عصفورا الزينة

Cartier_q8

عضو جديد

احتقر من يرفع صوته على زوجته ويزداد هذا الاحتقار كلما كان الصوت متوغلاً في خاصرة المرأة.
ـ هذا الفعل أعده جريمة نكراء .

فحينما يحقر الزوج زوجته في محفل عام، أو في السوق ، أو في الشارع يغدو ذلك التحقير إهانة لا تغتفر وسماعي لمثل هذا التعنيف يشعرني بالخجل ، وكأنني أنا الذي قمت بذلك الفعل المشين. كما أن سماعي لمثل هذه الأصوات المحقرة لزوجاتها يجعلني أبحث لجسدي عن أرض تخسف به .

الرجال هنا أشبه بحلاقين تجري شفار ألسنتهم على جلود النساء من غير اكتراث، ولو جرى الدم لا يكلف الواحد منهم إزالته بكلمة اعتذار رقيقة .

المرأة أشبه بمنشفة بالية يدسونها في المطابخ، أو في غرفة مغلقة حيث يدلقون عليها الدنس بسرية تامة.

حينما نكون – أنا وزوجتي – في الأسواق أتحرج كثيراً من ممارسة عادتنا التي دأبنا عليها منذ زواجنا، هنا يغدو المنظر مثيراً للسخرية أو الريبة ، والحالتان لا ينبسط لهما خاطري.

في كل مرة نحزم حقائبنا مغادرين هذه الأجواء، تتمايل أمامي كأول مرة رأيتها وتغمزني :

- سوف نمارس عادتنا عند هبوط الطائرة .. أليس كذلك .

أمنحها وجهاً مشرقاً، وأثني ذراعي على خاصرتي فتسارع بإغماد يدها في تلك الفرجة محوطة ذراعي بفرح طفولي، ونسير مزهوين، كعاشقين أضناهما البعد، نتجول في غرف المنـزل، وطرقه المتعرجة المنتهي كل منها بغرفة ضيقة، ننسى تلك الغرف الضيقة الرطبة، ونصنع مشاهداً في مكان ما من العالم، نسير على الشواطئ، نتبضع ، نطير أحلاماً ورقية ، وهي متعلقة بذراعي، تتراقص أفراحها الصغيرة، فتملأ فضاء البيت حبوراً، وتسقط من عليائها خفاقة :

- غداً سأفعل هذا .

تصمت للحظات، وتواصل تشوفها لموعد حزم حقائبنا :

- أليس مؤلماً أن نعيش شهراً واحداً من كل عام.. شهر يمضي وكأنه دائن جاب كل الطرقات بخطى المتطفلين ونهم المتشردين .

تتطلع لشعري المبيض، وتلك اللمعة المفسحة لتصحر أخذ يستشري مخلفاً أخدوداً صغيراً جرى بين شعري الكث بحثاً عن مصب لا يبين، وتكتم سخرية مرة .

حينما جئنا إلى هنا، كان شعرك فاحماً وغزيراً ، السنين لا تأكل سحنتنا فقط إنها تتغذى أيضاً على انتظارنا، إننا ننتظر كل شيء ، ننتظر العودة لبلادنا، وننتظر هذا الشهر من كل عام، وننتظر أن أتأبط ذراعيك في الأماكن العامة، وننتظر ذلك المولود الذي رفض أن يشاركنا هذه الغربة .. كل شيء انتظار .

صمت بعض الوقت وسقط صوتها مهشماً :

- أليس محزناً أن يكون تحويط ذراعك حلماً عظيماً ننتظره أن يتحقق مرة من كل عام .

عشرون عاماً مضت ونحن مدفونان في هذه الشقة، أخرج من هذا القبر يومياً باتجاه العمل، وأعود مع المساء فأجدها قد تزينت وراقصت الكراسي، وعطرت بممشاها السجاجيد، وعلقت على تلك الجدران ألف أمنية ، وألف تذمر، وألف دمعة .

مع دوران المفتاح في عين الباب تكون قد وصلت خطواتها إلى تلك الفرجة التي تسمح لقامتي بالدخول، فتخطفني، وتتعلق بي، تلثم جبيني بلهفة :

- هه .. كيف هي الدنيا في الخارج ؟!

حاولت كثيراً إبعادها، وزجرها عن القيام بهذا الفعل كلما قدمت .

في أول مرة قمت بهذا الزجر ترقرقت عيناها :

- هل تكره أن أبدي مشاعري اتجاهك ؟!

- لا..لا يا عزيزتي كل ما في الأمر أنني أعود متسخاً وتفوح من جسدي روائح لا أحب أن تلتصق بأنفك .

ضحكت حتى ظننتها ستمارس مزاحها – الدائم – بقذفي بإحدى الوسائد :

- أوه كل شيء فيك هو وجودي أنا .. أحب كل ما فيك .

بعد هذا القول خجلت من عجرفتي، وأمسيت ألتصق بها مع عودتي من العمل غير متحرج من انبعاث تلك الروائح التي تنداح من جسدي بفعل الرطوبة الممزوجة بالغبار وأبخرة السيارات .



* * *



تبادلت أنا وزوجتي النظرات المستوحشة فقد تواطأنا منذ زمن بعيد على تبادل ضوء العيون حين يصل بنا الضيق مداه، وتتجاوز عني في أحيان كثيرة حينما يتطرف الدم في أوردتي فتلتزم الصمت حيال تلك الثورة المفاجئة وينتهي الأمر بخروجي من البيت لاعناً الساعات التي جمعتني بها تحت سقف واحد .

عقب كل نظرة حامية يصطلي لها وجهها، تشبع مخدعها بالدموع لأيام من غير أن تعاتبني، تقوم بكل واجباتها واجمة ندية الأهداب، ولا تستجيب لاعتذاراتي، وفي كل مرة أخترع وسيلة لترقيق جفوة ما تركته في داخلها، أترك على مخدعها وردة، أو قصيدة، أو هدية بسيطة، فتأتي كحمامة تهدل وتترك جسدها بين ذراعي يهتز كشجرة خريفية عليها أن تسقط كثيراً من أوراقها لتعود محتفية بما تبقى من اخضرارها، وفي كل مرة تحذرني بكلمات لينة :

- إياك أن تخدش جوهرة الحب التي أحملها لك .

وعندما تجد أن جملتها لم تف بغرضها تحدق في خصلات شعري :

- يكفي ما نشعر به من غربة بين هذه الجدران.. لنكن كعصفوري الزينة علينا أن نعيش داخل القفص لا خارجه، وحياتنا داخل القفص تعني أنا وأنت، أنا وأنت فقط نغرد أو نموت !!

في هذا الجو الاجتماعي الحانق لم يكن لنا من سلوى سوى السير على رصيف الكورنيش في أيام الجمع، وإذا وجدت ميزانيتي متمتعة بصحة جيدة لجأنا إلى إحدى تلك المنتزهات المترامية على الرصيف الآخر المقابل لمياه البحر ذات اللون المغبر الداكن .

يومنا روتيني وخانق، أذهب إلى العمل وفي مكتبي أقرض عشر ساعات من رصيد عمري بالعمل المتواصل وحين ألمح عقارب الساعة تحلق على ميناء السابعة مساء أجمع أوراقي وأدفنها بدرج المكتب وأخرج عجلاً.. أكون في مواجهة الليل تماماً :

- ماذا يمكنني الآن أن أصنع ؟

يداهمني هذا السؤال يومياً وأفترض افتراضات وهمية أسلي بها خاطري وقبل أن تنتهي يكون المفتاح يدور في ثقب الباب وما أن ينفرج حتى أترك ما أحمله من سلع تموينية على أقرب طاولة تجاورني لاهثاً من صعود السلالم المتعرجة ذات الإمتدادات الطويلة صعبة المرتقى.. أشعر بالضيق حين ألمحها قابعة في زوايا إحدى الغرف تنظر في الفراغ بعمق .. أشعر بثقلها ويستحيل صمتها حملاً تلقيه على كاهلي:

- كالعادة ليس هناك شيء تذيب به هذا الملل الرابض ككلب الحراسة .

تنهض بخفة صوب المطبخ وتعود حاملة كأس ماء أتجرعه منذ عشرين عاماً سواء كنت في حاجة إليه أو لا .. وتتجه مباشرة صوب تلك الأكياس التي تركتها على الطاولة تفتشها لتتأكد أنني لم أنس شيئاً من تلك الطلبات التي دستها في جيبي قبل ذهابي للعلم، لم تلمني على انقطاع عادة تقبيلها كلما عدت من عملي ولم أشأ أن أثبت تلك العادة التي انقطعت منذ سنتين أو تزيد .. صمتها يقلقني ويقتلني في آن ، فيعترك في داخلي تبرم نشط يخرج من جوفي كأبخرة البراكين :

- هناك حياة أجمل . !

أهرب من قلق اللحظة بالذهاب إلى الحمام مباشرة أو الانشغال بترديد أسئلة آلية لا أنتظر أن تصرف لها جواباً وأنزلق من خواطري متمنياً حياة أخرى .

ليل جاثم ورائحة عطرها الثقيل يحاول النجاة من غرق حتمي في رطوبة عالية الكثافة، ويظل يجوس في المكان ولا يجد له من مهرب سوى التغلغل في نفقي خشمي، وكلما حوطتني بذراعيها اقتربت من الاختناق، فأزيح ذراعيها وألوذ بالنافذة المغلقة ، طعن متواصل ينغرس في خاطري :

- ما ذنبها .. ما ذنبها .

من زوايا عيني ألمحها في مكانها وقد تهدمت ملامحها، أي جبروت تمتلك حينما نقترف الآثام ؟

- أرجو المعذرة لا أقصد .. فقط أشعر باختناق .

- ………………………………..

- أقصد أن رائحة هذا العطر تخنقني

وقفت أمام مرآة الدولاب منكسرة وتناولت منشفة وانسحبت لداخل الحمام، كنت أسمع جريان الماء وشيء أشبه بالنشيج .

- ماذا يمكنني أن أصنع الآن ؟

أربع غرف صامتة جامدة لا حياة فيها، لو أن هناك جيران يحركون ركودنا قليلاً، هذه المدينة لا تحفل بتبادل الزيارات، بالأمس وجدت صبياً صغيراً يحاول صعود الدرج حملته على ساعدي، قبلت وجنتيه تأججت مشاعري فضممته على صدري ألصقته داخل عظامي، كنت أحس بيديه صغيرتين تنغسران في صدري وتدفعني عنه .. قبلته بشغف، وكلما دفعني عنه أحسست أنه يدميني، صوت أنثى يرتفع من داخل الدار :

- ألحق ابنك .

وقف جاري على حالتي وجذب ابنه من بين يدي فيما كان الطفل يبكي بحرقة :

- هل آذاك .. ؟

انسحبت لداخل الدار وشتيمته كنصل مدبب ثاقب يتغلغل في داخلي ..

كانت كعادتها، تجلس على كرس مقابل لجهاز التلفاز، وعيناها مغروسة في الجدار المقابل، لو أن طفلاً استجاب لرغبتينا وجاء لأنهى هذه المأساة اليومية، هذا الطفل بحثنا عنه بكل النقود التي ادخرتها في هذه الغربة، أنفقتها قرشاً قرشاً ووزعتها على خزائن المستشفيات الخاصة، وفرطنا في أيام طوال ونحن نجري هنا وهناك، وفي كل مرة يرفض ذلك الطفل المجيء .

لا زالت عيناها مغروستين في الجدار، جلست بجوارها ، قفزت لتحضر كأس الماء، تخلت عن عطرها وزينتها، وقفت تحمل كأس الماء بينما كنت قد أرسلت رأسي في الأرض وتركت لدموعي معرفة طريقها:

- ما الخبر ؟

- ……………

- هل ضايقوك في العمل كالعادة .. ؟

- ……………

- بالله عليك كف عن البكاء، فأنا لا أقدر على رؤيتك هكذا .

ضمتني لصدرها، وهي تشاركني بالنشيج المر .

- بالله ما جدوى هذه الغربة .



* * *


اليوم الخميس .

في هذه الليلة نخرج من سجننا لبعض الوقت ، كنا مجموعة من الأصدقاء تم التعارف بيننا، تواصل فيه نساؤنا، وغدت عادة الكل ينتظرها مساء كل خميس .

وتعودت أن أنجز عملي في هذا اليوم مبكراً، فقبل أن تصل الساعة السادسة أكون خارج مقر عملي، راسماً ليلة رائعة تخرجنا من هذا السأم، وتجدد نبض الحياة في أوردتنا.

حينما وصلت إلى البيت، وجدتها قد رسمت زينتها بعناية فائقة، ووضعت ذلك العطر الثقيل، فلم أبدي انزعاجاً، فأطلقت عصافير وجهها :

- وصلت سارة قبل قليل وسوف تذهب معنا .

سارعت لدخول الحمام ودلق المياه لإزالة تلك الرواسب الملتصقة بالجلد مباشرة، وتحت انسكاب المياه، غزت سارة مخيلتي عنوة.. امرأة ثلاثينية منحتها الحياة عوداً رياناً وضحكة لا تنضب، معها تشعر أن النساء حلوى تذوب.. معها تشعر أن النساء ورود تشم، وأنهن نفق يخرجك من الطرق المظلمة.

على عجل أنهيت قيافتي، ونزلت للشارع منتظراً هبوطهما، أدرت محرك السيارة، ورششت علي جسدي عطراً باريسياً هادئاً ففاحت رائحته في مقصورة السيارة بتقاعس، اطمأننت لتهذيب شاربي وشعري، وتحفزت لاصطياد عين سارة حين تقتعد المقعد الخلفي بتنكيس المرآة قليلاً .

بادرت بفتح بابها على عجل وجلست مباشرة، فيما امتدت يد سارة للباب الخلفي وجذبته برقة ودست جسدها في الزاوية البعيدة عن عيني، بعد أن أطلقت تحية المساء كأغنية طرية خرجت للتو من حنجرة مغنية آسرة .

- ما بالنا نرى كل النساء جميلات ما عدا زوجاتنا ؟

تبرمت من عطرها، ففي مصارعة غير متكافئة انهزم أريج عطري أمام تلك الرائحة الثقيلة وكف عن انسيابه، وانحشر بين ثيابي وجلدي، ونهض عطرها الثقيل متخبطاً بأذرعه الطوال، وأخذ يتمدد كهر هرم مد أطرافه في كل الاتجاهات، وأطبق على صدري وأغلق منافذ رئتي، كانت تريد أن تظهر افتتاني بها أمام صديقتها :

- ما رأيك في الفستان الذي اخترته ؟

- ……………………

لم أقو على الإجابة، كان علي إنقاذ الموقف بكلمة نفاق صغيرة تنهي انتظار الذي طال ..

- ألم تسمع يا حبيبي .؟

- هه .. عن ماذا تتحدثين ؟

أحياناً نقدم على قتل بعضنا بالكلمات، شعرت بها تغوص في خواطرها وتخرج أطياف الماضي، تلاعبها وتدسها مرة أخرى في ذاكرتها..

عطرها يجوس في المكان بخطوات ثقال، ويسد عليّ الجهات الأربع :

- ألم أقل لك أن هذا العطر يخنقني استبدليه بعطر أخف ؟!!

لم انتبه إلا وتلك الجملة قد خرجت كمارد يعصف بالمكان ويجلد زوابع الريح لتخرج كل الأتربة المخفية في الكون .. حاولت سارة أن توقف انقشاع العواصف بترطيب الجو الملبد :

- إنه عطر رائع ، فأنا تعجبني رائحته كثيراً .

بنصف عين، رأيت دموعها تعيث فساداً في تلك الأصباغ، وحشرجة تكبح جماع كلمات كثيرة منعتها من الانسياب ..

يدها امتدت للباب، وأغلقته بعنف، ودست جسدها داخل بوابة العمارة بترنح مريع، كغزال أصابه سهم ثاقب فرمى بجراحه بين الأحراش كي لا تلمحه عين قاتلة.

ذهول مفاجئ، وتلك التي لا تمل من الضحك غدت تياراً كهربائياً صعقني من الخلف :

- لم أتصور أنك بشع بهذه الصورة .

وارتطم بابها، وخرجت تتمايل في اتجاه آخر.. كان محرك السيارة يدور، وأنا أبحث عن كلمات تمكنني من صعود درجات السلم الطوال .

كم أتمنى الآن أن أجدها تقف على الباب، وتجذبني لحضنها، وتناولني كأس الماء الذي أتجرعه منذ عشرين عاماً سواء كنت في حاجة إليه أم لا .
 

TORNADO

مشرف منتدى القلم
رائع ما كتبته زميلي، وصف رائع و عبارات شرح جميلة مثل الورائح على الجلد والهر الهرم.

لكن هناك بعض الكلمات لو استبدلتها بكلمات أخرى تحمل نفس المعنى لأصبح النص أثقل و أغنى، على سبيل المثال (نفقي خشمي) لو إستبدلت كلمة خشمي بـ أنفي لأصبحت أجمل.

و أتمنى أن نقرأ لك شيء خارج الأمور التقليدية و الحياة الزوجية الى الحياة بشكل عام و فلسفتها.

شكراً لك...
 

Cartier_q8

عضو جديد
اشكرك عزيزي تورنيدو وانا في الحقيقه نسيت ان ارفق ان القصه منقوله وهي للكاتب السعودي عبده خال :)

وتقبل اطيب تمنياتي
 
أعلى