روايات

البلد. هجمت عليه، قبلته، عانقته.
-هل يسمح وقتك؟ دقرت أستشف صدى كلماتي.
أطرق برأسه إلى الأرض متبرماً.
-لدي كل الوقت.
يحيرني هذا الحبيب، يضعني في حلبة سباق مع الزمن وأنا لا أجيد الركض والقفز العالي، ألا يتعب؟
-سألني:
-أتودين المشاركة بمهرجان موسكو مع شبان الجامعة. لديك فرصة كبيرة، أصبح اسمك معروفاً.
-أنت تمزح.
-لِمَ لا، حاولي، وسأحاول من جهتي. سأسافر قريباً إلى بلغاريا لحضور العيد الوطني ومن هناك أتابع إلى موسكو. من يدري؟ وضحك.
تركني وحدي أواجه تحدياً، وقفزة نوعية قد تودي بي إلى كسر رقبتي.
-يا إلهي، يا إلهي، هل أقوى؟
لا تقارب المشكلة هذه المرة أية مشكلة أخرى، فإن تخطيت أشدها وعورةً وتملصت من الإنزلاق في هاوية الرضوخ حتى الآن، فهذا لا يعني إطلاقاً بأن الحظ سيحالفني دوماً. السؤال الصعب الذي يطرح نفسه: كيف أمهد السبيل مع عقول تؤمن بأن الإتحاد السوفييتي بلد الفسق والإلحاد وشيوع النساء، وأن الأطفال أطفال الدولة، كيف أفسر لأهلي بأنها دعايات خلقتها وأشاعتها الرأسمالية الغربية خوفاً من مدٍّ إشتراكي شعبي يرعبها ويهدد مصالحها في الشرق الأوسط؟
كيف أباغتهم بطلبي هذا الذي لم يجرؤ عليه إخوتي الشباب وآخرهم سامي الذي تلفح بعقلية تويجر.
اهتديت إلى أسلوب المباغتة. المباغتة في الحرب طريق النصر نفضت أمام أهلي ما بجعبتي مرة واحدة.
-إختارتني الجامعة مع عدد من الطالبات لتمثيلها في مهرجان موسكو، وهذه ميزة كبيرة وفرصة قد لا أنالها في سنوات مقبلة.
استدرت متراجعة متشاغلة حتى لاتقع عيني في أعينهم الدَهِشة لحظتها لن يسعني الانفلات من شباكها.
سمعت أمي:
-ما هذه البنت المجنونة- تطلع كل يوم بفن جديد، تود لو تأكل الدنيا وتهبجها ليتها تزوجت ذاك البدوي، وبقي همها في قلب زوجها. والله أنا خائفة عليها.
لم يرد والدي، ولم ينبس بكلمة. هل سيجري عليّ الحد، ويمنعني من مغادرة البيت إلى الجامعة مثلما ود أخي لو يفعل؟ لعله سئم تمردي. ماذا يبيت في سريرته؟ يلتزم صمتاً مريباً يطول، وقلبي يخفق ويخفق.. نجاحي وفشلي على كف عفريت..
لبث في زاوية أتنصت. لم أسمع شيئاً، هربت إلى غرفتي، وفتحت كتبي، حاولت أن ألخص أفكاراً ليونع، وآدلر، اشتغلت بهمة فائقة حتى خارت قواي، وتعبت عيناي ها قد دخل حياتي عامل آخر. السفر.
هل أسافر، أم لا أسافر....
من أجل أن أخفف من قلقي قرأت شيئاً من غوركي في الأم مرة أخرى، ومقاطع من الحرب والسلام لتولستوي، فاجأتني روعة العبقرية وصلابة الإنسان، كما أرعبتني سهوب سيبريا وصليل سلال ديستويفسكي.
-ترى كم مر على الإنسانية من حكام وظلام وقطاع طرق نهبوا الأخضر واليابس.
من غرائب الصدف غير المقولة، أن تنقر دجاجة رأس ديك. عارض أخي عادل، ودعمتني أختي هدى التي جاءتنا ضيفة لمدة يومين في طريقها إلى مصايف بيروت.
أصبت بالإحباط من موقف عادل الإنسان المثقف الهادي الذي يناقش وينظّر بخط قومي عربي مع أستاذه ميشيل... أخي عادل المثقف المتفتح وصفني بالتهور والأنانية.
بدت ثورته العارمة غير خاضعة لأي منطق. فجأة تحجر عقله وتبخرت نظرياته المبثوثة في زوايا الصحف حول دور المرأة الرفيقة في نهضة الأمة. وحلت محلها تقطيبة دائمة بين العنين. أعقبها صمت وقطيعة شبه كاملتين. لم يعد الحامي من شطحات هشام الفقاعية. بل أضحى المتسلط الذي يشن الهجوم المركز آن يستطيع ذلك حتى يثبط همتي. قلبت الأمور على وجوه عدة علني أجد تفسيراً لتحولاته.
-هل يخاف الجريء على اسمه من أخت ستسافر إلى بلدٍ شيوعي لا يعرف الأخ أخته فيه وإلى مجتمع مجهول ملحد مليء بالأخطاء. هل يخشى على منطلقاته التحررية من الإنهيار؟ ناقشت الأسئلة جميعاً. زادني الازورار عناداً وتشبثاً. ورحت أرتب أموري شيئاً فشيئاً، فما عدت ألتقيه على مائدة الطعام، أو في سهرة العائلة، خلقتنا جواً تعيساً في البيت لم يرض عنه والدي.
من جانبي بدأت انحت بإزميل دقيق حاد في تزمت عادل أمام العائلة وأتكتك مع أبي. ناقشنا الإحتمالات. وجدتني أدخل في دوامة محكمة صارمة وأمثل أمام قاض. قمت بدور المحامي بجدارة، تطوي الأيام أحلامي وأنا أحارب على عدة جبهات محرومة من الجامعة والمدرسة ومنبوذة في البيت ضمن عشيرة في قلب قبيلة لا تؤمن حقيقة بجوهر حرية المرأة إلا من خلال الكتب النظرية.
يشد أحمد أزري حتى لا ترتخي قوتي. برزت هدى بكل ثقلها وروائها وهمينتها على العائلة التي غادرتها صغيرة لتعيش في جوٍ آخر تحوطها الأبهة والارستوقراطية. رغم هذه المظاهر التي تستميت تحت أقدام المراسم، رغم هذه التبعية الخالصة مدت لي أملاً حريرياً، ويداً أتوكأ عليها في نقلتي تلك، وتطلعني نحو السفر، نحو الأفق البعيد.
أعلنت عن رأيها بصراحة وثقة أمام الجميع. مهدت لحديثها بأمثلة كثيرة عن البنات والسيدات اللواتي يقمن بأدوار راقية تعلو فوق المطبخ وإنجاب الأولاد والتنظيف.
-بابا، يجب أن تنزع سدادة الفلين عن طموح سلمى. بابا الحياة لا تعود إلى الوراء في زمنٍ دخلت فيه المرأة ميدان العمل، وخلعت الحجاب، هل تصدق أنني أدرس البروفيه مع أولادي هذه السنة سأتبعها بالبكالوريا فالجامعة.. زوجي معي خلف كل خطوة صالحة أرجوها. فلماذا نكبت طموح زهرة متفتحة نحو الجيد من اللامألوف؟
استدارت نحو أمي:
-ماما سلمى، مختلفة عنا، إتخذت طريقاً، ما يسعدنا قد لا يفرحها ثم قامت من مكانها، وقبلتها من رقبتها، ودغدغتها من خاصرتها. سألتها.
-أما كنت تحلمين بالسفر؟ يجب أن تتعرف سلمى على العالم. وهذه فرصة لإختراق ألوان قوس قزح في سماء أخرى. صارت حكيمة نفسها فلتواجه التيار وأنا على ثقة أنها ستطفو أما إذا أخطأت فعندئذٍ الحساب.
-هكذا ببساطة؟ ردت الوالدة.
أفعمتني الدهشة. بل سحرني بيانها. لم أصدق ما سمعته أذني. هذا المنطق، وتلك القدرة على الإقناع أين كانا، لم تخبأت هذه المرأة خلف الأستار طويلاً، ولماذا ابتعدت عني، وتركتني أواجه المشكلات وحدي. ما هذه الأحجية؟ ما أغباني عندما فتحت عيني على الدنيا ولم أجدها، ظننتها ماتت، رأيتها صبية مدللة بين يدي زوج يتقدمها بأشواط في العمر. يضحك بمقدار، ويأكل بمقدار. إعتبرتها ميتة. كيف استطاعت أن تنتشل نفسها من سلاسل الرسميات، والدعوات والنوادي المختلطة؟ وَعَتْ ذاتها وحققت شخصيتها من حيث لم تحتسب، ولا نتخيل البنت المدللة وقد صارت ربة عائلة وسيدة نفسها. هل أرادت أن تحقق المزيد من ذاتها من خلالي. أم تنتقم من إرث بالٍ حال دون استمتاعها بطفولة بريئة؟ أم أن تلك الحياة الأرستوقراطية لم تكن حقاً فارغة ولا تافهة كما ظننت، وإنما أكسبتها صقلاً رائعاً أضيف إلى ثقافتها الأجنبية الأولية؟
غادر ((عادل)) بمهمة مجهولة إلى المحافظات في وقت كنت بأشد الحاجة إلى غيابه.. تنفست الصعداء.. فقد فك أسري، وانفكت عقد العائلة.
ثبّتت دعوتي إلى مهرجان الشبيبة ككاتبة شابة.
قرر أبي السماح بسفري، لكن ليس قبل تأكده من أن الوفد يضم العديد من البنات ومن السيدات المعروفات.. وفاض علي فزودني بالرسم الرمزي للرحلة وأجرة السفر: أربعمئة وخمسين ليرة سورية.
ملأت هدى حقيبتي الجلدية الرمادية بالهدايا دون أن أدري، هدايا شامية، علب موزاييك، أقراط فضة مشغولة بصبر الدمشقي الفنان، قطع بروكار، عباءات مقصبة.
تذللت فجأة كل العقبات، لم تعد الأرض تحملني، صارت الرحلة هوس ليلي ونهاري. دارت برأسي الأحلام. حرة طليقة أنا، سيدة قراري، ما من رقباء، ولا تعاليم...
بحر وماء وسماء، اللاذقية، البوسفور، أوربا، ثم موسكو بالقطار، سأتفرج على العالم، أناجي القمر حرة مع أصدقاء العمر... بيدي هاتين أمسك زمام أموري.
في السابعة مساء، التقت جموع المسافرين في ساحة المرجة، هرج مرج وتجمع الباصات وكأننا في عيد.
لوحت لأبي وهدى من النافذة، لم أصدق أنني وحدي، وحدي دفعة واحدة، ومن عرين الأسد أخرج؟
تحرك ركبنا في أجمل ليلة صيفية مقمرة، هب نسيم عليل، وبدأ الشاعر محمد حديثه الضاحك، تفنن في رمي النكات الساخرة، ما هي إلا لحظات حتى استقطب ركاب الحافلة فالتفوا حولنا ليشاركوا معنا في ايقاد الفرح والظرف، النكتة تلو النكتة.
صباحاً شممنا رائحة البحر، رائحة السمك، أجمل بحر في العالم، بحر اللاذقية، صفحة زيت تجعدت بشرتها بنسائم لطيفة، قرب الشاطئ ربضت باخرة بيضاء أطل من سطحها بحارة بلباسهم الرسمي، رفرفت أعلام وزينات، وعلا مكبر صوت باستقبال موسيقي مهيب.
من سطح الباخرة بدا صف من الملاحين الشباب يتقدمهم الربان.
تجمعنا أمام السلم المرخى، وقفنا ننتظر التوزيع، نادوا علينا بالأسماء، وجدتني في حجرة ضيقة بنافذة مدورة تلطمها الأمواج تتسع لسريرين نضدا فوق بعضهما.
فوجئت بزميلة الندوة ناديا في الحجرة ذاتها، مع انطلاقة الباخرة هرعنا عشرات إلى السطح نتفرج على اللاذقية مستحمة بشمس الصباح وتبتعد عنا، فما غفوت بعض الوقت حتى صحوت على آلام في بطني ودوار في رأسي.
غالبته فغلبني، نهضت فدارت بي الدنيا، تشبثت بالباب، لم أعد أميز ما حولي، لم يوفرني دوار البحر أبداً منذ اللحظة الأولى للسفر، مثلي تساقط الرفاق واحداً تلو الآخر، والبحر يستل رويداً رويداً القوة من أبداننا ويتركنا في حالٍ من الإنهاك والصفرة البشعة، عمل البحر ضدنا ثلاثة أيام متوالية.
اكتشاف تلو الإكتشاف، ووجوه تترى خلف وجوه، وصداقات تعقد، والسفر أحلى كشاف لنفسية الناس، تبادلنا العناوين والأحاديث حول موائد الطعام، وتأرجحنا مع اهتزازات السفينة فوق موج البحر الأسود، شاهدنا شروق الشمس وغروبها وراقبنا في الليالي القمراء السمك بتقافز فوق الماء، يماشي سفينتنا ويناكدنا، ويماحكنا، يدعونا إلى الغوص معه، ثم يمل أعيننا، فيغيب، مع آخر فجر أرخيت المرساة عند قدمي أوديسا المتعالية ببيوتها الجميلة وسلالمها الحجرية المحفورة في التلال المشرفة على الطريق الملتف بطبيعته الخلابة، بدت أوديسا منارة مضاءة بنجوم متلألئة عبر بيوت الناس، تنسرب ألحان راقصة من مؤخرة السفينة تطلق وداعها الفرح بوجوه مستبشرة منطلقة، يرقص البحارة ويدورون، ينتشون، يتسلل الوجد إلى أفئدتنا، نحاول أن نغني جماعياً، ولكننا لا نجيد الغناء، نحاول أن نرقص، فلا نعرف كيف نرقص، فقط نعرف كيف نحزن، ونأسى ونبكي، شعرت بطعم المرارة في فمي.. هل حقاً سألتقي أحمد في موسكو.
تجولنا في المدينة الرائعة في طريق مسلط على البحر ثم انقلنا إلى محطة القطار، كان القطار أنيقاً جداً تشع النظافة من ثياب الأسرة الجديدة والستائر البيضاء المنسدلة على النوافذ، أكسبتنا المظاهر الحضارية راحة نفسية، تهالكنا على المقاعد، وقد عضنا الجوع، رتبنا حقائبنا، ومشينا نبحث عن المطعم، اجتزنا عربات كثيرة، في مقطورة المطعم كانت في انتظاري مفاجأة...
وجدتني أمام أحمد... هل أفرك عيني؟ أحمد بشحمه ولحمه أمامي مع الشاعر سليمان، يا إلهي، كيف يفاجئني على هذا النحو؟ تجمدت مصلوبة في مكاني وإذ شعر هو بحرج موقفي نهض عن كرسيه واتجه نحوي.
-الحمد لله على السلامة.. سبقتك بليلة كاملة.
-لم أجد كلمات أعبر بها عن دهشتي وفرحتي في آن واحد. أخذ بيدي وجلسنا إلى مائدة.
-أنت سادي.
تدخل سليمان وهو يراقب الموقف الغريب باسماً:
-قلت له ذلك قبلك.
-ألا يفرحك حضوري؟ على كل حال، اسمعي التقيت بشاعرنا سليمان في صوفيا، وطلبنا من مضيفينا البلغار إيصالنا إلى أوديسا لنرافقكم بدلاً من نقلنا إلى موسكو مباشرة.
-هكذا إذاً.

-أما كانت فكرة حلوة؟ أخذنا الطريق مقاطعة.. واقترب مني هامساً: من أجلك... ما عاد بي صبر على فراقك.
-شد كرسي نحوه، وأجلسني قربه، قبلني كعراب أمام الجميع.
نبرت خجلة:
-أراك تأقلمت مع جو صوفيا، وهات يا حرية؟
-يا ستي تأثرت، عندك مانع...
-ضحك سليمان وقال:
-ما رأيت حبيبين إلا تخاصما.
تفرست في وجه أحمد:
-خمسة عشر يوماً أعادتك إلي رشيقاً.
تلمس صدره بيده، ثم قهقه:
-رأيت نحولي، ولم تلحظي اشتياقي، حظ عاثر؟
ضحكنا ثلاثتنا.
-نشرب القهوة؟
-بل أنا جائعة.
دفعني من كوعي، تملص سليمان من رفقتنا بلباقة بعد تناول الطعام مباشرة.
-إيه، أخيراً وحدنا لارقيب ولا نظير.
-لا يعرف الطائر الحبيس ماذا يفعل بحريته، نبست.
-انس نفسك، ومن أنتِ. تنشقي الحرية بملء رئتيك.
وضع يده فوق يدي على الطاولة.
-مرحباً أستاذ أحمد.
ألقت ((نادرة)) تحيتها الخبيثة، وكأنها تسجل نقطة علينا.
جلسنا قرب النافذة الملمعة، نحتسي القهوة نطيل بقاءها في حلقنا، ونمتصها قطرة قطرة... غرقنا في لهفة التعبير، وتعثر التعبير، عاد يمسك كفي ويعصره.
-تأكلنا العيون...
-دعيها... فلتأكل جوعها...
-قال بعد قليل ونظرته تعبر النافذة الصغيرة المستدير.
-ما هي سوى أيام نقتنصها من فم السبع.. بها نختصر حياة. الآن بدأ عمرنا هكذا يجب أن تفكري، كفانا تشرداً، وملاحقة وخوفاً، أنت لي، وأنا لك.
هززت رأسي وجلة.
-هل رأيت بقية الرفاق؟
-جميعاً، إلا ليان، لم أره... البقية رافقوني من دمشق حتى اللاذقية في الباص ذاته.
لكزني من كتفي منبهاً.
اقترب منا ثلاثة شبان، بنتان سمراوان، وشاب منمنم، نهض أحمد مسلماً ومعرفاً.
-أهلاً بناديا بطلة الغساني، ونينا. سهيل أصغر وأذكى مترجم في سوريا.
من ينسى سالومي؟
-تشرفنا: ابتسمت بود.
تعارفنا، توافقنا، ولم نفترق طوال الرحلة.
عدت إلى سريري، وجدت مدرسة التاريخ وقد لطخت الوجنتين بالأحمر الفاقع. تعثرت في رحلتي تلك بنماذج إنسانية متنوعة، مختلفة المشارب والأهواء تحتاج إلى صفحات، أحببتها بأخطائها، وعقدها ومحاسنها، بإقبالها وإدبارها، كلنا سواء، نحمل رواسبنا أنى حللنا ولا ننسى شرقيتنا تكومت، غفوت على هدهدة القطار.
في الصباح، غيرت ملابسي، وتوجهت نحو المطعم، وجدت أحمد بين مجموعة من رفاقه. حنا، شوقي، ناديا، محمد، سهيل، نينا، شحادة.
-تتهادى هناء كنار الرحلة، بقامة مهيبة، بيضاء غضة، مفعمة بالأنوثة، تتحرك بدلال، دارت بعينيها الزرقاويين على الحاضرين ثم ارتدت خائبة.
علقت نايا بخفة:
-فشلت جولتها الصباحية، فتاها غائب يعلم الله أين حط ومع من.
-تقصدين الضخم بطل الكمال الجسماني؟ سأل حنا مغتاظاً.
قام عن كرسيه، لحق بها، رص على أسنانه، يطحن غيظه، يود أن يمزقها يشتمها، نبر بصوت متهدج: يحرق.... د.....
شده أحمد من كم قميصه مداعباً: ومن الحب ما قتل، بهدلتنا يا رجل، تماسك، لم تتعب نفسك، ليست لك، عندها رفيق حلو جميل ولست مثله.
يغرس حنا عينيه يائساً في وجوه رفاقه وفي حبات المسبحة المرمية على الطاولة، يكورها بين كفيه، يضغطها... يتنفس ببطء:
والله ذبحتني، يحرق د... تعرف نفسها، وتعرفني تريد أن تقتلني أن تمزقني، ذبحتني... والله ذبحتني أنا متهالك أمام هكذا جسد، اتركوني، وحدي بالله عليكم،
ولكنه هو من ترك الطاولة،... غابت قامته بين المجموع.
انضم سليمان إلينا...
-حرملك، وسلاملك هنا، ومثلها هناك.... مللت هذه الرحلة بالله.
-دعنا من أحاديث البنات والشباب، ما الجديد في الشعر؟
-((برتقالي معلق)) قصيدة جديدة، غداً نصل موسكو، وفي ساحة الكرملين وتحت القبة الزرقاء.. حيث لاتنام موسكو، ولا تعرف الليل، سأسمعكم إياها.
-وعد؟
-وعد.
أشعل سيكارة... طاتلي سرت....وسار الهوينا نحو عربة التدخين. تدعونا أنغام الموسيقى، نركض معاً، نتكاثر في المطعم، فجأة ينزلق من وفدنا جسدان غضان يرقصان، سرت عداوهما إلينا، حاولنا أن نحرك أرجلنا، مسحت صدري بيدي، لأجفف العرق، فالجو حار خانق، والقطار يخب ويكاد يغيب صوته. وصلنا محطة أخرى.
امتلأت عربات القطار بأنواع الورود، دارت رؤوسنا من رائحة الأزاهير، تجمع في المحطة مئات الناس نساء ورجالاً تحت المطر الغزير الصيفي، يرفعون رايات الترحيب، ينشدون أغان روسية حميمة، لا يمكن أن نفهمها، ولا نستطيع أن نستوعب معانيها وأمداءها، غمرتنا المشاعر العميقة فبكينا، تساءلت:
-هل يقبل الإنسان على إنسان غريب بهذه اللهفة، هل تختلط الدماء مع الماء يوماً ليصبح الجميع أخوة، لا حرب، ولا مؤامرات، ولا أسلحة، ولا قنبلة ذرية، مستجيبين لنداء السلم، يا لهؤلاء البشر، أية قوة ديناميكية تحرك عواطفهم، وتدفعهم في الليل والنهار وتحت المطر كي يقفوا الساعات الطوال في المحطة وليهتفوا لنا كفاتحين.
((مير.... دروجبا))) سلام صداقة
ماذا تريد الشعوب أكثر من سلام وخبز وماء وحب وحرية...؟!
سماء زرقاء، طقس ربيعي في صباح موسكو تجمعنا في ساحة كبيرة توسطت الفنادق المعدة لاستقبال الوفود، تفقدنا حقائبنا، ضم فندق الوفد السوري غرفاً لا نهاية لها. صالون كبير أفضى بنا إلى متاهة دهاليز امتدت طولاً وعرضاً التفت من حول طوابق حديثة بيضاء مثل الثلج، توزعنا الغرف بالأسماء.
أنا، وعفاف، ومنيرة باقة منسجمة امتدت جذور معرفتها إلى مقاعد الدراسة الإبتدائية.
ارتميت على سريري اتفقده، اتشمم رائحة النظافة المنعشة على الشراشف البيضاء.
تباعد عن وعيي حديث الصديقتين، ورحت في سابع نوم حتى صباح اليوم التالي، شبعت نوماً وراحة، هرولت فرحة نحو الشلة، كانت بينهما الجثة الهائلة لصديق الكل، وحبيب الكل مئة و عشرون كيلو من الطيبة وروح النكتة وخفة الدم.
قلت ممازحة بلهجة تمثيلية بطيئة متوجهة إليه:
-لتكن دليلنا ونقطة تلاقينا يا محمد.. الحيز الذي تشغله شكل نقطة علام حيثما كنت.... ضعنا ضمن الزحمة في هكذا متاهة.
تنحنح في مقعده وخلص جسده منه بصعوبة:
-من أجل عينيك، ونكاية بهذا الذئب أحمد أنا حاضر.
مد لي يده السمينة كنبيل فرنسي ومددت يدي. علق أحمد ضاحكاً:
-أين أين يا جماعة نحن هنا؟ نحن هنا....
ضمن التنظيمات الهائلة للمهرجان خصصت لكل مجموعة عرقية وجغرافية مطاعم تناسبها.
وجدنا أنفسنا ضمن مطعم سوري بكل أطايبه ورائحته، ومطبخه، تجولنا في المطاعم الأخرى، هذا فرنسي، وذاك إنكليزي، وذاك صيني، لكل وفد ذوقه وطعامه. بين الجموع المتلاطمة صدمت بالأستاذ ((رفيق)) صاحب سوسن التي قتلت على عتبة المدرسة يتأبط ذراع طباخة روسية قمئية قصيرة، تذكرت الرسائل الزهرية، ولعله تذكرها، احمر وجهه خجلاً.
وقفت مشدوهة أمام حرارة لقائه.
-أهلاً سلمى، يا للمفاجأة الرائعة؟
انغمسنا بلقاءات ثقافية وفنية معدة مسبقاً، لقاء تاريخي مع ((بولغانين)) بحضور سفيرنا الدكتور جمال، والأستاذ خالد والتلفزيون، وجهاً لوجه مع الزعيم السياسي الذي أوقف الاعتداء على مصر إثر تأميم قناة السويس عام ست وخمسين وتسعمئة وألف.
رمى نكات غير متوقعة، وضحك ببساطة آسرة نابعة من بساطة الإنسان الطيب لشعب طيب.
كرّم الشعبُ الطيب شعبنا الطيب. رأيت على المسارح الكثيرة المتناثرة بين الأحياء، وجهاً سورياً، وفي اللقاء الثقافي وجهاً سورياً، وفي المعارض الفنية وجهاً سورياً، خمسة عشر يوماً من الأعياد المتواصلة المتكاملة التي لم يبهت لونها، وأخيراً أقيم حفل الختام في الكرملين، قصر القياصرة، والأباطرة، والثوريين، آلاف من سحنٍ مختلفة رقصت على أغنية المهرجان ((مساء موسكو))، موسكو فيتشر.
هيمن الانبهار علينا، تساءلنا بخشوع هل داست هذه الحدائق أقدام ايفان الرهيب، هل، هل،.....؟
بطلب من إذاعي سوري يعمل هناك سجلت بصوتي قصة ((الورقة الصفراء)) اشتريت إسطوانات كلاسيكية لعباقرة الموسيقى.
لا يقوى وصفي أو قلمي على الإلمام بالغنى النفسي الكبير الذي اختزنته ذاكرتي من تلك الرحلة، حملت تجربة لا يعدلها ما قرأت من كتب، وحكايا إلى آخر العمر، التواصل الإنساني، التواشج، الصدق، في عالم مغاير لعالمنا، بعيد عن عاداتنا، وتقاليدنا، قريب من طيبتنا واستمرارنا وصراعنا وحبنا للحياة... فجأة انساحت القارات بحب في هذا المهرجان، وافعمت روحي هوى بالحرية وباستقلال الإرادة.
رجعت إلى بلادي، إلى جوي، كنت سعيدة، ممتلئة حتى آخر قطرة ممكنة.. لا شيء، لا شيء، وما من أحد يمكن أن يعيدني إلى القمقم بعد الذي عشت ورأيت.
 
بدأت أتعرف على مهنة الكتابة كحرفة موازية لدارستي في كلية الأدب، فلم أعد مجرد هاوية تغتبط برسم اسمها على صفحات الجرائد، ربصت الكتابة بثقلها فوق كاهلي،
أصبحت مسؤولة عما أكتب، أحاسب، وأنقد، وأقدم توضيحاً لأفكاري.
أيقنت بعد محاولات جدية، أن الأدب ليس كتاباً يقرأ، ولا قصيدة ممتعة، ولا حديث عابر.
أريد، أحب، أرغب بزاوية لي في صحيفة، غير أن الصحف في بلدي تلتهم العمل الفني التهاماً دون أجر، وعلى المرء أن يتبرع مجاناً بأفكاره، قد تعقبها كلمة الشكر، أولا شكر.
تحاورت مع أحمد حول عمل في صحيفة الفيحاء، لم ألق جواباً شافياً، قلب شفتيه وهز برأسه:
-كم بطيخة ستحملين بيد واحدة؟
ركبت رأسي معاندة، قدمت طلبي إلى رئيس التحرير فائز. تملاني متيقناً من جدية القول ورغبة الدخول إلى عالم الرجال، خجلت من الخوض في موضوع الراتب كالعادة، تركت الأمور سائبة، فأنا لا أشكو تقصيراً، وماتزال الدنيا فسيحة مفتوحة أمامي. نبر الأستاذ مقاطعاً أفكاري:
-طيب، تبقين فترة تحت التجربة، أقترح عليك موضوعين اختاري أحدهما:
تحقيق عن الطوالع السبع في دمشق. أو يوم في حياة أسرة دمشقية من حي شعبي.
-ويلي، أين هي الطوالع السبع؟ في دمشق، أم حماة؟
اكتشفت أني لا أعرف شيئاً عن دمشقي ولا أحيائها، فقط مجرد أسماء أقرأ عناوينها في طريقي إلى المدرسة، وحتى الأحياء الكبرى كالقيمرية، أو القصاع، أو باب توما، أو الميدان، ما كنت أدري عنها إلا القليل.
هالني الأمر وأنا المحاصرة بمئة سؤال وجواب في البيت. وقفت حائرة:
-من أين أبدأ، من الحارات المتفرعة عن خط الميدان أم الشاغور أم السويقة، وباب الجابية. أم شيخ محي الدين وحي الأكراد. كلها أماكن خلقت في ذاكراتي صوراً صوفية عن المروءة والكفاح لا تلطخها عتمة الفقر والجهل.
ترددت في خطواتي.

-كيف سأدق الباب على عائلة غريبة لم أزرها في حياتي، وأقول لها:
احكي لي عن همومك؟!
حملتني الخواطر إلى آفاق متشعبة صعبة التحقيق في جو مغلق على أسراره. يؤمن أناسه بالفقر الأبيض ويرفض الخوض في الفقر الأسود. يموتون ويعيشون بلا حكايا معلنة ترن في جنباتها الضحكة. رغم كل شيء اتخذت قراراً صعباً بالولوج في حياة أسرة دمشقية من حي شعبي.
إلى ذلك الحي الذي لا يصله ترام، ولا سيارة توقفت أمام عتبة منزل حجري سوداء خلع الأولاد أحذيتهم المهترئة خارجها. طرقت الباب متوجسة. أطل صبي في الحادية عشرة يهرش عرنوس ذرة نيئة. تفرس في وجهي مستغرباً. ثم وارب الباب، ثم عاد وفتحه.
-أمك في البيت يا شاطر؟
ندت كلمة ترحيب ممطوطة متكاسلة من الداخل.
-تفضلي. تفضلي ناولني الغطاء يا علي.
تربعت على الأرض إلى جانب المرأة التي اندلق ثديها على صدرها. ردت الرضيع عنه. ظلت قبة الثوب مفتوحةً، تحلق ثلاثة صبية حولي حفاة فوق أرض عدسة اسمنتية تمددت فوقها طراريح رقيقة. على بعضها في الزاوية غفا طفلان برز وجهاهما من غطاء أسود كالح. قرفصت البنات، أسندن ظهورهن إلى الجدار الكلسي المشقق. ارتسمت في عيونهن دهشة. تفقدت الغرفة التي فصلها شرشف حموي مخطط إلى غرفتين.
-لابد أنها غرفة الأبوين. وإلا كيف بظّت كل الأفراخ.
صرخت المرأة:
-مية السلامات. خديجة فنجان شاي للآنسة.
اعتذرت منها بكلمات خرجت من فمي متعثرة جوفاء باردة فضحت كذبي. خجلة من ذاتي كنت وأنا أرفض زهورات أشربها على مرارة هؤلاء؟!
فيما كانت المرأة تتحدث، أنا أسأل وهي تجيب، تارة تنهر الأولاد وتارة تتعثر بهم، أحسست أني في سبيلي إلى الإغماء. أهذه دمشق التي أعرف، على مبعدة قليلة من بيتي وحتى من مركز العاصمة في ساحة المرجة. هربت من رائحة الرطوبة العفنة إلى شمس انبدرت في الحارة... بكيت. رثيت هؤلاء ورثيت نفسي؟ فشلت في تجربتي الصحفية وخنقتها في المهد.
-ما أصغر همومنا!
حكيت لرفيقاتي، ولتلميذاتي، ولأحمد عما رأيت. أطرق برأسه إلى الأرض ثم نظر طويلاً في عيني نظرة أسيانة.
-هذه عينة بسيطة. تذكريها إن أردت الأدب مهنة.
حملت من مادة الثقافة العامة فقه اللغة للدورة الثانية. أيقنت أنها ليست لعبة أبداً، ولا مجرد فاعل، ومفعول وإن وأن وإذا وصرف ونحو.
مرت الأشهر تباعاً وتخلصت من دبق الثقافة العامة التي أبعدتني عن الكتابة. سجلت فرعاً قريباً من اللغة العربية. فرع آخر أحب: ((علم النفس)). كان من حقنا أن نجمع الفرعين معاً آنذاك.
عبر أسلاك الهاتف نقل الأستاذ ليان البشرى:
-مبروك آنسة سلمى. الجائزة الأولى في مسابقة القصة لشباب العالم.
دبلوم شرف مكتوب بماء الذهب. وعليه اسمي، وعليه عنوان القصة.. وفي الأعلى: المهرجان ((العالمي الأول للشبيبة)).
من فوري ذهب تفكيري إلى أحمد. فرحة طاغية، بدأت ألهث، يجب أن يشاطرني أحمد فرحتي. لا تكون فرحة إن لم اقتسمها معه....
درت على نفسي، أختنق بلذة الانتصار، أراقص الحلم الجميل الذي عشش في ذهني وقلبي أياماً وليال، ونقلني إلى ذرى صعبة المنال.
تلاقينا أطلت شمس ذهبية من عينيه. كان سعيداً وحزيناً.
ماذا هناك؟
-قبلك بلغني خبر فوزك بالمسابقة، لكن...
-لكن ماذا؟
-انظري...
ونشر أمامي جريدة يومية كتبت الخبر أسفل إحدى صفحاتها الداخلية وربما في باب الوفيات. الورقة الصفراء. قصة سورية تفوز في مسابقات مهرجان الشباب العالمي وكأن الفائزة ليست سورية بل من واق الواق.
شرنقني وكبلني نجاحي. حد من حريتي. أثناءها نشطت الأحزاب السياسية، رفدتها دماء جديدة نظفت شرايينها.
دعت جريدة ((الجمهور)) الطلاب بالتفافٍ ذكي وسبق صحفي منها إلى اجتماع مصغّر خاص بالمستقلين الحياديين. كي يعبروا عن رأيهم كاملاً، إزاء قضية مصيرية ملحة ستطرح قريباً على بساط البحث مع الشعب. وهي ((الوحدة مع مصر)).
تفتحت الدعوة من قلبٍ مزقته الانقلابات. فتفجر حماساً، فما كانت الأحلام الطويلة لتذهب هباءً. من لا يهلل لأرض تكبر....ولوطن يتمدد، وبقاع تنتشر خصباً وحضارة ومنَعَة. من لا يهوى ولا ينادي بوحدة متماسكة مدروسة تضم شعبين شقيقين مصيرهما واحد. ونبضهما واحد، وعدوهما واحد.
نقل أبي بعض أحاديث الرجال في المقهى:
-كرست الحركة الناصرية. مصر عربية في الدستور المؤقت.
-خطوة جريئة وخطيرة، هناك شائعة بأن زعيم مصر سيشتري الأسلحة من الشرق.
-تأميم القناة وحدَّ العالم العربي: رد رجل.
-أيجب أن تعم رؤوسنا المصائب حتى نتجمع على بعضنا؟ علق أبي متسائلاً متشائماً.
-ولكن نداء استوكهولم للسلام بلبل أفكارنا. فكيف نحارب إسرائيل وهي حربنا المصيرية ونشجب الاعتداء علينا والقتل الجماعي بالقنبلة الذرية وننادي بالسلام؟
غمغم عادل وهو يضب أغراضه في كيس قماشي علقه فوق السرير.
-التفسير صعب حالياً... ولكن الأحداث تبشر بالغيث.
تنامت التحديات خلقت صراعات وصدامات بعد شهر العسل إبان الانتخابات بين نشأت ويعقوب. المناضلين الشهيرين الخصمين لكن العدوين اللدودين للأحلاف ولمشروع الهلال الخصيب.
كان الاثنان من حملة لواء تنظيم الطلاب الجامعي كل في حزبه...
إبّان الانتخابات عملا معاً ضد أهل اليمين ودعاة الأحلاف. وبعدها عادا إلى مواقعهما وقناعاتهما.
تأججت مظاهرات ضخمة أعقبها اعتقالات في مختلف المدن السورية تدعو إلى الإحاطة بصاحب الانقلاب الثالث.
عقد المجلس النيابي جلسة أخيرة كثر فيها الجدل. وفي الكواليس وزعت الكراسي على حكومة مؤقتة.
يدعو صوت إلى الوحدة الكاملة مع مصر. عبر يعقوب عن رأيه بصراحة أمام مجموع الطلاب المحتشدة في حديقة الجامعة:
-الوحدة كنز ومطلب مصيري. الإطار أولاً، ومن ثم التفاصيل، لحقه الكثيرون على شرفه النادي المطلة على بقايا فرع بردى المنسربة بعد الربوة حتى المرجة. كنا جماعة الندوة الأدبية نشرب القهوة، نناقش جوهر الوحدة ونتائجها سلباً وإيجاباً.
في تلك الفترة المشتعلة./ شغل أحمد عن لقاءاتنا ضيوف أعزاء جاؤوا من مصر محمود أمين، إدريس، بهجت.
التقيت بأحمد في الشارع بادرني معجلاً:
-تفهمين وضع البلد جيداً. أعتذر منك، لابد أنك تقدرين ظروفي. هؤلاء ضيوفي وفي بيتي... بهجت يعمل في مجلة أدبية مهمة سيلتقيك مع عدد من أعضاء الندوة الأدبية. ربما غداً، أو بعد غد..
سيتلفن إلى المدرسة أعطيته رقمك. لا تتهربي من أسئلته. كوني مرتاحة وصريحة.
غادرني مسرعاً.
تدفق الكلام من فم بهجت كحبات السبحة، نبعاً لا ينضب... يقفز مع أفكاره المتلونة السريعة بأمثلة تطال المستقبل. وبالتكامل الاقتصادي والثقافي بين البلدين. يحكي ويبتسم. طلب فنجان قهوة آخر.
صب حديثه علي أنا وعلى مسابقة القصة لشباب العالم.
شاركتنا نورس الجلسة ظلت مستمعة جيدة ومستوعبة، تحكي بمقدار، وتتنقل بعينيها الصغيرتين بين وجهينا، وتتمتم: -أكيد، نعم.
كتب بهجت على ورقة اسمه الكامل وعمره وتاريخ ولادته. واسم أمه، وخاله وعمه، وثقافة كل منهم. قرأها علي.
ضحكت ملء قلبي ما هذه الأحجية التي لاعلاقة لها بموضوعنا؟
-هذه ترجمة حياتي.
كنت فعلاً خالية الذهن بعيدة عن تشعبات ذهنه. غادرنا وهو يؤكد عودة سريعة إلى الشام
-ما رأيك فيه؟
-أرى فيه صورة الرجل النشط المتوثب.
-أما أنا، فأراه الرجل الخبيث الباطني.
-سلمى التي أعرفها، لاتقبل تحدياً ولا تراجعاً.
مشينا الهوينا، عضّنا الفكر بنابه. لم تحاول أية واحدة أن تخرق الصمت.
وأخيراً تنهدت صديقتي:
-انقضت العطلة سريعاً وهاأنذي أسافر إلى السويداء حيث المدرسة والبنات وطعام وشراب ونوم مدة أسبوع قد أعود قبل رأس السنة. كي أكسر رتابة حياتي بين أهلي وفي دمشقي. إلى اللقاء.
-طريقي غير طريقك، اسمعي لا تنسي اللبن والزبدة والجبن من السويداء. ضحكتْ، ضحكتُ.
كرَّ ومر الأسبوع سريعاً. وفي ليلة رأس السنة هتفت إلى أحمد من صيدلية دخلتها، كنت بحاجة إلى أن أسمع صوته.
-أحمد، مشغول أنت؟
-عندي ضيوف نحضر لأفراح رأس السنة الجديدة، نتقاسم المهمات، وبعد قليل سيأتي حنا وشوقي، وسعيد والشلة... الدنيا قائمة وقاعدة في بيتي.
-وأنا؟
-طبعاً لا. أبداً. جننت؟ أصلاً أنت لا تستطيعين الخروج في الليل.
-متى نحتفل كالناس وأمام الناس بلا خوف، ولا وجل؟
-قريباً. ليس الآن. تذكريني الليلة.. نلتقي في السنة الجديدة.
لم أنم. لا أدري بماذا انشغل ذهني... كوابيس تتناوب على ألامي كلما غفوت لحظات.
عندما شق الفجر أول خيوطه. وامتدت عبر نافذتي. وبدأت أغمض عيني، واستسلم لهدهدة الحمام في الديار، شممت رائحة حريق نهضت كالملسوعة. أين الحريق؟..
وحدي في البيت من رأى الدخان واختنق بالنيران.
لم نسبر حقيقة المقدمات التي سبقت إعلان الوحدة، ولم أسأل أخي عادل حول آلية محركي مواضيع الساعة التاريخية المصيرية، ولم أقل له أني معنية بوطني الكبير. كما هو معني بالتخطيط لوطنه. ونلعب على رقعة الشطرنج ذاتها. قد يكون بأسلوب مختلف وتكتيك مختلف ولكن وصولاً إلى الأهداف ذاتها التي أدت إلى توحيد الحزب الاشتراكي والبعث. بقيت أحاور وأناقش المعطيات وحدي ومع رفاقي ربما لأني غير منظمة حزبياً، وبعيدة عن طموحات بطوليّةٍ لست من قياسها.
تابعت نوعيات الوفود، والاجتماعات المتوالية بتأنٍ.
بعد أشهر من غرق الجامعة بالخطب واللقاءات والبيانات وتحويل صالة الرياضة إلى قاعة خطابية سياسية يتناوب عليها الحزبان البعثي والشيوعي، عاد الصحفي بهجت ممثل مجلة صباح الخير وفي جعبته أسئلة وفي أهابه دور استطلاعي يلعبه.
تبادر إلي أنه اجتمع بناديا، ونصر وعادل ومحي الدين. وصل الدور إلي. موعدي معه على شرفة النادي. حول طاولة مخلعة دبقة. جلسنا أنا ونورس ننتظر. أطل. لاحظت أنه في الثلاثين، أسمر غامق، في مشيته تؤدة وفي تقاطيعه الفرعونية تصميم وذكاء. فوق كتفيه مؤشر على انكبابه على الورق.
بدا كلامه كأي مصري خفيف الظل نكتي، ساخر ينتزع الضحك والأسى معاً. موهبة حقيقية ودهاء صحفي كبيران، رمى على الطاولة مجلة صباح الخير التي حققت انتشاراً، وبريقاً كشافاً برسومها الكاريكاتوريه بالغة العمق والمعنى.
ماذا يحكي المرء عندما يلتقي غريباً يؤم بلده؟ تعرجت الأسئلة فتلوت الأجوبة حتى دخلت مضامين الحياة الدمشقية، ومتاهات الأحزاب السياسية وحول الوحدة لتخرج منهكة إلى الفضاء الرحب بعيداً عن تفاصيل النتائج. ترتمي، تفتح ذراعيها معانقة رغبة شعبين أصيلين طالما وحدتهما الملمات. رمى بهجت قشرة موز في طريقي، فما تزحلقت. طرحت أفكاري حرة فجة ساخنة دون تنميق. فأعجبته لا بل تبناها... يجب أن يسبق إعلان الوحدة تمهيد مرحلي قد يدوم سنوات إذا أردناها قابلة للعيش والديمومة.
أهي الحاسة السادسة؟ أهي إشراقة في الوجد؟ أهي لغة التخاطر النفسي التي يتحدث عنها الناس؟
أحسستني محمولة على أجنحة بومة سوداء تطير بي وتطير الكون. كله ظلام. استلقيت متعبة طردت الخواطر السوداء لفني محلها توهج الشوق وهسيس موسيقى ناعمة تبعد عن ذهني توقعات الشر.
غفوت على سرير هندي مليء بالمسامير.
انتصف النهار، انتظرت كلمة حلوة أنهي سنة بها وأبدأ سنة مزهوة موارة. ولكن عبثاً انتظرت.
يلاحقني غول مجهول. يضربني الخوف بسياطه. أصوات ثاقبة منغمة ممطوطة تنادي بعناوين الصحف:
-اعتقالات جماعية في ليلة رأس السنة.
أحمد، أتراك تتشبث بأمل التغيير لترسخ حلماً محققاً.؟ أتراك تتغلب على التنين الأسود في الرؤوس الموصدة بالحديد والمغلقة على الأنا؟
اندفعت نحو الطريق الإسفلتي، إلى الجامعة. الدرب طويل ومتعرج ومقفر. الحرم الجامعي مغلق بقضبان سوداء، عيون سوداء، رشت يد ساحرة شريرة الموت على المدينة فغفت بلا حراك. أضحت أحجاراً من أسمنت وتراب.
أحمد، لست النعجة التي تمد رأسها للجزار، وتستسلم للذبح. قاوم فلن تجرفك العاصفة.
قرب الباب الحديدي.. دفعها رجل خشن من كوعها إلى سيارة عسكرية مصفحة تجمدت الدمعة أسى في عينيها. أضرمت ضراوة في قلبها أبعدت التردد والتخاذل واللا إنتماء عن خطواتها لتتوحد مع خطوات الآخرين في درب معشب بالأشواك. قدرها لا يلهو أبداً معها ولن يترك لها الخيار.
ينبثق عامود من ضياء أمام عينيها. لن تضيق الأفكار عليها وإن لوى كتفيها حمل ثقيل بعيد من التخييل، فلتدخل التجربة مع الأنبياء. تجربة لن ينساها، ولن تنساها. حالة الدخول في الذات الأخرى،.... دورات الآخرين. فإن بدت تحركات الكائنات البشرية المأمولة كتحرك السلحفاة في الوقت الراهن، فإنها حتماً لتتسارع نحو الهدف على نحو مذهل. استكانت إلى الحلم. وأغمضت عينيها.

rrr









هذا الكتاب


مجموعة قصائد وجدانية مرصعة بالهم الوطني والقومي، تحمل شحنات كبيرة من الحب والوجد والرؤيا البعيدة المدى منسوجة على منوال قصيدة التفعيلة المضبوطة الوزن والإيقاع صاغها الشاعر بلغة معبرة عن بوح شديد عما يدور في خلد الشاعر من أفكار ورؤيا وحلم وبوح.





هذا الكتاب



مامن شئ أصعب من أن يكون المرء حراً، سيد مصيره ومبدعه كيف لفتى من أسرة محافظة وضاغطة في أربعينيات القرن أن يميز معالم طريقه؟ وكيف لفتاة من الأسرة ذاتها - مع تنامي الطبقة الوسطى وتفتحها - أن تؤكد استقلالها وتتحلص في الوقت ذاته من المسائلة والخنوع؟
ألا يجب استبعاد الخلط بين الحرية والنزوة؟ وهل المرور بالخوف والضعف صورتان متلازمتان للثمن الذي يجب دفعه لبلوغ النضج؟
أسئلة كلها تجيب عنها حكاية ناس من دمشق تركوا بصماتهم على خط الحياة تأرجحوا مع الأيام الصعبة لكنهم لم يقهقروا أو يطأطئوا..
ومن لا يقع لايقف ولايصل هكذا مات بعضهم واقفين.
 
عائد إلى حيفا غسان كنفاني

حين وصل "سعيد س." إلى مشارف حيفا ، قادما إليها بسيارته عن طريق القدس ، أحس أنشيئا ما ربط لسانه ، فالتزم الصمت ، وشعر بالأسى يتسلقه من الداخل .وللحظة واحدةراودته فكرة أن يرجع ، ودون أن ينظر إليها كان يعرف أنها آخذة بالبكاء الصامت ،وفجأة جاء صوت البحر، تماما كما كان . كلا ،لم تعد إليه الذاكرة شيئا فشيئا . بلانهالت في داخل رأسه ، كما يتساقط جدار من الحجارة ويتراكم بعضه فوق بعض. لقد جاءتالأمور والأحداث فجأة ، وأخذت تتساقط فوق بعضها وتملأ جسده . وقال لنفسه أن " صفية " زوجته ، تحس الشيء ذاته ، وأنها لذلك تبكي.
منذ أن غادر رام الله في الصباحلم يكف عن الكلام ، ولا هي كفت ، كانت الحقول تتسرب تحت نظرة عبر زجاج سيارته ،وكان الحر لا يطاق ، فقد أحس بجبهته تلتهب ، تماما كما الإسفلت يشتعل تحت عجلاتسيارته ، وفوقه كانت الشمس ، شمس حزيران الرهيب ، تصب قار غضبها على الأرض
طوالالطريق كان يتكلم ويتكلم ويتكلم ، تحدث إلى زوجته عن كل شيء ، عن الحرب وعن الهزيمةوعن بوابة مندلبوم التي هدمتها الجرارات . وعن العدو الذي وصل إلى النهر والقناةومشارف دمشق خلال ساعات . وعن وقف إطلاق النار والراديو ونهب الجنود للأشياءوالأثاث ، ومنع التجول ، وابن العم الذي في الكويت يأكله القلق ، والجار الذي لمأغراضه وهرب ، والجنود الثلاثة الذين قاتلوا وحدهم يومين على تله تقع قرب مستشفىأوغستا فكتوريا ، والرجال الذين خلعوا بزاتهم وقاتلوا في شوارع القدس، والفلاح الذيأعدموه لحظة رأوه قرب أكبر فنادق رام الله . وتحدثت زوجته عن أمور كثيرة أخرى ،طوال الطريق لم يكفا عن الحديث. والآن ، حين وصلا إلى مدخل حيفا ، صمتا معا ،واكتشفا في تلك اللحظة أنهما لم يتحدثا حرفا واحدا عن الأمر الذي جاءا من أجله !

هذه هي حيفا إذن ، بعد عشرين سنة .

ظهر يوم الثلاثين من حزيران ، 1967 ، كانت سيارة " الفيات " الرماية التي تحمل رقما اردنيا أبيض تشق طريقها نحوالشمال ، عبر المرج الذي كان اسمه مرج بن عامر قبل عشرين سنة ، وتتسلق الطريقالساحلي نحو مدخل حيفا الجنوبي . وحين عبر الشارع ودخل إلى الطريق الرئيسي انهارتالجدار كله ، وضاعت الطريق وراء ستار من الدموع ، ووجد نفسه يقول لزوجته (صفية ):
-" هذه هي حيفا يا صفية !"

وأحس المقود ثقيلا بين قبضتيه اللتين أخذتاتنضحان العرق أكثر من ذي قبل ، وخطر له أن يقول لزوجته :" إنني أعرفها ، حيفا هذه ،ولكنها تنكرني" ولكنه غير رأيه ، فقبل قليل فقط كانت فكرة قد خطرت له وقالها لزوجته :
-" أتعرفين ؟ طوال عشرين سنة كنت أتصور أن بوابة مندلبوم ستفتح ذات يوم …ولكنأبدا أبدا لم أتصور أنها ستفتح من الناحية الأخرى . لم يكن ذلك يخطر لي على بال ،ولذلك فحين فتحوها هم بدا لي الأمر مرعبا وسخيفا والى حد كبير مهينا تماما … قدأكون مجنونا لو قلت لك أن كل الأبواب يجب الا تفتح الا من جهة واحدة ، وإنها إذافتحت من الجهة الأخرى فيجب اعتبارها مغلقة لا تزال ، ولكن تلك هي الحقيقة ".
والتفت إلى زوجته ، إلا أنها لم تكن تسمع ، كانت منصرمة إلى التحديق نحو الطريق : تارة إلى اليمين حيث كانت المزارع تمتد على مدى البصر وتارة إلى اليسار حيث كانالبحر ، الذي ظل بعيدا أكثر من عشرين سنة ، يهدر على القرب . وقالت فجاءة :
-" لم أكن أتصور أبدا أنني سأراها مرة أخرى ".

وقال :
-" أنت لا ترينها ،إنهم يرونها لك".

وعندها فقدت أعصابها ، كان ذلك يحدث للمرة الأولى . وصاحتفجاءة :
- " ما هذه الفلسفة التي لم تكف عنها طوال النهار؟ الأبواب والرؤياوأمور أخرى ، ماذا حدث لك ؟ ".
-" ماذا حدث لي؟".
قالها لنفسه وهو يرتجف،ولكنه تحكم بأعصابه وعاد يقول لها بهدوء :
-" لقد فتحوا الحدود فور أن أنهواالاحتلال فجأة وفورا، لم يحدث ذلك في أي حرب في التاريخ ، أتعرفين الشيء الفاجعالذي حدث في نيسان 1948 ، والآن ، بعد لماذا؟ لسواد عينيك وعيني؟ . لا . ذلك جزء منالحرب . إنهم يقولون لنا: تفضلوا انظروا كيف أننا أحسن منكم وأكثر رقيا . عليكم أنتقبلوا أن تكونوا خدما لنا ، معجبين بنا… ولكن رأيت بنفسك : لم يتغير شيء … كانبوسعنا أن نجعلها أحسن بكثير …"

-"إذن لماذا أتيت ؟"
ونظر إليها بحنق ،فصمتت.

كانت تعرف ، فلماذا تسأل؟ وهي التي قالت له أن يذهب ، فطوال عشرينسنة تجنبت الحديث عن ذلك ، عشرين سنة ثم ينبثق الماضي كما يندفع البركان

وحين كان يقود سيارته وسط شوارع حيفا كانت رائحة الحرب ما تزال هناك ،بصورة ما ، غامضة ومثيرة ومستفزة ، وبدت له الوجوه قاسية ووحشية ، وبعد قليل اكتشفأنه يسوق سيارته في حيفا دون أن يشعر بأن شيئا في الشوارع قد تغير . كان يعرفهاحجرا حجرا ومفرقا وراء مفرق ، فلطالما شق تلك الطرق بسيارته الفورد الخضراء موديل 1946 . إنه يعرفها جيدا، والآن يشعر بأنه لم يتغيب عنها عشرين سنة ، وهو يقودسيارته كما كان يفعل ، كما لو أنه لم يكن غائبا طوال تلك السنوات المريرة !

وأخذت الأسماء تنهال في رأسه كما لو أنها تنفض عنها طبقة كثيفة من الغبار : وادي النسناس ، شارع الملك فيصل ، ساحة الحناطير ، الحليصة ، الهادار، واختلطت عليهالأمور فجاءة ، ولكنه تماسك ، وسأل زوجته بصوت خافت :

-" حسنا ، من أيننبدأ؟".

ولكنها ظلت صامته . وسمع صوتها الخافت يبكي بما يشبه الصمت ، وقدرلنفسه العذاب الذي تعانيه ، وعرف أنه لا يستطيع معرفة العذاب على وجه الدقة ، ولكنهيعرف أنه عذاب كبير ، ظل هناك عشرين سنة، وأنه الآن ينتصب عملاقاً لا يصدق فيأحشائها ، ورأسها ، وقلبها ، وذاكرتها، وتصوراتها ، ويهيمن على كل مستقبلها. واستغرب كيف أنه لم يفكر أبداً بما يمكن أن يعينه ذلك العذاب ، وبمدى ما هو غارق فيتجاعيد وجهها وعينيها وعقلها . وكم كان معها في كل لقمة أكلتها ، وفي كل كوخ عاشتفيه ، وفي كل نظرة رمتها على أولادها وعليه وعلى نفسها . والآن ينبثق ذلك كله منبين الحطام والنسيان والأسى ، ويأتي على ركام الهزيمة المريرة التي ذاقها مرتين علىالأقل في حياته .

وفجاءة جاء الماضي ، حادا مثل سكين : كان ينعطف بسيارتهعند نهاية شارع الملك فيصل (فالشوارع بالنسبة له لم تغير أسماءها بعد) متجها نحوالتقاطع الذي ينزل يسارا إلى الميناء ، ويتجه يمينا نحو الطريق المؤدي إلى واديالنسناس ، حين لمح مجموعة من الجنود المسلحين يقفزون على المفترق أمام حاجز حديدي. وحين كان يرمقهم بطرف عينيه ، صدر صوت انفجار ما من بعيد ، وأعقبته طلقات رصاصوفجأة أخذ المقود يرتجف بين يديه ، وكاد أن يرطم الرصيف ، وتماسك في اللحظة الأخيرة، وشهد صبياً يعدو عبر الطريق ، وعندها جاء الماضي الراعب بكل ضجيجه . ولأول مرةمنذ عشرين سنة تذكر ما حدث بالتفاصيل ، وكأنه يعيش مرة أخرى .

صباحالأربعاء ، 21 نيسان ، عام 1948 .

كانت حيفا مدينة لا تتوقع شيئاً ، رغمأنها كانت محكومة بتوتر غامض .

وفجأة جاء القصف من الشرق ، من تلال الكرملالعالية . ومضت قذائف الموتر تطير عبر وسط المدينة لتصب في الأحياء العربية .

وانقلبت شوارع حيفا إلى فوضى ، واكتسح الرعب المدينة التي أغلقت حوانيتهاونوافذ بيوتها .

كان ( سعيد . س ) في قلب المدينة ، حين بدأت أصوات
 
الرصاص والمتفجرات تملأ سماء حيفا ، كان قد ظل حتى الظهر غير متوقع أن يكون ذلك هو الهجومالشامل و عندها فقط حاول للوهلة الأولى أن يعود إلى البيت بسيارته . إلا أنه ما لبثأن اكتشف استحالة ذلك ، فمضى عبر شوارع فرعية محاولاً اجتياز الطريق إلى (( الحليصة)) حيث يقع منزله ، إلا أن القتال كان قد اتسع ، وصار يرى الرجال المسلحينيندفعون من الشوارع الفرعية إلى الرئيسية وبالعكس ، وكانت تحركاتهم تسير وفقتوجيهات بمكبرات الصوت تنبثق هنا وهناك . وبعد لحظات شعر سعيد أنه يندفع دونمااتجاه ، وأن الأزقة المغلقة بالمتاريس أو بالرصاص أو بالجنود إنما تدفعه دون أن يحس، نحو اتجاه وحيد ، وفي كل مرة كان يحاول العودة إلى وجهته الرئيسية ، منتقياً أحدالأزقة ، وكان يجد نفسه كأنما بقوة غير مرئية يرتد إلى طريق واحد ، ذلك هو المتجهنحو الساحل .

كان قد تزوج فبل عام وأربعة أشهر من صفية ، واستأجر بيتهالصغير في تلك المنطقة التي حسب أنها ستكون أوفر أمناً ، وفجأة يشعر الآن بأنه لايستطيع الوصول إليه .. كان يعرف أن زوجته الصغيرة لا تستطيع أن تتدبر أمرها ، فمنذأن جاء بها من الريف لم تعتد أن تقبل العيش في المدينة الكبيرة ، أو أن تكيف نفسهامع ذلك التعقيد الذي كان يبدو راعباً لها ، وغير قابل للحل ، ترى ما الذي يمكن أنيحدث لها الآن ؟ .
كان ضائعاً ، تقريباً ، ولم يكن يعرف على وجه التعيين أينيحدث القتال وكيف ، وفي كل حدود علمه أن الإنكليز كانوا ما زالوا يسيطرون علىالمدينة ، وأن الأحداث في شكلها النهائي كان مقدراً لها أن تقع بعد ثلاثة أسابيعتقريباً ، حين يشرع البريطانيون في الانسحاب حسب الموعد الذي حددوه .

ولكنهفيما كان يسارع الخطو كان يعرف تماماً أن عليه أن يتجنب المناطق المرتفعة المتصلةبشارع هرتزل ، حيث كان اليهود يتمركزون منذ البدء ، ومن ناحية أخرى كان عليه أنيبتعد عن المركز التجاري الذي يقع بين حارة الحليصا وبين شارع اللنبي ، فقد كان ذلكالمركز نقطة القوة في السلاح اليهودي .

وهكذا اندفع محاولا الدوران حولالمركز التجاري كي يصل إلى الحليصا ، وكانت أمامه طريق تنتهي بوادي النسناس ، وتمرعبر المدينة القديمة .

وفجأة اختلطت عليه الأمور وتشابكت الأسماء: الحليصا،وادي رشميا ، البرج ، المدينة القديمة ، وادي النسناس، شعر أنه ضائع تماما ، وأنهفقد وجهة سيره . كان القصف قد اشتد ، ورغم انه كان بعيدا بعض الشيء عن مراكزالإطلاق إلا أنه استطاع أن يميز جنودا بريطانيين يسدون بعض المنافذ ويفتحون منافذأخرى .

ويبدو أنه ، بصورة ما ، وجد نفسه في المدينة القديمة ، ومنها اندفعكأنما بقوة لا يعرفها ، نحو جنوب شارع ستانتون ، وكان يعرف الآن أنه يبعد أقل منمئتي متر عن شارع الحلحول ، وبدأ يشم رائحة البحر.

وعندها فقط تذكر " خلدون " الصغير ، ابنه الذي اتم في ذلك اليوم بالذات شهره الخامس ، وانتابه فجأه قلق غامض . ذلك هو الشيء الوحيد الذي ما زال يحس بطعمه تحت لسانه ، حتى في هذه اللحظات التيتبعد عشرين سنة عن المرة الأولى التي حدث فيها ذلك .

هل كان يتوقع تلكالفجيعة ؟ الأمور هنا تختلط . الماضي يتداخل مع الحاضر ، وهما يتداخلان مع أفكاروأوهام وتخيلات ومشاعر عشرين سنة لاحقة ، هل كان يعرف ؟ هل أحس ذلك الشيء الفاجعقبل أن يحدث ؟ أحيانا يقول لنفسه " بلى ، عرفت ذلك قبل أن يحدث " وأحيانا أخرى يقوللنفسه : " لا. أنا أتصور ذلك بعد أن حدث ، لم يكن من المتوقع أن أتوقع شيئأ مروعامن ذلك النوع " .

كان المساء قد بدأ يخيم على المدينة ، ليس يدري كم منالساعات أمضى وهو يركض في شوارعها ، مرتدا عن شارع الى شارع ، أما الآن فقد باتواضحا أنهم يدفعونه نحو الميناء ، فقد كانت الأزقة المتفرعة عن الشارع الرئيسيمغلقة تماما ، وكان إذ يحاول الاندفاع في أثرها ليتدبر أمر عودته الى بيته ،يزجرونه بعنف ، واحيانا بفوهات البنادق وأحيانا بحرابها.

كانت السماء ناراتتدفق بأصوات رصاص وقنابل وقصف بعيد وقريب ، وكأنما هذه الأصوات نفسها كانت تدفعهمنحو الميناء . ورغم أنه كان غير قادر على التركيز على أيما أمر معين ، إلا أنه رأىكيف بدأ الزحام يتكاثف مع كل خطوة . كان الناس يتدفقون من الشوارع الفرعية نحو ذلكالشارع الرئيسي المتجه الى الميناء ، رجالا ونساء وأطفالا ، يحملون أشياء صغيره أولا يحملون ، يبكون أو يسبحون داخل ذلك الذهول الصارخ بصمت كسيح . وضاع بين أمواجالبشر المتدفقه وفقد القدرة على التحكم بخطواته . إنه ما يزال يذكر كيف أنه كانيتجه نحو البحر وكأنه محمول وسط الزحام الباكي، المذهول ، غير قادر على التفكير فيأي شيءء، وفي رأسه كان ثمة صورة واحده معلقة كأنما على جدار: زوجته صفية وابنهخلدون .

لقد مضت اللحظات بطيئة وقاسية وتبدو الآن مجرد كابوس ثقيل لا يصدق. اجتاز البوابة الحديدية للميناء حيث كان جنود بريطانيون يزجرون الناس، ومن هناك رأىأكوام البشر تتساقط فوق الزوارق الصغيرة المنتظرة في الماء قرب الرصيف ، ودون أنيعرف ماذا يجب عليه أن يفعل ، قرر ألا يصل الى الزوارق وفجأة –كمن أصيب بالجنون ،او كمن عاد اليه عقله دفعة واحدة بعد جنون طويل – استدار وسط الزحام ، وأخذ يدافعهمحاولا بكل ما فيه من قوة مستنزفة أن يشق طريقة وسطه ، عكسه ، نحو البوابة الحديدية .

مثل من يسبح ضد سيل هادر ينحدر من جبل شديد العلو أخذ سعيد يشق طريقةبكتفيه وذراعية وساقيه ورأسه . يجره التيار خطوات الى الوراء فيعود ويتقدم مندفعابشيء من الوحشية مثل حيوان طريد يشق طريقا مستحيلا في دغل كثيف متشابك . وفوقه كانالدخان والعويل ودوي القنابل وزخات الرصاص تمتزج أصواتها بالصراخ وهدير البحر وزحفالخطوات الضائعة وضرب المجاذيف سطح الموج ...

هل حقا مضى على ذلك كله عشرونسنة؟.

كان العرق يتصبب باردا على جبين سعيد وهو يقود سيارته صاعدا المنحدر . لقد حسب أن تلك الذاكرة لن تعود بهذا الصخب المجنون الذي لم يكن لها إلا لحظاتحدوثها. ومن طرفي عينيه نظر الى زوجته : كان وجهها مشدودا أميل الى الاصفرار وكانتعيناها تتدفقان بالدموع ، لا ريب أنها – قال لنفسه – تستعيد خطواتها ذلك اليوم ذاته، حين كان هو أقرب ما يكون الى البحر ، وكانت هي أقرب ما تكون الى الجبل ، وبينهمايمد الرعب والضياع خيوطهما غير المرئية ، فوق مستنقع من الصراخ والخوف والمجهول .

كانت-كما قالت له أكثر من مرة في السنوات الماضية – تفكر به . وحين دوىالرصاص وانطلق الناس يقولون أن الانكليز واليهود أخذوا يكتسحون حيفا ، راودها خوفيائس.

كانت تفكر به ، عندما جاءت أصوات الحرب من وسط المدينة حيث تعرف أنههناك . وكانت تشعر أنها أكثر أمنا ،
 
فالتزمت البيت فترة، وحين طال غيابه ، هرعت الىالطريق دون أن تدري على وجه التحديد ما الذي كانت تريده . في البدء كانت تطل منالشباك ، ومن الشرفة . وكأنها شعرت الآن أن الأمر قد تغير تماما ، إذ بدأت النارتنهمر بغزارة ، بدءا من الظهر ، من التلال الواقعة فوق الحليصا . وأحست أنها محاصرةكليا ، وعندها فقط اخذت تعدو نازلة الدرج ، واندفعت على طول الطريق نحو الشارعالرئيسي، وكان استعجالها لرؤيته قادما يختصر خوفها عليه وقلقها من المصير المجهولالذي كان يحمل ألف احتمال مع كل رصاصة تطلق . وحين وصلت الى أول الطريق أخذت تراقبالسيارات المندفعه بسرعة ، وقادتها خطواتها من سياره الى أخرى ، ومن رجل الى آخر ،تسأل دون أن تحصل على جواب. وفجأه رأت نفسها في موج الناس ، يدفعونها ، وهم يندفعونمن شتى أرجاء المدينة ، في سيلهم العرم الجبار الذي لا يمكن رده ، كانها محمولة علىنهر متدفق مثل عود من القش.

كم مضى من الوقت قبل أن تتذكر أن خلدون الطفلما زال في سريره في الحليصا؟ليست تتذكر تماما ، ولكنها تعرف أن قوة لاتصدق سمرتها في الأرض ، فيما أخذالسيل الذي لا ينتهي من الناس يمر حولها ويتدافععلى جانبي كتفيها وكأنها شجرة انبثقت فجأة في مجرى سيل هائل من الماء ، وارتدت هيالأخرى تدافع ذلك السيل بكل قوتها . وأمام عجزها وتعبها أخذت تصرخ بكل ما فيحنجرتها من قوة . ولم تكن كلماتها الطائرة في ذلك الزحام الذي لا ينتهي لتصل الى أيأذن . لقد رددت كلمة " خلدون" ألف مرة ، مليون مرة، وظلت شهورا بعد ذلك تحمل فيفمها صوتا مبحوحا مجروحا لا يكاد يسمع . وظلت كلمة " خلدون " نقطة واحدة لا غير ،تعوم ضائعة وسط ذلك التدفق اللانهائي من الاصوات والأسماء.

وكانت على وشكالسقوط وسط الأقدام حين سمعت كمن يحلم صوتا ينبثق من الأرض ، ويناديها باسمها ،وحين رأت وجهه وراءها يتفصد بالعرق والغضب والارهاق أحست ذهول الفاجعه أكثر من أيوقت مضى ، واكتسحها حزن يشبه الطعنة التي ملأتها بطاقة من العزم لا حدود لها ،وقررت أن تعود بأي ثمن . ولربما أحست بأنها لن تستطيع الى الأبد النظر الى عينيسعيد ، او تركه يلمسها . وفي أعماقها شعرت أنها على وشك أن تفقد الاثنين معا : سعيدوخلدون ... فمضت تشق طريقها بكل ما في ذراعيها من قوة وسط الغاب الذي كان يسد فيوجهها طريق العودة ، محاولة في الوقت نفسه أن تضيع سعيد ، الذي أخذ –دون أن يعي- ينادي صفية تارة ، وينادي خلدون تارة أخرى...

هل مضت أجيال وأزمنة قبل أنتحس بكفيه القويتين المتيبستين تشدان على ذراعيها؟وفجأة نظرت في عينيه ،وأحست بشيء يشبه الشلل يسقطها على كتفه لخرقة بالية لا قيمة لها ، وحولهما مضت سيولالبشر تتقاذفهما من جهة الى أخرى ، وتدفعهما أمامها نحو الشاطئ ، ولكنهما لم يكونا، بعد ، قادرين على الإحساس بأي شيء ، وفقط حين عومهما الرذاذ المتطاير من تحت خشبالمجاديف ، ونظر الى الشاطئ حيث كانت حيفا تغيم وراء غبش المساء وغبش الدموع ....


طوال الطريق ، من رام الله الى القدس الى حيفا ظل يتحدث عن كل شيء ، لميكف قط عن الحديث ، ولكنه حين وصل الى أول " بيت غاليم" ربط الصمت لسانه . وها هوالآن في " الحليصة " ، يسمع أصوات عجلات سيارته تسير مثلما كانت دائما . وكان النبضالصعب لقلبه المتوثب يضيعه بين الفينة والأخرى لقد تضاءلت عشرون سنة من الغياب ،وها هي الأمور تعود فجأة عودة لا تصدق ، وراء ظهر العقل والمنطق ... تراه عما يبحث؟قبل أسبوع قالت له صفية ، وهما في منزلهما في رام الله :
-" إنهميذهبون الى كل مكان ، ألا نذهب الى حيفا ؟ " .

وكان ، عندها ، يتناول عشاءه، ورأى يده تقف تلقائيا بين الصحن وبين فمه . ونظر نحوها بعد برهة فرآها تستدير ،كي لا يقرأ شيئا في عينيها ، ثم قال لها :
-" نذهب الى حيفا ... لماذا؟".

وجاءه صوتها خافتا :
-" نرى بيتنا هناك . فقط نراه ".

وأعادلقمته الى الصحن وقام فوقف أمامها . كان رأسها يتكىء على صدرها كمن يريد أن يعترفبذنب غير متوقع . فوضع أصابعه تحت ذقنها فإذا بعينيها تنضحان بدموع غزيرة ، فسألهابحنو:
-" صفية ... بماذا تفكرين ؟".

وهزت رأسها موافقة دون أن تقولشيئا ، فقد عرفت أنه يعرف ، وربما كان هو الآخر يفكر طوال الوقت بذلك وينتظرها أنتبادئ كي لا تشعر بأنها –كما كانت تشعر دائما- هي التي ارتكبت تلك الفجيعه التيشجرت في قلبيهما معا ، فهمس بصوت مبحوح :
-" خلدون؟".

واكتشف على التوأن ذلك الاسم ، لم يلفظ قط في تلك الغرفة منذ زمن طويل . وأنهما في المرات القليلةالتي تحدثا عنه كانا يقولان " هو " ، بل أنهما تجنبا تسمية أي من أولادهما الثلاثةذلك الاسم ، وأن كانا قد أطلقا على أكبرهما أسم " خالد" وعلى البنت التي أنجباهابعد ذلك بعام ونصف " خالدة " ، بل أن أولادهما لم يعرفا قط أن لهما أخا اسمه خلدون، وهو نفسه ينادونه أبا خالد" ، وأصدقاءه القدامى اتفقوا على القول بأن خلدون قدمات . فكيف يمكن للأمور أن تندفع من الباب الخلفي على هذه الصورة الفريده ؟وظل سعيد واقفا هناك وكأنه نائم في مكان بعيد ، إلا أنه التقط نفسه بعدهنيهة ، وأخذ يخطو عائدا الى طاولته ، وقبل أن يجلس قال لها :
-" أوهام يا صفيةأوهام ! لا تتركي لنفسك أن تخدعك على هذه الصورة المحزنة . أنت تعرفين كم سألنا وكمحققنا ، وتعرفين قصص الصليب الأحمر ، ورجال الهدنة ، والأصدقاء الأجانب الذينبعثناهم الى هناك . لا ، لا أريد الذهاب الى حيفا ، إن ذلك ذل ، وهو إن كان ذلاواحدا لأهل حيفا فبالنسبة لي ولك هو ذلان ، لماذا نعذب أنفسنا؟".

وأخذ صوتنشيجها يعلو شيئا فشيئا ، ولكنها التزمت الصمت ، وأمضيا تلك الليلة دونما كلمة ،يستمعان معا الى أصوات الأحذية العسكرية تقرع الطرق ، والى الراديو يظل يعطيالأوامر.

وحين مضى الى فراشه كان يعرف –في أعماقه – أن لا فرار ، وأنالفكرة التي كانت هناك طوال عشرين سنة قد ولدت ، ولا سبيل الى دفنها من جديد . ورغمأنه كان يعرف أن زوجته لم تنم ، وأنها أمضت كل ذلك الليل تفكرفي الأمر نفسه ، إلاأنه لم يبادلها أية كلمة ، وفي الصباح قالت له بهدوء:
-" إذا أردت أن تذهبفخذني معك ، لا تحاول يا سعيد أن تذهب وحدك ".

إنه يعرف صفيه جيدا ، ويعرفأنها تدرك تماما كل فكرة تعبر رأسه . وهذه المره قاطعته وهو في منتصف الطريق ، فقدقرر في الليل أن يذهب وحده ، وها هي تكتشف قراره من تلقائها ، وتمنعه.
وظلالأمر كله معلقا في سقف أيامهما ولياليهما طوال أسبوع . يأكلانه مع طعامهماويعلكانه وينامان معه ولكنهما لم يتكلما حوله أبدا ، وليله أمس فقط قال لها :

-" لنذهب غدا الى حيفا ، نتفرج عليها على الأقل ، وقد نمر قرب بيتنا هناك . أنا أعرف أنهم سيصدرون قريبا قرار يمنع ذلك كله . فحساباتهم لم تكن صحيحه ".

وصمت قليلا ، وليس يدري إن كان راغبا حقا في تغيير الموضوع ، إذ سمع نفسهيمضي في كلام آخر:

-" في القدس ونابلس وهنا يتحدث الناس كل يوم عن نتائجزياراتهم الى يافا وعكا وتل أبيب وحيفا وصفد وقرى الجليل والمثلث . كلهم يقولونكلاما متشابها ويبدو أن أفكار كل منهم كانت أحسن مما رأوا بأم أعينهم . جميعهمعادوا يحملون خيبة كبيرة . إن المعجزة التي يتحدث عنها اليهود لم تكن إلا وهما . فيالبلد هنا ردة فعل سيئه جدا ، وهو عكس ما أرادوه حين فتحوا حدودهم أمامنا . لذلكفأنا أتوقع يا صفية أن يلغوا ذلك القرار قريبا جدا ، وهكذا قلت لنفسي لماذا لانقتنص الفرصة ونذهب؟ ".





وحين نظر إلى صفية رآها ترتجف ،وشهد وجهها يميل بوضوح للاصفرار ، فخرج من الغرفة ، إذ أحس هو الآخر بدموع حارقهتسد حلقه . ومنذ تلك اللحظة لم يكف اسم " خلدون" عن الدق في رأسه ، تماما مثلما كانقبل عشرين سنة حين سمعه يدق المرة تلو الأخرى فوق الزحام المتدفق أمام مياه الميناءالباكية. ولا شك أنه كان كذلك بالنسبة لصفية ، وقد تحدثا طوال الطريق عن كل شيء ،إلا عن خلدون . وقرب " بيت غاليم " فقط التزما الصمت ، وها هما الآن ينظران صامتينإلى الطريق التي يعرفانها جيدا والملتصقة في رأسيهما كقطع من لحمهما وعظامهما .

 
ومثلما كان يفعل قبل عشرين سنة تماما خفف سرعة سيارته إلى حدها الأدنى قبلأن يصل إلى ذلك المنعطف ، الذي كان يعرف أن سفحا صعبا يكمن وراءه . وانعطف بسيارتهكما كان يفعل دائما وتسلق السفح محتفظا بالموقع الصحيح في الطريق الذي أخذ يضيق. وكانت أشجار السرو الثلاث التي تنحني قليلا فوق الشارع قد مدت أغصانا جديده ، ورغبأن يتوقف لحظه كي يقرأ على جذوعها أسماء محفورة منذ زمن ، ويكاد يتذكرها واحداواحداً ، ولكنه لم يفعل . وليس يدري كيف حدث الأمر ، ولكنه بصورة ما تذكر حين مرقرب باب يعرفه ، شخصا من بيت الخوري كان يسكن هناك ، وكانت عائلته تمتلك بنايةكبيرة جنوب طريق ستانتون ، قرب شارع الملوك . وفي تلك البناية -يوم الفرار - تمترسالمقاتلون العرب وقاتلوا حتى آخر رصاصة وربما آخر رجل. وقد مر قرب تلك البناية حينكان يندفع نحو الميناء بقوة تفوقه مقدرة ، وتذكر الآن بالضبط أنه هناك ، وهناك فقط، سقطت عليه الذاكرة كما لو أنه ضرب بحجر ، وهناك بالضبط تذكر خلدون وانقبض قلبهيومها ، قبل عشرين سنة ، وما زال، والآن يزداد نبضه قوة حتى كاد أن يسمعه.

وفجأة أطل المنزل ، المنزل ذاته ، ذلك الذي عاش فيه ، ثم عيشه في ذاكرتهطويلا ، وها هو الآن يطل بمقدمة شرفاته المطلية باللون الأصفر.

ولوهلة خيلإليه أن صفيه ، شابه وذات شعر مجدل طويل ، ستطل عليه من هناك . كان حبلا جديداللغسيل قد دق على وتدين خارج الشرفة ، وتدلت منه قطع بيضاء وحمراء لغسيل جديد . وفجأة أخذت صفيه تبكي بصوت مسموع ، أما هو فقد انحرف إلى اليمين ، وترك عجلاتسيارته تصعد الرصيف الواطئ. ثم أوقف السيارة في المكان الذي لها ، كما كان يفعل -تماما- منذ عشرين سنة !

تردد "سعيد.س" هنيهة فقط وهو يطفئ محرك سيارته ،ولكنه كان يعرف في أعماقه أنه لو ترك نفسه يتردد فترة أطول لانتهى الأمر، ولعادفحرك سيارته عائدا أدراجه . وهكذا جعل الأمر ، لنفسه ولزوجته ، يبدو طبيعيا للغاية. كما لو أن العشرين سنة الماضية وضعت بين مكبسين جبارين وسحقت حتى صارت ورقه شفافةلا تكاد ترى. نزل من السيارة وصفق وراءه بابها ، وأخذ يرفع حزامه وهو ينظر نحوالشرفة تاركا المفاتيح تخشخش في راحته دونما اكتراث.

ودارت زوجته حولالسيارة ووقفت إلى جانبه ، إلا أنها لم تكن بارعة مثله. أمسك بذراعها ، وأخذ يقطعبها الشارع: الرصيف ، البوابة الحديدية الخضراء، الدرج.

وبدآ يصعدان ، دونأن يترك لنفسه أو لها فرصة النظر إلى الأشياء الصغيرة التي كان يعرف أنها ستخضهوتفقده اتزانه : الجرس ، ولاقطة الباب النحاسية ، وخربشات أقلام الرصاص على الحائط،وصندوق الكهرباء ، والدرجة الرابعة المكسورة من وسطها ، وحاجز السلم المقوس الناعمالذي تنزلق عليه الكف، وشبابيك المصاطب ذات الحديد المتصالب ، والطابق الأول حيثكان يعيش محجوب السعدي ، وحيث كان الباب يظل مواربا دائما ، والأطفال يلعبون أمامالدار دائما ، ويملأون الدرج صراخا ، إلى الباب الخشبي المغلق ، المدهون حديثا ،والمغلق بإحكام .

وضع إصبعه على الدرج وهو يقول بصوت خافت لصفية :
-" غيروا الجرس" .
وسكت قليلا ثم تابع :
-" والاسم طبعا " .

واغتصبابتسامة غبية ، وشد يده فوق يدها وأحس بها باردة ترتجف ، ووراء الباب سمعا صوتخطوات تجر نفسها ببطئ ، وقال لنفسه : " شخص عجوز بلا شك" ، وقرقع المزلاج بصوتمكتوم ، وببطء انفتح الباب.

" ها هي ذي " ، ليس يدري إن قال ذلك بصوت مسموع، أو قاله لنفسه كمن يتنفس الصعداء. ولكنه ظل واقفا مكانه لا يعرف ماذا يتوجب عليهأن يقول . ولام نفسه لكونه لم يحضر جملة يبدأ بها رغم أنه فكر طويلا في أن لحظةكهذه لا بد آتيه ، وتكرك في مكانه ناظرا إلى صفية كمن يستنجد . فتقدمت أم خالد خطوةإلى الأمام وقالت :
-" هل نستطيع أن ندخل؟" .

ولم تفهم المرأة العجوز ،السمينة بعض الشيء ،والقصيرة ، والتي كانت تلبس ثوبا أزرق منقطا بكريات بيضاء. فأخذسعيد يترجم إلى الإنكليزية ، وعندها انفرجت أسارير العجوز المتسائلة ، ووسعت منالطريق حتى دخلا ، ثم أخذت تسير أمامهما نحو غرفة الجلوس.

وتبعها سعيدوبجانبه صفية ، وبخطوات مترددة بطيئة ، وأخذا يميزان الأشياء بشيء من الدهشة . لقدبدا له المدخل أصغر قليلا مما تصوره وأكثر رطوبة واستطاع ان يرى أشياء كثيرةاعتبرها ذات يوم، وما يزال ، أشياءه الحميمة الخاصة التي تصورها دائما ملكية غامضةمقدسة لم يستطع أي كان أن يتعرف عليها أو أن يلمسها أو أن يراها حقا . ثمة صورةللقدس يتذكرها جيدا وما تزال معلقة حيث كانت ، حين كان يعيش هنا . وعلى الجدارالمقابل سجادة شامية صغيرة كانت دائما هناك أيضا.

وأخذ يخطو ناظرا حواليه ،مكتشفا الأمور شيئا فشيئا ، أو دفعة واحدة ، كمن يصحو من إغماء طويل . وحين صارا فيغرفة الجلوس ، استطاع أن يرى مقعدين من أصل خمسة مقاعد هما من الطقم الذي كان له . أما المقاعد الثلاثة الأخرى فقد كانت جديدة ، وبدت هناك فظة وغير متسقة مع الأثاث . وفي الوسط كانت الطاولة المرصعة بالصدف هي نفسها ، وإن كان لونها قد صار باهتا ،وفوقها استبدلت المزهرية الزجاجية بأخرى مصنوعة من الخشب ، وفيها تكومت أعواد منريش الطاووس ، كان يعرف أنها سبعة أعواد . وحاول أن يعدها وهو جالس مكانه إلا أنهلم يستطع ، فقام واقترب من المزهرية وأخذ يعدها واحدة واحدة ، كانت خمسة فقط .

وحين استدار عائدا إلى مكانه ، رأى أن الستائر قد تغيرت ،وأن تلك التياشتغلتها صفية ، قبل عشرين سنة ، بالصنارة ، من الخيوط السكرية اللون ، قد اختفت منهناك ، واستبدلت بستائر ذات خطوط زرقاء متطاولة .

ثم وقع بصره على صفية ،فرآها محتارة ، تنقب بعينيها في زوايا الغرفة وكأنها تعد الأشياء التي تفتقدها ،وكانت المرأة السمينة العجوز تجلس أمامهما على ذراع أحد المقاعد ، تنظر إليهما وهيتبتسم ابتسامة لا معنى لها ، وأخيراً قالت دون أن تجعل تلك الابتسامة تفر:

- "منذ زمن طويل وأنا أتوقعكما ".

كانت لغتها الإنجليزية بطيئة ،وذات لكنه أقرب إلى الألمانية ، وتبدو ، إذ تتلفظ بها ، كما لو أنها تنتشل كلماتهامن بئر غبار سحيقة الغور .

وانحنى سعيد إلى الأمام وسألها :

- "هلتعرفين من نحن ؟ ".

- وهزت رأسها بالإيجاب عدة مرات لتزيد الأمر الأمرتأكيداً ، وفكرت قليلاً كي تنتقي كلماتها ، ثم قالت ببطء :

- " أنتما أصحابهذا البيت ، وأنا أعرف ذلك".

- " كيف تعرفين ؟ ".

جاء السؤال منسعيد وصفية في وقت واحد .

وزادت العجوز في ابتسامتها . ثم قالت :

- " من كل شيء . من الصور ، من الطريقة التي وقفتما بها أمام الباب . والصحيح أنه منذانتهت الحرب جاء الكثيرون إلى هنا وأخذوا ينظرون إلى البيوت ويدخلونها ، وكنت أقولكل يوم أنكما ستأتيان لا شك ".

وفجاءة بدت محتارة ، وأخذت تنظر حواليها ،إلى الأشياء الموزعة في الغرفة وكأنها تراها لأول مرة ، ودون أن يقصد أخذ سعيد ينظرإلى حيث تنظر ، وينقل بصرة حيث تنقل بصرها ، وفعلت " صفية " الشيء ذاته ، وقال سعيدلنفسه :
" يا للغرابة ! ثلاثة أزواج من العيون تنظر إلى شيء واحد
 
… ثم كم تراهمختلفا ! " .

وسمع صوت العجوز ، وقد صار الآن خافتا وأشد بطئا:
-" أناآسفة ، ولكن ذلك كان ما . لم أفكر قط بالأمر كما هو الآن ".

وابتسم سعيدبمرارة ، ولم يعرف كيف يقول لها أنه لم يأت من أجل هذا ، وأنه لن يشرع في نقاشسياسي ، وأنه يعرف ان لا ذنب لها.
" لا ذنب لها ؟"
لا ، ليس بالضبط ! كيفيشرح لها ذلك ؟

إلا أن صفية وفرت عليه همه ، إذ سألت بصوت بدا بريئا بصورةمريبة ، فيما أخذ هو يترجم :
-" من أين جئت؟".
-" من بولونيا".
-" متى؟".
-" في سنة 1948 ".
-" متى بالضبط؟".
-" أول آذار ، 1948".

وخيم صمت ثقيل ، وأخذوا جميعا ينظرون إلى حيث لم يكن من المهم لهم أنينظروا ، وقطع سعيد الصمت قائلا بهدوء:
-" طبعا نحن لم نجيء لنقول لك أخرجي منهنا ، ذلك يحتاج إلى حرب…."

وشدت " صفية " على يده ، كي لا يمضي في الحديثفانتبه ، وعاد يحاول الكلام مقتربا من الموضوع:
-" أقصد أن وجودك هنا ، في هذاالبيت ، بيتنا نحن ، بيتنا أنا وصفية ، هو موضوع آخر، جئنا فقط ننظر إلى الأشياء،هذه الأشياء لنا ، ربما كان بوسعك أن تفهمي ذلك".
فقالت بسرعة :
-" أفهم ،ولكن …."

وفجأة فقد أعصابه :
-" نعم ، ولكن ! .. هذه ال " لكن " الرهيبة ، المميتة ، الدامية …."

وسكت تحت وطأة نظرات زوجته، وشعر بأنه لنينجح أبدا في الوصول إلى مقصده. ثمة ارتطام قدري لا يصدق ، وغير قابل للتجاهل ،وهذا الذي يجري هو مجرد حوار مستحيل .

وللحظة رغب في أن يقوم ويمضي ، فلميعد يهمه أيما شيء . ليكن خلدون ميتا ، أو حيا، لا فرق ، فحين تصل الأمور إلى هنافليس ثمة ما يمكن أن يقال . وانتابه غضب مهيض ومر ، وأحس أنه على وشك ان يتفجر منالداخل .
وليس يدري كيف سقط نظره على تلك الريشات الخمس من ذيل الطاووس التيكانت مزروعة في الإناء الخشبي وسط الغرفة ، ورآها تتحرك بألوانها الفذة الرائعة ،التي لا تصدق مع هبوب نسمة من الهواء دخلت من النافذة المفتوحة . وفجأة سئل بفظاظةوهو يشير إلى المزهرية :

- " كان هنا سبع ريشات ، ماذا حدث للريشتينالمفقودتين؟".

ونظرت العجوز إلى حيث أشار ، وعادت فنظرت إليه متسائلة ،وكان ما يزال يمد ذراعه باتجاه المزهرية ويحدق فيها مطالبا بالجواب ، وكان الكونكله يقف على رأس لسانها . نهضت من مكانها واقتربت نحو المزهرية وأمسكتها كما لوأنها تفعل ذلك لأول مرة ، ثم قالت ببطء:
-" لست أدري أين ذهبت الريشتان اللتانتتحدث عنهما ، ذلك شيء لا أستطيع أن أتذكره ، ربما كان (دوف) قد لعب بهما وضيعهمابعد ذلك حين كان صغيرا".

-" دوف؟؟".

قالاها معا ، سعيد وصفية ،ووقفا وكأن الأرض قذفتهما إلى فوق ، وأخذا متوترين ، ينظران نحوها ، فمضت تقول:
-" أجل دوف ، ولست أدري ماذا كان اسمه ، وإن كان يهمك الأمر، فهو يشبهككثيرا…."



الآن ، بعد ساعتين من حديث متقطع ، يمكن إعادة ترتيبالأمور من جديد : إذا ماذا حدث في تلك الأيام القليلة التي امتدت بين ليل الأربعاء، 21 نيسان 1948 حين غادر (سعيد س) حيفا على متن زورق بريطاني دفع إليه دفعاً معزوجته ، وقذفه بعد ساعة على شاطئ عكا الفضي ، وبين يوم الخميس 29 نيسان 1948 ، حينفتح رجل من الهاغاناه ، معه رجل عجوز له وجه يشبه الدجاجة ، باب منزل (سعيد س) فيالحليصة ، ووسع الطريق أمام ( إفرات كوشن ) وزوجته ، القادمين من بولونيا ، ليدخلاإلى ما صار منذ ذلك اليوم منزلهما المستأجر من دائرة أملاك الغائبين في حيفا .

لقد وصل ( افرات كوشن ) إلى حيفا ، برعاية الوكالة اليهودية ، قادماً إليهامع زوجته من ميناء ( ميلانو ) الإيطالي في وقت مبكر من شهر آذار . كان قد غادروارسو مع قافلة صغيرة في أوائل تشرين الثاني من عام 1947 ، وأسكن في منزل مؤقت يقعفي ضواحي ذلك المرفأ الإيطالي الذي كان آنذاك يضج بحركة غير عادية ، وفي أوائل آذارنقل بحراً مع عدد من الرجال والنساء إلى حيفا .

كانت أوراقه معدة تماماً ،وحملته شاحنة صغيرة مع أشيائه القليلة عبر الميناء الصاخب ، المليء بالجنودالبريطانيين والعمال العرب والبضائع ، عبر شوارع حيفا المتوترة ، والتي كانت تدويفيها طلقات نارية متقطعة بين الفينة والأخرى ، إلى الهادار ، حيث أسكن في غرفةصغيرة من بناء مزدحم بالسكان .

وتبين ل ( أفرات كوشن ) بعد فترة ، أن جميعالغرف في البناء يشغلها مهاجرون جدد ، ينتظرون هناك نقلهم إلى أمكنة أخرى فيما بعد، وليس يدري إن كانوا قد أطلقوا عليه اسم ( نزل المهاجرين ) وهم يلتقون كل ليلةلتناول العشاء ، أم أن ذلك الاسم كان معروفاً قبلهم ، وأنهم استعملوه فقط .

وربما كان قد نظر عدة مرات ، من شرفته إلى ( الحليصة )، إلا أنه لم يكنيعرف على الإطلاق ، أو حتى يخمن ، أنه سيجري إسكان هناك . وفي الواقع فإنه كانيعتقد أنه حينما تسوى الأمور فسينقل إلى بيت ريفي هادئ على سفح تله ما في الجليل : كان قد قرأ قصة ( لصوص في الليل ) لآرثر كوستلر حين كان في ميلان ، أعاره إياها رجلقادم من بريطانيا ليشرف على عملية التهجير ، وعاش فترة من الزمن في تلك التلالالجليلة التي جعلها ( كوستلر ) مسرحاً لروايته . وفي الحقيقة فإنه لم يكن ليعرفالكثير آنذاك عن فلسطين . وبالنسبة له كانت مجرد مسرح ملائم لأسطورة قديمة ، مايزال يحتفظ بنفس الديكور الذي كان يراه مرسوماً في الكتب الدينية المسيحية الملونةالمخصصة لقراءة الأطفال في أوروبا. إلا أنه بالطبع لم يكن يصدق تماماً أن تلك الأرضكانت مجرد صحراء أعادت الوكالة اليهودية اكتشافها بعد ألفي سنة . ومع ذلك فلم يكنهذا هو أكثر ما كان يهمه آنذاك ، وقد وضع في ذلك النزل ،وكان هناك شيء اسمهالإنتظار ، وقد اعتنقه هماً يومياً مثلما فعل بقية أولئك الذين كانوا معه .

وربما لأنه سمع أصوات الرصاص منذ أن خرج من ميناء حيفا في نهاية أول أسبوعمن آذار 1948 ، فإنه لم يفكر كثيراً في أن شيئاً مرعباً كان يحدث آنذاك ، وهو - علىكل حال - لم يقابل شخصاً عربياً في حياته كلها ، بل إنه صادف أول عربي في حيفانفسها بعد إحتلالها بحوالي عام ونصف العام . وقد جعله ذلك الأمر يحتفظ طوال الأيامالحرجة بصورة فريدة وغامضة عما كان يجري حقاً . صورة أسطورية جاءت ملائمة تماماًلما كان يتصوره في وارسو وفي ميلان طوال 25 سنة من عمره ، ولذلك كانت المعارك التييسمع أصواتها ثم يقرأ أخبارها في "بالستاين بوست" كل صباح ، إنما تجري بين بشر وبينأشباح ، ليس إلا .

أين كان بالضبط يوم الأربعاء 21 نيسان 1948 ، في الوقتالذي كان " سعيد س." ضائعاً بين " شارع اللنبي " و" حارة حلول " وكانت زوجته " صفية " تندفع من " الحليصة " نزولاً على حافة المركز التجاري باتجاه شارع ستانتون ؟.

لم يعد من الممكن الآن تذكر الأمر تماماً ، بتفاصيله ، ومع ذلك فإنه يذكرأن الهجوم الذي بدأ صباح الأربعاء ظل مستمراً حتى ليل الخميس ، وصباح الجمعة فقط ، 23 نيسان 1948 ، تأكد تماماً أن الأمر في حيفا قد انتهى ، وأن الهاغانا سيطرت علىالموقف كلياً . وهو لم يعرف بالضبط ماذا حدث على وجه الدقة : لقد بدا القصف منالهادار ، وتكومت التفاصيل لديه من الراديو ومن أخبار القادمين بين الفينة والأخرىممتزجة بصورة تستعصي على الاستيعاب . إلا أنه كان يعلم أن الهجوم الشامل الذي بدأصباح الأربعاء قد انطلق من ثلاثة مراكز وأن الكولونيل " موشيه كارماتيل " كان يضعيده في تلك اللحظة على ثلاث كتائب يحركها من هادار هاكرمل ومن المركز التجاري ، وأنواحدة من هذه الكتائب كان عليها أن تكتسح الحليصة ، فالجسر ، فوادي رشميا نحوالمرفأ . في حين تضغط كتيبة أخرى من المركز التجاري لحصر الهاربين في ممر ضيق ينتهيإلى البحر . ولم يكن "ايفرات" يعرف على وجه التحديد مواقع هذه الأمكنة التي حفظأسماءها من فرط التكرار . وقد كان ثمة ارتباط ما بين كلمة " ارغون " وكلمة " واديالنسناس"، مما جعله يفهم أن العصابة تلك كانت مكلفة بالهجوم هناك .

ولم يكن " أفرات كوشن " بحاجة إلى من يؤكد له أن الإنجليز مهتمون بتسليم حيفا للهاغاناه ،فقد كان بوسعه معرفة أنهم كانوا وما زالوا يقومون بدوريات مشتركة ، وقد رأى ذلكبنفسه مرتين أو ثلاث مرات . ولا يذكر الآن كيف حصل على معلوماته عن دور البريجاديرستوكويل ، ألا أن ذلك بالنسبة له كان مؤكدا ، وكان الهمس يدور في كل زاوية من " نزلالمهاجرين " أن البريجادير ستوكويل إنما يرمى بثقله مع الهاغاناه ، وأنه في الحقيقةكتم الخبر عن موعد انسحابه ولم يسر به إلا للهاغاناه . فأعطاهم بذلك عنصر المفاجأةفي اللحظة المناسبة ، وذلك في وقت كان يحسب فيه العرب أن تخلي الجيش البريطاني عنالسلطة إنما سيتم في وقت لاحق.

وطل طوال يومي الأربعاء والخميس في ( النزل ) ، وكانوا كلهم قد تلقوا التعليمات بألا يغادروا المكان . ويوم الجمعة بدأ بعضهميخرجون ،إلا أنه لم يخرج من النزل حتى صباح السبت . وأدهشه للوهلة الأولى أنه لميجد سيارة ، لقد كان سبتا يهوديا حقيقيا . وابتعث ذلك شيئا من الدموع في عينيه لسببلا يستطيع تفسيره. وحين رأته زوجته كذلك فوجئ بها تقول له - والدموع في عينيها- :
-" إنني أبكي لشيء آخر، إنه سبت حقيقي، ولكن لم يعد ثمة جمعه حقيقية هنا، ولاأحد حقيقي."

ذلك كان مجرد البداية ، فللمرة الأولى منذ جاء زوجته أمامهباختصار شيئا مقلقا لم يكن يحسب حسابه ولم يفكر فيه. وفجأة أخذت آثار الدمار ، التيبدأ يلاحظها ، شكلا جديدا ومعنى آخر ، ولكنه رفض بينه وبين نفسه أن يجعل من ذلكمبعثا جادا للقلق ، أو حتى للتفكير.

على أن الأمر لم يكن كذلك لميريام ،زوجته ، إذا أنها تغيرت تماما ذلك اليوم ، وجاء التغير حين شهدت ، وهي تدور قربكنيسة بيت لحم في الهادار . شابان من الهاغانه يحملان شيئا ويضعانه قي شاحنه صغيرهكانت واقفه هناك ، واستطاعت في لحظة كانخطاف البصر أن ترى ما يحملانه ، فأمسكتبذراع زوجها وصاحت وهي ترتجف:
-" أنظر!"

إلا أن زوجها حين نظر حيث كانتتشير ، لم يرى شيئا ، كان الشابان يمسحان كفيهما على طرفي قميصيهما الخاكيين ،وقالت زوجته :
" كان طفلا عربيا ميتا ، وقد رأيته مكسوا بالدم ".

 
وأخذها زوجها إلى الرصيف الآخر وسألها :
-" كيف عرفت أنه طفل عربي؟"
-" ألم تر كيف ألقوه في الشاحنة كأنه حطبه ؟ لو كان يهوديا لما فعلوا ذلك".

وأراد أن يسألها لماذا ، إلا أنه لحظ وجهها وصمت .

كانت " ميريام" قد فقدت والدها في " أوشفيتز" قبل ذلك بثماني سنوات . وقبل ذلك ، حين دهموا المنزلالذي كانت تعيش فيه مع زوجها ، ولم يكن عند ذاك فيه ، التجأت إلى جيران كانوايسكنون فوق منزلها . ولم يجد الجنود الألمان أحداً ، الا انهم في طريق نزولهم علىالسلم صادفوا أخاها الصغير قادما إليها ، كان عمره عشر سنوات ، وقد جاء آنذاكليخبرها -أغلب الظن - أن والها قد سيق إلى المعتقل وأنه الآن صار وحده . إلا أنهحين رأى الجنود الألمان استدار وأخذ يعدو هاربا . وقد استطاعت أن ترى ذلك عبر تلكالكوة الضيقة التي تتيحها المسافه الصغيرة المتروكة بين مجموعة السلالم ومن هناكشهدت كيف أطلق عليه الرصاص.


وحين عاد " إيفرات كوشن" مع ميريام إلى نزلالمهاجرين كانت " ميريام" قد قررت العودة إلى إيطاليا . ولكنها لم تفلح طوال تلكالليلة ، ولا في الأيام القليلة التي أعقبت ذلك اليوم ، في إقناع زوجها بذلك ،وكانت دائما تخسر النقاش بسرعة ، ولا تستطيع إيجاد الكلمات التي تعبر عن رأيها ،وتشرح حقيقة دوافعها .

ألا أن الأمور عادت فتغيرت بعد ذلك بأسبوع واحد ،فقد عاد زوجها من زيارة لمكتب الوكالة اليهودية في حيفا بخبرين مفرحين: لقد أعطيبيتا في حيفا نفسها، وأعطي مع البيت طفلا عمره خمسة شهور!

مساء يوم الخميس، 22 نيسان 1948 ، سمعت " تورا زونشتاين " المرأة التي كانت تسكن مع ابنها الصغيربعد أن طلقها زوجها ، في الطابق الثالث ، بالضبط فوق بيت " سعيد.س" ، صوت بكاء طفلواهن منطلق من الطابق الثاني.

ورغم أنها لم تصدق في بادئ الأمر ما ذهبتإليه أفكارها ، الا أنها تحركت من مكانها بعد أن استطال البكاء الواهن ، ونزلت إلىالطابق الثاني وأخذت تقرع الباب.
واخيرا اضطرت إلى تحطيم الباب، وكان الطفل فيسريره منهكا تماما ، فحملته إلى بيتها.

كانت تورا تحسب أن الأمور ستعودإلى ما كانت عليه بعد فترة وجيزة . إلا أن ذلك الحسبان ما لبث أن سقط بعد يوميناثنين ، حين اكتشفت أن الأمر يختلف تماما عما كانت تحسب . ولم يكن من المعقولالاستمرار بالاحتفاظ بالصبي، فحملته إلى الوكالة اليهودية في حيفا وهي تتصور أنشيئا ما يمكن أن يقام به لحل تلك المشكلة .

وهكذا فقد كان من حظ " ايفراتكوشين" أن جاء بعد ذلك بفترة وجيزة إلى مكتب الوكالة اليهودية ، وحين تبينالمسؤولون هناك من أوراقه انه لم ينجب أولادا ، عرضوا عليه بيتا في حيفا نفسها ،كامتياز خاص ، إن هو قبل بتبني الطفل.

ولم يكن هذا العرض الا مفاجئة مدهشةلايفرات ، الذي كان يتحرق لتبني طفل بعد أن تأكد كليا من أن ميريام غير قادرة علىالإنجاب . بل أنه مضى إلى حد اعتبار الأمر كله بمثابة هبة إلهية لا تكاد تصدق تأتيبخيراتها دفعه واحدة . إذ لا شك أن طفلا يعطى لميريام سيجعلها تتغير تماما ، وتكفعن ذلك الشيء الغريب الذي بات ينتاب أفكارها منذ رأت ذلك الطفل العربي القتيل يلقىفي شاحنة الموت كقطعة خشب رخيصة .

وكان ذلك اليوم يوم خميس، الثلاثين مننيسان 1948 ، عندما دخل أفرات كوشين وزوجته ميريام برفقة موظف من الوكالة اليهوديةله وجه يشبه الدجاجة ، ويحمل طفلا عمره خمسة شهور ، إلى بيت سعيد س. في الحليصة .


أما سعيد س. وصفية فقد كانا في ذلك اليوم بالضبط يبكيان معا ، بعد أنعاد سعيد للمرة الثالثة فاشلا ، عاجزا عن الدخول إلى حيفا ، لينام بعد قليل مرهقاممزقا شبه غائب عن الوعي من فرط التعب ، في الغرفة التي كانت صفا سادسا بمدرسةالمعارف الثانوية ، مقابل جدار السور الذي يحمي سجن عكا الشهير ، على شاطئ البحرالغربي.

ولم يتناول سعيد س. قهوة ميريام ، واكتفت صفية برشفة واحدة ،تناولت معها قطعة من البسكوت المعلب كانت ميريام قد وضعته ، دون أن تكف عن الابتسام، أمامهما .

وظل سعيد س. ينظر حواليه وقد تضاعفت حيرته بعد أن أستمع إلىقصة ميريام نتفة وراء الأخرى ، طوال زمن بدا له طويلا ، ولفترة ما ظلا ، صفية وهو ،جالسين على مقعديهما كأنما سمرا هناك ، ينتظران شيئا مجهولا لا قدرة لهما على تصوره .

ومضت ميريام تذهب وتجيء . وحين كانت تغيب وراء الباب كانا يوصلانالاستماع إلى خطواتها البطيئة تجر نفسها جرا على البلاط ، بل كان بوسع صفية حينتغمض عينيها قليلا أن تتصور بالضبط كيف كانت ميريام تعبر الممر المؤدي إلى المطبخ ،وعن يمينها كانت غرفة النوم ، ومرة واحدة فقط سمعت اصطفاق الباب ، فنظرت نحو زوجهاوقالت له بمرارة : -" كأنها تتصرف في بيتها ! تتصرف وكأنه بيتها !"

وابتسمابصمت ، وعاد يشد راحتيه على بعضهما بين ركبتيه دون أن يستطيع التوصل إلى قرار ،وأخيرا جاءت ميريام ، فسألها :
-" ومتى سيحضر ؟"
-" وقت أوبته الآن ، ولكنهقد يتأخر قليلا . لم يلتزم طوال عمره بموعد لعودته إلى البيت ، إنه مثل أبيه تماما …. كان …"

وصمتت وهي تعض قليلا على شفتيها وتنظر نحو سعيد الذي أحس ببدنهيرتجف للحظة وكأن تيارا كهربائيا مسه . "مثل أبيه !" وفجاءة سأل نفسه : " ما هيالأبوة ؟" وكان مثل من فتح مصراعي شباك إعصار غير متوقع . فأخذ رأسه بين راحتيهوحاول أن يوقف ذلك الدوران المجنون للسؤال الذي كان كامنا في مكان ما من عقله طوالعشرين سنة ، دون أن يجرؤ على مواجهته ، أما صفية فقد أخذت تربت على كتفه ، لقد فهمتبصورة غريبة >لك الارتطام الذي لا يصدق ، والذي يمكن للكلمات أحيانا أن تفعلهعلى حين فجأة ، ثم قالت:
-" أنظر من الذي يتحدث ! إنها تقول (مثل أبيه)! وكأنلخلدون أبا غيرك !".

إلا أن ميريام تقدمت الى الأمام ، ووقفت معدة نفسهالتقول شيئا صعبا . ثم ببطء أخذت تنتزع تلك الكلمات التي تبدو وكأن يدا ما تنتشلهامن أعماق بئر محشو بالغبار :
-" إسمع يا سيد سعيد . أريد أن أقول لك شيئا مهماولذلك أردتك أن تنتظر دوف ، أو خلدون إن شئت ، كي تتحدثا . وكي ينتهي الأمر كماتريد له الطبيعة أن ينتهي ، أتعتقد أن الأمر لم يكن مشكلة لي كما كان مشكلة لك ؟طوال السنوات العشرين الماضية وأنا محتارة ، والآن دعنا ننتهي من كل شيء . أنا أعرفأبوه ، وأعرف أيضا أنه ابننا ، ومع ذلك لندعه يقرر بنفسه ، لندعه يختار . لقد أصبحشابا راشدا ، وعلينا نحن الإثنين أن نعترف بأنه هو وحده صاحب الحق في أن يختار ... أتوافق؟".

وقام سعيد عن مقعده واخذ يدور في انحاء الغرفة ثم وقف امامالطاولة المنقوشة بالصدف وسط الغرفة واخذ ، مرة أخرى ، يعد ريشات الطاووس فيالمزهرية الخشبية الجاثمة هناك ، الا انه لم يقل شيئاً . وظل صامتاً كأنه لم يسمعحرفاً . وكانت ميريام تنظر اليه متحفزة ، واخيراً التفت الى صفية وشرح لها ما قالتهميريام ، فقامت من مكانها ووقفت الى جانبه ، ثم قالت بصوت مرتجف:

- "ذلكخيار عادل ... وانا واثقة ان خلدون سيختار والديه الحقيقيين . لا يمكن ان يتنكرلنداء الدم واللحم ".

وفجأة أخذ سعيد يضحك بكل قوته ، وكانت ضحكته تعبقبمرارة عميقة تشبهالخيبة :

- " أي خلدون يا صفية ؟ أي خلدون ؟ اي لحم ودمتتحدثين عنهما ؟ وأنت تقولين أنه خيار عادل ! لقد علموه عشرين سنه كيف يكون . يوماًيوماً ، ساعة ساعة ، مع الاكل والشرب والفراش .. ثم تقولين : خيار عادل ! ان خلدون، أو دوف ، أو الشيطان ان شئت ، لا يعرفنا! أتريدين رأيي ؟ لنخرج من هنا ولنعد الىالماضي . انتهى الامر . سرقوه".

ونظر نحو صفية التي تهاوت في مقعدها وقدتلقت للمرة الاولى حقيقة الامر دفعة واحدة ، وبدأ لها كلام زوجها صحيحاً تماماً ،الا انها ظلت تحاول التعلق بخيوط غير مرئية لامال بنتها في وهمها عشرين سنة كنوع منالرشوة . وعاد زوجها يقول لها :

- "ربما كان لا يعرف على الاطلاق انه ولدمن أبوين عربيين .. ربما عرف ذلك قبل شهر ، او اسبوع ، او سنة .. فماذا تعتقدين؟انه مخدوع ، وقد يكون اكثر حماساً لها منهم .. لقد بدأت الجريمة قبل عشرين سنة ،ولا بد من دفع الثمن .. بدأت يوم تركناه هنا".

- "ولكننا لم نتركه. انتتعرف".

- "بلى. كان علينا الا نترك شيئاً . خلدون ، والمنزل، وحيفا! ألمينتابك ذلك الشعور الرهيب الذي انتابني وأنا اسوق سيارتي في شوارع حيفا؟ كنت اشعرانني اعرفها وانها تنكرني. وجاءني الشعور ذاته وانا في البيت، هنا . هذا بيتنا! هلتتصورين ذلك؟ انه ينكرنا! . الا ينتابك هذا الشعور! انني اعتقد ان الامر نفسه سيحدثمع خلدون وسترين!".


 
وأخذت صفية تنشج ببؤس ، فيما مضت ميريام الى الخارجتاركة الغرفة التي ملأها فجأة توتر محسوس . وشعر سعيد بأن جميع الجدران التي عيشنفسه طوال عشرين سنة داخلها تكسرت وصار بوسعه ان يرى الاشياء اكثر وضوحاً وانتظرلحظات حتى خف نشيج صفية ، فاستدار نحوها وسألها :

- " اتعرفين ما حدث لفارساللبدة ؟".
- " ابن اللبدة اياه؟ جارنا؟".

- " اجل ، جارنا في رام اللهالذي سافر الى الكويت . اتعرفين ماذل حدث له حين زار قبل اسبوع واحد منزله فييافا؟".

- "هل ذهب الى يافا؟".

- "اجل. قبل اسبوع كما اعتقد، وقداستأجر سيارة من القدس اخذنه الى يافا . توجه فوراً الى العجمي ، كان يسكن قبلعشرين سنة في بيت من طابقين وراء المدرسة الارثودكسية في العجمي . تذكرين المدرسة؟انها وراء مدرسة الفرير ، وانت ذاهبة الى الجبلية ، الى اليسار وبعدها بمئتي مترمدرسة الارثوذكس على اليمين ، ولها ملعب كبير ، وبعد الملعب يوجد مفرق ، وفي منتصفالزقاق كان فارس اللبدة يسكن مع عائلته. كان يغلي غضباً يومها، فأمر السائق بالوقوفامام المنزل وصعد السلم درجتين درجتين ودق على باب منزله"..

كان الوقتعصراً ، وكانت يافا – فيما عدا المنشية - ما زالت على حالها، كما كان فارس اللبدةيعرفها قبل عشرين سنة . وشعر ان اللحظات القليلة التي مضت بين قرع الباب وبين سماعهلخطوات رجل قادم ليفتحه قد امتدت دهوراً من الغضب والحزن العاجز الكسيح. واخيراًانفتح الباب ، ومد الرجل الطويل القامة ، الاسمر والذي كان يلبس قميصاً ابيض مفتوحالازرار، مد يده ليصافح القادم الذي لا يعرفه . الا ان فارس تجاهل الراحة الممدودة، وقال بالهدوء الذي يحمل كل معنى الغضب :
- "جئت القي نظرة على بيتي . هذاالمكان الذي تسكنه هو بيتي انا، ووجودك فيه مهزلة محزنة ستنتهي ذات يوم بقوة السلاح . تستطيع ان شئت ، ان تطلق علي الرصاص هذه اللحظة، ولكنه بيتي، وقد انتظرت عشرينسنة لاعود اليه .. واذا...".

واخذ الرجل الواقف على عتبة الباب ، والذي كانما يزال يمد راحته ، يضحك بقوة مقترباً من فارس اللبدة حتى صار امامه مباشرة ،وعندها تقدم بذراعين مفتوحتين نحوه واحتضنه..

- "لا حاجة لتصب غضبك علي ،فأنا عربي ايضاً وبافاوي مثلك، واعرفك. فأنت ابن اللبدة .. ادخل لنشرب القهوة!".

ودخل فارس مشدوهاً ، يكاد لا يصدق . وقد كان البيت هو نفسه ، بأثاثهوترتيبه والوان جدرانه واشيائه التي يذكرها جيداً . واقتاده الرجل نحو غرفة الجلوسدون ان يقدر على اخفاء ابتسامته العريضة وحين فتح بابها وطلب منه الدخول ، وقف فارسمسمراً ثم أخذت الدموع –فجأة- تظفر من عينيه!

كانت غرفة الجلوس على حالها ،كأنه تركها ذلك الصباح، تعبق فيها. نفس الرائحة التي كانت لها، رائحة البحر التيكانت دائماً تثير في راسه دوامات من عوالم مجهولة معدة للاقتحام والتحدي، ولكن ذلكلم يكن الشيء الذي سمره في مكانه ، فعلى الجدار المقابل ، المطلي بلون ابيض متوهج ،كانت صورة اخيه بدر ما تزال معلقة، وحدها في الغرفة كلها، وكان الشريط الاسودالعريض الذي يمتد في زاويتها اليمنى ما زال كما كان.

وفجأة تدفق في الغرفةجو الحداد الذي كان ، واخذت الدموع تكر على وجنتي فارس وهو واقف هناك . تلك ايامقديمة ، الا انها تدفقت الان كأن البوابات التي كانت تحبسها قد انفتحت علىمصاريعها:

كان اخوه بدر اول من حمل السلاح في منطقة العجمي في الاسبوعالاول من كانون الاول عام 1947 ، ومنذ ذاك تحول المنزل الى ملتقى للشبان الذينكانوا يملؤون ملعب الارثوذكسية انذاك بعد ظهر كل يوم. اما الان فقد تغير كل شيء،وانخرط بدر في القتال ، كأنه كان ينتظر ذلك اليوم منذ طفولته ، وفي السادس من نيسانعام 1948 جيء ببدر الى الدار محمولاً على اكتاف رفاقه، كان مسدسه ما زال في وسطه،اما بندقيته فقد تمزقت مع جسده بقذيفة تلقاها وهو على طريق تل الريش . وشيعت العجميجثمان بدر كما يتوجب على الرفاق ان يشيعوا الشهيد. ثم جيء بصورته مكبرة ، وذهب رفيقمن رفاقه الى شارع اسكندر عوض حيث كتب خطاط هناك كان اسمه ((قطب)) يافطة صغيرة تقولان بدر اللبدة استشهد في سبيل تحرير الوطن . وحمل طفل ما تلك اليافطة في مقدمةالجنازة وحمل طفلان صورته ، وفي المساء اعيدت الصورة الي البيت ، وربط شريط الحدادالاسود على زاويتها اليمنى .

انه ما زال يذكر كيف رفعت امه كل الصور التيكانت معلقة على جدران غرفة الجلوس، وعلقت صورة بدر على الجدار الذي يقابل الباب. ومنذ تلك اللحظة فاحت في الغرفة رائحة الحداد الحزين ، وظل الناس يأتون فيجلسون فيالغرفة وينظرون الى الصورة ويقدمون التعازي.

كان فارس، من المكان الذي يقففيه، يستطيع ان يرى المسامير التي كانت تحمل صوراً اخرى قبل عشرين سنة تطل برؤوسهامن الجدران العارية. وبدت له كأنها رجال يقفون بالانتظار ، امام تلك الصورة الكبيرةلاخيه الشهيد ، بدر اللبدة ، معلقة وحدها ، متشحة بالسواد، في صدر الغرفة .

وقال الرجل لفارس:

- "ادخل . اجلس في الداخل . دعنا نتحدث قليلاً . لقد انتظرناكم طويلاً ، وكنا نريد ان نراكم في مناسبة غير هذه ".

ودخل فارس، كأنه يمشي عبر حلم لا يصدق ، وجلس في مقعد يواجه صورة شقيقه . تلك هي المرةالاولى التي يرى فيها صورة اخيه بدر منذ عشرين سنة ، فحين خرجـوا من
 
فيها صورة اخيه بدر منذ عشرين سنة ، فحين خرجـوا من يافا ( حملتهمالزوارق من منطقة تقع الى الشمال من شط الشباب، واتجهت نحو غزة ، الا ان اباه عادفهاجر الى الاردن) لم يحملوا شيئاً معهم، ولا حتى صورة صغيرة لبدر الذي ظل هناك .

ولم يستطيع فارس ان ينطق الا بعد ان دخل طفلان الى الغرفة ، واخذا يركضانبين المقاعد ، ثم خرجا صاخبين كما دخلا، وقال الرجل:
- "انهما سعد وبدر . ابناي".
_ "بدر"؟
- "اجل سميناه على اسم اخيك الشهيد"..
- "والصورة؟".

ووقف الرجل وقد تغير وجهه ، ثم قال:
- "أنا من يافا . من سكان المنشية . وفي حرب 1948 هدمت قنابل المورتر بيتي. لست اريد ان اروي لك الان كيف سقطت يافا. وكيف انسحبوا ، اولئك الذين جاؤوا لينجدونا، لحظة المأزق. ذلك شيء راح الان.. المهمانني حين عدت مع المقاتلين الى المدينة المهجورة اعتقلونا. وامضيت فترة طويلة فيالمعتقل . ثم حين اطلقوني رفضت ان اغادر يافا، وقد عثرت على هذا البيت ، واستأجرتهمن الحكومة."

- "والصورة؟".

- "حين جئت الى البيت كانت الصورة اولشيء شاهدته وربما كنت استأجرت البيت بسببها . ذلك شيء معقد ولا استطيع ان اشرحه لك، ولكن حين احتلوا يافا كانت مدينة شبه فارغة ، وبعد ان خرجت من السجن شعرت بأنيمحاصر . لم اشهد عربياً واحداً هنا . كنت وحدي جزيرة صغيرة معزولة في بحر مصطخب منالعداء. ذلك العذاب لم تجربه انت، ولكن انا عشته.

وحين شهدت الصورة وجدتفيها سلوى . وجدت فيها رفيقاً يخاطبني ويتحادث الي يذكرني بأمور اعتز بها واعتبرهااروع ما في حياتنا . قررت عندها استئجار البيت، ففي ذلك الوقت – تماماً كما هوالامر الان- يبدو لي ان يكون الانسان مع رفيق له حمل السلاح ومات في سبيل الوطنشيئاً ثميناً لا يمكن الاستغناء عنه. ربما كان نوعاً من الوفاء لاولئك الذين قاتلوا . كنت اشعر انني لو تركته لكنت ارتكبت خيانة لا اغتفرها لنفسي . لقد ساعدني ذلك ليسعلى الرفض فقط، ولكن البقاء .. هكذا ظلت الصورة هنا . ظلت جزءاً من حياتنا ، اناوزوجتي لمياء وابني بدر وابني سعد وهو ... اخوك بدر ، عائلة واحدة ، عشنا عشرين سنةمعاً . كان شيئاً مهماً بالنسبة لنا...".

وظل فارس حتى منتصف الليل جالساًهناك، ينظر الى شقيقه بدر يبتسم في الصورة ، مليئاً بالشباب والعنفوان ، تحت ذلكالوشاح الاسود ، كما كان يفعل طوال عشرين سنة ، وحين قام ليعود سأل ان كان يستطيعاسترداد الصورة ، وقال الرجل:
- "طبعاً تستطيع . انه شقيقك بعد كل شيء وقبل ايشيء اخر".

وقام فأنزل الصورة عن الجدار ، وبدا المكان الذي خلفته الصورةوراءها مستطيلاً باهتاً من البياض الذي لا معنى له ، والذي يشبه فراغاُ مقلقاً .

وحمل فارس الصورة معه الى السيارة ، وعاد الى رام الله وكان طوال الطريقينظر اليها متكئة الى جانبه على المقعد ، ويطل منها بدر وهو يبتسم تلك الابتسامةالشابة المشرقة، وقد ظل يفعل ذلك حتى اجتاز القدس ، وصار على الطريق المتجه نحو رامالله ، وعندها فقط انتابه شعور مفاجيء بأنه لا يملك الحق في الاحتفاظ بتلك الصورة ،ولم يستطيع ان يفسر الامر لنفسه، الا انه طلب من السائق العودة الى يافا ، ووصلهافي الصباح .

صعد السلم مرة اخرى بخطى بطيئة وقرع الباب وقال له الرجل وهويتناول الصورة منه :

- "شعرت بفراغ مروع حين نظرت الى ذلك المستطيل الذيخلفته على الحائط . وقد بكت زوجتي ، واصيب طفلاي بذهول ادهشني . لقد ندمت لاننيسمحت لك باسترداد الصورة ، ففي نهاية المطاف هذا الرجل لنا نحن . عشنا معه وعاشمعنا وصار جزءاً منا . وفي الليل قلت لزوجتي انه كان يتعين عليكم ، ان اردتماسترداده ، ان تستردوا البيت ، ويافا ، ونحن ... الصورة لا تحل مشكلتكم ، ولكنهابالنسبة لنا جسركم الينا وجسرنا اليكم" .
وعاد فارس وحده الى رام الله ، وقالسعيد س . لزوجته:
- "فارس اللبدة ، لو تعرفين ..".

وهمس بصوت لا يكاديسمع :
- "انه يحمل السلاح الان".


وعلى الطريق هدر صوت محرك ،ودخلت ميريام الى الغرفة ووجهها يعلوه اصفرار مفاجيء ، كانت الساعة قد قاربت منتصفالليل ، وتقدمت العجوز القصيرة بخطى بطيئة نحو النافذة ، فأزاحت الستائر برفق ، ثماعلنت بصوت مرتجف :

- " ها هو دوف . لقد جاء!".

جاءت الخطوات علىالدرج شابة ، ولكنها متعبة ، وتتبعها (سعيد س.) واحدة بعد الاخرى وهي تصعد السلممنذ ان استمع ، واعصابه مشدودة ، الى صوت البوابة الحديدية تصطفق ثم تنغلقبالمزلاج.

وامتدت اللحظات طويلة يكاد صمتها يضج بطنين جنوني لا يحتمل . ثمسمع صوت المفتاح يعالج الباب ، وعندها فقط نظر نحو ميريام ورأى – للمرة الاولىانها جالسة هناك ، مصفرة الوجه وترتجف . ولم يكن لديه مقدار من الشجاعة يكفى للنظرالى صفية ، فثبت عينيه ناحية الباب مستشعراً العرق يتفصد بقوة من جميع خلايا جسدهدفعة واحدة .

وكانت اصوات الخطوات في الممر مكتومة ومحتارة بعض الشيء ، ثمجاء صوت متردد ، نصف عال ، ينادي : "ماما".

وارتجفت ميريام قليلاً ، وأخذتتفرك راحتيها ، فيما استمع سعيد س. الى زوجته ، تشرق بدمعها بصوت لا يكاد يسمع . وفي الخارج توقفت الخطوات قليلاً وكأنها تنتظر شيئاً ، ثم جاء الصوت نفسه مرة اخرى، وحين صمت اخذت ميريام تترجم بصوت مرتجف هامس:
- "انه يسأل لماذا أنا فيالصالون حتى هذه الساعة المتأخرة ؟".

وعادت الخطوات تتجه نحو الغرفة ، وكانالباب موارباً ، وقالت ميريام بالانكليزية :


- " تعال يا دوف ، يوجدضيوف يرغبون برؤيتك ".

وانفتح الباب بشيء من البطء ، ولاول وهلة لم يصدق ،فقد كان الضوء عند الباب باهتاً ، ولكن الرجل الطويل القامة خطا الى الامام . كانيلبس بزة عسكرية ، ويحمل قبعته بيده.

وقفز سعيد واقفاً كأن تياراًكهربائياً قذفه عن المقعد ، ونظر نحو ميريام وهو يقول بصوت متوتر :

- "هذههي المفاجأة ؟ اهذه هي المفاجأة التي اردت منا انتظارها ؟".

واستدارت صفيةنحو النافذة ، تخفي وجهها براحتيها وتنشج بصوت مسموع .

اما الرجل الطويلالقامة فقد ظل مسمراً امام الباب ، ينقل بصره نحو الثلاثة محتاراً ، وعندها فقطقامت (ميريام) ، وقالت للشاب بهدوء مفتعل وبطيء :

- " اريد ان اقدم لكوالديك ... والديك الاصليين" .

وخطا الشاب الطويل القامة خطوة بطيئة الىالامام ، وتغير لونه فجأة وبدا انه فقد ثقته بنفسه دفعة واحدة . ثم نظر الى بزتهوعاد ينظر الى سعيد ، الذي كان واقفاً ما يزال امامه يحدق اليه . وأخيراً قال الشاببصوت خفيض :

- " أنا لا أعرف أماً غيرك ، أما أبي فقـد قتل في سـيناء قبل 11 سنه ، ولا اعرف غيركما ".

وعاد سعيد الى الوراء خطوتين ، ثم جلس مكانهوأخذ راحة صفيه بين يديه ، وادهشه – بينه وبين نفسه – كيف استطاع ان يسترد هدوءهبهذه السرعة . ولو قال له اي انسان قبل خمس دقائق فقط انه سيكون جالساً هناك بمثلهذا الهدوء لما صدقه ، أما الان فقد تغير كل شيء .

ومضت لحظات بطيئة ، كانكل شيء فيها ساكناً تماماً . ثم اخذ الشاب الطويل القامة يخطو ببطء : ثلاث خطواتنحو الباب ثم عودة نحو وسط الغرفة . وضع قبعته على الطاولة ، وبدت قرب المزهريةالخشبية وريش الطاووس فيها شيئاً غير مناسب ، والى حد ما مضحكاً . وفجأة انتاب سعيدشعور غريب بأنه ما زال يشاهد مسرحية معدة سلفاً بدقة ، وتذكر مشاهد درامية مفتعلةفي افلام رخيصة تستدر توتراً تافهاً .

 
وتقدم الشاب من ميريام ، وأخذ يقوللها بصوت اراد منه أن يكون قاطعاً ونهائياً ومسموعاً تماما :

- " وماذاجاءا يفعلان ؟ لا تقولي انهما يريدان استرجاعي !".

وقالت ميريام بصوت مماثل :
- " اسألهما ".

واستدار كقطعة خشب ، كأنه ينفذ امراً ، وسأل سعيد :

-" ماذا تريد يا سيدي ؟".

وظل سعيد محتفظاً بهدوئه الذي بدا لهلحظتذاك مجرد قشرة رقيقة تخفي لهباً كامناً ، وبصوت خفيض قال :

- " لاشيء . لا شيء .. انه مجرد فضول ، كما تعلم ".

وخيم صمت مفاجيء ، فيما ارتفع صوتصفيه بالنشيج وكأنه صادر من مقاعد متفرج هش التأثر . ونقل الشاب بصره مرة اخرى : منسعيد الى ميريام ثم الى قبعته المتكئة على المزهرية ، وارتد الى الوراء كأن شيئاًدفعه بقوة نحو المقعد المجاور لميريام ،وجلس فيه وهو يقول :

- " لا . ذلكشيء مستحيل ، لا يصدق ..".

وسأل سعيد ، بهدوئه المفاجيء :

- " أنتفي الجيش ؟ من تحارب ؟ لماذا ؟".

وانتفض الشاب واقفاً فجأة :

- " ليس من حقك ان تسأل هذه الاسئلة . انت على الجانب الاخر ".

- "انا ؟ اناعلى الجانب الاخر ".

وضحك بقوة ، وشعر بأنه عبر تلك القهقهة العالية كانيدفع بكل ما في صدره من اسى وتوتر وخوف وفجيعة الى الخارج ، ورغب فجأة في ان يظليقهقه ويقهقه حتى ينقلب العالم كله ، او ينام ، او يموت ، او يندفع خارجاً الىسيارته ، الا الا ان الشاب قاطعه بحدة :

- " لست ارى سبباً للضحك ".

- "أنا ارى ".

وضحك لفترة قصيرة فحسب ، ثم صمت كما تفجر ، واتكأعلى مقعده مستشعراً تجدد الهدوء ، واخذ يبحث في جيبه عن سيكارة . وامتد الصمتطويلاً الا ان صفية ، التي عادت فهدأت نفسها سألت بصوت خفيض : " الا تشعر بأنناوالداك ؟".

ولم يعرف احد لمن كان السؤال . فلا شك ان ميريام لم تفهم ، ولاالشاب الطويل القامة . اما سعيد فلم يرد : كان قد انهى سيكارته في تلك اللحظة فقامالى الطاولة ليطفئها واضطر – كي لا يفعل ذلك – ان يزحزح القبعة من مكانها ، وفعلذلك وهو يبتسم بسخرية ، ثم عاد الى مكانه وجلس .

وعندها قال الشاب ، وقدتغير صوته تماماً :

- " دعونا نتحدث كأناس متحضرين".

واخذ سعيديضحك مرة اخرى ، ثم قال :

- " أنت تريد ان تفاوض ... اليس كذلك ؟ كنت تقولانك ، او انني ، في الجهة الاخرى .. ماذا حدث ؟ هل تريد ان نفاوض ام ماذا؟".


وسألته صفيه مستثارة :

- "ماذا قال ؟".

- " لا شيء ".
-
وعاد الشاب فوقف ، واخذ يتحدث وكأنه حضر تلك الجمل منذ فترة طويلة :

-" انا لم اعرف ان ميريام وايفرات ليسا والدي الا قبل ثلاث او اربع سنوات . منذ صغري وانا يهودي . اذهب الى الكنيس والى المدرسة اليهودية واكل الكوشير وادرسالعبرية . وحين قالا لي – بعد ذلك – ان والدي الاصليين هما عربيان ، لم يتغير ايشيء . لا ، لم يتغير . ذلك شيئ مؤكد .. ان الانسان هو في نهاية الامر قضية ".

- " من قال ذلك ؟".

- " قال ماذا ؟".

- "من الذي قال انالانسان هو قضيه ؟".

- " لا اعرف ، لا اذكر .. لماذا تسأل ؟".

- لمجرد الفضول ، الصحيح لمجرد ان ذلك بالضبط ما كان يدور في بالي هذه اللحظة .

- " ان الانسان هو قضية؟".

- " بالضبط ".

- " اذن لماذاجئت تبحث عني ؟".

- " لست ادري . ربما لانني لم اكن اعرف ذلك ، او كي أتأكدمنه اكثر . لست ادري ، على اي حال لماذا لا تكمل ؟".

وعاد الشاب الطويلالقامة يمشي وهو يعقد كفيه وراء ظهره : ثلاث خطوات نحو الباب وثلاث خطوات نحوالطاولة . لقد بدا تلك اللحظة وكأنه حفظ عن ظهر قلب درساً طويلاً ، وانه حين قوطعفي وسطه ، لم يعد يعرف كيف يكمله ، وهو يسترجع صامتاً ، في رأسه ، الجزء الاول كييصير بوسعه المتابعة ، وفجأة قال :

- " بعد ان عرفت انكما عربيان كنتدائماً اتساءل بيني وبين نفسي : كيف يستطيع الاب والام ان يتركا ابنهما وهو في شهرهالخامس ويهربان ؟ وكيف يستطيع من هو ليس امه وليس اباه ان يحتضناه ويربياه عشـرينسـنه ؟ عشـرين سنه ؟ اتريد ان تقول شيئاً يا سيدي ؟".

- " لا".
قالسعيد باختصار حاسم ، واشار له بيده كي يتابع :

- " انني في قوات الاحتياطالان ، لم يقدر لي خوض معركة مباشرة الى الان لاصف لك شعوري ، ولكن ربما فيالمستقبل استطيع ان اؤكد لك مجدداً ما سأقوله الان : انني انتمي الى هنا ، وهذهالسيدة هي امي ، وانتما لا اعرفكما ولا اشعر ازاءكما بأي شعور خاص ".

- " لا حاجة لتصف لي شعورك فيما بعد ، فقد تكون معركتك الاولى مع فدائي اسمه خالد ،وخالد هو ابني ، ارجو ان تلاحظ انني لم اقل انه اخوك ، فالانسان كما قلت قضيه ، وفيالاسبوع الماضي التحق خالد بالفدائيين ... اتعرف لماذا اسميناه خالد ولم نسمه خلدون؟ لاننا كنا نتوقع العثور عليك ، ولو بعد عشرين سنة ، ولكن ذلك لم يحدث . لم نعثرعليك .. ولا اعتقد اننا سنعثر عليك ".

ونهض سعيد س . متثاقلاً . الان فقطشعر انه متعب ، وانه هدر عمره بصورة عابثة . وساقه هذا الشعور الى كابة لم يكنيتوقعها ، واحس بأنه على وشك ان يبكي ، فقد كان يعرف انه كذب ، وان خالداً لم يلتحقبالفدائيين . وفي الواقع كان هو الذي منعه . بل مضى ذات يوم الى حد تهديده بالتبرؤمنه ان هو عصا ارادته والتحق بالمقاومة . وبدت له الايام القليلة الماضية مجردكابوس انتهى على صورة مفزعة ، اهو نفسه الذي كان قبل ايام يهدد ابنه خالد بالتبرؤمن ابوته له ؟ اي عالم عجيب لا يصدق . الان لا يجد شيئاً ليدافع به عن نفسه امامتبرؤ هذا الشاب الطويل القامة من بنوته له الا افتخاره بأبوته لخالد ، خالد نفسهالذي حال دونه ودون الالتحاق بالفدائيين بذلك السوط التافه الذي كان يسميه الابوة ! من يدري ، فربما اقتنص خالد الفرصة اثناء وجوده هو في حيفا فهرب ... اه لو فعل ! كمسيكون من المخيب لكل قيم هذا الوجود ان هو عاد الى اليبت فوجد خالد بانتظاره !.

مشى سعيد خطوتين واخذ ، مره اخرى ، يعد ريشات الطاووس الخمس التي كانت فيالمزهرية الخشبية ، ولاول مره منذ دخل الشاب الطويل القامة الى الغرفة ، نظر الىميريام ، وببطء قال لها :

-" انه يتساءل كيف يترك الاب والام ابنهما الرضيعفي السرير ويهربان ... انت يا سيدتي لم تقولي له الحقيقة ، وحين رويتها له كانالوقت قد مضى ، انحن الذين تركناه ؟ انحن الذين قتلنا ذلك الطفل قرب كنيسة بيت لحمفي الهادار ؟ الطفل الذي كانت جثته ، كما قلت لنا ، اول شيء صدمك في هذا العالمالذي يسحق العدل بحقارة كل يوم .. ربما كان ذلك الطفل هو خلدو ! ربما كان ذلك الشيءالصغير الذي مات ذلك اليوم التعيس خلدون... بل إنه خلدون ، وانت كذبت علينا أنهخلدون ، وقد مات ، وهذا ليس الا طفلا يتيما عثرت عليه في بولونيا ، او انكلترا".

كان الشاب طويل القامه ينكفئ على نفسه كشيء محطوم في كرسيه ، وقال سعيدلنفسه :
-" لقد فقدناه ، ولكنه بلا ريب فقد نفسه بعد هذا كله ، ولن يكون ابداكما كان قبل ساعة " وأعطاه هذا الاعتقاد شعورا غامضا بارتياح لا يفسر ، وذلك كان مادفعه نحو الكرسي الذي كان الشاب طويل القامة جالسا فيه ، ووقف امامه وقال :
-" الانسان في نهاية المطاف قضية ، هكذا قلت ، وهذا هو الصحيح ، ولكن أية قضية ؟ هذاهو السؤال ! فكر جيدا . خالد هو ايضا قضية ، ليس لأنه ابني ، ففي الواقع ... دع تلكالتفاصيل ، على أية حال ، جانبا... إننا حين نقف مع الإنسان فذلك شيء لا علاقة لهبالدم واللحم وتذاكر الهوية وجوازات السفر ... هل تستطيع أن تفهم ذلك ؟ حسنا ، دعنانتصور أنك استقبلتنا –كما حلمنا وهما عشرين سنة- بالعناق والقبل والدموع ... أكانذلك قد غير شيئا؟ إذا قبلتنا أنت ، فهل نقبلك نحن؟ ليكن اسمك خلدون أو دوف او
 
اسماعيل او اي شيء آخر ... فما الذي يتغير ؟ ومع ذلك فأنا لا أشعر بالاحتقار إزاءك، والذنب ليس ذنبك وحدك ، ربما سيبدأ الذنب من هذه اللحظه ليصبح مصيرك ، ولكن قبلذلك ماذا؟ أليس الانسان هو ما يحقن فيه ساعة وراء ساعة ويوما وراء يوم وسنة وراءسنة ؟ إذا كنت أنا نادما على شيء فهو انني اعتقدت عكس ذلك طوال عشرين سنة "!

وعاد يجر خطواته ، محاولا أن يبدو أهدأ ما يكون ، عائدا الى مقعده ، إلاأنه في تلك الخطوات القليلة التي كانت تمر عبر الطاولة المصدفة ، بريش الطاووس الذييتمايل في المزهرية الخشبية وسطها ، بدت له الأشياء مختلفة تماما عما كانت عليه حيندخل هذه الغرفة للمرة الأولى قبل ساعات ، وسأل نفسه فجأة : ما هو الوطن؟ وابتسمبمرارة ، وأسقط نفسه ، كما يسقط الشيء في مقعده ، وكانت صفية تنظر اليه قلقة ،وتفتح في وجهه عينين متسائلتين ، وعندها فقط خطر له أن يشاركها في الأمر، فسألها :


-"
ما هو الوطن ؟".


وارتدت الى الوراء مندهشة وهي تنظر اليه كمن لا يصدقما سمع ، ثم سألته برقة يكتنفها الشك :
-"

ماذا قلت؟".


-"

سألت : ما هوالوطن؟ وكنت أسأل نفسي ذلك السؤال قبل لحظة . أجل ما هو الوطن؟ أهو هذان المقعداناللذان ظلا في هذه الغرفة عشرين سنة ؟ الطاولة ؟ ريش الطاووس ؟ صورة القدس علىالجدار؟ المزلاج النحاسي ؟ شجرة البلوط؟ الشرفة ؟ ما هو الوطن ؟ خلدون؟ أوهامنا عنه؟ الأبوة؟ البنوة؟ ما هو الوطن ؟ بالنسبة لبدر اللبدة ، ما هو الوطن؟ أهو صورة أيةمعلقة على الجدار؟ أنني أسأل فقط".


ومرة جديدة ، ومفاجئة أخذت صفية تبكي ،وتجفف دموعها بمنديلها الأبيض الصغير ، وقال سعيد لنفسه وهو ينظر اليها:" لقد شاختهذه المرأة حقا ، واستنزفت شبابها وهي تنتظر هذه اللحظة ، دون أن تعرف أنها لحظهمروعة ".

وعاد فنظر الى (دوف) وبدا له مستحيلا تماما أن يكون هذا الشاب منصلب تلك المرأة ، وحاول أن يستشف شبها ما بينه وبين خالد ، إلا انه لم يعثر علىإيما شبه بين الرجلين ، بل رأى بصورة ما تضادا بينهما يكاد يكون متعاكسا تماما ،واستغرب أن يكون قد فقد ايما عاطفة إزاءه ، وتصور أن مجموع ذاكرته عن (خلدون) كانتقبضة من الثلج أشرقت عليه فجأة شمس ملتهبة فذوبتها.

وكان ما يزال ينظر الى (دوف) حين قام هذا الآخر فجأة ووقف أمام سعيد منتصبا كأنه يتصدر طابورا من الجنودالمختبئين ، وبذل جهده كي يكون هادئا :

-"

كان يمكن لذلك كله ألا يحدث لوتصرفتم كما يتعين على الرجل المتحضر الواعي أن يتصرف".


-"

كيف؟".


-"

كان عليكم ألا تخرجوا من حيفا . واذا لم يكن ذلك ممكنا فقد كان عليكمبأي ثمن ألا تتركوا طفلا رضيعا في السرير . وإذا كان هذا أيضا مستحيلا فقد كانعليكم ألا تكفوا عن محاولة العودة ... أتقولون أن ذلك أيضا مستحيلا؟ لقد مضت عشرونسنة يا سيدي ! عشرون سنة! ماذا فعلت خلالها كي تسترد ابنك ؟ لو كنت مكانك لحملتالسلاح من أجل هذا . أيوجد سبب أكثر قوة ؟ عاجزون! عاجزون! مقيدون بتلك السلاسلالثقيلة من التخلف والشلل! لا تقل لي أنكم أمضيتم عشرين سنة تبكون!...الدموع لاتسترد المفقودين ولا الضائعين ولا تجترح المعجزات ! كل دموع الأرض لا تستطيع أنتحمل زورقا صغيرا يتسع لأبوين يبحثان عن طفلهما المفقود ... ولقد أمضيت عشرين سنةتبكي... أهذا ما تقوله لي الآن؟ أهذا هو سلاحك التافه المفلول ؟".


وارتدسعيد الى الوراء ، مدهوشا ومطعونا ، وأحس بدوار مفاجئ يعصف يه ، أيمكن أن يكون ذلككله حقيقيا ؟ ألا يمكن أن يكون مجرد حلم طويل وممطوط وكابوس لزج يفرش نفسه فوقهكأخطبوط هائل؟ وأخذ ينظر الى صفية التي كانت دهشتها قد اتخذت شكل الانهيار المهيضالجناح ، وشعر بحزن عميق من أجلها ، ولمجرد أن لا يبدو غبيا ، اتجه نحوها ، وقاللها بصوت مرتجف:

-"

لست أريد أن أناقشه ".


-"

ماذا قال ؟".


-"

لا شيء . بلى . قال اننا جبناء".


وسألت صفية ببرائة :

-"

ولأننا جبناء يصير هو كذلك ؟".


عندها فقط استدار نحوه ، كان مايزال واقفا منصب القامة ، وبدت ريشات الطاووس المطلة وراءة وكأنها تشكل ذيلا لديككبير خاكي الون يقف هناك . وابتعث فيه المنظر انتعاشا غير متوقع ، فقال :

-"

زوجتي تسأل إن كان جبننا يعطيك الحق في أن تكون هكذا ، وهي ، كما ترى،تعترف ببراءة بأننا كنا جبناء ، ومن هنا فأنت على حق ، ولكن ذلك لا يبرر لك شيئا ،إن خطأ زائد خطأ لا يساويان صحا ، ولو كان الأمر كذلك لكان ما حدث لايفرات ولميريامفي أوشفيتز صوابا ، ولكن متى تكفون عن اعتبار ضعف الآخرين وأخطائهم مجيرة لحسابميزاتكم ؟ لقد اهترأت هذه الأقوال العتيقة ، هذه المعادلات الحسابية المترعةبالأخاديع ... مرة تقولون أن أخطاءنا تبرر أخطاءكم ، ومرة تقولون أن الظلم لا يصححبظلم آخر... تستخدمون المنطق الأول لتبرير وجودكم هنا ، وتستخدمون المنطق الثانيلتتجنبوا العقاب الذي تستحقونه ، ويخيل إلي أنكم تتمتعون الى أقصى حد بهذه اللعبهالطريفة ، وها أنت تحاول مرة جديده أن تجعل من ضعفنا حصان الطراد الذي تعتلي الذيتعتلي صهوته ... لا ، أنا لا أتحدث إليك مفترضا إنك عربي ، والآن أنا أكثر من يعرفأن الإنسان هو قضية، وليس لحما ودما يتوارثه جيل وراء جيل مثلما يتبادل البائعوالزبون معلبات اللحم المقدد ، إنما أتحدث إاليك مفترضا أنك في نهاية الأمر إنسان . يهودي . أو فلتكن ما تشاء . ولكن عليك أن تدرك الأشياء كما ينبغي ... وأنا أعرف أنكذات يوم ستدرك هذه الأشياء ، وتدرك أن أكبر جريمة يمكن لأي إنسان أن يرتكبها ،كائنا من كان ، هي أن يعتقد ولو للحظة أن ضعف الآخرين وأخطاءهم هي التي تشكل حقه فيالوجود على حسابهم ، وهي التي تبرر له أخطاءه وجرائمه...

وصمت لحظة ، ثم نظرمباشرة في عيني ( دوف):

-"

وأنت ، أتعتقد أننا سنظل نخطئ ؟ وإن كففنا ذاتيوم عن الخطأ ، فما الذي يتبقى لديك ؟".


وشعر ، ثمة ، أن عليهما أن ينهضاوينصرفا ، فقد انتهى الأمر كله ،ولم يعد هناك ما يقال بعد، وأحس تللك اللحظة بشوقغامض لخالد ، وود لو يستطيع أن يطير اليه ويحتويه ويقبله ويبكي على كتفه ، مستبدلاأدوار الأب والأبن على صورة فريدة لا يستطيع تفسيرها . " هذا هو الوطن" ، قالهالنفسه وهو يبتسم ، ثم التفت نحو زوجته :
-"

أتعرفين ما هو الوطن يا صفية ؟الوطن هو ألا يحدث ذلك كله ".


وسألته زوجته متوترة بعض الشيء :
-"

ماذاحدث لك يا سعيد؟"


-"

لا شيء. لا شيء أبدا . كنت أتسأل فقط . أفتش عن فلسطينالحقيقية . فلسطين التي هي أكثر من ذاكرة ، أكثر من ريشة طاووس ، أكثر من ولد، أكثرمن خرابيش قلم رصاص على جدار السلم . وكنت أقول لنفسي : ما هي فلسطين بالنسبة لخالد؟ إنه لا يعرف المزهرية ، ولا الصورة ، ولا السلم ولا الحليصة ولا خلدون ، ومع ذلكفهي بالنسبة له جديرة بأن يحمل المرء المرء السلاح ويموت في سبيلها ، وبالنسبة لنا، أنت وأنا ، مجرد تفتيش عن شيء تحت غبار الذاكرة ، وانظري ماذا وجدنا تحت ذلكالغبار ... غبارا جديدا أيضا ! لقد أخطأنا حين اعتبرنا أن الوطن هو الماضي فقط ،أما خالد فالوطن عنده هو المستقبل ، وهكذا كان الافتراق ، وهكذا أراد خالد أن يحملالسلاح . عشرات الألوف مثل خالد لا تستوقفهم الدموع المفلولة لرجال يبحثون في أغوارهزائمهم عن حطام الدروع وتفل الزهور ، وهم إنما ينظرون للمستقبل ، ولذلك هم يصححونأخطأنا ، وأخطاء العالم كله ... إن دوف هو عارنا ، ولكن خالد هو شرفنا الباقي... ألم أقل لك منذ البدء إنه كان يتوجب علينا ألا نأتي .. وإن ذلك يحتاج الى حرب ؟ ... هي بنا !".


-"

لقد عرف خالد ذلك قبلنا ... آه يا صفية ... آه"


ووقففجأة ، ووقفت صفية الى جانبه وهي تفرك منديلها محتارة ، وظل دوف جالسا ، منكفئا علىنفسه ، وكانت قبعته متكئة على المزهرية وتبدو هناك ، ولسبب ما ، مضحكة تماما ،وقالت ميريام ببطء:
-"

لا تستطيعان أن تغادرو هكذا ، لم نتحدث كفاية عنالموضوع"


قال سعيد :
-"

ليس ثمة ما يقال . بالنسبة لك ربما كان الأمركله حدثا سيء الحظ ، ولكن التاريخ ليس كذلك ، ونحن حين جئنا هنا كنا نعاكسه ، وكذلك، أعترف لك ، حين تركنا حيفا ، إلا ان ذلك كله شيء مؤقت . أتعرفين شيئا يا سيدتي ؟يبدو لي أن كل فلسطيني سيدفع ثمنا ، أعرف الكثيرين دفعوا أبناءهم ، وأعرف الآن إننيأنا الآخر دفعت إبنا بصورة غريبة ، ولكنني دفعته ثمنا ... ذلك كان حصتي الأولى ،وهذا شيء سيصعب شرحه ".


واستدار ، وكان دوف لا يزال منكفئا في مقعده محتويارأسه بين راحتيه ، وحين وصل سعيد الى الباب قال:
-"

تستطيعان البقاء مؤقتا فيبيتنا ، فذلك شيء تحتاج تسويته الى حرب ".


وبدأ ينزل السلم ، محدقا بدقةالى كل الأشياء وقد بدت له أقل أهمية مما كانت قبل ساعات وغير قادرة على إثارة أيماشيء في أعماقه ، ووراءه كان يسمع أصوات خطى صفية أكثر وثوقا من قبل . وكان الطريقفي الخارج خاليا تقريبا . أتجه الى سيارته وتركها تنزلق على السفح دونما صوت ، وعندالمنعطف فقط أدار محركها وأتجه نحو شارع الملك فيصل .

وقد ظل صامتا طوالالطريق ، ولم يتلفظ بأيما شيء إلا حين وصل مشارف رام الله ، عندها فقط نظر الىزوجته وقال :

-"

أرجو أن يكون خالد قد ذهب .... أثناء غيابنا "!
 
أعلى