العلمانيّة والدين
أغلب الصراعات التي تدور في الأوساط الفكرية والتي تهاجم العلمانية والمنتسبين لها عبارة عن صراعات مسبوقة بمفاهيم خاطئة تجعل كل طرف يتهم الآخر بما ليس فيه , هذه المفاهيم الخاطئة جعلت من التناطح الفكري تناطحا سطحيا لا يعتمد على علميّة الطرح بل على خلفيّة الشخص الذي نقلها , نعم ربما نكون متفقين بشكل المفهوم لكننا نختلف في مصاديقه , لكن المصيبة بمن يأخذ المفهوم ويفسّره حسب ما هو يراه وما يتناسب و ميوله واتجاهاته لا من حيث الاختلاف بالمصاديق , وما يزيد الدين بلّة وجود ثقافة جديدة وهي ثقافة( خلق ) المفاهيم لا تفسيرها هي المشكلة الحقيقة التي نعاني منها في ساحات الحوار في شتى المجالات .
هذا الأمر كان له الدور البارز في ايجاد مفاهيم جديدة للعلمانية ومع الاستقراء البسيط يتبين أن هذه المفاهيم ( الحديثة ) التي وضعت لتعريف العلمانية غير حقيقية وعبارة عن نتيجة طبيعية لثقافة خلق المفاهيم , وهذا ما يجعلنا نتطرق الى مفاهيم العلمانية ونناقش المفهوم المشهور الذي يقول بأن العلمانية هي ( فصل الدين عن الدولة ) , كون المفاهيم الأخرى ضيقة الأفق من حيث الرد عليها وقبل التعرض للعلمانية وجب التطرق الى مرحلة نشوء العلمانية التي بات يعرفها كل متتبع ولو بدرجة بسيطة , لكن هذا لا يمنع من التذكير .
نشأت العلمانية
ينقل لنا التاريخ أن العالم الأوربي في العصور الوسطى كان يعيش حالة من سيطرة الكنيسة الكهنوتية على جميع شؤون الحياة , وكل ما تقول به الكنيسة هو حقيقة مطلقة مقدسة غير قابلة للنقاش , وهذه الكنيسة كانت تفسر الظواهر الكونيّة والاجتماعيّة حسب ما هي تراه مناسبا حتى لو تعارض مع العلم أو العقل , هذه السيطرة استعبدت الناس حتى شعروا بالظلم الشديد وهذا الأمر مهّد أرضية مناسبة لتيارات مناهضة للكنيسة وهذه التيارات تنادي بأن يكون التحليل والفلسفة ووضع الأطر والموازين كلها لابد أن تعتمد على أسس علميّة تجريبيّة تعتمد على العلم التجريبي لا على أسس كنسّية لاهوتية وهذه التيارات المناهضة سميّت بــ ( العلمانيّة ) .
تعريف العلمانيّة
تعددت تعريفات العلمانية لكننا سوف ننتخب أدقها وهي على ثلاث :
1- العلمانية التجريبيّة : بالمعنى الذي ذكرناه في أصل نشوئها , فالعلمانية عبارة عن الاتجاه الذي يتبنى المنطق التجريبي في مقابل المنطق الغيبي والذي يقول بأنه ينبغي لتحليل الظواهر الاجتماعية الاعتماد على المنهج التجريبي الحسي وليس على المنهج الغيبي اللاهوتي .
2- العلمانية الفكرية : وهي التي تقول بمبدأ النسبية , أيّ أنها لا ترى الحقيقة المطلقة التي تؤدي الى قداسة هذه الحقيقة وبالتالي الغاء أي دين آخر , فهي تقف من الدين الكهنوتي موقف النسبيّة فلا تعده حقيقة مطلقة مقدسة بل مجرّد دين يقبل ويدللون على ذلك بأن الحروب والصراعات والتشنجات الانسانية منشؤها الاصرار على الحقيقة المطلقة التي تلغي الآخر أما النسبيّة تقبل الآخر وهذا لا يؤدي الى صراعات وتشنجات وبالتالي سوف نصل الى تعايش سلمي خال من الحروب .
3- العلمانية السياسيّة : وهي التي تنادي بفصل الدين عن الدولة فهي تقول بأن الدين شئ والدولة شئ آخر فالدين يقتصر على علاقة الانسان بربه أما الدولة هي التي تدير شؤون الانسان السياسية والاجتماعية .
ملاحظات :
* ان هناك فكرة سائدة أن العلمانية هي اللادين , وهذه الفكرة يؤخذ عليها بأنه ممكن أن يكون هناك انسان متديّن معتقد ومسلّم بالدين لكن له اتجاه معيّن من اتجاهات الحياة يختلف عن النظرة الدينية الطاغية ولا أعتقد أن هذه الفكرة صحيحة .
* ان هناك من يتبنى العلمانية السياسية انطلاقا من عدم القدرة على تطبيق الدين لا من حيث أنه يقول بأن الدين ليس شامل ولا يتدخل في جميع شؤون الحياة لكن لأننا لا نستطيع تطبيق الدين فوجب الاعتماد على العلمانيّة .
* ان هناك من المنتسبين للعلمانية من طبق التجربة الأوربية مع الكنيسة الكهنوتية على الدين الاسلامي الحنيف , وهذا التطبيق خاطئ حيث أن الاسلام أتى من الله سبحانه وتعالى وبشريعة خاتم النبي صلى الله عليه واله وسلم وأهل بيته الطيبين الطاهرين , لكّن من أسقط التجربة الأوربية على الاسلام أصبحت لديه ردة فعل من جميع ما لا ينسجم مع عقله هو , وأصبح لا يعرف طبيعة العلاقة بين العقل والدين .
النقد
أما العلمانية التجريبية واتخاذ المنهج التجريبي فقط في تحليل وتفسير الظواهر الكونية والاجتماعية , المأخذ الرئيسي عليها هو عدم قدرتها تعميم التجارب وتأصيل قواعد تجريبيّة دون منهج عقلي وخير مثال على ذلك لو أردنا ان نناقش تجربة علميّة مثل تجربة أن الحديد لو عرضّناه للحرارة تمدد فهذه التجربة منحصرة في عناصرها من حديد وحرارة , وتعميم هذه التجربة على أن كل حديد يتمدد بالحرارة نحتاج الى منهج ومنطق عقلي لكي يتحقق التعميم فنحن لم نجرب على كل حديد في هذه الأرض وهذا أبسط رد على المنهج التجريبي المستأثر بأنه المصدر الوحيد لتحليل وتفسير الظواهر الكونية والاجتماعية .
والعلمانية الفكرية التي لا تقول بالحقيقة المطلقة وتقول بمبدأ النسبيّة علاوة على أنها تنطلق من ردة فعل , فهي تقف أمام الأدلة العقليّة والنقليّة على أن الاسلام هو الحقيقة المطلقة والشريعة الالهيّة المنزلة على خاتم النبيين محمد صلى الله عليه واله وسلم وسوف نبيّن هذا الأمر في معرض ردنا على العلمانية السياسيّة .
ننهي البحث في مناقشة العلمانية السياسية التي تقول بوجوب فصل الدين عن السياسة وأن الدين عبارة عن علاقة الانسان بربه ولا دخل للدين بادارة شؤون حياة , الرد على هذه المقولة وجب الوقوف على أنواع العلاقات التي ولدت مع الانسان .
العلاقات التي ولدت مع الانسان أربع :
1- علاقة الانسان بـ نفسه
2- علاقة الانسان بـ الطبيعة
3- علاقة الانسان بـ الانسان الآخر
4- علاقة الانسان بـ الغيب أو بـ الله سبحانه وتعالى
2- علاقة الانسان بـ الطبيعة
3- علاقة الانسان بـ الانسان الآخر
4- علاقة الانسان بـ الغيب أو بـ الله سبحانه وتعالى
وكل من هذه العلاقات نظمّها وقننها الاسلام والشواهد أقل من أن تحصى في هذا المجال وسوف نشير لها ..