الهجرة إلى الدولة

بوسند

عضو ذهبي
2649_p130358.jpg


تمر علينا هذه الأيام ذكرى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وتمثل هذه الحادثة علامة فارقة في تاريخ الإسلام والمسلمين.

والسؤال هو: ما الذي يجعل لهذه الحادثة تلك المكانة التي تجعلنا نؤرّخ لها فتصبح جزءا من أيامنا وأشهرنا وسنواتنا؟

برأيي أن الهجر اكتسبت تلك المكانة العظيم لأنها كانت نقطة التحول من الدعوة إلى الدولة، فبعد أن كان الإسلام عبارة عن أفراد أو مجموعات صغيرة تمارس دينها في الخفاء، وتتعرض لشتى صنوف التضييق والعنت والعذاب، تحول إلى دولة لها كيان واضح المعالم، يتمثل في رئيس للدولة ودستور وشعب، فصار الإسلام دولة ..لها حدود.. ولها جيش.. تحارب وتسالم.. تبعث الرسل والمندوبين لمخاطبة ملوك الأرض وزعمائها.. ترغّبهم وترهبهم.. كل ذلك كان بعد الهجرة النبوية، وبالرجوع إلى الدستور، أو ما يُعرف بصحيفة المدينة فإننا سنجد معالم الدولة تتجلى في أوضح الصور.

الدروس والعبر المستفادة من الهجرة النبوية الشريفة كثيرة جدا، بل إن هذه الحادثة مفتوحة على كل العصور والأزمان، فهي قادرة على استيعاب أحوال المسلمين لتُلقي بظلالها على الظروف المعاصرة التي يعيشها المسلمون في أي مكان.


أنتقي من مدرسة الهجرة درسا واحدا يمكن أن نستلهم منه العبر في ظروفنا التي نمر بها، ويتمثل هذا الدرس فيما فعله النبي صلى الله عليه وسلم حال قدومه إلى المدينة، فكان من أوائل الأمور التي قام بها أن آخى بين المهاجرين والأنصار، لماذا؟


المدنية النبوية عبارة عن مجتمع متنوع بمكوناته الاجتماعية والدينية، فهناك الأوس والخزرج، وهناك اليهود والمشركون، وعندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إليها زادت تلك الفئات فصار هناك المسلمون الذين هم المهاجرون، والمنافقون الذي أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، لذلك وجد النبي صلى الله عليه وسلم -الذي يريد أن يقيم دولة- نفسه أمام مجتمع غاية في التنوع والتعقيد، فأدرك صلى الله عليه وسلم أنه لا يمكن أن تقوم الدولة وتقوى وتستمر إلا في إطار من الوحدة تستطيع أن يستوعب كل ذلك التنوع ، حتى يضمن السلم الأهلي والأمان الداخلي الذي هو نقطة الارتكاز للانتشار والقوة الخارجية.


لذلك آخى بين المهاجرين والأنصار، وكتب صحيفة المدينة التي تعطي كل فئة حقها، حتى أنه اعتبر اليهود داخلين في إطار الأمة، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وتعامل مع المنافقين على أنهم مواطنون في الدولة يحضرون الجمعة والجماعات، ويشاركون في القتال، بل ويستشيرهم في أمور الدولة، كما قال تعالى: {وإن يقولوا تسمع لقولهم}، مع أخذ الحيطة والحذر من مكرهم وخديعتهم، وهكذا ضمن النبي صلى الله عليه وسلم الترابط الداخلي والسلم الأهلي بين أفراد الأمة.


إن الذي يريد أن يبني دولة قوية فتية لا بد له أن يحرص على تماسك الجبهة الداخلية، فيجب عليه أن يستوعب المجتمع بتنوعه العرقي والقبلي والعائلي والمذهبي، ويستثمر ذلك التنوع لتقوية الدولة.


إن ما تقوم به اليوم الحكومات الفاسدة والضعيفة هو اللعب على تناقضات المجتمع لتقوية طرف على حساب آخر، ثم إضعاف القوي وتقوي الضعيف، ثم العكس، وهكذا يتم اللعب حتى تضمن تلك الحكومات الفاسدة الضعيفة الاستمرار والبقاء.


فعندما تشعر السلطة الفاسدة بأنها ضعيفة فإنها تسعى لإضعاف المجتمع، حتى لا يتوحد ويقوى عليها وتكون له الغلبة، هذه هي لعبة فرعون التي لعبها في السابق ويلعبها الفراعنة الصغار في كل آن قال تعالى: {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا، يستضعف طائفة منهم} فهو لم يستطع أن يعلوا في الأرض إلا بعد أن جعلها أهلا شيعا متفرقين.. فهذه أفضل وسيلة لاستمرار حكمه وازدياد سطوته.

لو لم نخرج من حادثة الهجرة النبوية إلا بهذا الدرس البليغ.. لكفانا ..


تحياتي

بوسند​
 
أعلى