غاليه كمال
عضو فعال
(( حكايتي مع البحر ومراحل العمر ))
البحر هو أفضل وأجمل مكان ألجأ إليه حين حاجتي للهدوء النفسي والراحة
والاسترخاء بعيدا عن ضوضاء الحياة وضجيج الأفكار، هنالك.. عند غروب الشمس
أو شروقها أصنع قراراتي، عند تصادم الأمواج وغرق الصخور يصفو ذهني، على
عكس الكثيرين لم أقصد البحر قط لأرمي به همومي أو أحكي له مأساتي بل أقف
قريبة لتلمس أطراف أناملي قطرات البحر المتناثرة من قوة ارتطام الأمواج وأستمع
له حين يحكي ويشكي لي من هموم البشر ويرمي علي بزبده الثقيل فتهون علي
مشاكلي وأشغل نفسي به وبهمومه، أستمتع بهدوئه وهيجانه بحرارة ذرات ترابه
ونعومة تداخلها ما بين أصابعي، للمرة الأولى قمت بزيارة إلى صديقي البحر ولكن
ليس لاتخاذ قرار ولا لبحث عن الهدوء أو تصفية ذهن أو استمتاع بجماله ذهبت
لأتأمل معانيه عن بعد لأرى الشكل الخارجي للصورة فجلست بعيدة عنه على كرسي
من حجر أرى من حولي من الناس، بعد سنوات من ارتيادي للبحر هي أول مرة أجد
فيها نفسي ضائعة بين البشر مبهورة مما أراه، نعم لقد وجدت مراحل عمر الإنسان
تتعاقب أمام عيني وشاهدت مواقف حالات البشر تمتزج بوجودي حيث أننا حين
نكون قريبين من البحر ننشغل بهمومنا وأنفسنا ولا نرى أحدا مما حولنا، لقد عشت
لحظات فتحت عيني على الكثير، فبينما أنا جالسة أراقب ما يحدث بين رمال البحر
وأطراف أمواجه وجدت براءة الأطفال ومرحها في طفلة كانت تلعب وتمرح وتعبث
مع رمال البحر وصخوره وأمواجه، طفلة رسمت الابتسامة على شفتي برقصها
وعفويتها وصوت ضحكاتها وبريق البراءة في عيونها جعلت البحر مرسى للمرح
والفرح والنشاط واللعب والابتسامة، وهنالك على الجانب الآخر رجل يوحي شكله
على أنه في منتصف الأربعينات بلبس رياضي يحاول أن يتغلب به على آثار الزمن
ويأخرها لأطول فترة ممكنة كان يلتقط أنفاسه بصعوبة وسرعة حتى سكت فجأة
وأطلق زفيرا ممزوجا بآآآآه قرصت قلبي من الألم، نسي تعب الجسد وسرح بعيدا
مرافقا تعب الحياة، ارتسمت معالم الحزن على ملامحه ورحلت حواسه مع أمواج
البحر تسمر في مكانه لوقت طويل من الزمن إلى أن صحى فجأة باتصال من هاتفه
النقال فغسل وجهه بماء البحر كأنه يغسل هموم الوقت ورحل مبتعدا عن البحر،
وبمكان ليس ببعيد عن ذلك الرجل على صخرة تغزوها الطحالب الجافة كان يجلس
رجل كبير بالسن وحيدا تجلس بجانبه عصاته التي تعينه على المشي، رجل أخذ منه
الدهر الكثير وترك عليه بصماته بشكل واضح، كسرته الحياة وسرقت صحته وربما
من حوله أيضا، حرك فيني مشاعر العطف والأسف بنفس الوقت فهو قد يكون أب بل
وجد ولديه أحفاد ولم تبدو عليه أي آثار للفرحة أو حتى أثر قديم للابتسامة، جلس
وحيدا بعيدا عن الناس قريبا من البحر ربما يلتمس ذكريات قديمة أو ماض راحل أو
يفكر في ألم وهم حاضر وبلحظة تأكدت فيها أفكاري مسك فيها العجوز طرف غترته
ليمسح دمعة خانت كبر سنه وسقطت حسرة على ما فقده أو ما يعيشه، لم يستطع أن
يتمالك نفسه ويترك الدموع تغزو محياه بعد هذا العمر الطويل فمسك عصاته وحاول
الوقوف وبعد معاناة أخذ يجر نفسه إلى رمال البحر وإذا بها تلك العجوز التي تسرع
إليه من بعيد بكل ما تملك من قوة لتمسك بيده وتساعده على المشي ولكن ما كان
ظاهرا هو أنهما متكآن على بعضهما هو يساعدها على الوقوف وهي تساعده على
المشي، عجوزان كل منهما هو ما تبقى للاخر في زمن كل ينشغل فيه بنفسه فقط،
وأخيرا ابتسامة رضا وراحة من العجوزان ومني أيضا، هنا بدأت أجمع الصور التي
التقطتها ذاكرتي وألملم مشاعري استعدادا للرحيل فقد رأيت ما يكفي من غصات
الزمن ولحظاته، ولكن لفتت انتباهي فتاة تجري بكل جمود وبملامح جافة حاملة معها
صندوقا مزخرفا جميل متجهة به إلى البحر فما أن وصلت إلى أطراف البحر حتى
فتحت الصندوق وأخذت تمزق ما به من أوراق وتحرق ما به من صور وترميها
بحسرة وألم ومحاربة للدموع في البحر وعند انتهائها من رمي ذكرياتها رحلت بعيدا
عن البحر تاركة ذكرياتها لتغرق في أعماقه ورمت الصندوق وما تبقى به من هدايا
في سلة المهملات دون تردد وابتسمت منتصرة ثم مضت بعيدا، هي قصة حب انتهت
بأي طريقة كانت خلفت وراءها فتاة بمشاعر حزينة وقالب جامد وابتسامة ودمعة
متلازمة تستقبل بهما حياتها المقبلة، هنا وقفت أسترجع الشريط المؤلم الذي شاهدته للتو
هي مراحل العمر المختلفة بأفكارها وهمومها وأفراحها وحسراتها وأحزانها، لكل
شخص همومه وأفراحه واهتماماته وآلامه وابتساماته وكلنا يعتقد بأن مشاكله وهمومه
هي أكبر مصائب الحياة وكلنا يذهب للبحر أو الخلاء ليشكي ويرمي همومه، ولكن من
منا ترك همومه جانبا والتفت لهموم الناس، نحن في زمن لا يرى فيه أحدنا غير
أنفسنا ولكن لو رأينا الناس لوجدنا الحلول لمشاكلنا ولهانت علينا معاناتنا، فلنحاول أن
نغير طريقتنا في مجالستنا للبحر فلو فعلنا لوجدنا أن الحياة أجمل وأكبر وأوسع من أن
تضيق بنا، فهمومنا وآلامنا ما هي إلا مسلمات من القدر لابد لنا أن نؤمن بها ونتقبلها
وأن نرحب بها بوساعة صدر حتى تيأس من محاولة نشر الألم في صدورنا فتمضي
وترحل بلا عودة وإن عادت نحاربها بابتسامة وفرحة عامرة فالهموم ليست سوى
لحظات عابرة والحياة ليست سوى أمواج بحر متصادمة، فانظر عزيزي للناحية
الايجابية دوما فلو أنك نظرت للناحية المظلمة لوجدت أن البحر ماهو إلا مرتع للهموم
وبحره ماهو إلا تجميع دموع العيون، ولكن هنا أنت إنسان تقتله السلبية وتمزقه
المصاعب اليومية فأحيانا أن ننظر للهموم والأفراح على أنها قدر لابد منه في مراحل
عمرنا المختلفة ولحظات يجب أن نعيشها هو أفضل حل لمشاكلنا، لمن قد يسيء فهم
كلماتي لم أعني هنا أن نستسلم لما نلقاه بحياتنا من مشاكل ولكن أن نواجهها بوجوه
ضاحكة ومن ثم نرميها خلفنا فلابد لنا من الإيمان بالقضاء والقدر وبأن لكل مرحلة عمرية
أفراحها ومتعتها وهمومها، ولكل من يذهب إلى البحر ليشكي حاول أن تستمع له مرة
واحدة وستجد الفرق وستختلف نظرتك لهمومك وستخف معاناتك، فحياتنا مختلفة
ومتنوعة باختلاف الزاوية التي نراها منها فلك أنت عزيزي حرية الإختيار.
بقلم \ غاليه كمال