوري هو النص العبري القياسي اليوم.



كان الـمـازوريون على درجة عالية من العلم، وتعاملوا مع النص بأقصى درجات الاحترام والتبجيل ووضعوا نظاماً معقداً لحفظه من زلات الكتبة. فعلى سبيل الـمثال قاموا بإحصاء عدد المرات التي ورد فيها كل حرف من حروف الهجاء في كل سفر، وحددوا الحرف الأوسط في الأسفار الخمسة الأولى والحرف الأوسط في الكتاب المقدس العبري كله. كما قاموا بحسابات أخرى أكثر دقة وتفصيلاً من هذه. ويقول ويلر روبنسون إنهم أحصوا كل ما هو قابل للإحصاء. ولقد ألَّفوا عبارات قصيرة تيسر لهم تذكر الإحصاءات المختلفة. (Bruce, BP, 117)



كان الكتبة يعرفون ما إذا كان سفر إشعياء أو العهد القديم كله مثلاً خالياً من حرف ساكن معين. لقد وضعوا الكثير من القواعد التي تضمن لهم الحصول على نسخة طبق الأصل عند الانتهاء من نسخها.




ويقول السير فريدريك كنيون:



إضافة إلى تسجيلهم للقراءات التقليدية والحديثة المختلفة، قام المازوريون بعدد من الإحصاءات التي لا تقع في نطاق النقد النصي العادي. لقد أحصوا آيات وكلمات وحروف كل سفر. كما حسبوا موقع الكلمة الوسطى والحرف الأوسط في كل منها. كما أحصوا الآيات التي اشتملت على كل حروف الهجاء أو عدد معين منها. وهذه الإجراءات التي لا قيمة لها، من وجهة نظرنا،كان لها رغم ذلك أثر في توفير العناية التامة للنقل الصحيح للنصوص، وهي تدل على الاحترام البالغ للأسفار المقدسة الذي لا يستحق إلا الثناء. لقد كان المازوريون حقاً حريصين على ألا يسقط أو يضيع أي شئ ولو كان نقطة أو حرفاً صغيراً أو حتى جزء من حرف الناموس. (Kenyon, OBAM, 38).




ونستخلص مما سبق ذكره عن المخطوطات العبرية تبجيل اليهود للأسفار المقدسة. فبالنسبة للأسفار المقدسة لدى اليهود، لم يكن التزام الكتبة بالدقة التامة هو وحده المسئول عن سلامتها، بل بالأحرى تبجيلهم الشديد والمبالغ فيه للكتاب المقدس. وطبقاً للتلمود كانت هناك مواصفات ليس فقط لنوع الجلد المستخدم وحجم الأعمدة، ولكن الكاتب كان عليه أن يؤدي طقساً دينياً معيناً قبل تدوين اسم الله. كما نصت القواعد على نوع الحبر المستخدم والمسافة بين الكلمات وحظرت تدوين أي شئ من الذاكرة. كان يتم إحصاء السطور - وكذلك الحروف - بأسلوب منهجي. ولو وجد بالمخطوطة خطأ واحد كان يتم التخلص منها.



كانت الإجراءات الشكلية التي تمسَّك بها الكتبة مسئولة، ولو بشكل جزئي على الأقل، عن الحرص الشديد الذي كان يتبع عند نسخ الأسفار المقدسة. وهذا هو السبب في قلة عدد المخطوطات (إذ كانت القواعد تنص على التخلص من النسخ المعيبة). (Geisler, BECA, 552).



في القرن الأول الميلادي كتب فلافيوس يوسيفوس المؤرخ اليهودي يقول:


لقد برهنا عملياً على تبجيل أسفارنا المقدسة. إذ أنه على الرغم من مرور القرون الطويلة، لم يجرؤ أحد على إضافة أو حذف أو تعديل أي مقطع فيها، وهي فطرة لدى كل يهودي منذ يوم ميلاده أن يعتبرها أوامر الله ويعمل بها، وإن اقتضت الضرورة أن يموت من أجلها بسرور وفرح. فكم من المرات شهدنا الأسرى وهم يكابـدون ألـوان العذاب والموت في المسارح مفضلين ذلـك على أن ينبثـوا بكلمة واحدة. (Josephus, FJAA, as cited in JCW, 179, 180)



ويواصل يوسيفوس قوله مقارناً بين احترام العبرانيين للكتاب المقدس واحترام الإغريق لأدبهم:



إلى أي مدى يمكن أن يحتمل الإغريق مثل هذا النهج؟ ولو كان بذلك سوف ينقذ أدب الأمة بأكمله من الدمار، ما قبل الشخص الإغريقي أن يتحمل ألماً شخصياً ضئيلاً. إذ أن الإغريق يعتبرونها مجرد قصص ألَّفها أدباؤهم وفقاً لإبداعهم، وهم يقنعون بهذه الرؤية حتى بالنسبة لأقدم مؤرخيهم، إذ أنهم يرون بعض معاصريهم يخوضون في وصف أحداث ليس لهم فيها طرف، دون أن يتكلفوا عناء البحث والسؤال لدى من يضطلعون على الحقائق. (Josephus, FJAA, as cited in JCW, 181).


ومع ذلك ظلت أقدم المخطوطات المازورية الموجودة والتي ترجع إلى حوالي 1000م وما بعدها، في انتظار ما يؤكد صحتها. وهذا ما أكده الاكتشاف المذهل بالقرب من شواطئ البحر الميت في فلسطين.







3(ج) مخطوطات البحر الميت





لو سئل أي عالم كتابي، قبل اكتشاف مخطوطات البحر الميت، ما هو تصورك لاكتشاف يمكن أن يثبت موثوقية العهد القديم لأجاب: لابد أن تكون مخطوطات أصلية أكثر قِدَماً تبرهن على صحة العهد القديم. سأل السير فريدريك كنيون هذا السؤال الهام: هل هذا النص العبري، الذي نسميه النص المازوري، والذي أوضحنا أنه ينحدر من نص يرجع إلى 100م، يمثل بأمانة النص العبري الأصلي الذي دوَّنه كَّتاب أسفار العهد القديم؟ (Kenyon, OBAM, 47)






وقبل اكتشاف مخطوطات البحر الميت كان السؤال على النحو التالي: ما مدى صحة النسخ التي لدينا اليوم مقارنة بنسخ القرن الأول وما قبله؟ وترجع أقدم نسخة كاملة للعهد القديم إلى القرن العاشر. ومن هنا يظهر التساؤل التالي: هل يمكننا أن نثق في نص العهد القديم وقد تم نسخه مرات ومرات؟ وتعلن مخطوطات البحر الميت الإجابة المذهلة على هذا التساؤل.



1(د) ما هي مخطوطات البحر الميت؟





تتكون هذه المخطوطات من حوالي أربعين ألف قصاصة مدوَّنة. ومن هذه القصاصات أمكن جمع أكثر من خمس مائة كتاب. وضمن هذه المخطوطات تمَّ اكتشاف كتب وقصاصات غير كتابية تلقي الضوء على المجتمع الديني لقمران على شواطئ البحر الميت من القرن الثاني قبل الميلاد إلى القرن الأول الميلادي. وتساعدنا كتابات مثل «وثائق صادوق» و«قانون المجتمع» و«دليل التعليم» على فهم طبيعة الحياة اليومية في قمران. ففي كهوف قمران المختلفة كانت هناك شروحات نافعة جداً للأسفار المقدسة. ولكن أهم مخطوطات البحر الميت هي نسخ نص العهد القديم التي ترجع إلى ما قبل ميلاد المسيح بحوالي مائة عام.





2(د) كيف اكتشفت مخطوطات البحر الميت؟




ويقدم لنا رالف إيرل جواباً معبِّراً ومختزلاً عن هذا السؤال، إذ يحكي قصة تنمّ عن العناية الإلهية:





تُعَد قصة هذا الاكتشاف أحد أروع القصص في العصر الحديث. في فبراير أو مارس من عام 1947 كان هناك راعي بدوي صبي اسمهُ محمد يبحث عن عنزة ضالة. فرمى حجراً في ثقب في تل على الجانب الغربي للبحر الميت، على بعد ثمانية أميال جنوب أريحا، واندهش لسماع صوت تحطُّم آنية فخارية. ولما تفحَّص الأمر شاهد منظراً مدهشاً. كان في الكهف العديد من الأواني الفخارية التي تحتوي على مخطوطات جلدية ملفوفة في قماش من الكتَّان. ولأن الأواني كانت مغلقة بإحكام، فقد حفظت المخطوطات بحالة جيدة لما يقرب من 1.900 عاماً (تشير الأدلة إلى أنها وضعت في الكهف حوالي سنة 68م).



وقد اشترى رئيس أساقفة دير السريان الأرثوذكس في أورشليم خمسة من هذه المخطوطات التي وجدت في الكهف الأول للبحر الميت، كما يطلق عليه الآن. بينما اشتري الأستاذ «سوكينيك» بالجامعة العبرية هناك ثلاث من هذه المخطوطات.


وعندما اكتشفت هذه المخطوطات لأول مرة، لم يعلن عنها. وفي نوفمبر من عام 1947 ، وبعد أن اشترى الأستاذ سوكينيك بيومين ثلاث من هذه المخطوطات واثنين من الأواني الفخارية التي كانت بالكهف، كتب في مذكراته يقول: لعل هذا واحداً من أعظم الاكتشافات في فلسطين، وهو اكتشاف لم نكن لنطمح إليه. ولكن هذه الكلمات لم تنشر آنذاك.



وفي فبراير من عام 1948 اتَّصل رئيس أساقفة الدير، الذي لم يكن يعرف العبرية، بالمدرسة الأمريكية للبحوث الشرقية في أورشليم وأخبرهم عن المخطوطات. وشاءت العناية الإلهية أن مدير المدرسة في ذلك الوقت كان عالماً شاباً يُدعي جون تريفر، وكان مصوراً هاوياً محترفاً. وبجهد شاق ومخلص قام بتصوير كل عمود من أعمدة المخطوطة الكبيرة لسفر إشعياء التي يصل طولها إلى 24 قدماً وعرضها 10 بوصات.



كما قام بتحميض الأفلام بنفسه وأرسل بعض الصور منها بالبريد الجوي إلى الدكتور و.ف. ألبرايت في جامعة جونز هوبكنز، الذي كان يعتبر عميداً لعلماء الآثار الكتابية في أمريكا. وفي الحال أرسل رده بالبريد الجوي قائلاً: تهاني القلبية على اكتشاف أعظم مخطوطة في عصرنا الحديث. يا له من اكتشاف مذهل! لا يمكن أن يوجد ظل شك في العالم كله في أصالة هذه المخطوطة. وقال إنها ترجع إلى حوالي 100 ق.م. (Earle, HWGB, 48, 49)
 

جورج واشنطن

عضو مميز
3(د) قيمة المخطوطات



ترجع أقدم مخطوطة عبرية كاملة للعهد القديم قبل اكتشاف مخطوطات البحر الميت إلى 900م. كيف يمكننا التأكد من انتقالها إلينا بشكل صحيح منذ عصر ما قبل المسيح في القرن الأول الميلادي؟ يمكننا الآن التأكد من ذلك بفضل علم الآثار ومخطوطات البحر الميت. كانت إحدى مخطوطات كهوف البحر الميت نسخة كاملة للنص العبري لسفر إشعياء. ويقدِّر العلماء تاريخ نسخها إلى حوالي 125 ق.م. إن هذه المخطوطة أقدم بألف عام من أي مخطوطة أخرى حصلنا عليها قبلاً.



وترجع أهمية هذا الاكتشاف إلى التطابق التام بين مخطوطة سفر إشعياء (125 ق.م.) مع النص المازوري لسفر إشعياء (916 م) أي بعد ألف عام. وهي تدل على الدقة غير العادية لنسَّاخ الكتاب المقدس على مدى أكثر من ألف عام.



من بين 166 كلمة يحتوي عليها أصحاح 53 من سفر إشعياء، هناك فقط سبعة عشر حرفاً موضع تساؤل. وعشرة من هذه الحروف يتعلق بالأشكال الإملائية للكلمات بما لا يؤثر على المعنى. وأربعة حروف أخرى تتصل بالأسلوب مثل استخدام حروف العطف. أما الحروف الثلاثة الباقية فتشكل كلمة نور المضافة في آية 11 دون تأثير يذكر في المعني. علاوة على ذلك، فإن هذه الكلمة وردت في الترجمة السبعينية وفي مخطوطة IQ (وهي إحدى مخطوطات سفر إشعياء المكتشفة في كهوف البحر الميت). أي أنه في أصحاح يحتوي على 166 كلمة هناك كلمة واحدة (من ثلاثة حروف) موضع تساؤل بعد مرور ألف عام من النقل - وهذه الكلمة غير ذات قيمة تذكر بالنسبة لمعنى النص. (Burrows, TDSS, 304)




ويقول جليسون أركر إن مخطوطات سفر إشعياء التي اكتشفت في كهوف قمران: ثبت أنها تطابق النص العبري الذي بين أيدينا فيما يزيد على 95% منه. أما الخمسة بالمائة الباقية فهي اختلافات ناتجة عن زلات النسْخ أو اختلافات في أشكال الكلمات. (Archer, SOT, 19)
ويخلص ميللر باروز إلى ما يلي: من الأمور العجيبة أنه على مدى ما يقرب من ألف عام لم يطرأ على النص تغيير يذكر. وكما أشرت في بحثي الأول عن هذه المخطوطة فإن أهميتها الرئيسية تكمن في إثباتها لصحة التقليد المازوري. (Burrows, TDSS, 304).



4(د) ماذا تحتوي مخطوطات البحر الميت؟




لا يمكننا هنا الحديث عن جميع مخطوطات البحر الميت التي يزيد عددها عن ثماني مائة مخطوطة. ولكننا سنتناول فيما يلي بعض أمثلة من تلك المخطوطات التي تمت دراستها على مدى الأربعين عاماً الماضية بما في ذلك نصوص الأسفار الأكثر قدماً التي تعتمد عليها هذه المخطوطات، وكذلك المخطوطات التي اكتشفت في الكهف الرابع والتي نشرت محتوياتها حديثاً. وهذه النصوص يمكن تصنيفها على النحو التالي: النصوص الكتابية - الشروحات الكتابية - النصوص الطائفية (أي التي تنتمي إلى طائفة أو شيعة معينة) - النصوص الموضوعة - النصوص الأبوكريفية - النصوص النسكية أو الطقسية. (Price, SDSS, 86).



اكتشافات مخطوطات البحر الميت: اكتشف الكهف الأول صبي عربي كان راعياً. وهناك وجد سبع مخطوطات كاملة تقريباً وبعض القصاصات:




إشعياء أ : (IQIs a) تعتبر مخطوطة دير القديس مرقس لسفر إشعياء مخطوطة شهيرة وبها إصلاحات كثيرة فيما بين السطور أو في الهامش. وهي أقدم نسخة معروفة لسفر كامل بالكتاب المقدس.




إشعياء ب (IQIs b) : تعد نسخة سفر إشعياء بالجامعة العبرية نسخة غير كاملة، ولكن نصها يطابق النص المازوري أكثر من إشعياء أ.



قصاصات أخري بالكهف الأول: اكتشف بهذا الكهف أيضاً أجزاء من التكوين واللاويين والتثنية والقضاة وصموئيل وإشعياء وحزقيال والمزامير، وأعمال أخرى غير كتابية مثل أخنوخ وأقوال موسى (ولم تكن معروفة قبلاً)، وسفر اليوبيل وسفر نوح، وشهادة لاوي وطوبيا وحكمة سليمان. وهناك أيضاً أجزاء من سفر دانيال وتشمل دانيال 2: 4 (حيث تتغير اللغة من العبرية إلى الآرامية)، وقد وجد أيضاً في الكهف الأول أجزاء من شروحات لأسفار المزامير وميخا وصفنيا.


الكهف الثانى: وقد اكتشف أولاً على يد البدو. وفي عام 1952 تم التنقيب عن محتوياته. وهذه تشتمل على أجزاء من حوالي مائة مخطوطة، منها مخطوطتان لسفر الخروج وواحدة لسفر اللاويين وأربع مخطوطات للعدد واثنتين أو ثلاثة للتثنية ومخطوطة واحدة لكل من إرميا وأيوب والمزامير ومخطوطتان لراعوث.




الكهف الرابع: ويسمي كهف الحجل أو الكهف الرابع. وبعد أن عبث البدو بمحتوياته، تم الكشف عنه في سبتمير من عام 1952 وتبين أنه أكثر الكهوف عطاءً إذ تمَّ استعادة آلاف القصاصات عن طريق شرائها من البدو أو تنقيب الأثريين في أرض الكهف. وتمثل هذه القصاصات مئات المخطوطات، وقد تم التعرف على ما يقرب من أربع مائة منها. وهي تحتوي على مائة نسخة لأسفار الكتاب المقدس تشمل العهد القديم كله ما عدا أستير.



وهناك قصاصة من صموئيل وجدت في الكهف الرابع (4 qsam b) ويعتقد أنها أقدم مخطوطة معروفة لنص كتابي عبري. وهي ترجع إلى القرن الثالث قبل الميلاد. كما تمَّ اكتشاف بعض قصاصات لشروحات أسفار المزامير وإشعياء وناحوم. وتمثل محتويات الكهف الرابع معظم مكتشفات وادي قمران، وبالنظر إلى النسبة بين أعداد الكتب المكتشفة، يمكن القول بأن الأسفار المفضلة لدى مجتمع قمران كانت على الترتيب التثنية وإشعياء والمزامير والأنبياء الصغار وإرميا. وفي إحدى القصاصات التي تحوي دانيال 7: 28، 8: 1 تتغير اللغة من الآرامية إلى العبرية.



الكهوف من السابع إلي العاشر: تم فحصها عام 1955 ولم يسفر ذلك عن أي مخطوطات هامة للعهد القديم، إلا أن الكهف السابع كان يشتمل على بعض قصاصات لمخطوطات، يقول جوسي أوكالاهان إنها أجزاء من العهد الجديد. ولو صحَّ ذلك فإنها تُعد أقدم مخطوطات العهد الجديد إذ ترجع إلى 50-60م.




الكهف الحادي عشر: تم اكتشاف هذا الكهف في آوائل عام 1956 . ووجد به مخطوطات بحالة جيدة لستة وثلاثين مزموراً بالإضافة إلى المزمور 151 وهي إحدى كتابات الأبوكريفا، ولم يكن يعرف قبلاً إلا في نصه اليوناني. كما وجد درجاً بحالة جيدة يحوي جزءاً من سفر اللاويين وأجزاءً كبيرة من رؤيا أورشليم الجديدة وترجوماً (ترجمة) آرامياً لسفر أيوب.




وهناك العديد من الدراسات الحديثة لمخطوطات البحر الميت، وهي تورد وصفاً مفصلاً لهذه المخطوطات. ويضيف جليسن ل. أركر ملحقاً إلى كتابه «مدخل إلى العهد القديم» يتناول فيه هذا الموضوع.





اكتشافات Murabba'at:. لما كانت هذه الاكتشافات تدرّ الربح على البدو في قمران، فقد واصلوا بحثهم واكتشفوا كهوفاً أخرى جنوب شرق بيت لحم وكان بها وثائق ومخطوطات التي استنتجت تاريخها من الثورة اليهودية الثانية (132-135م). وقد بدأ البحث والتنقيب المنظم لهذه الكهوف في يناير من عام 1952 . وقد ساعدت هذه المخطوطات اللاحقة لمخطوطات البحر الميت في التعرف على أقدمية مخطوطات البحر الميت. وفي هذه الكهوف تم اكتشاف مخطوطة أخرى للأنبياء الصغار بدءً من النصف الثاني ليوئيل إلى حجي، وتؤيد هذه المخطوطة النص المازوري. واكتشفت أيضاً أقدم بردية سامية معروفة وقد أعيد النقش عليها مرة ثانية بكتابة عبرية (ترجع إلى القرن السابع أو الثامن ق.م.)




ويمكننا أن نرى أهمية مخطوطات قمران بالنسبة للنقد النصي من خلال آراء علماء العهد القديم:




أولاً: ترجع مخطوطات البحر الميت بالدارس لنصوص الكتاب المقدس حوالي ألف عام من تاريخ المخطوطات العبرية المعروفة سابقاً. قبل اكتشافات قمران،كانت نسخ أسفار العهد القديم الكاملة والأكثر قِدَماً ترجع إلى حوالي بداية القرن العاشر الميلادي. وكانت أقدم نسخة كاملة للعهد القديم كله ترجع إلى بداية القرن الحادي عشر الميلادي. ومن ثم فإن مخطوطات البحر الميت قد قدمت وثائق أكثر قِدَماً لنصوص العهد القديم من أي نسخ أخرى كانت معروفة قبلاً. (Brotzman, OTTC, 94-95)




قبل اكتشاف مخطوطات قمران كانت أقدم المخطوطات الموجودة ترجع إلى حوالي 900م. أما بعض مخطوطات البحر الميت، ومنها نسخ لأسفار إشعياء وحبقوق وغيرها، فترجع إلى حوالي 125 ق.م.، أي قبل ألف عام من التاريخ السابق. وانتهت نتائج البحث إلى أنه ليس هناك اختلاف يذكر بين مخطوطة إشعياء التي وجدت في قمران والنص العبري المازوري الذي دون بعد ذلك بألف عام. وهذا يؤيد موثوقية النص العبري الذي لدينا الآن. (Enns, MHT, 173).




سوف تعمل مخطوطات البحر الميت مع غيرها من الوثائق الأخرى الباقية على توسيع آفاق المعرفة في مجالات التاريخ والدين والنصوص المقدسة. (Harrison, AOT, 115).




ليس من شك في أن مخطوطات البحر الميت قد بدأت عصراً جديداً لدراسة الكتاب المقدس سوف تتأكد فيه الكثير من الحقائق المسلم بها ويتم تعديل الكثير من المفاهيم الأخرى. وعلى نفس القدر من الأهمية سوف تكون هناك حركة لإعادة بناء النص الأصلي للعهد القديم في عصور ما قبل المسيحية، الأمر الذي ييسر للقارئ في العصر الحديث فهْم كلمة الله بشكل أكثر وعياً. (Harrison, AOT, 115).




والخلاصة هي أننا يجب أن نثني على المازوريين لمثابرتهم وحرصهم الشديد على الحفاظ على النص الأصلي للسوفريم الذي عهد به إليهم. وقد أولوا عناية كبيرة، شأنهم شأن السوفريم، بالحفاظ على الأسفار المقدسة العبرية، وهذا ما لم تشهده أي كتابات قديمة أخرى سواء علمانية أو دينية في تاريخ الحضارة البشرية. لقد كانوا على وعي تام بأنهم وكلاء على النصوص المقدسة حتى أنهم لم يجرؤوا على القيام بأية تعديلات فيما يتعلق بالحروف الساكنة للنص، فتركوا شكل النص كما تسلموه تماماً.


وبسبب أمانتهم، لدينا اليوم النصوص العبرية التي تطابق - في كل الجوهريات - النصوص التي كانت توجد في أيام المسيح والرسل أو ما قبل ذلك بنحو مائة عام، وكانت هذه النصوص تعتبر موضع ثقة في ذلك الوقت. وهذه بدورها، كما تبين مخطوطات قمران، ترجع إلى نسخة أقدم لنصوص العهد القديم نقلت عن مخطوطات موثوق بها من قرون سابقة. وهذه تقربنا جداً من الكتابات الأصلية ذاتها وتقدم لنا أقرب تصور للنصوص الأصلية لوحي الله. وعلى حد قول و.ف. ألبرايت: يمكننا أن نطمئن إلى أن النص الأصلي للكتاب المقدس العبري، رغم إمكانية وقوع التغيير فيه، قد حفظ بدقة شديدة ربما لم تتوفر لأي من كتابات الشرق الأدنى. (Archer, SOT, 65)
 

جورج واشنطن

عضو مميز
4(ج) برهان المخطوطات غير العبرية



تقدم الترجمات القديمة المختلفة (والتي تسمى نسخاً) للعهد القديم لدارس النصوص الكتابية مصادر هامة لتحقيق النص. فهناك مثلاً نص الترجمة السبعينية الذي يرجع إلى القرن الثالث ق.م. ونص التوراة السامرية ويرجَّح أنها ترجع إلى القرن الخامس ق.م. وهاتان النسختان جنباً إلى جنب مع النص المازوري تعد ثلاثة نسخ تقليدية لنص العهد القديم. وتبرهن، عند دراستها نقدياً، على صحة نص العهد القديم. وتعد التوراة السامرية والترجمة السبعينية على نحو خاص، بما مرت به من مراحل التنقيح، برهاناً أساسياً على صحة نص العهد القديم.



1(د) الترجمة السبعينية




كما أهمل اليهود لغتهم العبرية وتحدثوا بالآرامية في الشرق الأدنى، هكذا أهملوا الآرامية وتحدثوا باليونانية في مراكز الحضارة الإغريقية، مثلما هو الحال في الإسكندرية بمصر. وأثناء حملات الإسكندر الأكبر لقي اليهود استحساناً كبيراً. لقد كان الإسكندر متعاطفاً معهم نتيجة لسياساتهم معه أثناء حصار مدينة صور (322 ق.م.) وقيل أيضاً إنه سافر إلى أورشليم ليقدم فروض الولاء والطاعة لإلههم. وعندما كان يغزو بلدان جديدة، كان يؤسس المدن التي كثيراً ما كان يقطنها بعض اليهود، وكانت هذه المدن يطلق عليها غالباً الإسكندرية.




ولأن اليهود كانوا مشتتين بعيداً عن أرضهم، فقد كانت هناك حاجة لترجمة أسفارهم المقدسة للغة الشائعة في ذلك الوقت. ومن ثم فقد أطلق اسم السبعينية (والتي تعني سبعين ويشار إليها اختصاراً بالأرقام اللاتينية LXX) على الترجمة اليونانية للكتب المقدسة العبرية التي جرت أثناء حكم الملك بطليموس فيلادلفيوس في مصر. (285-246 ق.م.)


ويحدثنا ف.ف. بروس عن أصل تسمية هذه الترجمة بهذا الاسم. ففي معرض حديثه عن رسالة كتبها أريستياس، أحد رجال الدولة عند الملك بطليموس فيلادلفيوس، لأخيه فيلوكراتيس حوالي عام 250 ق.م. (أو على الأصح قبل عام 100ق.م بوقت قصير) كتب بروس يقول:


اشتهر بطليموس برعايته للأدب وتحت رعايته افتتحت مكتبة الإسكندرية العظيمة وكانت إحدى عجائب الدنيا الثقافية على مدى 900 عام. وتصف هذه الرسالة كيف أثار ديمتريوس الفاليروم، الذي قيل إنه كان أميناً لمكتبة بطليموس، شغف الملك بالشريعة اليهودية وأشار عليه بإرسال بعثة لرئيس الكهنة أليعازار في أورشليم. انتخب رئيس الكهنة ستة شيوخ من كل سبط من أسباط إسرائيل الاثنى عشر للعمل كمترجمين وأرسلهم إلى الإسكندرية وأرسل معهم مخطوطة من أجمل وأدق مخطوطات التوراة. وهناك كانت تقدم لهم الأطعمة الملكية، وبعد أن برهنوا على حكمتهم وعلمهم تم نقلهم للسكن في منزل بجزيرة فاروس (وهي الجزيرة الشهيرة بفنارها) حيث أتموا في مدة اثنين وسبعين يوماً ترجمة التوراة إلى اللغة اليونانية وقدموا نسخة اتفقوا عليها جميعاً بعد الكثير من المداولة والمقارنة. (Bruce, BP, 146, 147).



تختلف الترجمة السبعينية اليونانية للعهد القديم عن النسخة العبرية في مستوى الترجمة وفي محتواها وترتيب الأسفار بها. إذ أنه بالإضافة إلى الأسفار الاثنين والعشرين للعهد القديم العبري، تحتوي الترجمة السبعينية على عدد من الأسفار التي لم تكن جزءاً من الأسفار القانونية العبرية. ويبدو أن هذه الأسفار كانت منتشرة في العالم المتحدث باللغة اليونانية، ولكنها لم تكن ضمن الأسفار القانونية العبرية. ويعكس مستوى الترجمة في النسخة السبعينية هذا الأمر، ويمكن أن نستخلص منه عدة ملاحظات: (1) يتراوح مستوى الترجمة في النسخة السبعينية من الترجمة الحرفية في التوراة (الأسفار الخمسة الأولى) إلى الترجمة الحرة في الكتب (القسم الثالث من الأسفار المقدسة العبرية). (انظر المرجع التالي:




(Sir Frederic Kenyon, The Text of the Greek Bible,
3rd ed., revised and augmented by A.W. Adams, pp. 16-99).

ويشير أدامز إلى أن نص سفر أيوب في النسخة الأصلية للترجمة السبعينية أقل من مثيله
العبري بنحو السدس. وهناك تفاوت كبير في أسفار يشوع وصموئيل الأول والملوك الأول والأمثال وأستير وإرميا، ويقل هذا التفاوت في الأسفار الأخرى. ويرجع هذا إلى الصعوبات الكبيرة التي واجههتها الترجمة السبعينية. (2) لم يكن الغرض من الترجمة السبعينية هو نفس الغرض من النص العبري الذي كان يستخدم في الخدمة الدينية في المجامع وليس في الأغراض التعليمية. (3) كانت الترجمة السبعينية نتاجاً لتجربة رائدة لنقل أسفار العهد القديم وثمرة رائعة لهذا الجهد. (4) التزمت الترجمة السبعينية بوجه عام بقراءات النص العبري الأصلي رغم قول البعض بأن المترجمين لم يكونوا جميعهم من العلماء العبرانيين الثقاة.



ويعلق بول إنز على الترجمة السبعينية قائلاً: تعد النسخة السبعينية غير متكافئة كترجمة ولكن قيمتها تكمن في أنها تعتمد على نص عبري أقدم من المخطوطات العبرية الموجودة لدينا بنحو ألف عام. علاوة على ذلك، كان كتَّاب العهد الجديد يقتبسون منها أحياناً، وهذا يعطينا رؤية أكثر عمقاً لنص العهد القديم. (Enns, MHT, 174)



وبالنسبة لتأثير الترجمة السبعينية، فإن جميع صفحات القاموس اليوناني الإنجليزي للعهد الجديد والأدب المسيحي المبكر تبين أنه يفوق جميع التأثيرات الأخرى على الأدب في القرن الأول الميلادي (Bauer, GELNT, xxi)



تأتي الترجمة السبعينية في المرتبة الثانية بعد النص المازوري من حيث الأهمية. وكانت تستخدم على نطاق واسع في زمن كتابة العهد الجديد كما يتبين من الاقتباسات المائتين والخمسين للعهد الجديد من العهد القديم والتي يأتي معظمها من هذه النسخة. وأينما اختلفت الترجمة السبعينية عن النص المازوري كان بعض الدارسين يفترضون أن مترجميها قد جاوزوا الحد في نقلهم للنص. ولكننا نعرف الآن من خلال اكتشافات قمران أن الكثير من هذه الاختلافات نشأت لأن المترجمين كانوا ينقلون عن نص عبري مختلف بعض الشيء ينتمى إلى ما يمكن أن نسميه العائلة السبعينية الأولية. (Yamauchi, SS, 130, 131).


بسبب تشابهها مع النص المازوري (916م) الذي بين أيدينا اليوم، تساعدنا الترجمة السبعينية في التحقق من موثوقية انتقاله على مدى ثلاثة عشر قرناً.



تُعَد الترجمة السبعينية والاقتباسات الكتابية الموجودة بأسفار الأبوكريفا مثل حكمة يشوع بن سيراخ وسفر اليوبيل وغيرها دليلاً على أن النص العبري الذي بين أيدينا الآن هو نفسه النص الذي كان يوجد حوالي عام 300 ق.م.


يقدم لنا جايسلر ونيكس أربعة إسهامات هامة للترجمة السبعينية: (1) كانت بمثابة الجسر الذي ربط بين الشعوب المتحدثة بالعبرية وتلك التي تتحدث اليونانية ملاشية بذلك الفجوة الدينية وملبية لاحتياجات يهود الإسكندرية، (2) كانت بمثابة الجسر الذي ألغى الفجوة التاريخية بين العهد القديم العبري لليهود وبين المسيحيين المتحدثين باللغة اليونانية الذين استخدموا هذه الترجمة جنباً إلى جنب مع العهد الجديد، (3)كانت بمثابة سابقة سارت على نهجها البعثات التبشيرية في ترجمة الأسفار المقدسة ونقلها إلى مختلف اللغات واللهجات، (4) تعد بالنسبة للنقد النصي الجسر الذي يلغي الفجوة الزمنية بسبب اتفاقها مع النص العبري للعهد للقديم.(Geisler, GIB, 308)


ويذكر ف.ف. بروس سببين لعدم اهتمام اليهود بالترجمة السعبينية:



1- بدءً من القرن الأول فصاعداً اتخذ المسيحيون من الترجمة السبعينية مرجعاً للعهد القديم واستخدموها كثيراً في البشارة بالإيمان المسيحي والدفاع عنه. (Bruce, BP, 150).

2- حوالي عام 100م قام العلماء اليهود بتحقيق نص قياسي منقَّح للكتاب المقدس العبري. (Bruce, BP, 151)


إن هذه الترجمة التي بدأت كترجمة يهودية شائعة للعهد القديم فقدت أخيراً كثيراً من مكانتها بالنسبة للشعب اليهودي.


2(د) الهكسابلاَّ



تعد الهكسابلاَّ (أي السداسية)، التي ألفها أوريجانوس في القرن الثاني، مؤلَّفاً وثيق الصلة بالترجمة السبعينية.


وتحمل الهكسابلاَّ وكتابات يويسيفوس وفيلو ووثائق صادوق (وهي من المؤلفات الأدبية التي وجدت ضمن مخطوطات البحر الميت) شهادة تؤكد وجود نصّ مشابه تماماً للنص المازوري ويرجع إلى ما بين عامي 40 و100م. (Skilton, "The Transmission of the Scripture" in The Infallible Word (a symposium, 148)



هكسابلاَّ أوريجانوس (حوالي 240-250م): أدت أعمال الترجمة للعهد القديم إلى وجود أربعة تقاليد نصيَّة بحلول القرن الثالث الميلادي ألا وهي الترجمة السبعينية وترجمات أكويلا وتيوداتيان وسيماخوس. وقد مهدت هذه التعددية إلى ظهور أول محاولة بارزة للنقد النصي متمثلة في الهكسابلاَّ (السداسية) التي ألفها أوريجانوس الإسكندري (185-254م). وبسبب التنوع الكبير في مخطوطات الترجمة السبعينية المتواجدة والاختلافات بين النصّ العبري والترجمة السبعينية، وبسبب محاولات تنقيح الترجمات اليونانية للعهد القديم، أخذ أوريجانوس على عاتقه أن يقدم للعالم المسيحي نصاً يونانياً مرضياً للعهد القديم، فجاء عمله تنقيحاً أكثر منه ترجمة، إذ قام بتصحيح الأخطاء النصَّية وحاول أن يوحد بين النص اليوناني والعبري. ومن ثم كان هدفه مزدوجاً متمثلاً في بيان صحة النسخ المنقحة المختلفة للعهد القديم عن الترجمة السبعينية غير السليمة، وفي أن يقدم رؤية مقارنة بين النصّ العبري الصحيح والترجمة السبعينية المختلفة عنه. وفي عمل هذا كان يؤيد الرأي القائل بأن النص العبري للعهد القديم كان نوعاً ما النسخة المعصومة للحق الإلهي الموحي به للإنسان...




وكانت الهكسابلاَّ عبارة عن ستة أعمدة متجاورة تحتوي على النص العبري الأصلي للعهد القديم أو إحدى النسخ الأخرى له، ومن ثم فقد عظم حجم هذه المخطوطة جداً حتى أصبحت غير رائجة في ذلك العصر. وكان ترتيب الأعمدة الستة على النحو التالي: العمود الأول يحوي النصّ العبري الأصلي، العمود الثاني يحوي النصّ العبري الأصلي مكتوباً بحروف يونانية، العمود الثالث يحوي الترجمة الحرفية التي قام بها أكويلا، العمود الرابع يحوي الترجمة المنقحة لسيماخوس، العمود الخامس يحوي التنقيح الذي قام به أوريجانوس نفسه للترجمة السبعينية والعمود السادس وهي النسخة اليونانية المنقحة لتيوداتيان. (Geisler, GIB, 507-508).




ورغم الأهمية البالغة للعمل الذي قام به أوريجانوس، إلا أنه ينبغي على الناقد النصي في العصر الحديث أن يلاحظ الفرق بين هدفه الشخصي وأهداف أوريجانوس، وفي ذلك يقول كنيون




بإيجاز:




لقد كان هذا العمل كافياً بالنسبة لأوريجانوس الذي كان يهدف من ورائه إلى تقديم نسخة يونانية دقيقة قدر الإمكان للنصّ العبري المعتمد آنذاك، ولكن بالنسبة لهدفنا الذي يرمي إلى استعادة النص الأصلي للترجمة السبعينية ... حتى يمكننا معرفة ما كان عليه النصّ العبري قبل كتابة النص المازوري، فإن هذا العمل غير ملائم لأن أوريجانوس كان يميل بشكل طبيعي إلى تدوين نسخته الجديدة دون الرموز اللغوية ومن ثم تظهر الإضافات التي أدخلها نقلاً عن تيوداتيان كجزء من الترجمة السبعينية الأصلية. (Kenyon, OBAM, 59)




وللأسف فقد حدث هذا، وأدى تدوين النصّ المنقح للترجمة السبعينية دون وضع العلامات الصوتية إلى انتشار نصّ يوناني غير صحيح للعهد القديم بدلاً من تحقيق نسخة منقحة للترجمة السبعينية تتفق مع النص العبري في ذلك الوقت. (Geilser, GIB, 509)


وكتب ف. ف. بروس يقول: لو بقيت الهكسابلاَّ التي ألفها أوريجانوس كاملة، لكانت بمثابة كنز لا يقدَّر بثمن. (Bruce, BP, 155)



3(د) التوراة السامرية





انفصل السامريون عن اليهود حوالي القرن الخامس أو الرابع ق.م. بعد صراع ديني وثقافي مرير استمر لفترة طويلة. ويعتقد البعض أنه في زمن هذا الانقسام أخذ السامريون معهم الأسفار المقدسة التي كانت توجد آنذاك ثم قاموا بتدوين النصّ المنقح الخاص بهم للتوراة. إن التوراة السامرية ليست نسخة من التوراة بالمعني الدقيق للكلمة، ولكنها إحدى مخطوطات النص العبري ذاته. وهي تضم أسفار موسى الخمسة، وقد تم تدوينها بالكتابة العبرية القديمة. وبعض مخطوطات الكتاب المقدس الأكثر قدماً التي وجدت في قمران مدوَّنة بهذه الكتابة التي تم إحياؤها في القرن الثاني ق.م. أثناء الثورة المكابية على الحكم الإغريقي. ويعتقد الناقد النصي فرانك م. كروس أنه ربما كانت التوراة السامرية ترجع إلى عصر المكابيين.





ويبدو أن إحدى نسخ التوراة السامرية كانت معروفة لآباء الكنيسة مثل يوسابيوس القيصري (حوالي 265-339) وجيروم (حوالي 345-419). ولم تعرف التوراة السامرية للعلماء المعاصرين في الغرب حتى عام 1616 عندما اكتشف بيترو ديلا فال مخطوطة التوراة السامرية في دمشق. وقد أثارت هذه المخطوطة اهتمام دارسي الكتاب المقدس، فقد كانوا يعتبرون هذا النص ذا قيمة أكبر من النص المازوري حتى أعلن فيلهلم جسنيوس في عام 1815 أنه غير ذي قيمة من الناحية العملية بالنسبة للنقد النصي. إلا أن مؤخراً أكد علماء مثل أ. جايجر وكال وكنيون من جديد على أهمية التوراة السامرية.





لا توجد مخطوطات باقية للتوراة السامرية ترجع إلى ما قبل القرن الحادي عشر. وتقول المصادر السامرية إن إحدى المخطوطات دونها أبيشا حفيد موسي في السنة الثالثة عشرة من غزو كنعان، وهذه المصادر ليست موثوقة وبالتالي يمكن رفض هذا الادعاء. وأقدم مخطوطات التوراة السامرية مدوَّن عليها ملاحظة تشير إلى بيعها في عام 1149-1150، ولكن المخطوطة نفسها أقدم من ذلك التاريخ بكثير. إحدي المخطوطات تمَّ نسخها عام 1204 . بينما ترجع مخطوطة أخرى إلى عام 1211-1212 وهي موجودة بمكتبة جون رايلاندز في مانشستر. بينما توجد مخطوطة أخرى ترجع إلى حوالي عام 1232 في مكتبة نيويورك العامة.



هناك ما يقرب من ستة آلاف اختلاف بين التوراة السامرية والنص المازوري وأكثرها غير ذي قيمة تذكر. وفي حوالي 1900 حالة منها، يتفق نصّ التوراة السامرية مع الترجمة السبعينية خلافاً للنصّ المازوري. وبعض هذه الاختلافات قام بها السامريون بشكل مقصود للاحتفاظ بتقاليدهم الدينية ولهجتهم. بينما يعتمد النص المازوري اللهجة والتقاليد اليهودية.




ويلاحظ أن نصّ التوراة السامرية مدوَّن بكتابة عبرية أكثر قِدَماً من النص المازوري أو الأدب اليهودي العبري بشكل عام. وحوالي عام 200 ق.م حلَّت الآرامية أو الحروف المربعة محل الكتابة العبرية القديمة في المجتمع اليهودي. ولا زالت بعض المخطوطات الكتابية الأقدم التي وجدت في قمران تبين ذلك. وهذه الكتابة العبرية القديمة تكتب بنفس أسلوب الكتابات التي وجدت على حجر موآب، ونقش سلوام، ورسائل لخيش، ولكن الكتابة السامرية تتميز بالزخرفة. (Bruce, BP, 120)




ويقول بول إنز عن التوراة السامرية إنها تعد شاهداً مهماً على نصّ العهد القديم. (Enns, MHT, 174) وهذا النصّ يشتمل على أسفار موسى الخمسة ويُعد ذا أهمية بالنسبة لتحديد قراءات النصّ. ويقول بروس أن الاختلافات بين التوراة السامرية والنسخة المازورية 916م في هذه الأسفار غير ذات قيمة بالمقارنة بأوجه الاتفاق(Bruce, BP, 122) .


ويقول السير فريدريك كنيون إنه عندما تتفق الترجمة السبعينية والتوراة السامرية في مقابل النصّ المازوري، فإنهما يمثلان معاً القراءة الأصلية، ولكن عندما تختلف الترجمة السبعينية عن النصّ المازوري فيرجح أحدهما على الآخر في بعض الأحيان أو العكس في أحيان أخرى، ولكن الاختلاف على أي حال يتعلق بالتفسير وليس بالنصّ.
 

جورج واشنطن

عضو مميز
(ج) شهادات أخرى لنص العهد القديم

1(د) التراجم الآرامية



ظهرت التراجم (النسخ) المكتوبة حوالي عام 500م.


والمعنى الأساسي لكلمة ترجوم Targum هو تفسير. والترجوم هو ترجمة للعهد القديم باللغة الآرامية.

ويوضح جايسلر ونيكس كيف نشأت التراجم:


هناك أدلة على أن الكتبة كانوا ينقلون الأسفار المقدسة العبرية شفهياً إلى اللهجة الآرامية العامية منذ زمن عزرا (نحميا 8: 1-8). وهذه التفاسير لم تكن ترجمات بالمعنى الدقيق للكلمة، ولكنها كانت وسائل مساعدة لفهم اللغة العتيقة للتوراة ... وترجع الحاجة إليها إلى أن العبرية أصبحت شيئاً فشيئاً غير مألوفة كلغة للحديث بين عامة الشعب. وبانتهاء القرن الأول قبل الميلاد استمرت هذه الظاهرة بالتدريج حتى شملت كل أسفار العهد القديم وأصبح لكل منها تفسيره الشفهي (الترجوم).



وفي خلال القرون الميلادية الأولي، دوَّنت هذه التراجم وانتشر النصّ الرسمي لها، إذ أن الأسفار القانونية العبرية ونصوصها وتفسيرها كان قد تمَّ إقرارها قبل انعقاد مجمع جامنيا لعلماء اليهود (حوالي 90م) وطرد اليهود من فلسطين عام 135م. ويبدو أن أقدم نسخ الترجوم قد دوِّنت بالآرامية الفلسطينية إبان القرن الثاني الميلادي، إلا أن هناك أدلة تشير إلى وجود نسخ من الترجوم سابقة على العصر المسيحي. (Geisler, GIB, 304, 305)



ويذكر جايسلر ونيكس تفاصيل أكثر عن بعض التراجم الهامة:



إبان القرن الثالث الميلادي، ظهر في بابل ترجوماً آرامياً للتوراة ... وينسب التقليد هذه النسخة إلى أونكيلوس ... كما وجد ترجوماً بابلياً آرامياً آخر مع أسفار الأنبياء (الأولين والمتأخرين) ويعرف باسم ترجوم يوناثان بن عزئيل. وهو يرجع إلى القرن الرابع الميلادي، وهو فضفاض فيما يتعلق بتفسيره للنص. وكل من هاتين النسختين كانت تقرأ في المجامع. ولأن الأسفار المعروفة بالكتب لم تكن تقرأ في المجامع، لم يكن هناك داع للاحتفاظ بنسخ رسمية منها، رغم أنه كانت هناك نسخاً غير رسمية يستخدمها الأفراد. وإبان منتصف القرن السابع الميلادي ظهر ترجوم للتوراة أُطلق عليه اسم ترجوم يوناثان المزيف ... كما ظهر ترجوم أورشليم أيضاً حوالي عام 700م ولكن لم يتبق سوى بعض أجزائه. (Geisler, GIB, 304, 305).



وبعد أن أخذ اليهود إلى السبي، حلَّت اللغة الكلدانية محل اللغة العبرية. ومن ثم كان اليهود بحاجة إلى ترجمة الأسفار المقدسة إلى اللغة الجديدة التي يتحدثون بها.



ويحدثنا ف.ف. بروس عن الترجوم بشكل أكثر تشويقاً:


إبان القرون التي اختتمت عصر ما قبل الميلاد تنامت ظاهرة مصاحبة التفسير الشفهي باللغة الآرامية العامية للقراءات العامة للأسفار المقدسة في المجامع. وكان من الضروري إزاء تضاؤل معرفة العامة من الشعب باللغة العبرية كلغة للحديث أن يكون هناك تفسير لنصّ الأسفار المقدسة بلغة يعرفونها حتى يمكنهم فهم ما كان يُقرأ. وكان المسئول عن إلقاء هذا التفسير الشفهي يسمي الميتورجمان (المترجم أو المفسر) وكان التفسير نفسه يسمي الترجوم.
ولم يكن يسمح للميتورجمان أن يقرأ من خلال درج مكتوباً، حتى لا يعتقد جمهور الحاضرين خطأً أنه يقرأ الأسفار المقدسة الأصلية. أما بالنسبة للدقة، فلم يكن يسمح إلا بترجمة آية واحدة فقط من التوراة وما لا يزيد عن ثلاث آيات من أسفار الأنبياء في المرة الواحدة. وبمرور الوقت دوَّنت هذه التفاسير. (Bruce, BP, 133) ط


ويشير ج. أندرسون في كتابه «الكتاب المقدس هو كلمة الله» إلى أن: الفائدة العظمى لكتب الترجوم الأكثر قدماً تكمن في البرهان على أصالة النص العبري عن طريق إثبات أن النص العبري الذي كان يوجد في عصر تدوين كتب الترجوم هو نفسه النصّ الذي لدينا اليوم. (Anderson, BWG, 17).



ويخلص جايسلر ونيكس إلى أنه: لا يعد أي من كتب الترجوم هذه ذا أهمية بالنسبة للناقد النصّي، ولكنها جميعاً ذات أهمية بالنسبة لدراسة علم التفسير إذ أنها تشير إلى الطريقة التي كان يفسر بها علماء اليهود الأسفار المقدسة. (Geisler, GIB, 305).

2(د) المشنا (200م)


اكتمل تدوين المشنا (تكرار أو تفسير أو تعليم) حوالي عام 200م، وكانت عبارة عن خلاصة الشريعة الشفهية منذ عصر موسى. وتمَّ تدوينها باللغة العبرية، وكانت تتضمن التقاليد والتفاسير الشفهية للشريعة. (Geisler, GIB, 502).
وما تحويه من اقتباسات كتابية تشابه النصّ المازوري إلى حد بعيد وتعدّ شاهداً على موثوقيته.



3(د) الجيمارا



(الجيمارا الفلسطينية 200م، الجيمارا البابلية 500م). دوَّنت الجيمارا (وتعني يكمل أو ينجز أو يتعلَّم) باللغة الآرامية، وكانت في الأساس شرحاً مكملاً للمشنا. وقد وجد منها نسختان:


الجيمارا الفلسطينية (حوالي 200م) والجيمارا البابلية وهي الأكبر حجماً والأكثر مرجعية (حوالي 500م). (Geisler, GIB, 502)



وتسهم هذه الشروحات (المدونة بالآرامية) التي ارتبطت بالمشنا في تحقيق موثوقية النصّ المازوري.


وتشكل المشنا مع الجيمارا الفلسطينية التلمود الفلسطيني، ومع الجيمارا البابلية التلمود البابلي.


المشنا + الجيمارا الفلسطينية = التلمود الفلسطيني


المشنا + الجيمارا البابلية = التلمود البابلي




4(د) المدراش


كان المدراش (100 ق.م. - 300 م) عبارة عن الدراسات العقائدية للنصّ العبري للعهد القديم. والاقتباسات الكتابية في المدراش مأخوذة عن النصّ العبري.



كان المدراش (الدراسة أو التفسير النصّي) تفسيراً عقائدياً ووعظياً للأسفار العبرية المقدسة مدوناً بالعبرية والآرامية. وتم جمع المدراشيم (جمع مدراش) بين عامي 100 ق.م. و300 م. وينقسم المدراش إلى جزئين رئيسيين الهلاكا Halakah أي إجراء، وهو يختص بالتوراة فقط، والهاجادا Hagada إعلان أو تفسير، وهي شروحات للعهد القديم كله، وقد اختلفت كتب المدراش عن الترجوم، فالأولى كانت في الحقيقة شروحات أما الأخيرة فكانت ترجمات. ويشتمل المدراشيم على بعض العظات التي كانت تُلقي قديماً في المجامع والتي تدور حول العهد القديم وما به من أمثال ومواعظ. (Geisler, GIB, 306).




5(د) اكتشافات أخرى هامة



برديات ناش: من بين المخطوطات القديمة للعهد القديم العبري، هناك نسخة غير سليمة للشيما (وهي الآيات الواردة في تثنية 6: 4-9) وقصاصتان للوصايا العشر (خروج 20: 2-17 ، تثنية 5: 6-21). وترجع برديات ناش إلى ما بين القرن الثاني ق.م. والقرن الأول الميلادي.
المخطوطة القاهرية: وهي مخطوطة على شكل كتاب به صفحات. وطبقاً لكتابة وردت في آخر هذه المخطوطة، دوَّنت المخطوطة القاهرية وشكَّلت حوالي عام 895 م على يد موسى بن أشير في طبرية بفلسطين. وهي تحتوي على أسفار الأنبياء الأولين (يشوع والقضاة وصموئيل الأول والثاني والملوك الأول والثاني) والأنبياء المتأخرين (إشعياء وإرميا وحزقيال والأنبياء الصغار).
مخطوطة حلب: وقد دونها شيلومو بن بايا (Kenyon, OBAM, 84) . ولكن وفقاً لما ورد بملاحظة ختامية بها، قام موسى بن أشير (حوالي عام 930م) بتشكيلها. وتعتبر هذه النسخة نسخة نموذجية رغم عدم السماح بنسخها لفترة طويلة،كما قيل أيضاً أنها فقدت. (Wurthwein, TOT, 25). ، وقد تم تهريبها من سوريا إلى إسرائيل وتم تصويرها في وقتنا الحالي وهي تُعد الأساس الذي يعتمد عليه الكتاب المقدس العبري الذي أصدرته الجامعة العبرية. (Goshen-Gottstein, BMUS, 13) وتعتبر مرجعاً صحيحاً للنص الذي دوَّنه ابن أشير.




مخطوطة لننجراد: وفقاً لما ورد بملاحظة ختامية بها فقد قام صموئيل بن يعقوب في القاهرة القديمة بنسخها عام 1008 نقلاً عن مخطوطة (مفقودة الآن) دوَّنها هارون بن موسى بن أشير حوالي عام 1000 م (Kahle, CG, 110).، وهي تمثل إحدى المخطوطات القديمة للكتاب المقدس العبري كاملاً.




المخطوطة البابلية للأنبياء المتأخرين: وتسمى أحياناً مخطوطة ليننجراد للأنبياء (Kenyon, 85) أو مخطوطة بطرسبرج. (Wurthwein, TOT, 26)، وهي تشمل إشعياء وإرميا والأسفار الاثنى عشر. وترجع إلى عام 916 م، ولكن أهميتها الرئيسية تكمن في إعادة اكتشاف علامات الترقيم التي أضافها الكتبة المازوريون في المدرسة البابلية. أما مخطوطة روخلن التي ترجع إلى عام 1105 فهي الآن في كارلزروه. ومثلها مثل مخطوطة المتحف البريطاني (حوالي 1150 م) فهي تحوي تنقيحاً أجراه ابن نفتالي وهو مازوري من طبرية. وتعتبر هذه المخطوطات ذات أهمية بالغة بالنسبة لتحقيق نص ابن أشير (Kenyon, OBAM, 36). مخطوطات إيرفورت: توجد مخطوطات إيرفورت (E1, E2, E3) . في مكتبة جامعة توبنجن. وتمثل إلى حد ما (وخصوصاً نص E3التقليد النصي لابن نفتالي. وترجع مخطوطة E1 إلى القرن الرابع عشر. أما مخطوطة E2 فيرجَّح أنها ترجع إلى القرن الثالث عشر. أما مخطوطة E3 فهي أقدم المخطوطات الثلاث وتعود إلى ما قبل عام 1100 (Wurthwein, TOT, 26).
 

جورج واشنطن

عضو مميز
(ب) تفسير المعلومات الأثرية



هناك ثلاثة خطوط إرشادية مفيدة لدراسة المعلومات الأثرية التي تتصل بالمسيحية. أولاً: يمكن الوصول إلى المعنى من خلال السياق. فالبرهان الأثري يعتمد على عوامل السياق من تاريخ ومكان ومادة وأسلوب. وهنا يعتمد المعنى على الافتراضات المسبقة للمفسر. ومن ثم فليست جميع التفسيرات المقترحة للشواهد تؤيد المسيحية. ومن الأهمية بمكان أن نتأكد من أن الافتراضات المسبقة للشخص صحيحة قبل تفسير هذه المعلومات.



ثانياً: يعد علم الآثار نوعاً خاصاً من العلوم. فالفيزيائيون والكيميائيون يمكنهم إجراء كافة أنواع التجارب لإعادة تخليق العمليات التي يقومون بدراستها ويلاحظونها المرة تلو الأخرى. أما علماء الآثار فلا يمكنهم ذلك. إذ ليس أمامهم سوى الشواهد التي تركتها لهم مرة واحدة حضارة معينة. فهم يقومون بدراسة أحداث ماضية فريدة وليس نظماً حاضرة. ولأنهم لا يستطيعون إعادة تشكيل المجتمعات التي يقومون بدراستها، فإنه لا يمكن اختبار ما يتوصلون إليه من نتائج كما هو الحال في العلوم الأخرى. إن علم الآثار يحاول أن يجد تفسيرات مقبولة ومحتملة الحدوث للشواهد التي يكتشفها. ولا يمكن لعلم الآثار أن يصيغ القوانين كما هو الحال بالنسبة للعلوم الطبيعية. ولهذا السبب فإن النتائج التي يتوصل إليها عرضة للتنقيح. وأفضل التفسيرات هو الذي يفسر جميع الشواهد على أكمل وجه.



ثالثاً: يعد الشاهد الأثري شاهداً جزئياً. فهو يتضمن فقط جزءاً صغيراً من مجمل الأحداث. ومن ثم فإن اكتشاف المزيد من الشواهد يمكن أن يغير النتائج تماماً، وخاصة إذا كانت النتائج تستند أكثر إلى غياب الشواهد والافتقار للأدلة. وقد أدَّت الاكتشافات الأثرية إلى دحض الكثير من الآراء النقدية للكتاب المقدس. فمثلاً: طالما ساد الاعتقاد بأن الكتاب المقدس أخطأ عندما تحدَّث عن الحثيين. (تكوين 23: 10) ولكن بعد اكتشاف المكتبة الحثية في تركيا (1906) لم يعد الحال كذلك.(Geisler, BECA, 48, 49).







4(ب) الأسباب الأساسية للاهتمام المتزايد بعلم الآثار





لماذا حظي علم الآثار بهذا الاهتمام الكبير في السنوات الأخيرة؟ يذكر وليم ف. ألبرايت أربعة عوامل للتقدم المتواصل في مجال علم الآثار:


1- الزيادة السريعة في عدد البعثات الأثرية القادمة من مختلف الأقطار بما فيها اليابان.

وتماشى مع ذلك الزيادة في أعداد المتاحف ونشر المجلدات. ومن ثم فإن الزيادة لم تكن فقط في أعمال التنقيب الأثرية ولكن فيما ينشر عنها من بحوث كذلك.


2- استحداث وسائل أفضل للتنقيب الأثري بشكل لافت للنظر. وينطبق هذا على كل من تحليل الطبقات المتراصة فوق بعضها (علم الطبقات) وتصنيف وتأريخ المكتشفات (دراسة الرموز الكتابية).


3- استخدام الكثير من التقنيات الحديثة للعلوم الطبيعية ومنها استخدام الكربون المشع (نظير الكربون 14) لتحديد الأعمار.

4- فهم وتفسير الكمَّ الهائل من النصوص والنقوش الأثرية الجديدة والمدوَّنة بالعديد من اللغات والكتابات التي لم يكن الكثير منها معروفاً قبل عقود قليلة. وقد أتاح تطبيق القواعد اللغوية والفيلولوجية السليمة على ألواح الكتابة المسمارية والبرديات الهيراطيقية المصرية نشر هذه النصوص بشكل سريع وصحيح. لقد أصبح تفسير أي كتابة جديدة يتم بشكل سريع إذا ما توفرت بعض الأدلة التي تسمح بذلك. وهناك عدد لا يحصي من الألواح المسمارية التي ترجع إلى الألفية الثالثة ق.م. والتي حفظت تحت أنقاض مستعمرة في غرب آسيا ومصر. كما قللت الأساليب الأثرية المستحدثة نسبة الفاقد الأثري إلى حد كبير.


بمساعدة علم الطبقات والتحليل العلمي والبحث الأثـري يمكـن لعـالم الآثــار اليوم أن يعيد تشكيل الحياة اليوميــة للشعوب القديمة بدقة كبيرة (Albright, ADS, 3).







5(ب) الحجارة تصرخ: أمثلة للبرهان الأثري لصحة روايات العهد القديم





يعزِّز علم الآثار معرفتنا بالخلفية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية للنصوص الكتابية. كما أنه يساعدنا على فهم الديانات الأخرى التي كانت لدى الشعوب المحيطة بإسرائيل.





1(ج) سدوم وعمورة




كان يعتقد أن دمار مدينتي سدوم وعمورة قصة غير حقيقية حتى دلت الاكتشافات على أن المدن الخمسة التي يذكرها الكتاب المقدس كانت في الواقع مراكز للتجارة في المنطقة وكانت تقع جغرافياً كما قال الكتاب تماماً. أما الدمار الذي حل بهذه المدن والذي ذكره الكتاب المقدس فلم يكن أقل دقة. تشير الشواهد إلى حدوث نشاط زلزالي أسفَرَ عن تشقق طبقات الأرض المختلفة وانفجار الحِمم البركانية. ويكثر القار في هذه المدن، مما يشير إلى تساقط المواد الكبريتية على هذه المدن التي رفضت الله. هناك أدلة على أن طبقات الصخور الرسوبية قد انصهرت معاً بفعل الحرارة الشديدة. وتمّ هذا الاكتشاف على قمة جبل أوسدوم (جبل سدوم). وهذا برهان قوي على الحريق الهائل الذي حدث في الماضي ربما بسبب اشتعال البترول وانفجاره تحت البحر الميت. ولا ينفي هذا التفسير بأي حال من الأحوال الصفة المعجزية للحدث لأن الله هو المهيمن على قوى الطبيعة. ويبين توقيت الحدث، في ظل أحداث زيارة الملائكة وتحذيراتهم، الطبيعة المعجزية لهذا الحدث. (Geisler, BECA, 50, 51).





2(ج) أريحا




خلال أعمال التنقيب التي جرت في أريحا (1930- 1936) اكتشف جارستنج شيئاً مذهلاً، فأصدر بياناً وقَّع عليه هو واثنان آخران من أعضاء فريق البحث يصف فيه هذا الاكتشاف. ويقول جارستنج فيما يتعلق بهذا الكشف: لقد أكدت الاكتشافات بما لا يدع مجالاً للشك أن الأسوار سقطت متجهة إلى الخارج حتى تمكَّن الغزاة من الصعود على حطامها والدخول إلى المدينة. وتكمن غرابة هذا الحدث في أن أسوار المدن لا تسقط إلى الخارج بل إلى الداخل. ولكننا نقرأ في (يشوع 6: 20) «فسقط السور في مكانه وصعد الشعب إلى المدينة كل رجل مع وجهه وأخذوا المدينة». ومن ثم تكون الأسوار قد سقطت إلى الخارج (Garstang, FBHJJ, 146).




ويذكر بريانت وود في صحيفة «الآثار الكتابية» عدداً من أوجه الإتفاق بين الكشف الأثري والنص الكتابي على النحو التالي:




1- كانت المدينة محصَّنة للغاية. (يشوع 2: 5 و7، و15؛ 6: 5 و20).

2- حدث الغزو عقب موسم الحصاد مباشرة في فصل الربيع. (يشوع 2: 1؛ 3: 15؛ 5: 16).

3- لم تسنح الفرصة لسكان المدينة للهرب بمزاودهم. (يشوع 6: 1).

4- كان الحصار قصيراً (يشوع 6: 15).

5- سقطت الأسوار ربما بفعل زلزال. (يشوع 6: 20).

6- لم تنهب المدينة (يشوع 6: 17 و 18).

7- أحرقت المدينة (يشوع 6: 24).

3(ج) شاول وداود وسليمان

كان شاول أول ملك لإسرائيل وكان له حصن في جبعة تمَّ الكشف الأثري عنه. وأحد أهم الاكتشافات أن المقلاع كان واحداً من الأسلحة الأساسية التي استخدمت في تلك الأيام. ولا يرتبط هذا فقط بحادثة انتصار داود على جليات ولكن أيضاً بالإشارة التي وردت في القضاة 20: 16 إلى أنه كان هناك سبع مائة رجل من الرماة المحنكين الذين يرمون الحجر بالمقلاع على الشعرة ولا يخطئون.



وعند موت شاول، يخبرنا سفر صموئيل أن عتاده وضع في معبد عشتاروث (إلهة الخصب عند الكنعانيين) في بيت شان، بينما يسجل لنا سفر أخبار الأيام أن رأسه وضِعت في معبد داجون إله الغلَّة عند الفلسطينيين. وكان يعتَقَد أن هذه الأحداث ليست صحيحة. إذ كيف يمكن للشعوب المتعادية أن يكون لها معابد في نفس الموضع. إلا أن الاكتشافات الأثرية أعلنت وجود معبدين في نفس الموقع يفصل بينهما رواق، أحدهما لداجون والآخر لعشتاروث. ويبدو أن الفلسطينيين قد اتخذوا من آلهة الكنعانيين آلهة لهم.



إن أحد أهم الإنجازات التي تمت في عهد الملك داود هو الاستيلاء على أورشليم. وكان الشك في رواية الكتاب المقدس يرتكز على أن الإسرائيليين دخلوا المدينة عن طريق نفق يؤدي إلى بِرْكة سلوام. إلا أنه كان يعتَقَد أن البِرْكة كانت تقع خارج أسوار المدينة في ذلك الوقت. ولكن الاكتشافات التي جرت في 1960م كشفت على أن الأسوار كانت تمتد إلى ما وراء البِرْكة.



ولم يكن عهد سليمان أقلّ عطاءً. لم تستطع البعثات الأثرية أن تعمل في موقع هيكل سليمان لأنه يقع بالقرب من أحد الأماكن الإسلامية المقدسة وهو قبة الصخرة. إلا أن ما تمَّ الكشف عنه بالنسبة لمعابد الفلسطينيين التي شيدت في عصر سليمان يتطابق مع الأوصاف المذكورة لها في الكتاب المقدس فيما يتعلق بالتصميم والزخرفة والمواد المستخدمة. أما الأثر الوحيد الذي تبقي من الهيكل وتمَّ اكتشافه هو إحدي التحف الأثرية الصغيرة وكان عبارة عن رمانة في نهاية قضيب تحمل النقش التالي: خاص بهيكل يهوه. وتمَّ اكتشافه لأول مرة في متجر بأورشليم عام 1979 وتمَّ التحقق منه عام 1984 ووضع في المتحف الإسرائيلي عام 1988م.




أما الاكتشافات التي تمت في جازر عام 1969 فقد شملت التنقيب في طبقة كثيفة من الرماد كانت تغطي ذلك التل. وقد أسفر التنقيب في هذا الرماد عن اكتشاف قِطَع أثرية عبرية ومصرية وفلسطينية. وهذا يوحي بأن الحضارات الثلاث قد وجدت هناك في وقت واحد. وقد حير ذلك الباحثين كثيراً حتى أدركوا أن الكتاب المقدس يؤكد هذا الكشف تماماً: «صعد فرعون ملك مصر وأخذ جازر وأحرقها بالنار وقتل الكنعانيين الساكنين في المدينة وأعطاها مهراً لابنته امرأة سليمان». (1 ملوك 9: 16). (Geisler, BECA, 51, 52).



ورد في مقال كتبه آلان ميلارد عام 1989 في صحيفة «الآثار الكتابية» تحت عنوان: هل يبالغ الكتاب المقدس في ثروة الملك سليمان؟ ما يلي: إن من يطالع نصوص الكتاب المقدس بغرض إصدار الأحكام الذاتية على صحته يتوصل إلى أن - وهو أمر يمكن فهمه - الأوصاف المذكورة به بشأن ذهب الملك سليمان يعد من الأمور المبالغ فيها جداً، إذ أن كمية الذهب التي ينسبها الكتاب القدس إلى الملك سليمان غير معقولة ولا يمكن تصورها.


إننا لم نبرهن على أن التفاصيل الواردة بالكتاب المقدس فيما يتعلق بذهب سليمان صحيحة. ولكننا إذا ما وضعنا النصّ الكتابي إلى جوار النصوص القديمة الأخرى والكشوف الأثرية ،يتضح لنا أن النصوص الكتابية تتفق تماماً مع عادات وممارسات العالم القديم التي أطلعنا عليها، ليس فقط فيما يتعلق باستخدام الذهب، ولكن أيضاً بالنسبة لكميته. فبينما لا يقطع ذلك بصحة روايات الكتاب المقدس، إلا أنه يبين معقوليتها. (Millard, DBEKSW, 20)



4(ج) داود





ويقدم لنا عالم الآثار س.هـ. هورن مثالاً جيداً يوضح كيف يمكن لعلم الآثار أن يساعد في دراسة الكتاب المقدس:






لقد ألقت الاكتشافات الأثرية الضوء على استيلاء داود على أورشليم. إن الروايات الكتابية لهذا الحدث (2 صموئيل 5: 6-8 ، 1أخبار الأيام 11: 6) غامضة إلى حد ما إذا ما أغفلنا الأدلة الأثرية التي تمَّ التوصل إليها. ولنأخذ مثلاً (2 صموئيل 5: 8)، «وقال داود في ذلك اليوم إن الذي يضرب اليبوسيين ويبلغ إلى القناة والعرج والعمي المبغضين من نفس داود»، أضف إلى هذه العبارة ما ورد في أخبار الأيام الأول 11: 6: «يكون رأساً وقائداً فصعد أولاً يوآب ابن صروية فصار رأساً».




منذ بضعة سنوات شاهدت رسماً لغزو أورشليم عرَض فيه الرسام لرجل يتسلق ماسورة معدنية على السور الخارجي للمدينة. كانت هذه الصورة غير معقولة إذ أن أسوار المدن القديمة لم يكن بها مواسير أو مياذيب رغم أنه كان بها مجاري لصرف المياه. وبعد أن اتضح الأمر من خلال الكشوف الأثرية التي تمت في المنطقة، صدرت الترجمة القياسية المنقحة The

Revised Standard Version ووردت بها الترجمة كما يلي: «وقال داود في ذلك اليوم: من يضرب اليبوسيين فليصعد قناة المياه ويضرب العرج والعمي المبغضين من نفس داود. فصعد يوآب بن صروية أولاً فصار رأساً». فماذا كانت يا تري قناة المياه هذه التي صعدها يوآب؟


كانت أورشليم في ذلك الوقت مدينة صغيرة تقع أعلى قمة التلال التي شيدت عليها المدينة الكبيرة فيما بعد. وكانت إحدى الحصون الطبيعية إذ أنها كانت محاطة بأودية عميقة من ثلاث جهات. وهذا هو السبب في افتخار اليبوسيين بأنه حتى العمي والعرج يمكنهم الزود عن المدينة ضد أي جيش عظيم. ولكن موارد المدينة من المياه كانت ضئيلة، فكان السكان يعتمدون كليةً على عين للماء تقع خارج المدينة على المنحدر الشرقي للتل.



وحتى يمكنهم الحصول على الماء دون الهبوط إلى مكان العين، شيَّد اليبوسيون نظاماً معقداً للأنفاق عبر الصخور. فقد حفروا أولاً نفقاً أفقياً يبدأ عند العين ويصل إلى مركز المدينة. وبعد الحفر لمسافة تسعين قدماً وجدوا كهفاً طبيعياً. ومن هذا الكهف حفروا مجرى رأسياً طوله خمسة وأربعون قدماً، وفي نهاية هذا المجرى حفروا نفقاً منحدراً بطول 135 قدماً وأقاموا سلماً ينتهي عند سطح المدينة، على ارتفاع 110 قدماً عن مستوى المياه في العين. وبعد ذلك قاموا بإخفاء العين من الخارج حتى لا يستطيع الأعداء اكتشافها. وللحصول على الماء كانت النساء اليبوسيات يهبطن عبر النفق العلوي ويدلين بجرارهن في القناة لرفع المياه من الكهف الذي وصلت إليه المياه بشكل طبيعي عبر النفق الأفقي الذي يربط بين الكهف والعين.



ومع ذلك فقد بقي سؤال حائر. كشفت أعمال التنقيب التي قام بها ر.أ. س. ماكليستر وج. ج. دانكن منذ ما يقرب من أربعين عاماً مضت عن سور وبرج. وكان يعتقد أن الأول شيَّده اليبوسيون والثاني شيده داود. وكان هذا السور بمحاذاة حافة تل أوفيل غربي مدخل النفق. ومن ثم كان المدخل خارج نطاق السور الواقي للمدينة وبالتالي كان معرَّضاً لهجوم الأعداء. فلماذا لم يتم حفر النفق حتى ينتهي داخل المدينة؟ توصلت كاثلين كنيون إلى حل هذا اللغز من خلال أعمال التنقيب التي قامت بها مؤخراً في أوفيل. لقد اكتشفت أن ماكليستر ودانكن لم يحالفهما الصواب في تقدير تاريخ كل من السور والبرج اللذين قاما باكتشافهما، إذ أنهما في حقيقة الأمر ظهرا في العصر الهلِّيني. لقد اكتشفت كنيون سور اليبوسيين الحقيقي على مسافة أبعد بأسفل منحدر التل شرقي مدخل النفق، ومن ثم يقع هذا النفق داخل نطاق المدينة القديمة.



أما داود، الذي كان من بيت لحم، التي تبعد عن أورشليم غرباً بمسافة أربعة أميال، فقد وعد بأن أول رجل يدخل إلى المدينة عبر قناة المياه سوف يصبح رئيساً للجيش. فقام يوآب، الذي كان قائداً للجيش، بقيادة هذا الغزو بنفسه إذ لم يكن يريد أن يفقد مركزه. ومن الواضح أن الإسرائيليين قد مرّوا عبر النفق وصعدوا عبر القناة ودخلوا المدينة قبل أن يخطر على فكر أهل المدينة المحاصرين أن تدبر ضدهم مثل هذه الخطة الجريئة. (Horn, RIOT, 15, 16)



ويحدثنا أفراهام بيرام (Biram, BAR, 26 ) عن كشف جديد تمّ عام 1994:

يشير أحد النقوش الهامة التي ترجع إلى القرن التاسع قبل الميلاد إلى (بيت داود)، و(ملك إسرائيل). وهذه أول مرة نجد فيها اسم داود في أي نقش أثري قديم غير الكتاب المقدس. ومن الجدير بالملاحظة أن النقش لا يشير فقط إلى داود بل إلى بيت داود، الأسرة الملكية للملك الإسرائيلي العظيم ... ولعل هذا أقدم الشواهد غير الكتابية التي كتبت باللغات السامية والتي تشير إلى إسرائيل. وإن دلَّت هذه الكتابة على شيء، فإنها تدُّل على أن كلاً من إسرائيل ويهوذا كانتا مملكتين هامتين في ذلك الوقت، وهذا بخلاف ما يدَّعيه بعض الدارسين الذين يقللون من شأن الكتاب المقدس.
 

جورج واشنطن

عضو مميز
5(ج) ملخص ونتائج ما سبق



يقول هنري م. موريس: بالطبع فإن هناك مشكلات لا زالت قائمة للتوفيق الكامل بين مكتشفات علم الآثار والكتاب المقدس. ولكن هذه المشكلات ليست من الخطورة التي يصعب معها حل هذه المشكلات من خلال المزيد من البحث. ومن الأمور الهامة هنا أنه مع وجود كمٍ هائلٍ من الأدلة التي تثبت التاريخ الكتابي لهذه العصور، فليس هناك أي اكتشاف مؤكد لعلم الآثار يفيد أن الكتاب المقدس أخطأ في أي أمر. (Morris, BMS, 95)



في كل عصر من عصور تاريخ العهد القديم نجد أن هناك أدلة قوية لعلم الآثار على أن الكتاب المقدس يخبرنا بالحق. بل وأنه في كثير من الأحيان تعكس الأسفار المقدسة المعرفة المباشرة للعصور والعادات التي تصفها. وبينما تشكك البعض في صحة الكتاب المقدس، ثبت بمرور الوقت ومن خلال البحث العلمي أن كلمة الله أشمل معرفة من نقَّادها.



وفي الواقع فإنه بينما تدعِّم آلاف الاكتشافات للعالم القديم الصورة الكتابية في شكلها العام وتفاصيلها الدقيقة، ليس هناك اكتشاف مؤكد يناقض الكتاب المقدس. (Geisler, BECA, 52).



ويضيف هنري موريس:


أدَّي قِدَم ما ورد بالكتاب المقدس من أحداث تاريخية مقارنة بغيره من الكتابات، ومع وجود الأفكار المسبقة للقرن التاسع عشر، إلى إصرار الكثير من الدارسين على أن الأحداث التاريخية للكتاب المقدس هي أيضاً في معظمها مجرد أساطير. ولما لم تكن هناك أدلة كافية، غير بعض نسخ المخطوطات القديمة، لتقييم الأحداث التاريخية القديمة، فقد كانت هذه الآراء مقنعة. أما الآن فلم يعد بالإمكان رفض موثوقية الأحداث التاريخية للكتاب المقدس، على الأقل بداية من زمن إبراهيم بسبب الاكتشافات المذهلة لعلم الآثار. (Morris, MIP, 300)








6(ب) البرهان الوثائقي لروايات العهد القديم


1(ج) موثوقية تاريخ العهد القديم






إن نسخ مخطوطات العهد القديم التي لدينا ليست فقط صحيحة ولكن محتوياتها أيضاً موثوقة تاريخياً.



ويقول وليم ف. ألبرايت أحد أبرز علماء الآثار: ليس هناك أدنى شك في أن علم الآثار قد أثبت الموثوقية التاريخية للعهد القديم. (Albright, ARI, 176)



أما الأستاذ هـ. هـ. رولي فيقول: يكنّ العلماء اليوم احتراماً أكبر لقصص الآباء أكثر من ذي قبل، ولا يرجع ذلك إلى أنهم يعتنقون أفكاراً أكثر اعتدالاً ولكن لأن البراهين أكدت ذلك. (Rowley, as cited in Wiseman, ACOT, in Henry, RB, 305).

وهذا يلخصه لنا ميريل أونجر قائلاً: لقد أعاد علم آثار العهد القديم اكتشاف أمم بأكملها وأحيا صورة شعوب هامة وبصورة مذهلة جداً سد ثغرات تاريخية مضيفاً الشيء الكثير إلى الصورة الكتابية. (Unger, AOT, 15)



يقول السير فريدريك كنيون: ومن ثم يمكننا القول بأنه فيما يتعلق بهذا الجزء من العهد القديم الذي كان يوجه إليه بشكل رئيسي النقد اللاذع في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فإن البراهين التي أتى بها علم الآثار قد أعادته إلى وضعه الأول كما رفعت من قيمته فأصبح أكثر وضوحاً في ضوء معرفة خلفياته وأطره. ولم يقل علم الآثار كلمته الأخيرة بعد، ولكن النتائج التي حققها حتى الآن تؤكد ما يدل عليه الإيمان من أن الكتاب المقدس لا يلقى سوى التأييد من المعرفة المتزايدة. (Kenyon, BA, 279)



لقد قدَّم علم الآثار كماً غزيراً من البراهين التي تثبت بالدليل المادي صحة النص المازوري الذي لدينا. كتب برنارد رام يقول عن ختم إرميا:


قدم علم الآثار أيضاً البراهين على صحة النص المازوري الذي لدينا. إن ختم إرميا، الذي كان يستخدم لوضع أختام القار على جرار الخمر ويرجع إلى القرن الأول أو الثاني الميلادي، منقوش عليه كما في إرميا 48: 11، وهو يوافق بوجه عام النص المازوري. ويشهد هذا الختم للدقة التي انتقل بها النص منذ العصر الذي صنع فيه هذا الختم وعصر تدوين هذه المخطوطات. علاوة على ذلك تؤكد كل من بردية روبرتس التي ترجع إلى القرن الثاني ق.م.، وبردية ناش التي ترجع، طبقاً لتقدير ألبرايت، إلى عام 100 ق.م.، النص المازوري الذي لدينا. (Ramm, CITOT, 8-10)
ويؤكد وليم ألبرايت أنه يمكننا الاطمئنان إلى أن النص الأصلي للكتاب المقدس العبري، رغم إمكانية تعرضه للتغير، قد حفظ لنا بدقة لا تضاهى في أي من آداب الشرق الأدنى... تؤكد الأضواء الكثيرة التي تلقى الآن من قِبَل الأدب الأوجاريUgaritic على الكتابات الشعرية العبرية للكتاب المقدس في مختلف عصورها على قِدَم كتابتها والدقة المذهلة التي انتقلت بها (Albright OTAAE, as cited in Rowley, OTMS, 25)



كتب الأثري ألبرايت بشأن صحة الأسفار المقدسة التي كشف عنها البحث الأثري قائلاً: ترجع أحداث التوراة التي بين أيدينا الآن إلى زمن أقدم بكثير من التاريخ التي نُقِلت وحِرِّرت فيه أخيراً، ولا زالت الاكتشافات الجديدة تؤكد الدقة التاريخية وقِدَم المادة الأدبية للتفاصيل الموجودة بها ... وبناء عليه يكون من المغالاة في النقد إنكار السمة الموسوية الأساسية للتقليد التوراتي. (Dodd, MNTS, 244)



ويعلق ألبرايت علي ما اعتاد النُقَّاد قوله:



حتى وقت قريب سرت العادة بين المؤرخين الكتابيين على اعتبار قصص الآباء في سفر التكوين من اختلاق الكتبة الإسرائيليين في المملكة المنقسمة أو أنها قصصاً رواها الرواة ذوي الخيال الواسع في حفلات السمر الإسرائيلية إبان القرون التي أعقبت احتلالهم للبلاد. ويمكن ذكر أسماء لعلماء بارزين كانوا ينظرون إلى كل أحداث سفر التكوين 11-50 على أنها تعكس تدويناً لأحداث مختلفة كتبت في فترة متأخرة أو على الأقل أنها تصور للأحداث والظروف التي وقعت في الماضي البعيد في ظل المملكة الحالية، وهي الأحداث التي لا يعرف عنها الكتَّاب اللاحقون شيئاً. (Albright, BPFAE, 1, 2)



إلا أن هذا كله قد تغيَّر الآن، يقول ألبرايت: غيَّرت الاكتشافات الأثرية التي جرت منذ عام 1925م كل هذا. وفيما عدا بعض العلماء القلائل المتعنتين فيما مضى، ليس هناك مؤرخ كتابي واحد لم يتأثر بالتراكم السريع للمعلومات التي تؤيد الموثوقية التاريخية لقصص الآباء. فطبقاً لما ورد في سفر التكوين كان الآباء الإسرائيليين الآوائل على صلة وثيقة بالشعوب شبه البدوية في عبر الأردن وسوريا وحوض نهر الفرات وشمال الجزيرة العربية في القرون الأخيرة من الألفية الثانية ق.م. والقرون الأولي من الألفية الأولي ق.م. (Albright, BPFAE, 1, 2)



ويمضي ميللر باروز قائلاً:



لنستوضح الأمر يجب أن نميز بين نوعين من البراهين العام والخاص. فالبرهان العام هو مسألة توافق دون إثبات نقاط محددة. ومعظم ما ناقشناه من تفسير وتوضيح يمكن اعتباره كذلك برهاناً عاماً. وهنا تتفق الصورة مع الإطار ويتناغم اللحن مع الإيقاع. وقوة هذا البرهان تراكمية، فكلما وجدنا أن ملامح صورة الماضي التي يقدمها لنا الكتاب المقدس، حتى لو لم تكن الإشارة إليها مباشرة، تتفق مع ما نعرفه من خلال علم الآثار، كلما كان انطباعنا لمصداقية الكتاب المقدس بشكل عام أقوى، إذ أن الأساطير والقصص الخيالية لابد لها من التكشف أخيراً من خلال الأخطاء والتناقضات التاريخية. (Burrows, WMTS, 278).


وينوه ريموند أ. بومان الأستاذ بجامعة شيكاغو إلى أن علم الآثار يساعد على تحقيق التوازن بين الكتاب المقدس وفرضيات النقد: إن البراهين على الأحداث الكتابية أدت في كثير من الأحيان إلى احترام التقليد الكتابي مرة أخرى وفهم التاريخ الكتابي على نحو أكثر اعتدالاً (Bowman, as cited in Willoughby, SBTT, 30)



ويقول ألبرايت في كتابه «علم الآثار يواجه النقد الكتابي»: أيدت المعلومات والنقوش الأثرية المكتشفة الصدق التاريخي لعدد غير محدود من نصوص العهد القديم. (Albright, ACBC, 181).
لا يثبت علم الآثار أن الكتاب المقدس هو كلمة الله. فكل ما بوسعه هو أن يؤكد على صحة النصوص وموثوقيتها تاريخياً. فيمكنه أن يبين أن حدثاً معيناً يناسب الوقت الذي يعتقد أنه وقع فيه. وفي هذا يقول ج. إ. رايت: ربما لا يمكننا أبداً أن نثبت أن إبراهيم شخصية حقيقية .. ولكن ما يمكن أن نثبته هو أن حياته والعصر الذي عاش فيه، كما يقول الكتاب المقدس عنه، تتفق تماماً مع عصر بداية الألفية الثانية قبل الميلاد ولا تتفق مع أي عصر آخر لاحق. (Wright, BA, 40)




ولقد أدرك ميللر باروز أهمية علم الآثار في تأكيد موثوقية الكتاب المقدس حينما قال:



أكدت الشواهد الأثرية على موثوقية الكتاب المقدس مراراً وتكراراً. وبشكل عام أنه ليس هناك شك في أن نتائج عمليات التنقيت الأثرية قد زادت من احترام العلماء للكتاب المقدس باعتباره مجموعة من الوثائق التاريخية. ومن هذه البراهين ما هو عام ومنها ما هو خاص. إذ يبين تفسير وتوضيح السجل التاريخي في ضوء المعلومات الأثرية أنه يتفق مع الإطار التاريخي العام.


باعتباره فقط منتجاً أصيلاً يمكن للحياة القديمة أن تفرزه. وفضلاً عن هذا البرهان العام، نجد البراهين على صحة هذا السجل التاريخي بشكل متكرر في نقاط محددة كإنطباق أسماء الأماكن والأشخاص على الأماكن الصحيحة وفي العصور الصحيحة المقصودة. (Burrows, HAHSB, 6).




ويقول جوزيف فري أنه يوماً تصفَّح سفر التكوين فوجد أن كل أصحاح من أصحاحاته الخمسين تؤيده أو توضحه بعض الكشوف الأثرية - وينطبق الأمر ذاته على معظم أصحاحات الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد. (Free, AB, 340)





2(ج) الخلق



هناك اعتقاد بأن الأصحاحات الافتتاحية من سفر التكوين (1-11) تصورات أسطورية مأخوذة عن تصورات أقدم لقصة الخلْق لدى الشعوب القديمة للشرق الأدنى. ولكن هذا الرأي يقتصر فقط على ملاحظة أوجه التشابه بين سفر التكوين وقصص الخلْق في الثقافات القديمة الأخرى. وإذا افترضنا انحدار الجنس البشري من أسرة واحدة مع وجود الوحي الإلهي العام، يمكننا أن نتفهم وجود بعض الآثار للرواية التاريخية الصحيحة لدى الشعوب الأخرى. أما الاختلافات بين الروايات فهي أكثر أهمية. فالروايات البابلية والسومرية تصف الخلْق باعتباره ناتجاً للصراعات التي نشأت بين الآلهة المحدودين. فعندما دحر أحد الآلهة وانشطر إلى نصفين، أصبح نهر الفرات ينبع من إحدى عينيه ونهر دجلة ينبع من العين الأخرى. والبشرية مخلوقة من دم إله شرير مخلوط بالطين. وتبين هذه القصص التكلف والتشويه المتوقع في الرواية التاريخية عند صياغتها في هيئة أساطير.




وليس من المعقول أن يمر النصّ الأدبي بعملية تطور من هذه الأساطير إلى هذه الصورة النقية وغير المتكلفة في تكوين 1 . فالافتراض الشائع بأن الرواية العبرية في الكتاب المقدس ليست إلا صورة مبسطة وأكثر نقاءً من الأساطير البابلية هو افتراض غير صحيح. وفي الشرق الأدنى القديم فإن القاعدة هي تطور التقاليد والروايات البسيطة (من خلال ما يطرأ عليها من عوامل الزيادة والتزيين) إلى أساطير أكثر تركيباً وليس العكس. ومن ثم فإن الأدلة تشير إلى أن سفر التكوين لم يكن أسطورة تحولت إلى تاريخ، ولكن الروايات غير الكتابية كانت تاريخاً تحوَّل إلى أساطير. (Geisler, BECA, 48, 49).




1(د) تل مردوخ: اكتشاف إبلا





إن أحد أعظم الاكتشافات الأثرية لهذا القرن هو اكتشاف مدينة إبلا. في عام 1964 بدأ باولو ماثيا الأستاذ وعالم الأثار في جامعة روما، كشفاً أثرياً منظماً لمدينة لم تكن معروفة آنذاك. وبفضل تصميمه ونفاذ بصيرته، أسفرت عمليات التنقيب في عامي 1974 و1975 عن اكتشاف قصر ملكي عظيم، وما يزيد على خمسة عشر ألفاً من الألواح والمخطوطات. وقد عمل جيوفاني باتيناتو المتخصص في النقوش الأثرية مع ماثيا من أجل تحديد الأهمية الأثرية للنقوش والكتابات في هذا الكشف. وحتى الآن لم يتم ترجمة إلا بعضاً من هذه الألواح. ومن المعروف والثابت الآن أنه من هذا الموقع القديم كانت مدينة إبلا ذات الأهمية الكبيرة مركزاً لإمبراطورية عظمى تحكم الشرق الأدني. وتقع هذه المدينة بالقرب من مدينة حلب الحالية شمال سوريا.
وبلغت مدينة إبلا أوج عظمتها في الألفية الثالثة ق.م. (في عصر الآباء الأولين). ورغم أن نصوص مخطوطات مدينة إبلا الحالية لا تذكر أسماء أشخاص أو أحداث كتابية معينة (رغم وجود جدل واسع النطاق حول هذا الأمر) فإنها تقدم الكثير من المعلومات التاريخية وأسماء المدن التي تستخدم في تقييم النصوص الكتابية. وتعد مدينة إبلا ذات أهمية كبيرة بالنسبة للتاريخ السوري. كما أن لها أهمية خاصة بالنسبة للدارسات الكتابية. ونحن لم نري سوي القليل من الأدلة حتى الآن. وقد استغرقت هذه الأدلة وقتاً كبيراً حتى ظهرت. وفيما يلي بعض من هذه الأدلة التي تؤيد النصوص الكتابية:
 

جورج واشنطن

عضو مميز
(هـ) المدن الكتابية



ويقول كيتشن مشيراً إلى تحقيق المدن الكتابية في مخطوطات إبلا:



هناك عدد غير قليل من المدن الكتابية الهامة التي تظهر في الألواح الأثرية لمدينة إبلا التي تحوي نصوصها (في معظم الحالات) أقدم ما ذكر عن هذه المدن.



ولعلَّ الأهم من ذلك ذكْر بعض المخطوطات للأماكن الفلسطينية المعروفة مثل حاصور ومجدو وأورشليم ولخيش ودور وغزة وعشتاروث (قرانايم) وغيرها. والعديد من هذه الأماكن معروفة لدى علماء الآثار بأنها كانت مدن سكنية في الألفية الثالثة ق.م. (بداية العصر البرونزي الثالث

والرابع). وتؤكد الألواح الأثرية على أهمية هذه المدن كمدن رئيسية كانت تتمتع بالاستقلالية.

وتظهر كنعان في هذه المخطوطات ككيان جغرافي منذ أواخر الألفية الثالثة ق.م.، أي في وقت سابق على أي تاريخ آخر ذكر لهذه المدينة - ومن الأهمية بمكان أن نعلم إلى أي مدى كانت كنعان تحظي بالاهتمام في نصوص مدينة إبلا. (Kitchen, BIW, 53, 54).




2(هـ) الأسماء الكتابية




وأهم اسهامات نصوص مدينة إبلا في هذا المجال هي (1) التأكيد مرة أخرى على أن هذه الأسماء كانت لأشخاص حقيقيين من البشر (وليس لآلهة أو شخصيات أسطورية أو قبائل معينة)، (2) للدلالة على قدم هذه الأسماء بوجه خاص. (Kitchen, BIW, 53)

ويقدم الدكتور جيوفاني باتيناتو قراءات متنوعة في نصوص مدينة إبلا للأسماء العبرية مثل إسرائيل وإسماعيل وميخا. (Pettinato, RATME, 50)




3(هـ) هدايا الشرق الأدني قديماً





يعتبر البعض أن الهدايا التي قبلها سليمان عندما بلغت إمبراطوريته مداها لم تكن إلا قصة خيالية مغالى فيها. ولكن كشْف مدينة إبلا يقدم لنا تفسيراً مختلفاً للأحداث:




كان لمدينة إبلا الملكية في أوج مجدها مصادر عظيمة للدخل. فقد فرضت على ملك مدينة ماري Mari المهزوم وحده جزية قدرها 11000 رطلاً من الفضة و880 رطلاً من الذهب في إحدي المرات. وهذه الكمية التي تقدَّر بعشرة أطنان من الفضة وما يزيد على ثلث طن ذهب لم تكن شيئاً قليلاً. ولكنها كانت فائضاً بالنسبة لما كانت تحتوي عليه خزائن مدينة إبلا. وفي ظل هذا الرخاء الاقتصادي، فإن الدخل الأساسي لسليمان من إمبراطوريته كلها بعد حوالي 15 قرناً، والذي بلغ 666 وزنة (حوالي 20 طناً) من الذهب (1 ملوك 10: 14 ، 2 أخبار الأيام 9: 13) لا يعد مبالغاً فيه بل ويبدو واقعياً كجزء من الصورة العريضة للثروات الضخمة (وإن لم تستمر طويلاً) للممالك العظمى للعالم القديم كما يظهر في الكتاب المقدس.




إن هذه المقارنات لا تثبت أن سليمان تلقي فعلاً 666 وزنة ذهب أو أن مملكته كانت تماماً مثلما وصفها سفر الملوك. ولكنها تشير بوضوح إلى ما يلي: (1) إن ما ورد بالعهد القديم من معلومات يجب دراسته في ضوء السياق الذي وردت به وليس بمعزل عنه. (2) أن ما وصف من أنشطة في كتابات العهد القديم ليست مستحيلة أو حتى بعيدة الاحتمال بالنظر إلى الشواهد والمعايير الخارجية ذات الصلة. (Kitchen, BIW, 51, 52)





4(هـ) الممارسات الدينية





تعلن نصوص مدينة إبلا أن الكثير من الممارسات الدينية للعهد القديم لم تظهر في مرحلة متأخرة كما يعتقد بعض نقَّاد الكتاب المقدس.





فيما يتعلق بأمور الدين والكهنة والقرابين تؤكد سجلات نصوص إبلا المكتشفة حتى الآن بالنسبة لسوريا وفلسطين ما كنا نعرفه قبلاً عن مصر وما بين النهرين وأناتوليا في الألفية الثالثة والثانية والأولى ق.م. أي أن أموراً مثل الجماعات الدينية والذبائح والطقوس كانت سمة أساسية للحياة الدينية في الشرق الأدنى قديماً في جميع عصورها منذ عصر ما قبل التاريخ حتى العصور اليونانية الرومانية. ولا علاقة لذلك بنظريات القرن التاسع عشر التي ليس لها أساس من الصحة والتي تعتبر هذه السمات المميزة للحياة الدينية ليست إلا تطوراً ظهر في عصور متأخرة، ولم يظهر لدى العبرانيين - وحدهم من بين شعوب الشرق القديمة - حتى ما بعد السبي البابلي. وليس هناك مبرر معقول للفكرة الغريبة التي مفادها أن الطقوس البسيطة التي كانت تمارس في خيمة الاجتماع التي صنعها موسى (طالع سفر اللاويين) أو هيكل سليمان، ويرجع كل منهما إلى زمن متأخر عن الزمن الذي كانت تمارس فيه الطقوس في العديد من المعابد في إبلا بأكثر من ألف عام، كانت من اختراع الكتَّاب المثاليين في القرن الخامس ق.م. (Kitchen, BIW, 54).



ويعلق جيوفاني باتيناتو على ذلك قائلاً:


وبالنظر إلى الطوائف الدينية نلاحظ وجود هياكل داجون وعشتار وكاموس وراساب، وهذه كلها تشهد بها نصوص إبلا. ومن بين القرابين التي تقدم هناك الخبز والخمر والحيوانات أيضاً. وفي هذا الشأن هناك لوحان لهما أهمية خاصة (TM, 75, G, 1974, TM, 75, G, 2238) لأنهما يسجلان القرابين الحيوانية المختلفة التي كانت تُقَدم للآلهة المختلفة من قبل أفراد الأسرة الملكية خلال شهر واحد. فمثلاً: 11 خروفاً للإله أداد كتقدمة و12 خروفاً للإله داجون كتقدمة و 10 خراف للإله راساب لمدينة إداني كتقدمة.




ومن السمات الهامة الأخرى للديانة في إبلا وجود طوائف مختلفة للكهنة والكاهنات ووجود طبقتين من الأنبياء الـ ماهو والـ نبيوتوم، وهذا الأخير له ما يماثله في العهد القديم. لتفسير الظواهر الكتابية لجأ العلماء، حتى هذا اليوم، إلى فحص الشواهد التاريخية لمدينة ماريMari ولكن في المستقبل فإن مدينة إبلا سوف تسترعي هي الأخرى انتباههم. (Pettinato, RATME, 49)



5(هـ) الكلمات العبرية





يتحدث ك.أ. كيتشن عن النظرة النقدية للكتاب المقدس التي يتبناها الكثير من العلماء الليبراليين: منذ ما يقرب من سبعين أو مائة عام مضت، لم تكن هذه الرؤية العميقة متوفرة، وحتى يتم التوفيق بين التصورات النظرية المستنبطة من أسفار العهد القديم وبين التاريخ الذي وضعه العلماء الألمان للعهد القديم على نحو خاص، فقد نسبت الكثير من الكلمات العبرية إلى عصر متأخر حوالي 600 ق.م. وما بعدها. وبهذه الطريقة السهلة، أصبحت الآراء الفلسفية غير المنصفة تظهر في صورة رؤى «علمية» حتى هذا اليوم. (Kitchen, BIW, 50)




ورداً على هذا يمضي كيتشن قائلاً:




إلا أن الزيادة الكبيرة في معرفتنا بالتاريخ القديم للكلمات العبرية للعهد القديم أدى إلى تغيير هذا الموقف. فإذا استخدمت كلمة معينة في مدينة إبلا عام 2300 ق.م. وفي مدينة أوجاريت عام 1300 ق.م.، فلا يمكن تصور أنها كلمة من عصر متأخر (300 ق.م.) أو أنها مصطلح آرامي في الوقت الذي لم تكن فيه اللغة الآرامية القياسية قد تطورت بعد، بل أنها تصبح حينئذ كلمة من عصر مبكر، وجزءاً من التراث الآبائي للعبرية الكتابية. وعلى نحو أكثر إيجابية، فإن ازدياد أعداد النصوص التي نحصل عليها والتي تشتمل على الكلمات الأكثر ندرة يمكن أن تؤيد - أو تعدِّل - فهمنا لمعاني هذه الكلمات. (Kitchen, BIW, 50)




ويقول كيتشن مشيراً إلي بعض الكلمات:



ومن ثم، فإذا نظرنا إلى رؤساء المدن في إبلا، فإن التعبير المستخدم للإشارة إليهم هو nase وهي مشابهة لكلمة nasi التي استخدمت في الكتاب المقدس للإشارة إلى رؤساء أسباط إسرائيل (كما في العدد 1: 16 و 44) كما استخدمت للإشارة إلى الحكَّام مثل سليمان (1 ملوك 11: 34). وقد افترضت نظريات النقد الكتابي السابقة أن الكلمة من عصر متأخر وأنها إحدى علامات التقليد الكهنوتي المفترض.




وكلمة «hetem» «ذهبْ» هي مرادف شعري نادر الاستعمال في اللغة العبرية لكلمة «zahab» ويعتبرها الكثيرون من عصر متأخر. إلا أن ما ينفي هذا الرأي هو أن الكلمة قد انتقلت إلى اللغة المصرية من اللغة الكنعانية في القرن الثاني عشر ق.م.، وهي تظهر على الشكل التالي «kutim» في النقوش الكنعانية لمدينة إبلا2300 ق.م، أي قبل أكثر من 1000 عام من التاريخ السابق.



ويواصل قائلاً:



إن الكلمة العبرية tehom «عميق» لم تؤخذ عن البابليين، ليس فقط لأنها تظهر في اللغة الأوجارية «thmt » القرن الثالث عشر ق.م. ولكن لأنها تظهر أيضاً في مدينة إبلا قبل ذلك بنحو ألف عام «ti'amatum». وهي كلمة شائعة في اللغات السامية.



ومن أمثلة الكلمات نادرة الاستعمال والتي تأكد وجودها ومعناها نذكر الكلمة العبريةereshet (شهوة) وهي ترد مرة واحدة في الكتاب المقدس في مزمور 21: 2، كما أننا نجدها في النصوص الأوجارية في القرن الثالث عشر ق.م.، وهي تظهر في نصوص مدينة إبلا قبل ذلك بألف عام «irisatum» في (اللغة الإبلية أو الأكادية القديمة) في الألواح الأثرية السومارية والإبلية.



وأخيراً فإن الفعل hadash أو hiddesh الذي يُعْتَقد أنه ظهر في عصر متأخر والذي يعني (يجدد أو يتجدد) ينحدر من الكلمة الإبلية h edash (u) مروراً بالكلمة الأوجارية hadath. ونفس الكلام يقال عن الكثير من الكلمات الأخرى. (Kitchen, BIW, 50, 51)



وينتهي كيتشن إلى ما يلي:



وما يجب أن نتعلمه هنا هو أنه في ظل ألفي عام من التطور التاريخي للهجات السامية الغربية، هناك حاجة إلى إعادة دراسة التواريخ الموضوعة للمفردات العبرية في الكتاب المقدس. والحقيقة هي أن اللغات السامية الغربية في الألفية الثالثة والثانية ق.م. كانت تشترك في كمِّ كبير من المفردات اللغوية، وهذه المفردات توارثتها اللهجات اللاحقة مثل الكنعانية والعبرية والفينيقية والآرامية وغيرها من اللهجات - ولكن على نحو غير متكافئ. فالكلمات التي نجدها في لغة الحياة اليومية في إحدى هذه اللغات نجدها مستخدمة في اللغة الشعرية الرفيعة أو في التعبيرات الكلاسيكية للغة أخرى. ومن ثم فإن الكثير من الكلمات التي يعتقد أنها ظهرت في عصر متأخر أو أنها تعبيرات آرامية في اللغة العبرية (وخاصة في الشعر) ليست إلا كلمات تنحدر عن السامية الغربية القديمة وهذه الكلمات لم تستخدم على نحو شائع في اللغة العبرية ولكنها بقيت حية في اللغة الآرامية. (Kitchen, BIW, 51)


3(ج) طوفان نوح





وكما هو الحال بالنسبة لقصة الخلْق، فإن قصة الطوفان في سفر التكوين تتسم بالواقعية والخلو من الأسطورة بالمقارنة بروايات هذه القصة لدى الشعوب القديمة الأخرى، مما يدل على صدقها. وتدل أوجه التشابه بين هذه الروايات على وجود أساس تاريخي لها وليس على انتحال موسى لها. وتختلف الأسماء بين هذه الروايات. فنوح يدعي (زيوسودرا) عند السومريين ويدعي (أوتنابيشتيم) عند البابليين. أما القصة الأساسية فلا تختلف. فهناك رجل يأمره الله أن يبني فلكاً بمواصفات معينة لأن الله سوف يهلك العالم بالطوفان. وبالفعل يقوم هذا الرجل بذلك فينجو من الطوفان ويقدم الذبائح عند خروجه من الفلك. وعندئذ يستجيب الإله (أو الآلهة) نادماً على إهلاك الحياة ويقطع عهداً مع الإنسان. وهذه الأحداث الأساسية تشير إلى الأصل التاريخي للقصة.





ونجد قصة مشابهة لتلك في أنحاء العالم المختلفة. فقصة الطوفان يذكرها الإغريق والهندوس والصينيون وسكان المكسيك والهنود الحمر وسكان هاواي. وتشير إحدى قوائم الملوك السومريين إلى الطوفان كعلامة تاريخية فاصلة. فبعد ذكر أسماء ثمانية ملوك عاشوا لفترات طويلة (عشرات الآلوف من السنين)، نجد هذه العبارة التي تقطع التسلسل السردي للملوك: ثم (أغرق الطوفان الأرض )، (وعندما هبطت الملكية مرة أخرى من السماء، كانت أولاً في كيش).




هناك أسباب قوية للاعتقاد بأن سفر التكوين يقدم القصة الأصلية. أما الصور الأخرى للقصة فتشتمل على الكثير من الزيادات والتفصيلات التي تدل على تشويه القصة. وفي سفر التكوين وحده نجد سنة الطوفان، بالإضافة إلى التواريخ الخاصة بحياة نوح. وفي الواقع فإن سفر التكوين يبدو وكأنه يوميات أو سجـلاً للأحـداث التي مر بها الفلك. فالسفينة البابلية المكعبة لم تكن لتنقذ أحداً، إذ أن الأمـواج المتلاطمة كانت ستضـربها من كل جانب. ولكن فلك الكتاب الـمقدس كان على شكل مستطيل واسع وطويل ومنخفض حتى يمكنه أن يقاوم عنف الأمواج جيداً. أما فترة سقوط الأمطار في القصص الوثنية (سبعة أيام) فلا تعد فترة كافية لما تشير إليه هذه القصص من دمار. فقد ارتفعت المياه فوق قمم الجبال لـمساـفة سبـعة عشـرة ألـف قـدم، ومن المنطقي أن تكـون فترة هطول الأمطار أطول من ذلك. أما الفكرة البابليـة التي مفادها أن مياه الطوفان انحسرت في يوم واحد فهي أيضاً غير منطقيـة.



وأحد الاختلافات الهامة بين سفر التكوين والصور الأخرى لهذه القصة هو أن البطل في هذه القصص يمنح الخلود والمجد. أما الكتاب المقدس فينتقل إلى ذكر خطية نوح. والقصة التي تسعى إلى تقديم الحق هي فقط التي يمكن أن تشتمل على الإقرار بهذه الواقعة.



4(ج) برج بابل




هناك أدلة كثيرة على أن العالم كان له حقاً لغة واحدة في وقت من الأوقات. ويشير الأدب السومري إلى هذه الحقيقة في مرات عديدة. كما يعتبر اللغويون هذه النظرية مفيدة في تصنيف اللغات. ولكن ماذا عن برج بابل وبلبلة الألسنة آنذاك (تكوين 11)؟ لقد دلت الكشوف الأثرية على أن أور-نامو، ملك أور من عام 2044 حتى عام 2007 ق.م.، قد تلقى أوامر، كما يعتقد، ببناء برج عظيم (زيجورات) كنوع من العبادة لإله القمر نانات. ويسجل لنا أحد الأعمدة الحجرية الأثرية الذي يصل عرضه إلى خمسة أقدام وطوله إلى عشرة أقدام الأعمال التي قام بها أور-نامو، ففي إحدى اللوحات يظهر ومعه وعاء للطمي حتى يبدأ في تشييد البرج العظيم، وهكذا يعرب عن ولائه للآلهة إذ يتخذ مركز العامل المتواضع. كما تبين لوحة طينية أخرى أن تشييد البرج أثار استياء الآلهة، فهدموا ما قام البشر ببنائه وشتتوهم وجعلوا لغتهم غريبة. ومن الواضح أن هذا مماثل لما سجله لنا الكتاب المقدس.
 

جورج واشنطن

عضو مميز
وطبقاً لما ورد بالكتاب المقدس: وكانت الأرض كلها لساناً واحداً ولغة واحدة (تكوين 11: 1)، قبل بناء برج بابل. وبعد بناء البرج وتدميره، بلبل الله ألسنة الأرض كلها (تكوين 11: 9). ويشهد الكثير من اللغويين المعاصرين لرجحان هذه القصة كأصل للغات العالم. ويقول ألفريدو ترومبيتي أنه يستطيع أن يتتبع ويثبت الأصل المشترك لجميع اللغات. ويشهد ماكس مولر أيضاً للأصل المشترك للغات. أما أوتو جاسبرسن فيذهب إلى القول بأن اللغة أعطيت للإنسان الأول من قِبَل الله مباشرة. (Free, ABH, 47).


5(ج) الآباء الأولون




إن الروايات الخاصة بحياة إبراهيم وإسحق ويعقوب ليس لها الصعوبات التي نواجهها في الأصحاحات الأولى من سفر التكوين، ومع ذلك فطالما ساد الاعتقاد بأنها روايات أسطورية لأنها لم تكن تتناسب فيما يبدو مع ما كان يعرف من شواهد على هذا العصر. وكلما ظهرت المزيد من الشواهد،كلما ثبت صدق هذه الروايات. وتبين الشرائع القضائية في زمن إبراهيم لماذا كان يتردد في طرد هاجر من محل إقامته، إذ أنه كان ملتزماً من الناحية القانونية بإعالتها. فلم يرغب إبراهيم في طردها حتى أمره الله بذلك.




وتذكر رسائل مدينة ماري أسماء مثل أبامرام (إبراهيم) ويعقوب-إيل والبنيامينيين. ورغم أن هذه لا تشير إلى أشخاص كتابيين، إلا أنها تبين على الأقل أن هذه الأسماء كانت مستعملة. وتؤيد هذه الرسائل ما ورد في تكوين 14 عن الحرب التي قامت وواجه فيها خمسة من الملوك أربعة آخرين. وتبدو أسماء هؤلاء الملوك متفقة مع الأمم البارزة في ذلك الوقت. فمثلاً يذكر سفر التكوين 14: 1 الملك الأموري أريوك، بينما تذكر وثائق ماري أن اسم الملك هو أريووك. وتدل كل هذه الشواهد على أن المادة المدوَّنة في سفر التكوين كانت روايات مباشرة لشخص عاش في زمن إبراهيم. (Geisler, BECA, 50)



وفي دراسة أخرى أجراها كيتشن (Kitchen, TPAMH, 48-95) يقدم لنا أمثلة لشواهد أثرية لتحديد زمن الآباء الأولين في العصر البرونزي الأوسط:



إن المعلومات الكتابية تطابق الشواهد المادية للعالم القديم بشكل عجيب مبرهنة بذلك على موثوقية ما ورد بالكتاب المقدس من فترات وعصور.



وأحد أهم هذه الشواهد ما ذكر عن أسعار الرقيق التي كانت تقدَّر بشواقل الفضة. فإننا نعرف من مصادر الشرق الأدنى القديم بعض التفاصيل عن أسعار الرقيق لفترة تمتد إلى 2000 عام، من عام 2400 ق.م. حتى عام 400 ق.م. .. وهذه المعلومات تقدم لنا شاهداً مادياً قوياً يمكننا أن نقارنه مع ما ورد من أرقام في الكتاب المقدس في مواضع عدة بخصوص سعر الرقيق (تكوين 37: 28؛ خروج 20؛ خروج 21: 32؛ 2 ملوك 15: 20) ... وفي كل هذه المواضع يلائم ثمن العبد في النص الكتابي الفترة العامة التي يرتبط بها.



وهناك أدلة متزايدة على أن المحتوى الأساسي المتوارث للكتاب المقدس صحيح - بدءاً من الآباء الأولين ومروراً بالخروج ودخول إسرائيل إلى كنعان والمملكة الموحدة ثم تقسيم المملكة إلى مملكتي إسرائيل ويهوذا ثم السبي والعودة منه.




1(د) سلسلة نسب إبراهيم




إننا نجد أن سلسلة نسب إبراهيم هي سلسلة تاريخية. إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه، هل تمثل هذه الأسماء أسماء أشخاص أم مدن قديمة، على أن المدن القديمة كانت غالباً تسمى بأسماء مؤسسيها. ومن الثابت أن إبراهيم كان شخصاً حقيقياً عاش فعلاً. وعلى حد قول باروز: تشير الأدلة كلها إلى أنه كان شخصاً حقيقياً. وكما أشرنا سلفاً، ليس هناك ذكْر له في أي مصدر أثري معروف، ولكن اسمه يظهر في بابل كاسم لشخص في نفس الفترة التي كان يعيش فيها. (Burrows, WMTS, 258, 259).




كانت هناك محاولات سابقة لتحديد زمن إبراهيم على أنه القرن الخامس عشر أو القرن الرابع عشر ق.م. وهو عصر متأخر جداً بالنسبة له. إلا أن ألبرايت يشير إلى أنه بفضل المعلومات المذكورة سلفاً وغيرها من الشواهد، لدينا كمَّاً كبيراً من الأدلة والشواهد لأسماء أشخاص وأماكن تتعارض جميعها مع التجاهل غير المبرر للمعلومات التقليدية. (Garstang, FBHJJ, 9)


(2) سلسلة نسب عيسو




يرد ذكر الحوريين في سلسلة نسب عيسو (تكوين 36: 20). وكان يعتقد قبلاً أن هؤلاء هم سكان الكهوف بسبب التشابه بين كلمة حوري وبين الكلمة العبرية التي تعني كهف، ومن هنا جاءت الفكرة بأنهم كانوا يسكنون الكهوف. إلا أن الاكتشافات الحديثة دلَّت على أنهم كانوا جماعة بارزة من المحاربين الذين عاشوا في الشرق الأدنى زمن الآباء الأولين. (Free, ABH, 72)





3(د) إسحق والبركة الشفهية (تكوين 27)





يشير جوزيف فري إلى أنه قد يبدو أمراً غريباً ألا يتراجع إسحق عن بركته الشفهية ليعقوب عندما اكتشف خداعه. إلا أن ألواح نوزي تخبرنا أن مثل هذا التصريح الشفهي كان ملزماً تماماً. ومن ثم لم يستطع إسحق التراجع عن بركته الشفهية. ويسجل لنا أحد ألواح نوزي قصة لقضية إمراة كانت ستتزوج من أحد الأشخاص، ولكن الغيرة دفعت إخوته إلى مقاومة الأمر. إلا أن الرجل ربح القضية لأن أباه كان قد قدَّم وعداً شفهياً له بأن يزوجه هذه المرأة. كانت التصريحات الشفهية آنذاك تحمل أهمية خاصة وليس كما هو الحال اليوم. لقد أتت نصوص نوزي من ثقافة مماثلة لتلك المذكورة في سفر التكوين (Free, AL, 322, 323).





ويصف ج. إرنست رايت هذا الأمر قائلاً: كانت تصريحات البركة الشفهية أو وصايا ما قبل الموت معروفة ومقبولة في نوزي وفي مجتمع الآباء الأولين. وكانت هذه التصريحات ذات أهمية كبيرة حتى أنه لا يمكن الرجعة فيها. ونحن نذكر كيف أن إسحق قد صدَّق على كلمته حتى بعد أن اغتصب يعقوب هذه البركة بأساليب الخداع: «فارتعد إسحق ارتعاداً عظيماً جداً. وقال فمن هو الذي اصطاد صيداً وأتي به إلىَّ فأكلت ... نعم ويكون مباركاً». (تكوين 27: 33) (Wright, PSBA, as cited in Willoughby, SBTT, 43).



وتعليقاً على سجلات نوزي يشير سيرس جوردون إلى ثلاثة أمور: يتفق هذا النص مع البركات الكتابية الخاصة بالآباء في أنها (1) وصية شفهية، (2) لها صلاحيات قانونية، (3) كانت موجهة للابن من قِبل أباه وهو مشرف على الموت. (Gordon, BCNT, 8)
ومن ثم كان ذلك ضوءاً مشرقاً على ثقافة لا نعرف عنها الكثير.




4(د) يعقوب

1(هـ) شراء بكورية عيسو




يعلق جوردون على القصة المذكورة في تكوين 25 قائلاً: تعد قصة بيع عيسو بكوريته لأخيه التوأم يعقوب إحدى أغرب الأحداث في الحياة الأسرية. لقد أشرنا إلى أن أحد الألواح لمدينة نوزي.. تصور حدثاً مشابهاً. (Gordon, BCNT, 3, 5).




وهذا اللوح الأثري الذي يشير إليه جوردون يقول عنه رايت: هناك حادث مماثل لبيع عيسو بكوريته ليعقوب في ألواح نوزي التي تذكر أن أحد الأشخاص باع لأخيه بستاناً كان قد ورثه مقابل ثلاثة من الأغنام. وقد تبدو هذه صفقة غير عادلة كما في حادثة عيسو: «قال عيسو ليعقوب أطعمني من هذا الأحمر ... فقال يعقوب بعني اليوم بكوريتك. فقال عيسو ها أنا ماضٍ إلى الموت (جوعاً) فلماذا لي بكورية. فقال يعقوب احلف لي اليوم. فحلف له. فباع بكوريته ليعقوب. فأعطي يعقوب عيسو خبزاً وطبيخ عدس. فأكل وشرب» (تكوين 25: 30-43). (Wright, PSBA, as cited in Willoughby, SBTT, 34).




ويوضح فري قائلاً: في أحد ألواح نوزي، هناك قصة عن رجل يدعي توبكيتيلا نقل حقوق ميراثه في بستان إلى أخيه كوربازا في مقابل ثلاثة من الأغنام. وقد فعل عيسو الشئ نفسه عندما قايض حقوق ميراثه بوجبة طعام. (Free, ABH, 68, 69).



وفي بحث بعنوان «أضواء جديدة على العهد القديم» (نشر بمجلة المسيحية اليوم) يرسم س. هـ. هورن صورة معبرة قائلاً: باع عيسو حقوقه في مقابل وجبة طعام جاهزة، بينما باع توبكيتيلا حقوقه في مقابل وجبة طعام لم تجهز بعد. (Horn, RIOT, 14, 15)



2(هـ) قصة يعقوب ولابان (تكوين 29)




ويقول سيرس جوردون إننا نستطيع فهم ما ورد في تكوين 29 من خلال القصص التي وردت في ألواح نوزي: يوافق لابان أن يعطي ابنته ليعقوب زوجة عندما يقبله كأحد أفراد بيته: 'أن أعطيك إياها أحسن من أن أعطيها لرجل آخر. أقم عندي (تكوين 29: 19). إن انضمام يعقوب لبيت لابان يماثل ما فعله 'ولَّو' وهو شخصية ذُكرت في هذه الألواح الأثرية، كما أنه يماثل حالات أخرى مشابهة وردت في وثائق نوزي. (Gordon, BCNT, 6)



3(هـ) قصة الأصنام المسروقة (تكوين 31)



وهذه الحادثة تفسرها مكتشفات نوزي الأخرى. ويقدم ج. ب. فري في مجلة «علم الآثار والكتاب المقدس» توصيفاً ملائماً ليس فقط لهذه القصة ولكن أيضاً للخلفية التاريخية لألواح نوزي نفسها:



في عام 1925 تمَّ اكتشاف ما يزيد على 1000 لوح طيني أثناء التنقيب في أحد المواقع بمنطقة ما بين النهرين وهو يعرف اليوم باسم يورجان تيب. كما أسفرت أعمال التنقيب اللاحقة عن اكتشاف 3000 لوح آخر، وأعلنت عن الموقع الأثري تحت اسم نوزي وتلقي هذه الألواح، التي دوِّنت حوالي عام 1500 ق.م.، الضوء على الخلفية التاريخية للآباء الأولين في الكتاب المقدس: إبراهيم وإسحق ويعقوب. ومن أمثلة ذلك حادثة سرقة راحيل أصنام عائلة أبيها لابان أو الترافيم، عندما غادرت مع يعقوب بيت أبيها. وعندما اكتشف لابان ذلك سعى في إثر ابنته وزوجها وبعد رحلة طويلة أدركهما (تكوين 31: 19-23). ولطالما تساءل المفسرون لماذا يتكبد مثل هذا العناء لاستعادة أصنام يمكن أن يحصل على غيرها بسهولة. وتسجل ألواح نوزي قصة لأحد الأشخاص استحوذ على أصنام العائلة فكان له الحق في المطالبة القانونية بممتلكات حميه، وهذا يفسر موقف لابان. وهذه القصة وغيرها مما نجده في ألواح نوزي توضح موافقة الخلفية التاريخية لقصص الآباء الأولين للعصر المبكر الذي عاشوا فيه وتناقض رأي النقاد بأن هذه الروايات دونت بعد 1000 عام من ذلك الوقت. (Free, AB, 20)

وبفضل علْم الآثار، فقد بدأنا نتفهم الخلفية التاريخية لمعظم أجزاء الكتاب المقدس.
 
أعلى