لا...ولكنني فخور به...(تعقيب على الدكتور القمني)

Fernas

عضو مميز
لا...ولكنني فخور به...(تعقيب على الدكتور القمني)



كتب الدكتور سيد القمني مقالاً بعنوان "هل كان تاريخنا ماضياً سعيداً؟" تناول فيها فكرة محورية أساسية وهي أن التاريخ الإسلامي كان يدور حول القمع والفردية المطلقة ولا شيء غيرها. (إنظر الروابط في نهاية المقالة للعديد من المنتديات والمواقع التي تداولت مقالة الدكتور القمني). وفي سبيل إثبات هذه الفكرة، فكرة القمع والفردية، تناول الدكتور حادثة إستصراخ المرأة المسلمة للخليفة العباسي المعتصم، تناولها من باب أنها "إسطورة"، ليثبت لنا من خلال سرد تاريخي للمآسي والحروب صحة وجهة نظره.

إن الدكتور القمني في أغلب كتاباته، وإن كان يلفت إنتباهنا من آن لآخر لبعض الخفايا مما يدعونا للتفكر، فإنه يمارس أيضاً جلد الذات بصورة مبالغ بها إلى الحد الذي يخرجه من الحدود الطبيعية لأساليب ومناهج معرفة الحقيقة. وهذه المقالة أعلاه لاتختلف عن هذا النهج.

فمن ناحية فهو يلفت إنتباهنا، وبحق، إلى تناقضات التاريخ الإسلامي في فتراته الأولى. ويتعجب، وبحق أيضاً، من محاولات شرعنة أفعال هي في أساسها من أعمال بشر غير معصومين يجوز عليهم الخطأ والأثم، ومن ثم لا يلزمنا نحن كمسلمين أن نحيطهم بهالة من القدسية الإلهية التي تضطرنا في النهاية إلى قبول أقوالهم وأفعالهم كتشريع إسلامي يملك صفة الإلزام. وهذا يقوده إلى أن يرفض ضمناً أن أجهزة الدولة الإسلامية ممكن "أن ترتج" لنجدة فرد من افراد هذه الدولة، بدليل سرده التاريخي لحوادث هو إنتقاها وعلق عليها.

المشكلة هنا هي في اسلوب النقد ذو النفس الساخر الخفي الذي يحاول أن يهدم الذات في غياب الدليل المادي الملموس. ونجد اغلب كتابات الدكتور القمني، في بعض جوانبها، تعاني من هذا النقص في التحليل. ويمكن أن نرى اثراً لذلك في "الحزب الهاشمي" و "حروب دولة الرسول" و "الأسطورة والتراث" و "النبي ابراهيم"، أقول يمكننا ان نرى اثر هذا الجلد والهدم للذات، وإن كان بصورة متفاوتة وأحياناً خفية، في كل هذا الكم من الكتب والمقالات.

هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى وللإجابة على تسائل الدكتور عن إمكانية "ارتجاج" الدولة لصالح فرد، فأقول: أن الدول الإسلامية منذ أول خليفة إلى آخر دولة تدعي أنها إسلامية موجودة الآن هي دول تتبع النظام الفردي الشمولي في الحكم. فالحاكم ومزاجه وقناعاته وثقافته وعاداته وأطماعه وحبه وكرهه وتدينه وكفره وتقاه ومجونه واحياناً نساءه وجواريه وعبيده، هؤلاء هم من يُـسيّر الدولة ومنهجها وصداقاتها وأعدائها وحروبها وسلمها بل وحتى شعوبها المسلمة. الم تسمع المثل الشعبي القديم "الناس على دين ملوكهم". وكما أتانا خليفة مثقف كهارون الرشيد، أتانا خليفة أمي كالمعتصم، وكما أتانا خليفة متدين كعمر بن عبد العزيز، أتانا خليفة ملحد كالوليد بن يزيد بن عبدالملك. كل هؤلاء خضعت الدولة بكل مؤسساتها وأفرادها لأمزجتهم. ألم تسمع عن الخليفة الذي اراد أن يشرب الخمر على ظهر الكعبة ولكنه مات قبل أن يتم فعلته؟. لم تكن هناك أية مشكلة في هذا. إذن أين هي المشكلة عندما يقرر خليفة أن "يرج" دولة لصالح امرأة؟ وإن كان هذا بعيدا برأيك فكيف نفسر كثيرا من الظواهر في التاريخ الإسلامي، منها على سبيل المثال لا الحصر سيف الدولة الحمداني وصلاح الدين وحروب خلافاء العثمانيين في اروبا الشرقيةوالوسطى.

إن النقد، أي نقد، يرتكز في الأساس على مجموعة من الحقائق، أو ما تُرى على أنها حقائق، لنقض نتيجة أو واقعة أو تحليل. وإن غابت تلك الحقائق لجأنا الى الظروف المحيطة للموضوع محل النقد في محاولة منا لمعرفة مدى معقولية التحليل أو الواقعة أو النتيجة. وهذا بالضبط ما فعلته أنا أعلاه. فلم أفعل أكثر من لجوئي إلى الظروف المحيطة لرد تحليل قام به الدكتور القمني. أنا أزعم، وليس مثله أجزم، أن واقعة إستصراخ المرأة ممكنة الحدوث بسبب هذا النظام الشمولي الفردي والذي إستدعاه الدكتور القمني لنفي الواقعة.

وهذا يقودنا بالضرورة إلى السؤال الـمُلح وهو: ما هو الفرق بين النقد وجلد الذات.

شتان بين النقد وجلد الذات. جلد الذات، عند تجريده من المصطلحات المستعملة في الصيغة، يرى عند كل نقطة وكل منعطف وكل طريق وكل مقولة وكل حادثة وكل علاقة هو نتيجة "لخيال مقموع" وتحتاج "لمجلدات من الكتب"، وأنا أستعير هنا ما قاله الدكتور، لمعرفة ملابساتها واحوالها وبالتالي ردها. جلد الذات يرى في كل حدث شيء قابل للهدم. يرى في كل واقعة شيء مثير للريبة مرده الى سوء حظ او سوء عقيدة أو سوء أناس أو تهافت شعب ... الخ. على عكس النقد، ففي النقد يرى الواقعة ضمن ظروفها المحيطة ليخلص الى نتيجة تكون في معقوليتها، على الأقل، مساوية للواقعة إن لم تكن أكثر. ليس هدف النقد ابداً أن يهدم أحداث، إنما هدفه أن يعيد بناء نسيج أكثر عقلانية لأحداث أو نتائج أو تحليل.

إن كتابات الدكتور فيها من المفيد الكثير، وعلى الأخص أنها تجعلنا نستجوب أنفسنا وواقعنا وتاريخنا. ولكنه مثل أي باحث في الدنيا بلا إستثناء له بعض جوانب القصور. ومن هذه الجوانب التعسف في إستقراء الحوادث والأخبار لصالح نتيجة محددة مسبقاً. هذا ليس من سمات الباحثين عن الحقيقة. أنا هنا أحاول أن أرد بالتحديد على هذه الفقرة من مقالة الدكتور:

يقول الدكتور القمني: "لكن بين القص الأسطوري وبين ما كان يحدث في الواقع مفارقات لا تلتئم أبداً، ولا تلتقي أبداً. والنماذج على ذلك أكثر من أن تحصيها مقالة كتلك، بل تحتاج إلى مجلدات من الكتب. لكن يكفينا هنا اليسير منها لنكتشف هل كانت ثقافة "وامعتصماه" أمرا حقيقيا فاعلا في الواقع أم أنها مجرد قصة لرفع الشعارات دون الفعل وليس أكثر".

أقول إنه عندما إنعدم الدليل المادي الملموس على ما يريده الدكتور من نفي الواقعة، لجأ الى استقراء واقع الأمة منذ بداياتها إلى ما شاء الله ليستطيع بذلك ان ينفي واقعة استصراخ المرأة. أنا في النهاية لا أدافع عن هذه الحادثة، وقعت أو لم تقع، فما أهميتها في مسار التاريخ بجانب سقوط مدينة كانت تحت خليفة أمي وصفه جلال الدين السيوطي بقوله: "كان عَرياً من العلم" وقال عنه: "إذا غضب لا يبالي من قتل". ولكنني أنقد اسلوب ومنهج قد يبعدنا إن إتبعناه، في رأيي على الأقل، عن معرفة الحقيقة.

نعم هناك صفحات سوداء كثيرة في تاريخنا، وهناك صفحات مجهولة متناقضة تثير الشبهة في تاريخنا أيضاً، ولكنه أيضاً توجد صفحات مشرقة بيضاء مُشرّفة في هذا التاريخ. ولا أرى ان نتعسف في بحثنا ونخصصه فقط في نسف هذه الصفحات. وماذا نستفيد من هذا البحث أصلاً؟

أنا أجزم، ولا أدعي هذه المرة، أن هناك صفحات بيضاء كثيرة أراها في هذا التاريخ، من بداية نزول كلمة "إقرأ" في ذلك الكهف المعزول على سفح جبل، ومروراً بعمليات الترجمة الواسعة التي حفظت العلوم الإنسانية والفكرية والعلمية من الضياع و التلف، ونهاية بإقرار الدستور العثماني زمن الخليفة عبد الحميد الثاني. ولكننا مثل أي أمة على هذه الأرض لنا صفحاتنا السوداء ولنا أخرى بيضاء، ولا أرى أن نحتضن السوداء فقط ونرمي الصفحات البيضاء بعيدة عنا حتى نحتاج "لمكبر" لنراها.

أما قول من يقول أن الإستفادة من هكذا بحث هو محاولة معرفة الحقيقة. فأقول له: ولماذا تعتقد أن خلف كل نقطة بيضاء هناك أيادي ملوثة سوداء هي فقط المسؤولة عنها وتملك حقيقتها؟

أقول، نعم للننقد التاريخ، لنسعى لمعرفة الحقيقة فسنصبح اقوى معها. ولكنني اقول لا لمن يأتيني فقط ليجلد ذاتي.

أنا أجزم بأن الحقيقة توجد بغير هكذا منهج.


فرناس



لبعض المواقع التي تداولت مقالة الدكتور القمني، إضغط هنا، وهنا، وهنا.


ملاحظة: هذه المقالة هي مجموع لسلسلة من الردود كنت قد كتبتها في الشبكة الليبرالية الكويتية على موضوع مشابه. سبب إحيائي لهذه الردود على شكل مقالة هو إستشهاد زميل لي في مناقشة جرت بيننا بمقالة الدكتور بالذات مع مرور وقت لا بأس به على نشرها. وعند بحثي في الشبكة إكتشفت أن بعض المواقع والأشخاص قد إستعانت بمقالة الدكتور القمني للطعن في التاريخ الإسلامي بشكل غير محايد ومتطرف أحياناً.
 

الملف رقم 9

عضو بلاتيني
مع التحفظ على التناول التاريخي للاحداث .

اعجبني هذا المقال جداً ، و يهمني ان احفظ هذا المقال في جهازي .

10/10 .
 

nasa

عضو جديد
Dear Fernas​

I have been following your writtings for several months now. They are simply great. I tried to contact you by chaising you around with emails. Please contact me on the following email​


Please reply soon​

and my apology for not writing in Arabic, my PC does not support it​
 
أعلى