سني راديكالي
عضو فعال
ما قدمه السعوديون في الحرب الفلسطينية
لكي نعرف ما قدّمه السعوديون في الحرب الفلسطينية يكفي أن نأخذ هذه الفقرة من مذكرات القائد طه الهاشمي (1) الذي كان رئيساً للّجنة العسكرية المنبثقة سنة (1947 ـ 1948) عن جامعة الدول العربية للإشراف على حرب فلسطين.
وقد نشر هذه المذكرات في جريدة «الحارس» البغدادية، قال الهاشمي:
«إنّ الحكومة السعودية أبرقت للّجنة العسركية عن أسلحة معدّة لإنجاد فلسطين موجودة في (سكاكة) بالصحراء السعودية، فأرسلت الحكومة السورية طيّارات عسكرية فأحضرت تلك الأسلحة لدمشق، وسلّمتها الى المصنع الحربي التابع للجيش السوري لفرزها وثبويبها، فإذا هي أسلحة عتيقة متعددة الأنواع، والأشكال، فيها الموزر والشنيدر، والمارتيني الخ، وفيها بنادق فرنسية، وإنكليزية، وعثمانية،
ومصرية ويونانية، ونمساوية وكلها بدون جبخانة وكلها مصدئة (خردة) لا تصلح لقتال…».
ثم قال الهاشمي:
«إنّهم وجدوا بين هذه الحدايد بنادق ممّا تعبّأ بالكحل من فوهتها وتدك من الفوهة أيضاً، وانها من مخلّفات حملة الجيش المصري على الوهابين في أوائل القرن التاسع عشر... (انتهى) ».
وليس هذا فقط فإنّ رؤساء الوفود العربية في هيئة الأمم المتحدة أرسلوا عشية الموافقة على قرار تقسيم فلسطين عام (1948) برقية إلى الملك السعودي يلحّون عليه بإصدار تصريح ـ مجرد تصريح ـ يهدّد فيه بقطع البترول إذا صوّتت أمريكا على التقسيم واعترفت بإسرائيل.
فماذا كان ردّ الملك؟
كان أن أعطى تصريحاً معاكساً قال فيه:
«إنّ المصالح الامريكية في السعودية محميّة، وان الأمريكيّين هم من «أهل الذمّة»، وإنّ حمايتهم، وحماية مصالحهم واجب منصوص عليه في القرآن الكريم!».
وهكذا تمّ تقسيم فلسطين، وإقامة إسرائيل، واعتراف أمريكا بالدولة المغتصبة بعد إعلان قيامها بدقيقة واحدة! (1).
خدمات آل سعود لليهود (1)
يقول جون فيلبي: (لقد أصبحت مهمتي المكلف بها من المخابرات الانكليزية بعد مقتل الكابتن شكسبير، قائد الجيش السعودي، هي: الدعم والتمويل والتنظيم والتخطيط لإنجاح عبدالعزيز آل سعود في مهمته (2)).. كما يفضح جون فيلبي دعم اليهود لآل سعود، واتصال «بن غوريون» مع عبدالعزيز آل سعود.
قال جون فيلبي: إنه (بعد مصرع قائد جيش عبدالعزيز آل سعود الكابتن شكسبير على أيدي قوات ابن الرشيد في نجد، وصلت رسالة من رئاسة المخابرات الانكليزية في لندن تؤيد وجهة نظر السيد برسي كوكس ـ حينما كنت سكرتيراً له في العراق ـ وتحثه الرسالة بدعم عبدالعزيز آل سعود وتعيين جون فيلبي خلفاً للكابتن شكسبير وتسليمه كامل
المسؤولية للعمل بكل وسيلة تمكنه من دحر خصوم ابن السعود.. وكانت الرسالة تلك بداية لترك عملي كسكرتير لرئيس مكتب المخابرات في الجزيرة والخليج السيربرسي زكريا كوكس لأتفرّغ إلى مهمة أهم من عبدالعزيز آل سعود، وإعادة تنظيم جيشه وتمويله، وإيجاد ميزانية خاصة له وتسليحه بالذخيرة والسلاح، وإحياء الأفكار الوهّابية، والقيام بإيجاد عملاء لنا مهمتهم تزويدنا بمعلومات عن خصوم ابن السعود الأقوياء، مع بث أفكارنا بينهم، وبث الاشاعات المرجفة في هذه المدن والقبائل والقرى المعادية، وركزنا على كسب العديد من الوجهاء ورجال الدين في البلاد، كما استطعنا أن نخلق وجهاء جدد في المناطق التي لم يرض وجهاؤها السابقون السير معنا، وسارت الأمور بقيادتي على أحسن ممّا أراده قادتي في لندن والخليج، الشيء الذي نلت عليه منهم الثناء ـ كما ذكرت في مكان آخر ـ وبعد سقوط حكم ابن الرشيد في حائل وسقوط عرش الحسين ابن علي في الحجاز أنشأنا إمارة شرق الأردن ونقلنا إليها الأمير عبدالله بن الحسين، وكلف الانكليز أشخاصاً غيري لمراقبة وتوجيه عبدالله وتنظيم الإمارة الجديدة، إلاّ أن هؤلاء الاشخاص ما استطاعوا ترويض الأمير عبدالله الذي ظن أن هذه القطعة الجديدة من الأرض التي منحت له ما هي إلاّ «ملكه الخاص وعرشه البديل للعرش الضائع» في الحجاز وأنه بإمكانه التصرف بمزاجه بعيداً عن خطّنا المرسوم وأن بإمكانه أن يجعل من الأردن منطلق هجوم ضد ابن السعود لاستعادة العرش الهاشمي الذي منحه الانكليز لعبدالعزيز، وكذلك ظن أن بإمكانه استعادة عرش سوريا الذي منحه الانكليز لأخيه فيصل ثم تنازل عنه الانكليز للفرنسيين، ثم عمل الانكليز جهدهم أخيراً
لتخليص سوريا من الفرنسيين!.. ومن أجل ذلك رأى قادتي أنه لا مناص من ذهابي إلى الأردن في مهمة ترويضية.. وكانت أول جملة كلّفني السيربرسي كوكس بنقلها للأمير عبدالله هي «أن يقبل عبدالله بما قسم الله له، وأن لا يجعل من عشه الجديد ثكنة حربية ضد عبدالعزيز آل سعود بحجة العمل لاستعادة العرش الهاشمي الملغى ذكره ووجوده في الحجاز وإلى الأبد»، وأيضاً يجب أن أفهم عبدالله ألاّ يحرك ساكناً ضد فرنسا في سوريا ولبنان، وأن يسلم الثوّار السوريين للسلطات الفرنسية في دمشق، وأن يتعاون مع الوجود البريطاني واليهودي في فلسطين، وأن يسلّم لابن السعود الحجازيين والنجديين والشمامرة الذين هربوا معه أو لجأوا إليه فأخذ يعدهم في الاردن لمضايقة ابن السعود.. هذه هي أسس المهام التي كلّفت من قيادتي بترويض الامير عبدالله عليها)!..
ويتابع جون فيلبي سرد الذكريات قائلاً: (وبعد شهرين من وصولي إلى الأردن قمت بجولة في أنحاء فلسطين وكانت الثورة الفلسطينية في بدايتها ويعيش الانكليز في قلق منها، فحاول بعضهم توسيط الأمير عبدالله لدى الثوار الفلسطينين بإيقاف الثورة، فحبذت الفكرة لعلمي أن عبدالله سيفشل في وساطته لعدم نفوذ الأمير عبدالله بين الفلسطينين، وبالتالي سيكون الجو مهيئاً لصديقنا العزيز عبدالعزيز فتنجح وساطته فترتفع أسهمه لدى الانكليز أكثر فأكثر، وهذا ما تمّ فعلاً، وما اقترحته بعد فشل عبدالله في الوساطة، إذ اقترحت توسيط عبدالعزيز آل سعود، وهكذا نجح عبدالعزيز بما فشل فيه عبدالله عام (1936م)، بل إنه بمجرد أن عرض عبدالعزيز آل سعود وساطته لدى وجهاء فلسطين قبلوا وساطته بإيقاف الثورة ضد الإنكليز، واثقين مما تعهد لهم عبدالعزيز به وأقسم لهم عليه قائلاً: «إن أصدقاءنا الانكليز تعهدوا لي على حل قضية فلسطين لصالح الفلسطينيين، وإنني أتحمّل
مسؤولية هذا العهد والوعد» وقد نقل لهم هذه الرسالة إبنه فيصل ثم أحلق به ابنه الثاني سعود.. وكان النجاح وساطة عبدالعزيز آل سعود صداها القوي لدى الإنكليز واليهود، وكانت المنعطف الأكبر في تاريخ فلسطين، وعزّز ذلك النجاح الباهر كافة آرائي بعبد العزيز أمام رؤسائي بل وحتى أمام خصومي في «المكتب العربي بالقاهرة» الذين ما زال بعضهم يؤيد الهاشميين ويعتبرهم أصلح لنا من آل سعود.. وأثناء رحلتي تلك الى فلسطين عرجت إلى تل أبيب وقابلني الزعيم اليهودي ديفيد بن غوريون وكان فرحاً لنجاح الوساطة السعودية التي أوقفت الثورة الفلسطينية، إلاّ أنه أبدى قلقه من سبب ابتعادي عن عبدالعزيز آل سعود وقال: إن وجودك «يا حاج عبدالله» مهم بالقرب من عبدالعزيز هذه الأيام، فقلت لابن غوريون: «إننا لم نعد نخشى على عبدالعزيز آل سعود، فلديه من الحصانة ما يكفي لتطعيمي وتطعيمك!.. كما قد حصنّاه سابقاً بعدد من المستشارين العرب، بالإضافة إلى أن هناك من يقوم الآن بدوري لديه، مع أنني لم أبتعد هذه الايام عنه لغير صالحه في ترويض خصومه في شرق الأردن».
هنالك ظهرت على وجه بن غوريون علامة الارتياح، وتشعّب الحديث مع بن غوريون في أمور هامة تتعلق في الشؤون العربية ومستقبل اليهود، وأخبرت بن غوريون أن أمير شرق الأردن عبدالله بن الحسين كان في منتهى الشراسة بعد أن أخرجناه من الحجاز، وكان يكنّ الحقد حيناً ويظهره أحياناً لبريطانيا على فعلتها بتسليم عرشه لعبدالعزيز آل سعود، ومن أجل ذلك أخذ يتبنّى العديد من الرجال المعارضين لعبدالعزيز والمعارضين للفرنسيين والانكليز واليهود على حدّ سواء، وهو ما زال يكره ابن السعود ويجعل من الأردن مكان تجمّع لخصوم ابن السعود معدّاً إياهم للعودة بهم في حرب خاطفة يعيد بها ما فقدوه في الحجاز وحائل ونجد
وعسير، فقال بن غوريون: «نحن ندرك هذا تماماً ونقدّر جهودك، والذين اختاروك لاشكّ يدركون ما لديك من مقدرة فائقة على ترويض الأمراء العرب». قلت لابن غوريون: «قبل أيام أخرجت جيش الإخوان المسلمين السعوديين لتأديب الامير عبدالله فهددوا كيانه، فاستنجد بي لإنقاذه منهم مبدياً الكثير من التودد والطاعة لبريطانيا، وبذلك أوعزنا لعبدالعزيز آل سعود بإيقاف جيش الاخوان عند حدّهم قبل أن يدخلوا الأردن وينزلوا فيها الدمار.. الا أن عبدالعزيز لاقى صعوبة في صد هذا الجند البدوي الشرس صعب الترويض والمراس فاضطررت الى اعطاء الامر للطائرات الحربية البريطانية المرابطة في الاردن لتأديبهم، ولو لم توقع الطائرات بهم بعض الخسائر لما تراجعوا وما سمعوا كلمة شيخهم عبدالعزيز آل سعود!.. لكنه رغم ما أصاب عبدالله من هلع كان مازال شرس الطباع ضد بريطانيا، ممّا جعلني أوحي إلى قبيلة ابن عدوان في الأردن بالخروج لضرب عبدالله وتطويق قصر الشونة لإرهابه كنوع من أنواع الترويض، وحينها استنجد عبدالله بي مرة أخرى قائلاً: إنني أعرف أن كل هذه الأعمال ما حدثت إلاّ بعد مجيئك يا حاج فيلبي بغية ثني إرادتي عن مقاومة حبيبكم عبدالعزيز آل سعود.. إنني اعدك بابعاد هذه الفكرة نهائياً، لكنني ارجو إعفائي من مسألة إبعاد الذين لجأوا معي من الحجاز ونجد هرباً من وحشية صاحبكم وجنوده التي أنت أعرف الناس بها. وما مجزرة تربة والخرمة والطائف ببعيدة عن ذاكرتك.. فقلت لعبدالله: إنني أعدك ببذل كل مجهود لحمايتك بعد أن اتضح لنا أنك لا تنوي بابن السعود شراً أما اللاجئين فرأيي بهم كما تراه أنت، هو ألاّ نسلمهم لابن السعود على ألاّ يقوم أيّ أحد منهم بنشاط ضده.. فقال عبدالله: إتفقنا يا حاج فيلبي!.. وهكذا تخلى عبدالله عن أفكاره الوطنية والقومية في غزو
الحجاز أو إثارة أيّ نوع من الشغب ضد ابن السعود بعد أن جمع لهذه الفكرة كل مخلّفات جيشه وجيش والده الهارب من الحجاز، جاعلاً من الأردن «أرض ميعاده الجديدة» لإخراج السعوديين من الحاجز ونجد)..
وأردف جون فيلبي قوله: (وبذلك اطمأن بن غوريون وابتسم معبّراً عن غبطته باستقرار الامور لصالح ابن السعود وبما توصلّت إليه من ترويض للأمير عبدالله بن الحسين، وقال بن غوريون وابتسامة الرضى بادية على وجهه من حديثي: «إذن أنت ما زلت أيها العظيم على علاقة حسنة بالرجل العظيم» قلت لابن غوريون: «من تقصد بالرجل العظيم»؟.. فقال بن غوريون: «وهل هناك مقصود في المنطقة العربية خلاف ابن العم عبدالعزيز بن سعود».. قال بن غوريون كلمة «ابن العم» وهو مدرك تمام معرفتي بتسلسل النسب السعودي المنحدر من قبيلة بني القينقاع اليهودية، ثم أخذ بن غوريون يعدّد لي زعماء وملوك وقادة اليهود الذين دخلوا الدينين المسيحي والاسلامي وغيرهما من الأديان لخدمة الهدف اليهودي والذين حكموا العالم عملاً بتحقيق الغاية الكبرى لبني إسرائيل فأورد أسماء كثيرة. واختتم بن غوريون حديثه عن ملوك وقادة بني إسرائيل عبر التاريخ مفاخراً بقوله:
«وهكذا ترى يا شيخ عبدالله كيف كانوا ملوكنا وقادتنا عبر التاريخ صنّاع حضارة وتاريخ ومجد عن عهد سليمان وداوود إلى عهد ابن السعود» ).. ويتابع جون فيلبي اعترافاته فيقول: (ولما عدنا الى الحديث عن الأمير «الحجازي الأردني» عبدالله الذي نقلناه من الحجاز لإقامة جبرية ينشىء خلالها دولة جديدة في صحراء الأردن السورية أيّد بن غوريون إقامة مثل هذه الدولة على أن تكون مملكة فيما بعد. كما أيد إقامة مملكة ابن السعود قائلاً: إن جذور الملكية هي التي تضرب في
الأرض أكثر من سواها. وقال: «إننا بإقامة هاتين المملكتين ستطمئنّ قلوبنا لوجود سياجين حاميين لدولة إسرائيل المزمع قيامها في الوقت المناسب لولادتها ولادة لا تشويه فيها، وهذا لا يتم بالطبع إلاّ بإقامة التحصينات حولها باسم العرب الذين نثق بهم». وعدت أداعب بن غوريون قائلاً: «أنت قد عدّدت لي الكثير من الملوك والقادة اليهود الذين حكموا العالم لكنك لم تتطرق لنسب ملوك بني هاشم وهل هم من اليهود أم لا؟!..» فقال بن غوريون وهو يبتسم: «حتى وإن كانوا من اليهود فإنني لا أحبذ أن ينتسب الينا أي مهزوم، أمّا نسبنا مع ابن السعود فهو ثابت أكثر من سواه».. وفي نهاية اللقاء طلبت بن غوريون مرافقتي للأردن لمقابلة الأمير عبدالله، ويومها رافقني وأعددت له المقابلة في مسكني ـ مقر المندوب السامي ـ رغم تردد الأمير عبدالله في المقابلة التي قبلها من باب الستدرار عطفي طالباً أن يكون المكان خالياً من سوانا نحن الثلاثة، وفي اللقاء تبادر عبدالله وبن غوريون كلمات الود والتعاطف والمجاملات، وقطع الأمير عبدالله وعده لبن غوريون في تلك المقابلة «بتأييد القضية اليهودية العادلة».. وبعد الاجتماع حمّلني بن غوريون رسالة خطية لعبدالعزيز آل سعود لأسلمها له شخصياً حينما ألتقي به في اللقاء المرتقب، وحينما جئت لأودّع الأمير عبدالله متجها الى الحجاز متمنياً من سموه تكليفي بأية خدمة يريد مني تأديتها لسموّه في الحجاز، إبتسم عبدالله وهو يودّعني ويقول: «إن الخدمة التي أود تأديتها لي هي أن تخلص لي من صميم قلبك بل تمنحني ولو بعض إخلاصك لابن السعود» وسألني عبدالله قائلاً: «هل لي بمعرفة شيء من مهمتك في الحجاز الآن؟» قلت: «إنها يا سمو الأمير «مهمة حج لقضاء حاجة» كما يقول المثل النجدي».. والحقيقة أنني تعودت قضاء فريضة الحج في مكة مع عبدالعزيز كلما سنحت لي الفرصة
لأكون معه قريباً من الله!.. وسافرت من الأردن إلى مكة وهناك قابلت الصديق الصدوق عبدالعزيز آل سعود المتلهف لأخباري، وما أن قابلته في مجلسه الواسع وسألني عن «العلوم» أي الأخبار حتى أفهمته بإشارة يفهمها مني تمام الفهم وتعني «أن فضّ هؤلاء الناس الموجودين في المجلس» ففضهم، ولم يبق سوانا نحن الإثنين ـ عبدالله فيلبي، وعبدالعزيز ـ فطمأنته من أنني صفّيت الوضع في الأردن لصالحه وصالح بريطانيا، ثم قرأت عليه رسالة بن غوريون التي جاء فيها قول بن غوريون لعبدالعزيز «يا صاحب الجلالة.. يا أخي بالله والوطن» وكانت لكلمة «يا صاحب الجلالة» رنة في أذن عبدالعزيز فهي أول كلمة يسمعها عبدالعزيز بعد توليه العرش، إذ لم يتعوّد من عرب نجد سماعها أو دعوته إلاّ باسمه المجرد (يا عبدالعزيز) أو (يا طويل العمر) على أكثر تقدير.. وعندها استوقفني عبدالعزيز عن تلاوتي لرسالة بن غوريون متسائلاً يقول: «لماذا يدعوني ـ بن غوريون ـ صاحب الجلالة وأخوه بالله والوطن؟!» فقلت لعبدالعزيز: إن جميع أهل أوربا لا يلقبون ملوكهم إلاّ بأصحاب الجلالة لأنهم ظل الله في الأرض!..، أما قول بن غوريون عن «أخوّتك بالله والوطن»، «فكلنا إخوة له بالله والوطن وأنت أعرف بذلك!!».. فقال: (ألآن فهمت.. أتمم رسالتك يا حاج» فتلوت الرسالة التي جاء قول بن غوريون: «إنّ مبلغ العشرين ألف جنية استرليني ما هو إلاّ إعانة منّا لدعمك فيما تحتاج إليه في تصريف شؤون ملكك الجديد في هذه المملكة الشاسعة المباركة، وإني أحب أن أؤكد لك أنه ليس في هذا المبلغ ذرة من الحرام فكله من تبرعات يهود بريطانيا وأوربا الذين قد دعموك لدى الحكومة البريطانية في السابق ضد ابن الرشيد وكافة خصومك، وجعلوا بريطانيا تضحي بصديقها السابق حسين لأجلك لكونه رفض حتى إعطاء قطعة
من فلسطين لليهود الذين شرّدوا في العالم» )..
ويتابع فيلبي قوله: «لقد استوقفني عبدالعزيز مراراً متسائلاً عن الكثير من جمل تلك الرسالة، من ذلك أنه سألني عن مبلغ الـ (20) ألف جنيه استرليني قائلاً: «وهل ينوي بن غوريون تهديدي بهذا المبلغ الذي بعثه لي بواسطتك؟ وهل عرفت حكومة بريطانيا العظمى بهذا المبلغ؟ وهل استلامي للمبلغ من بن غوريون لا يغضب حكومة بريطانيا فتقطع عني المرتب الشهري والعون؟..» قلت: «أبداً.. إن اليهود في بريطانيا هم حكام بريطانيا بالفعل، إنهم الحكم والسلطة والصحافة والمخابرات البريطانية، إن لهم مراكز النفوذ الأقوى في بريطانيا، وكانوا وراء دعمك وعونك، ووراء الاستمرار في صرف مرتبك حتى الآن عن طريق المكتب الهندي.. كما كانوا في السابق وراء قطع هذا المرتب لاختبارك هل سترفض أو لا ترفض التوقيع بإعطاء فلسطين لليهود».. قال عبدالعزيز: «وهل اطلع أحد على رسالة بن غوريون هذه»؟ فأجبته: «لم يطّلع عليها سوى أربعة»!!. فبدا على وجه عبدالعزيز الامتعاض الشديد أثناء تساؤله بلهفة عن معرفة هؤلاء الأربعة الذين اطلعوا على الرسالة!: «من هم الأربعة؟؟.. من هم الأربعة يا حاج فيلبي؟.. أنا لا أخشى غضب أحد إلا غضب الله وبريطانيا!» قلت لعبدالعزيز إن هؤلاء الأربعة هم: «الله وأنا وبن غوريون وعبدالعزيز» فضحك عبدالعزيز لهذا وهو يقول: «الله الأول عالم بكل شيء. أمّا الثلاثة الباقون فقد ضحكوا على الله ـ لكنني أسألك عن ـ عبيدالله ـ و على الأخص ـ عبدالله ـ الذي في الأردن ـ هل أخبره بن غوريون بشيء حينما التقى معه؟» ويقصد بذلك أمير الأردن عبدالله ـ الملك عبدالله فيما بعد ـ .. قلت : «لم يعرف عبدالله أي شيء. وأنت تعلم أننا لو أردنا إطلاعه على الأسرار التي بيننا وبينك لما
منحناك عرشي الحجاز ومنحناه غور الأردن».. وانتهى اللقاء بتحميلي وصية شفهية من عبدالعزيز لبن غوريون يقول فيها: «قل للأخ بن غوريون إننا لن ننسى فضل أمنا وأبونا بريطانيا، كما لم ننس فضل أبناء عمنا اليهود في دعمنا وفي مقدمتهم السير برسي كوكس، وندعو الله أن يلحقنا أقصى ما نريده، ونعمل من أجله لتمكين هؤلاء اليهود المساكين المشردين في أنحاء العالم لتحقيق ما يريدون في مستقر لهم يكفيهم هذا العناء»!. ورجعت من «الحج قاضياً حاجتي».. وفي الأردن أخبرت الأمير عبدالله «أن عبدالعزيز بن سعود يسلّم على سموكم وأننا سوف نجري مصالحة بين الطرفين نظراً لما تقتضيه مصلحة الجميع». وفي اليوم التالي لوصولي بلّغت رسالة «صقر الجزيرة» لبن غوريون.. و«صقر الجزيرة» هو الاسم المتعارف عليه في ملفات المخابرات البريطانية. إنه عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود).. انتهى.
مشروع بريطانيا العظيم!
قال تشرشل: «أريد أن أرى ابن السعود سيدا على الشرق الأوسط وكبير كبراء هذا الشرق، على أن يتفق معكم أولاً ـ يا مستر حاييم ـ ومتى تم هذا؛ عليكم أن تأخذوا منه ما تريدون أخذه».. هذا ما قاله تشرشل.
عن مذكرات الدكتور حاييم وايزمن أول رئيس «لدولة اسرائيل» في فلسطين.
وقال: «إنشاء الكيان السعودي هو مشروع بريطانيا الأول.. والمشروع الثاني من بعده انشاء الكيان الصهيوني بواسطته»!..
هكذا قال (وايزمن) وهو أحد كبار الصهاينة الذين أسّسوا الكيان
الصهيوني في فلسطين.. ويضيف نقلاً عن تشرشل الرئيس الاسبق لبريطانيا، والذي كان له دور أولي بارز في تكوين الكيان السعودي والكيان الصهيوني:
(في (11/3/1932) ـ إبّان وداعي للسيد جون مارتن سكرتير تشرشل الذي كان السكرتير العام للجنة بيل، قال تشرتشل: أريد أن تعلم مكرراً ـ يا وايزمن ـ أنني وضعت مشروعاً لكم وهو لا ينفّذ إلاّ بعد نهاية الحرب «الحرب العالمية الثانية» وهذا المشروع هو: أنني أريد أن أرى ابن السعود سيداً على الشرق الأوسط وكبير كبراء هذا الشرق، على شرط أن يتفق معكم أولاً، ومتى تم هذا المشروع فعليكم أن تأخذوا منه ما أمكن أخذه وليس من شك أننا سنساعدكم في هذا، وعليك أن تحتفظ بكتمان هذا السرّ، ولكن أنقله الى روزفلت، وليس هناك شيء يستحيل تحقيقه حين أعمل لتحقيقه أنا وروزفلت رئيس الولايات المتحدة الامريكية)!..
هكذا أسّس الإنكليز (مشروع) العرش السعودي.. كمشروع اوّلي لإنشاء كيان اليهود وإنشاء الانكليز لكيان آل سعود هو (مشروع) اليهود رقم (1) كما يقول تشرشل ووايزمن من أجل اقامة (المشروع اليهودي) الثاني.. هذه مشاريع الاستعمار.. عروش يهودية لحماية كيانات يهودية.. وهكذا تستباح أرضنا في الجزيرة العربية وفلسطين (ومن لا يملك يعطي من لا يستحق).. وكما بدأ تكوين اليهود لآل سعود «كمشروع أولي» باسم الاسلام والعروبة، استمروا بضحكهم ومهازلهم على ذقون العرب وفي مؤتمرات القمم ليستروا بها أدوارهم كلما انكشفت بسراويل قبول القرارات.. والصمت يا عرب، الصمت، «فالصامت عن الحق شيطان أخرس، والصامت على الباطل شيطان أخرس».. حديث شريف.
من خيانات عبدالعزيز آل سعود
في العدد (1637) من مجلة «آخر ساعة» المصرية الصادر في (18) مايو (1966) كتب الكاتب الفلسطيني وجيه ابو ذكرى ضمن مقال طيول بعنوان (هكذا ضاعت فلسطين وهكذا تعود) يقول تحت عنوان (ملوك الذهب والصحراء!):
ثم يأتي الدور الخطير الثالث من أسباب هزيمتنا على أرض فلسطين. وهو دور الملك عبدالعزيز آل سعود. فلم يكن الشعب العربي يطلب منه رجالاً أو سلاحاً.. كل ما كان يرجوه أن يضغط على أصدقائه الأمريكان. لكي يضغطوا بدورهم على العصابات الصهيونية. وكانت وسيلة الضغط: ذلك السلاح الرهيب الذي يملكه العرب حتى الآن ولم يحاولوا إشهاره في وجه العدو.. سلاح البترول.. ولخطورة هذا السلاح أنقل هذه الحادثة:
«انتقل الصراع إلى الأمم المتحدة. وبدأ أمريكا تلعب لعبتها القذرة لتقسيم فلسطين بين اليهود والعرب. ونشط المندوبون العرب لمحاولة إحباط المشروع الذي عرض على الجمعية العامة للمنظمة الدولية، وكان بين العرب الأمير عادل أرسلان. وذهب الى أحد الوفود يستعطفه ليقف بجانب الحق العربي.. فقال له الرجل: «لديكم أيها
العرب الورقة الرابحة. ولكنكم تخشون اللعب بها!» وأشار الرجل إلى وزير خارجية السعودية وكان وقتها الأمير فيصل ـ الملك الحالي ـ وقال له الرجل.. «لو ذهب هذا الأمير إلى جورج ما ريشال وزير الخارجية الأمريكية وهدده بقطع البترول إذا ناصرت أمريكا اليهود. لوجدت هذه القاعة كلها تقف بجانب العرب.»!.
ولكن.. هل هذا هو كل خيانة الرجعية السعودية؟.. لا.. إنها أكثر من ذلك بكثير.
وهنا.. سأترك الصديق الراحل للملك عبدالعزيز يحكي بنفسه قصة عبدالعزيز وخيانته الواضحة لقضية فلسطين.. وصديق الملك كان سنت جون فيلبي، الذي أسلم!. واعتنق المذهب الوهّابي، وأصبح مستشار الملك عبدالعزيز.. يقول جون أو الحاج عبدالله فيلبي أو مستشار الملك.. في كتابه «40 عاماً في البحرية»:
«إن مشكلة فلسطين لم تكن تبدو «لابن سعود» بأنها تستحق تعريض علاقاته الممتازة مع بريطانيا ـ وأمريكا أخيراً ـ للخطر! ويقول جون فيلبي: «وكان مستقبل فلسطين كله بالنسبة ـ لعبدالعزيز آل سعود وآل سعود كلهم ـ أمراً من شأن بريطانيا الصديقة العزيزة المنتدبة على فلسطين. ولها ان تتصرف كما تشاء، وعلى عبدالعزيز السمع والطاعة».
«وكان من أساس الاتفاق لإنشاء الوجود السعودي أن تقوم سياسة آل سعود على أن لا يتدخل الملك عبدالعزيز وذريته من بعده بشكل من الأشكال ضد المصالح البريطانية والامريكية واليهودية في البلاد التي تحكمها بريطانيا أو تحت انتدابها أو نفوذها ومنها فلسطين».
«وكان الملك عبدالعزيز يعلن أن العرب سوف يخضعون لتقسيم فلسطين إذا فرضته بريطانيا العظمى.. وقد تقدمت لعبدالعزيز باقتراح
للموافقة بتسليم فلسطين كلها إلى اليهود مقابل استقلال البلاد العربية كلها. وضمان إسكان أهلها الذين سيخرجون منها بطريقة كريمة»!.
«والرجال الذين حوله كانوا لا يوافقون على آراء الملك بالنسبة لقضية فلسطين. فكان من رأي الملك أنه لا يرى في فلسطين ما يستحق أن يحمله على شل علاقته ببريطانيا وأمريكا».
ويبدو أن هذه الإعجاب كان متبادلا بين بريطانيا وأمريكا وبين الملك عبدالعزيز في الفترة الأخيرة في حياته التي تلت الحرب العالمية الثانية مباشرة، وأنه قد حمله ونستون تشرشل زعيم بريطانيا على التفكير بأن يجعل من الملك السعودي زعيما لا ينازع للعالم العربي!».
«لقد أعلن الملك رأيه بصراحة بأن العرب لن يوافقوا على التقسيم أو يعترفوا بأيّ حق لليهود في فلسطين، ولكنهم سيذعنون حتى إذا ما فرضت بريطانيا عليهم التقسيم».
لا أعتقد أن هذه الآراء في حاجة إلى مجرد تعليق، ولكن ـ والحق يقال ـ إن الملك عبدالعزيز قد حزن حزناً عميقاً في أعقاب هزيمة الجيوش العربية في فلسطين.. واسمعوا من مستشاره ـ جون فيلبي ـ سرّ هذا الحزن العميق!.. يقول جون فيلبي:
ـ «.. وكان انتقال الجزء العربي الذي احتفظ به من فلسطين الى ملكية عبدالله ملك الأردن أمراً أكثر مما يستطيع الملك عبدالعزيز استساغته»!.
«لانه كان يريد ضمه إليه أو إلى اسرائيل، ولذلك وقف في الوقت نفسه موقف المعارضة من إنشاء حكومة عموم فلسطين في قطاع غزة الذي يحتله المصريون، لأنه يخشى أن تقوى هذه الحكومة فتثير القلاقل من جديد ضد اليهود. وقد اتفق مع تشرشل رئيس وزراء بريطانيا وكذلك مع الرئيس الامريكي روزفلت على توزيع الفلسطينيين في البلاد
العربية، ومن أجل ألاّ يكون للفلسطينيين أيّ كيان، قام الملك عبدالعزيز آل سعود بإغراء جمال الحسيني ـ الذي عينته حكومة عموم فلسطين في غزة ـ وزيراً لخارجيتها، أغراه عبدالعزيز ليصبح من مستشاريه في الرياض مقابل مبلغ غير قليل من المال بناء على طلب من أمريكا وبريطانيا كما عمل عبدالعزيز لتفتيت بقية ـ حكومة عموم فلسطين ـ بالمغريات وغيرها»!..
هذا هو الموقف الصريح للرجعية اليهودية السعودية، ولكن أحداً لا ينسى بطولات الكتيبة «العربية» التي خرجت أفراداً من الجزيرة العربية دون رضا آل سعود، واستشهد معظمها بعد أن اشتركت في الحرب كان مقدارها (700رجل) ومع ذلك تبنّاها عبدالعزيز بعد أن نالت سمعة جيدة لكنه فتتها وقال: «إن بريطانيا أرادت إقامة اسرائيل.. وستقوم إسرائيل»!!.
الكويت وتصدير الخيانة السعودية
هرب عبدالرحمن بن فيصل آل سعود وابنه عبدالعزيز الى الكويت عام (1891) بعد أن قضى شعبنا ـ في نجد وحائل ـ وللمرة الثالثة ـ على حكم وتحكّم آل سعود الممثل بعبدالرحمن آل سعود وأسرته، لكن شعبنا كان بهم رحيماً ـ ويا للأسف ـ حينما أكتفى الشعب وحاكمه آنذاك «قصير النظر» أو «طيب القلب» أو المعتد بنفسه الأمير محمد بن عبدالله آل رشيد، بجلب عبدالرحمن ابن فيصل آل سعود وبقية أسرته الصغيرة بالإضافة الى محمد بن عبدالوهاب وأسرته.. من العارض (الرياض حالياً) ليضعهم في حائل في غاية المعزة والإكرام.. وكان الأجدر به إنهاء وجودهم.. والأسوأ من هذا الذي فعله محمد بن عبدالله آل رشيد أنه سمح لعبدالرحمن آل سعود وأسرته للسفر بحجة «النقاهة»
[ 75 ]
في العارض (الرياض) رغم ادراك ابن الرشيد لمعنى «النقاهة» السعودية التي لو أرادوها «نقاهة» حقيقية لوجدوها في حائل ذات الأجواء العطرة الجميلة، وما أن وصل عبدالرحمن الرياض حتى قام «بانقلابه» ضد «سالم السبهان» منصوب ابن الرشيد.. ويومها لم يتركه محمد بن عبدالله آل رشيد بل أرسل حملة لتسحقه، وادّعى وقتها عبدالرحمن: «أنه اضطر للقيام بانقلابه ضد سالم السبهان لكونه أهانه، وأن حركته ليست موجهة ضد ابن رشيد» وكان عذره أسوأ من فعله، لكنه لا أسوأ منه ـ فعلاً ـ إلاّ محمد بن عبدالله آل رشيد المعتد بنفسه، حينما تظاهر بتصديقه، وتركه يقيم مرة أخرى في الرياض حتى بعد قيامه بالانقلاب فهرب منها الى الكويت وهناك استضافه حاكمها مبارك الصباح، فأكرمه وبقايا اسرته، وبما أن مبارك الصباح كان وقتها على ارتباط مع تركيا في الوقت الذي كان فيه يغازل الانكليز، فقد قام مبارك الصباح بجمع عبدالرحمن آل سعود وابنه عبدالعزيز بالقائممقام التركي وأجرت له تركيا مبلغ ـ (70) روبية ـ أي ما يعادل أربع دنانير كويتية ـ كمرتب لعبدالرحمن وشقيقه محمد وابنه عبدالعزيز وبقية أفراد العائلة المكونة آنذاك من (15) من الرجال والأطفال والنساء وخمسة من الطفيليين الخدم، فيصبح مرتب كل واحد منهم ما يعادل خمس (1) قروش «سعودية» شهرياً، أي «هللة» في اليوم!.. كما أعانهم مبارك الصباح بالرز والتمن والكساء وأهداهم ثلاثة من الحمير للتنقل عليها، إحدى (2) هذه الحمير لعبدالرحمن، والثاني لمحمد، والثالث لعبدالعزيز، وكانت الحمير الثلاثة تلك بمثابة
لكي نعرف ما قدّمه السعوديون في الحرب الفلسطينية يكفي أن نأخذ هذه الفقرة من مذكرات القائد طه الهاشمي (1) الذي كان رئيساً للّجنة العسكرية المنبثقة سنة (1947 ـ 1948) عن جامعة الدول العربية للإشراف على حرب فلسطين.
وقد نشر هذه المذكرات في جريدة «الحارس» البغدادية، قال الهاشمي:
«إنّ الحكومة السعودية أبرقت للّجنة العسركية عن أسلحة معدّة لإنجاد فلسطين موجودة في (سكاكة) بالصحراء السعودية، فأرسلت الحكومة السورية طيّارات عسكرية فأحضرت تلك الأسلحة لدمشق، وسلّمتها الى المصنع الحربي التابع للجيش السوري لفرزها وثبويبها، فإذا هي أسلحة عتيقة متعددة الأنواع، والأشكال، فيها الموزر والشنيدر، والمارتيني الخ، وفيها بنادق فرنسية، وإنكليزية، وعثمانية،
ومصرية ويونانية، ونمساوية وكلها بدون جبخانة وكلها مصدئة (خردة) لا تصلح لقتال…».
ثم قال الهاشمي:
«إنّهم وجدوا بين هذه الحدايد بنادق ممّا تعبّأ بالكحل من فوهتها وتدك من الفوهة أيضاً، وانها من مخلّفات حملة الجيش المصري على الوهابين في أوائل القرن التاسع عشر... (انتهى) ».
وليس هذا فقط فإنّ رؤساء الوفود العربية في هيئة الأمم المتحدة أرسلوا عشية الموافقة على قرار تقسيم فلسطين عام (1948) برقية إلى الملك السعودي يلحّون عليه بإصدار تصريح ـ مجرد تصريح ـ يهدّد فيه بقطع البترول إذا صوّتت أمريكا على التقسيم واعترفت بإسرائيل.
فماذا كان ردّ الملك؟
كان أن أعطى تصريحاً معاكساً قال فيه:
«إنّ المصالح الامريكية في السعودية محميّة، وان الأمريكيّين هم من «أهل الذمّة»، وإنّ حمايتهم، وحماية مصالحهم واجب منصوص عليه في القرآن الكريم!».
وهكذا تمّ تقسيم فلسطين، وإقامة إسرائيل، واعتراف أمريكا بالدولة المغتصبة بعد إعلان قيامها بدقيقة واحدة! (1).
خدمات آل سعود لليهود (1)
يقول جون فيلبي: (لقد أصبحت مهمتي المكلف بها من المخابرات الانكليزية بعد مقتل الكابتن شكسبير، قائد الجيش السعودي، هي: الدعم والتمويل والتنظيم والتخطيط لإنجاح عبدالعزيز آل سعود في مهمته (2)).. كما يفضح جون فيلبي دعم اليهود لآل سعود، واتصال «بن غوريون» مع عبدالعزيز آل سعود.
قال جون فيلبي: إنه (بعد مصرع قائد جيش عبدالعزيز آل سعود الكابتن شكسبير على أيدي قوات ابن الرشيد في نجد، وصلت رسالة من رئاسة المخابرات الانكليزية في لندن تؤيد وجهة نظر السيد برسي كوكس ـ حينما كنت سكرتيراً له في العراق ـ وتحثه الرسالة بدعم عبدالعزيز آل سعود وتعيين جون فيلبي خلفاً للكابتن شكسبير وتسليمه كامل
المسؤولية للعمل بكل وسيلة تمكنه من دحر خصوم ابن السعود.. وكانت الرسالة تلك بداية لترك عملي كسكرتير لرئيس مكتب المخابرات في الجزيرة والخليج السيربرسي زكريا كوكس لأتفرّغ إلى مهمة أهم من عبدالعزيز آل سعود، وإعادة تنظيم جيشه وتمويله، وإيجاد ميزانية خاصة له وتسليحه بالذخيرة والسلاح، وإحياء الأفكار الوهّابية، والقيام بإيجاد عملاء لنا مهمتهم تزويدنا بمعلومات عن خصوم ابن السعود الأقوياء، مع بث أفكارنا بينهم، وبث الاشاعات المرجفة في هذه المدن والقبائل والقرى المعادية، وركزنا على كسب العديد من الوجهاء ورجال الدين في البلاد، كما استطعنا أن نخلق وجهاء جدد في المناطق التي لم يرض وجهاؤها السابقون السير معنا، وسارت الأمور بقيادتي على أحسن ممّا أراده قادتي في لندن والخليج، الشيء الذي نلت عليه منهم الثناء ـ كما ذكرت في مكان آخر ـ وبعد سقوط حكم ابن الرشيد في حائل وسقوط عرش الحسين ابن علي في الحجاز أنشأنا إمارة شرق الأردن ونقلنا إليها الأمير عبدالله بن الحسين، وكلف الانكليز أشخاصاً غيري لمراقبة وتوجيه عبدالله وتنظيم الإمارة الجديدة، إلاّ أن هؤلاء الاشخاص ما استطاعوا ترويض الأمير عبدالله الذي ظن أن هذه القطعة الجديدة من الأرض التي منحت له ما هي إلاّ «ملكه الخاص وعرشه البديل للعرش الضائع» في الحجاز وأنه بإمكانه التصرف بمزاجه بعيداً عن خطّنا المرسوم وأن بإمكانه أن يجعل من الأردن منطلق هجوم ضد ابن السعود لاستعادة العرش الهاشمي الذي منحه الانكليز لعبدالعزيز، وكذلك ظن أن بإمكانه استعادة عرش سوريا الذي منحه الانكليز لأخيه فيصل ثم تنازل عنه الانكليز للفرنسيين، ثم عمل الانكليز جهدهم أخيراً
لتخليص سوريا من الفرنسيين!.. ومن أجل ذلك رأى قادتي أنه لا مناص من ذهابي إلى الأردن في مهمة ترويضية.. وكانت أول جملة كلّفني السيربرسي كوكس بنقلها للأمير عبدالله هي «أن يقبل عبدالله بما قسم الله له، وأن لا يجعل من عشه الجديد ثكنة حربية ضد عبدالعزيز آل سعود بحجة العمل لاستعادة العرش الهاشمي الملغى ذكره ووجوده في الحجاز وإلى الأبد»، وأيضاً يجب أن أفهم عبدالله ألاّ يحرك ساكناً ضد فرنسا في سوريا ولبنان، وأن يسلم الثوّار السوريين للسلطات الفرنسية في دمشق، وأن يتعاون مع الوجود البريطاني واليهودي في فلسطين، وأن يسلّم لابن السعود الحجازيين والنجديين والشمامرة الذين هربوا معه أو لجأوا إليه فأخذ يعدهم في الاردن لمضايقة ابن السعود.. هذه هي أسس المهام التي كلّفت من قيادتي بترويض الامير عبدالله عليها)!..
ويتابع جون فيلبي سرد الذكريات قائلاً: (وبعد شهرين من وصولي إلى الأردن قمت بجولة في أنحاء فلسطين وكانت الثورة الفلسطينية في بدايتها ويعيش الانكليز في قلق منها، فحاول بعضهم توسيط الأمير عبدالله لدى الثوار الفلسطينين بإيقاف الثورة، فحبذت الفكرة لعلمي أن عبدالله سيفشل في وساطته لعدم نفوذ الأمير عبدالله بين الفلسطينين، وبالتالي سيكون الجو مهيئاً لصديقنا العزيز عبدالعزيز فتنجح وساطته فترتفع أسهمه لدى الانكليز أكثر فأكثر، وهذا ما تمّ فعلاً، وما اقترحته بعد فشل عبدالله في الوساطة، إذ اقترحت توسيط عبدالعزيز آل سعود، وهكذا نجح عبدالعزيز بما فشل فيه عبدالله عام (1936م)، بل إنه بمجرد أن عرض عبدالعزيز آل سعود وساطته لدى وجهاء فلسطين قبلوا وساطته بإيقاف الثورة ضد الإنكليز، واثقين مما تعهد لهم عبدالعزيز به وأقسم لهم عليه قائلاً: «إن أصدقاءنا الانكليز تعهدوا لي على حل قضية فلسطين لصالح الفلسطينيين، وإنني أتحمّل
مسؤولية هذا العهد والوعد» وقد نقل لهم هذه الرسالة إبنه فيصل ثم أحلق به ابنه الثاني سعود.. وكان النجاح وساطة عبدالعزيز آل سعود صداها القوي لدى الإنكليز واليهود، وكانت المنعطف الأكبر في تاريخ فلسطين، وعزّز ذلك النجاح الباهر كافة آرائي بعبد العزيز أمام رؤسائي بل وحتى أمام خصومي في «المكتب العربي بالقاهرة» الذين ما زال بعضهم يؤيد الهاشميين ويعتبرهم أصلح لنا من آل سعود.. وأثناء رحلتي تلك الى فلسطين عرجت إلى تل أبيب وقابلني الزعيم اليهودي ديفيد بن غوريون وكان فرحاً لنجاح الوساطة السعودية التي أوقفت الثورة الفلسطينية، إلاّ أنه أبدى قلقه من سبب ابتعادي عن عبدالعزيز آل سعود وقال: إن وجودك «يا حاج عبدالله» مهم بالقرب من عبدالعزيز هذه الأيام، فقلت لابن غوريون: «إننا لم نعد نخشى على عبدالعزيز آل سعود، فلديه من الحصانة ما يكفي لتطعيمي وتطعيمك!.. كما قد حصنّاه سابقاً بعدد من المستشارين العرب، بالإضافة إلى أن هناك من يقوم الآن بدوري لديه، مع أنني لم أبتعد هذه الايام عنه لغير صالحه في ترويض خصومه في شرق الأردن».
هنالك ظهرت على وجه بن غوريون علامة الارتياح، وتشعّب الحديث مع بن غوريون في أمور هامة تتعلق في الشؤون العربية ومستقبل اليهود، وأخبرت بن غوريون أن أمير شرق الأردن عبدالله بن الحسين كان في منتهى الشراسة بعد أن أخرجناه من الحجاز، وكان يكنّ الحقد حيناً ويظهره أحياناً لبريطانيا على فعلتها بتسليم عرشه لعبدالعزيز آل سعود، ومن أجل ذلك أخذ يتبنّى العديد من الرجال المعارضين لعبدالعزيز والمعارضين للفرنسيين والانكليز واليهود على حدّ سواء، وهو ما زال يكره ابن السعود ويجعل من الأردن مكان تجمّع لخصوم ابن السعود معدّاً إياهم للعودة بهم في حرب خاطفة يعيد بها ما فقدوه في الحجاز وحائل ونجد
وعسير، فقال بن غوريون: «نحن ندرك هذا تماماً ونقدّر جهودك، والذين اختاروك لاشكّ يدركون ما لديك من مقدرة فائقة على ترويض الأمراء العرب». قلت لابن غوريون: «قبل أيام أخرجت جيش الإخوان المسلمين السعوديين لتأديب الامير عبدالله فهددوا كيانه، فاستنجد بي لإنقاذه منهم مبدياً الكثير من التودد والطاعة لبريطانيا، وبذلك أوعزنا لعبدالعزيز آل سعود بإيقاف جيش الاخوان عند حدّهم قبل أن يدخلوا الأردن وينزلوا فيها الدمار.. الا أن عبدالعزيز لاقى صعوبة في صد هذا الجند البدوي الشرس صعب الترويض والمراس فاضطررت الى اعطاء الامر للطائرات الحربية البريطانية المرابطة في الاردن لتأديبهم، ولو لم توقع الطائرات بهم بعض الخسائر لما تراجعوا وما سمعوا كلمة شيخهم عبدالعزيز آل سعود!.. لكنه رغم ما أصاب عبدالله من هلع كان مازال شرس الطباع ضد بريطانيا، ممّا جعلني أوحي إلى قبيلة ابن عدوان في الأردن بالخروج لضرب عبدالله وتطويق قصر الشونة لإرهابه كنوع من أنواع الترويض، وحينها استنجد عبدالله بي مرة أخرى قائلاً: إنني أعرف أن كل هذه الأعمال ما حدثت إلاّ بعد مجيئك يا حاج فيلبي بغية ثني إرادتي عن مقاومة حبيبكم عبدالعزيز آل سعود.. إنني اعدك بابعاد هذه الفكرة نهائياً، لكنني ارجو إعفائي من مسألة إبعاد الذين لجأوا معي من الحجاز ونجد هرباً من وحشية صاحبكم وجنوده التي أنت أعرف الناس بها. وما مجزرة تربة والخرمة والطائف ببعيدة عن ذاكرتك.. فقلت لعبدالله: إنني أعدك ببذل كل مجهود لحمايتك بعد أن اتضح لنا أنك لا تنوي بابن السعود شراً أما اللاجئين فرأيي بهم كما تراه أنت، هو ألاّ نسلمهم لابن السعود على ألاّ يقوم أيّ أحد منهم بنشاط ضده.. فقال عبدالله: إتفقنا يا حاج فيلبي!.. وهكذا تخلى عبدالله عن أفكاره الوطنية والقومية في غزو
الحجاز أو إثارة أيّ نوع من الشغب ضد ابن السعود بعد أن جمع لهذه الفكرة كل مخلّفات جيشه وجيش والده الهارب من الحجاز، جاعلاً من الأردن «أرض ميعاده الجديدة» لإخراج السعوديين من الحاجز ونجد)..
وأردف جون فيلبي قوله: (وبذلك اطمأن بن غوريون وابتسم معبّراً عن غبطته باستقرار الامور لصالح ابن السعود وبما توصلّت إليه من ترويض للأمير عبدالله بن الحسين، وقال بن غوريون وابتسامة الرضى بادية على وجهه من حديثي: «إذن أنت ما زلت أيها العظيم على علاقة حسنة بالرجل العظيم» قلت لابن غوريون: «من تقصد بالرجل العظيم»؟.. فقال بن غوريون: «وهل هناك مقصود في المنطقة العربية خلاف ابن العم عبدالعزيز بن سعود».. قال بن غوريون كلمة «ابن العم» وهو مدرك تمام معرفتي بتسلسل النسب السعودي المنحدر من قبيلة بني القينقاع اليهودية، ثم أخذ بن غوريون يعدّد لي زعماء وملوك وقادة اليهود الذين دخلوا الدينين المسيحي والاسلامي وغيرهما من الأديان لخدمة الهدف اليهودي والذين حكموا العالم عملاً بتحقيق الغاية الكبرى لبني إسرائيل فأورد أسماء كثيرة. واختتم بن غوريون حديثه عن ملوك وقادة بني إسرائيل عبر التاريخ مفاخراً بقوله:
«وهكذا ترى يا شيخ عبدالله كيف كانوا ملوكنا وقادتنا عبر التاريخ صنّاع حضارة وتاريخ ومجد عن عهد سليمان وداوود إلى عهد ابن السعود» ).. ويتابع جون فيلبي اعترافاته فيقول: (ولما عدنا الى الحديث عن الأمير «الحجازي الأردني» عبدالله الذي نقلناه من الحجاز لإقامة جبرية ينشىء خلالها دولة جديدة في صحراء الأردن السورية أيّد بن غوريون إقامة مثل هذه الدولة على أن تكون مملكة فيما بعد. كما أيد إقامة مملكة ابن السعود قائلاً: إن جذور الملكية هي التي تضرب في
الأرض أكثر من سواها. وقال: «إننا بإقامة هاتين المملكتين ستطمئنّ قلوبنا لوجود سياجين حاميين لدولة إسرائيل المزمع قيامها في الوقت المناسب لولادتها ولادة لا تشويه فيها، وهذا لا يتم بالطبع إلاّ بإقامة التحصينات حولها باسم العرب الذين نثق بهم». وعدت أداعب بن غوريون قائلاً: «أنت قد عدّدت لي الكثير من الملوك والقادة اليهود الذين حكموا العالم لكنك لم تتطرق لنسب ملوك بني هاشم وهل هم من اليهود أم لا؟!..» فقال بن غوريون وهو يبتسم: «حتى وإن كانوا من اليهود فإنني لا أحبذ أن ينتسب الينا أي مهزوم، أمّا نسبنا مع ابن السعود فهو ثابت أكثر من سواه».. وفي نهاية اللقاء طلبت بن غوريون مرافقتي للأردن لمقابلة الأمير عبدالله، ويومها رافقني وأعددت له المقابلة في مسكني ـ مقر المندوب السامي ـ رغم تردد الأمير عبدالله في المقابلة التي قبلها من باب الستدرار عطفي طالباً أن يكون المكان خالياً من سوانا نحن الثلاثة، وفي اللقاء تبادر عبدالله وبن غوريون كلمات الود والتعاطف والمجاملات، وقطع الأمير عبدالله وعده لبن غوريون في تلك المقابلة «بتأييد القضية اليهودية العادلة».. وبعد الاجتماع حمّلني بن غوريون رسالة خطية لعبدالعزيز آل سعود لأسلمها له شخصياً حينما ألتقي به في اللقاء المرتقب، وحينما جئت لأودّع الأمير عبدالله متجها الى الحجاز متمنياً من سموه تكليفي بأية خدمة يريد مني تأديتها لسموّه في الحجاز، إبتسم عبدالله وهو يودّعني ويقول: «إن الخدمة التي أود تأديتها لي هي أن تخلص لي من صميم قلبك بل تمنحني ولو بعض إخلاصك لابن السعود» وسألني عبدالله قائلاً: «هل لي بمعرفة شيء من مهمتك في الحجاز الآن؟» قلت: «إنها يا سمو الأمير «مهمة حج لقضاء حاجة» كما يقول المثل النجدي».. والحقيقة أنني تعودت قضاء فريضة الحج في مكة مع عبدالعزيز كلما سنحت لي الفرصة
لأكون معه قريباً من الله!.. وسافرت من الأردن إلى مكة وهناك قابلت الصديق الصدوق عبدالعزيز آل سعود المتلهف لأخباري، وما أن قابلته في مجلسه الواسع وسألني عن «العلوم» أي الأخبار حتى أفهمته بإشارة يفهمها مني تمام الفهم وتعني «أن فضّ هؤلاء الناس الموجودين في المجلس» ففضهم، ولم يبق سوانا نحن الإثنين ـ عبدالله فيلبي، وعبدالعزيز ـ فطمأنته من أنني صفّيت الوضع في الأردن لصالحه وصالح بريطانيا، ثم قرأت عليه رسالة بن غوريون التي جاء فيها قول بن غوريون لعبدالعزيز «يا صاحب الجلالة.. يا أخي بالله والوطن» وكانت لكلمة «يا صاحب الجلالة» رنة في أذن عبدالعزيز فهي أول كلمة يسمعها عبدالعزيز بعد توليه العرش، إذ لم يتعوّد من عرب نجد سماعها أو دعوته إلاّ باسمه المجرد (يا عبدالعزيز) أو (يا طويل العمر) على أكثر تقدير.. وعندها استوقفني عبدالعزيز عن تلاوتي لرسالة بن غوريون متسائلاً يقول: «لماذا يدعوني ـ بن غوريون ـ صاحب الجلالة وأخوه بالله والوطن؟!» فقلت لعبدالعزيز: إن جميع أهل أوربا لا يلقبون ملوكهم إلاّ بأصحاب الجلالة لأنهم ظل الله في الأرض!..، أما قول بن غوريون عن «أخوّتك بالله والوطن»، «فكلنا إخوة له بالله والوطن وأنت أعرف بذلك!!».. فقال: (ألآن فهمت.. أتمم رسالتك يا حاج» فتلوت الرسالة التي جاء قول بن غوريون: «إنّ مبلغ العشرين ألف جنية استرليني ما هو إلاّ إعانة منّا لدعمك فيما تحتاج إليه في تصريف شؤون ملكك الجديد في هذه المملكة الشاسعة المباركة، وإني أحب أن أؤكد لك أنه ليس في هذا المبلغ ذرة من الحرام فكله من تبرعات يهود بريطانيا وأوربا الذين قد دعموك لدى الحكومة البريطانية في السابق ضد ابن الرشيد وكافة خصومك، وجعلوا بريطانيا تضحي بصديقها السابق حسين لأجلك لكونه رفض حتى إعطاء قطعة
من فلسطين لليهود الذين شرّدوا في العالم» )..
ويتابع فيلبي قوله: «لقد استوقفني عبدالعزيز مراراً متسائلاً عن الكثير من جمل تلك الرسالة، من ذلك أنه سألني عن مبلغ الـ (20) ألف جنيه استرليني قائلاً: «وهل ينوي بن غوريون تهديدي بهذا المبلغ الذي بعثه لي بواسطتك؟ وهل عرفت حكومة بريطانيا العظمى بهذا المبلغ؟ وهل استلامي للمبلغ من بن غوريون لا يغضب حكومة بريطانيا فتقطع عني المرتب الشهري والعون؟..» قلت: «أبداً.. إن اليهود في بريطانيا هم حكام بريطانيا بالفعل، إنهم الحكم والسلطة والصحافة والمخابرات البريطانية، إن لهم مراكز النفوذ الأقوى في بريطانيا، وكانوا وراء دعمك وعونك، ووراء الاستمرار في صرف مرتبك حتى الآن عن طريق المكتب الهندي.. كما كانوا في السابق وراء قطع هذا المرتب لاختبارك هل سترفض أو لا ترفض التوقيع بإعطاء فلسطين لليهود».. قال عبدالعزيز: «وهل اطلع أحد على رسالة بن غوريون هذه»؟ فأجبته: «لم يطّلع عليها سوى أربعة»!!. فبدا على وجه عبدالعزيز الامتعاض الشديد أثناء تساؤله بلهفة عن معرفة هؤلاء الأربعة الذين اطلعوا على الرسالة!: «من هم الأربعة؟؟.. من هم الأربعة يا حاج فيلبي؟.. أنا لا أخشى غضب أحد إلا غضب الله وبريطانيا!» قلت لعبدالعزيز إن هؤلاء الأربعة هم: «الله وأنا وبن غوريون وعبدالعزيز» فضحك عبدالعزيز لهذا وهو يقول: «الله الأول عالم بكل شيء. أمّا الثلاثة الباقون فقد ضحكوا على الله ـ لكنني أسألك عن ـ عبيدالله ـ و على الأخص ـ عبدالله ـ الذي في الأردن ـ هل أخبره بن غوريون بشيء حينما التقى معه؟» ويقصد بذلك أمير الأردن عبدالله ـ الملك عبدالله فيما بعد ـ .. قلت : «لم يعرف عبدالله أي شيء. وأنت تعلم أننا لو أردنا إطلاعه على الأسرار التي بيننا وبينك لما
منحناك عرشي الحجاز ومنحناه غور الأردن».. وانتهى اللقاء بتحميلي وصية شفهية من عبدالعزيز لبن غوريون يقول فيها: «قل للأخ بن غوريون إننا لن ننسى فضل أمنا وأبونا بريطانيا، كما لم ننس فضل أبناء عمنا اليهود في دعمنا وفي مقدمتهم السير برسي كوكس، وندعو الله أن يلحقنا أقصى ما نريده، ونعمل من أجله لتمكين هؤلاء اليهود المساكين المشردين في أنحاء العالم لتحقيق ما يريدون في مستقر لهم يكفيهم هذا العناء»!. ورجعت من «الحج قاضياً حاجتي».. وفي الأردن أخبرت الأمير عبدالله «أن عبدالعزيز بن سعود يسلّم على سموكم وأننا سوف نجري مصالحة بين الطرفين نظراً لما تقتضيه مصلحة الجميع». وفي اليوم التالي لوصولي بلّغت رسالة «صقر الجزيرة» لبن غوريون.. و«صقر الجزيرة» هو الاسم المتعارف عليه في ملفات المخابرات البريطانية. إنه عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود).. انتهى.
مشروع بريطانيا العظيم!
قال تشرشل: «أريد أن أرى ابن السعود سيدا على الشرق الأوسط وكبير كبراء هذا الشرق، على أن يتفق معكم أولاً ـ يا مستر حاييم ـ ومتى تم هذا؛ عليكم أن تأخذوا منه ما تريدون أخذه».. هذا ما قاله تشرشل.
عن مذكرات الدكتور حاييم وايزمن أول رئيس «لدولة اسرائيل» في فلسطين.
وقال: «إنشاء الكيان السعودي هو مشروع بريطانيا الأول.. والمشروع الثاني من بعده انشاء الكيان الصهيوني بواسطته»!..
هكذا قال (وايزمن) وهو أحد كبار الصهاينة الذين أسّسوا الكيان
الصهيوني في فلسطين.. ويضيف نقلاً عن تشرشل الرئيس الاسبق لبريطانيا، والذي كان له دور أولي بارز في تكوين الكيان السعودي والكيان الصهيوني:
(في (11/3/1932) ـ إبّان وداعي للسيد جون مارتن سكرتير تشرشل الذي كان السكرتير العام للجنة بيل، قال تشرتشل: أريد أن تعلم مكرراً ـ يا وايزمن ـ أنني وضعت مشروعاً لكم وهو لا ينفّذ إلاّ بعد نهاية الحرب «الحرب العالمية الثانية» وهذا المشروع هو: أنني أريد أن أرى ابن السعود سيداً على الشرق الأوسط وكبير كبراء هذا الشرق، على شرط أن يتفق معكم أولاً، ومتى تم هذا المشروع فعليكم أن تأخذوا منه ما أمكن أخذه وليس من شك أننا سنساعدكم في هذا، وعليك أن تحتفظ بكتمان هذا السرّ، ولكن أنقله الى روزفلت، وليس هناك شيء يستحيل تحقيقه حين أعمل لتحقيقه أنا وروزفلت رئيس الولايات المتحدة الامريكية)!..
هكذا أسّس الإنكليز (مشروع) العرش السعودي.. كمشروع اوّلي لإنشاء كيان اليهود وإنشاء الانكليز لكيان آل سعود هو (مشروع) اليهود رقم (1) كما يقول تشرشل ووايزمن من أجل اقامة (المشروع اليهودي) الثاني.. هذه مشاريع الاستعمار.. عروش يهودية لحماية كيانات يهودية.. وهكذا تستباح أرضنا في الجزيرة العربية وفلسطين (ومن لا يملك يعطي من لا يستحق).. وكما بدأ تكوين اليهود لآل سعود «كمشروع أولي» باسم الاسلام والعروبة، استمروا بضحكهم ومهازلهم على ذقون العرب وفي مؤتمرات القمم ليستروا بها أدوارهم كلما انكشفت بسراويل قبول القرارات.. والصمت يا عرب، الصمت، «فالصامت عن الحق شيطان أخرس، والصامت على الباطل شيطان أخرس».. حديث شريف.
من خيانات عبدالعزيز آل سعود
في العدد (1637) من مجلة «آخر ساعة» المصرية الصادر في (18) مايو (1966) كتب الكاتب الفلسطيني وجيه ابو ذكرى ضمن مقال طيول بعنوان (هكذا ضاعت فلسطين وهكذا تعود) يقول تحت عنوان (ملوك الذهب والصحراء!):
ثم يأتي الدور الخطير الثالث من أسباب هزيمتنا على أرض فلسطين. وهو دور الملك عبدالعزيز آل سعود. فلم يكن الشعب العربي يطلب منه رجالاً أو سلاحاً.. كل ما كان يرجوه أن يضغط على أصدقائه الأمريكان. لكي يضغطوا بدورهم على العصابات الصهيونية. وكانت وسيلة الضغط: ذلك السلاح الرهيب الذي يملكه العرب حتى الآن ولم يحاولوا إشهاره في وجه العدو.. سلاح البترول.. ولخطورة هذا السلاح أنقل هذه الحادثة:
«انتقل الصراع إلى الأمم المتحدة. وبدأ أمريكا تلعب لعبتها القذرة لتقسيم فلسطين بين اليهود والعرب. ونشط المندوبون العرب لمحاولة إحباط المشروع الذي عرض على الجمعية العامة للمنظمة الدولية، وكان بين العرب الأمير عادل أرسلان. وذهب الى أحد الوفود يستعطفه ليقف بجانب الحق العربي.. فقال له الرجل: «لديكم أيها
العرب الورقة الرابحة. ولكنكم تخشون اللعب بها!» وأشار الرجل إلى وزير خارجية السعودية وكان وقتها الأمير فيصل ـ الملك الحالي ـ وقال له الرجل.. «لو ذهب هذا الأمير إلى جورج ما ريشال وزير الخارجية الأمريكية وهدده بقطع البترول إذا ناصرت أمريكا اليهود. لوجدت هذه القاعة كلها تقف بجانب العرب.»!.
ولكن.. هل هذا هو كل خيانة الرجعية السعودية؟.. لا.. إنها أكثر من ذلك بكثير.
وهنا.. سأترك الصديق الراحل للملك عبدالعزيز يحكي بنفسه قصة عبدالعزيز وخيانته الواضحة لقضية فلسطين.. وصديق الملك كان سنت جون فيلبي، الذي أسلم!. واعتنق المذهب الوهّابي، وأصبح مستشار الملك عبدالعزيز.. يقول جون أو الحاج عبدالله فيلبي أو مستشار الملك.. في كتابه «40 عاماً في البحرية»:
«إن مشكلة فلسطين لم تكن تبدو «لابن سعود» بأنها تستحق تعريض علاقاته الممتازة مع بريطانيا ـ وأمريكا أخيراً ـ للخطر! ويقول جون فيلبي: «وكان مستقبل فلسطين كله بالنسبة ـ لعبدالعزيز آل سعود وآل سعود كلهم ـ أمراً من شأن بريطانيا الصديقة العزيزة المنتدبة على فلسطين. ولها ان تتصرف كما تشاء، وعلى عبدالعزيز السمع والطاعة».
«وكان من أساس الاتفاق لإنشاء الوجود السعودي أن تقوم سياسة آل سعود على أن لا يتدخل الملك عبدالعزيز وذريته من بعده بشكل من الأشكال ضد المصالح البريطانية والامريكية واليهودية في البلاد التي تحكمها بريطانيا أو تحت انتدابها أو نفوذها ومنها فلسطين».
«وكان الملك عبدالعزيز يعلن أن العرب سوف يخضعون لتقسيم فلسطين إذا فرضته بريطانيا العظمى.. وقد تقدمت لعبدالعزيز باقتراح
للموافقة بتسليم فلسطين كلها إلى اليهود مقابل استقلال البلاد العربية كلها. وضمان إسكان أهلها الذين سيخرجون منها بطريقة كريمة»!.
«والرجال الذين حوله كانوا لا يوافقون على آراء الملك بالنسبة لقضية فلسطين. فكان من رأي الملك أنه لا يرى في فلسطين ما يستحق أن يحمله على شل علاقته ببريطانيا وأمريكا».
ويبدو أن هذه الإعجاب كان متبادلا بين بريطانيا وأمريكا وبين الملك عبدالعزيز في الفترة الأخيرة في حياته التي تلت الحرب العالمية الثانية مباشرة، وأنه قد حمله ونستون تشرشل زعيم بريطانيا على التفكير بأن يجعل من الملك السعودي زعيما لا ينازع للعالم العربي!».
«لقد أعلن الملك رأيه بصراحة بأن العرب لن يوافقوا على التقسيم أو يعترفوا بأيّ حق لليهود في فلسطين، ولكنهم سيذعنون حتى إذا ما فرضت بريطانيا عليهم التقسيم».
لا أعتقد أن هذه الآراء في حاجة إلى مجرد تعليق، ولكن ـ والحق يقال ـ إن الملك عبدالعزيز قد حزن حزناً عميقاً في أعقاب هزيمة الجيوش العربية في فلسطين.. واسمعوا من مستشاره ـ جون فيلبي ـ سرّ هذا الحزن العميق!.. يقول جون فيلبي:
ـ «.. وكان انتقال الجزء العربي الذي احتفظ به من فلسطين الى ملكية عبدالله ملك الأردن أمراً أكثر مما يستطيع الملك عبدالعزيز استساغته»!.
«لانه كان يريد ضمه إليه أو إلى اسرائيل، ولذلك وقف في الوقت نفسه موقف المعارضة من إنشاء حكومة عموم فلسطين في قطاع غزة الذي يحتله المصريون، لأنه يخشى أن تقوى هذه الحكومة فتثير القلاقل من جديد ضد اليهود. وقد اتفق مع تشرشل رئيس وزراء بريطانيا وكذلك مع الرئيس الامريكي روزفلت على توزيع الفلسطينيين في البلاد
العربية، ومن أجل ألاّ يكون للفلسطينيين أيّ كيان، قام الملك عبدالعزيز آل سعود بإغراء جمال الحسيني ـ الذي عينته حكومة عموم فلسطين في غزة ـ وزيراً لخارجيتها، أغراه عبدالعزيز ليصبح من مستشاريه في الرياض مقابل مبلغ غير قليل من المال بناء على طلب من أمريكا وبريطانيا كما عمل عبدالعزيز لتفتيت بقية ـ حكومة عموم فلسطين ـ بالمغريات وغيرها»!..
هذا هو الموقف الصريح للرجعية اليهودية السعودية، ولكن أحداً لا ينسى بطولات الكتيبة «العربية» التي خرجت أفراداً من الجزيرة العربية دون رضا آل سعود، واستشهد معظمها بعد أن اشتركت في الحرب كان مقدارها (700رجل) ومع ذلك تبنّاها عبدالعزيز بعد أن نالت سمعة جيدة لكنه فتتها وقال: «إن بريطانيا أرادت إقامة اسرائيل.. وستقوم إسرائيل»!!.
الكويت وتصدير الخيانة السعودية
هرب عبدالرحمن بن فيصل آل سعود وابنه عبدالعزيز الى الكويت عام (1891) بعد أن قضى شعبنا ـ في نجد وحائل ـ وللمرة الثالثة ـ على حكم وتحكّم آل سعود الممثل بعبدالرحمن آل سعود وأسرته، لكن شعبنا كان بهم رحيماً ـ ويا للأسف ـ حينما أكتفى الشعب وحاكمه آنذاك «قصير النظر» أو «طيب القلب» أو المعتد بنفسه الأمير محمد بن عبدالله آل رشيد، بجلب عبدالرحمن ابن فيصل آل سعود وبقية أسرته الصغيرة بالإضافة الى محمد بن عبدالوهاب وأسرته.. من العارض (الرياض حالياً) ليضعهم في حائل في غاية المعزة والإكرام.. وكان الأجدر به إنهاء وجودهم.. والأسوأ من هذا الذي فعله محمد بن عبدالله آل رشيد أنه سمح لعبدالرحمن آل سعود وأسرته للسفر بحجة «النقاهة»
[ 75 ]
في العارض (الرياض) رغم ادراك ابن الرشيد لمعنى «النقاهة» السعودية التي لو أرادوها «نقاهة» حقيقية لوجدوها في حائل ذات الأجواء العطرة الجميلة، وما أن وصل عبدالرحمن الرياض حتى قام «بانقلابه» ضد «سالم السبهان» منصوب ابن الرشيد.. ويومها لم يتركه محمد بن عبدالله آل رشيد بل أرسل حملة لتسحقه، وادّعى وقتها عبدالرحمن: «أنه اضطر للقيام بانقلابه ضد سالم السبهان لكونه أهانه، وأن حركته ليست موجهة ضد ابن رشيد» وكان عذره أسوأ من فعله، لكنه لا أسوأ منه ـ فعلاً ـ إلاّ محمد بن عبدالله آل رشيد المعتد بنفسه، حينما تظاهر بتصديقه، وتركه يقيم مرة أخرى في الرياض حتى بعد قيامه بالانقلاب فهرب منها الى الكويت وهناك استضافه حاكمها مبارك الصباح، فأكرمه وبقايا اسرته، وبما أن مبارك الصباح كان وقتها على ارتباط مع تركيا في الوقت الذي كان فيه يغازل الانكليز، فقد قام مبارك الصباح بجمع عبدالرحمن آل سعود وابنه عبدالعزيز بالقائممقام التركي وأجرت له تركيا مبلغ ـ (70) روبية ـ أي ما يعادل أربع دنانير كويتية ـ كمرتب لعبدالرحمن وشقيقه محمد وابنه عبدالعزيز وبقية أفراد العائلة المكونة آنذاك من (15) من الرجال والأطفال والنساء وخمسة من الطفيليين الخدم، فيصبح مرتب كل واحد منهم ما يعادل خمس (1) قروش «سعودية» شهرياً، أي «هللة» في اليوم!.. كما أعانهم مبارك الصباح بالرز والتمن والكساء وأهداهم ثلاثة من الحمير للتنقل عليها، إحدى (2) هذه الحمير لعبدالرحمن، والثاني لمحمد، والثالث لعبدالعزيز، وكانت الحمير الثلاثة تلك بمثابة