الكويت تجمعنا
عضو مخضرم
البلد. هجمت عليه، قبلته، عانقته.
-هل يسمح وقتك؟ دقرت أستشف صدى كلماتي.
أطرق برأسه إلى الأرض متبرماً.
-لدي كل الوقت.
يحيرني هذا الحبيب، يضعني في حلبة سباق مع الزمن وأنا لا أجيد الركض والقفز العالي، ألا يتعب؟
-سألني:
-أتودين المشاركة بمهرجان موسكو مع شبان الجامعة. لديك فرصة كبيرة، أصبح اسمك معروفاً.
-أنت تمزح.
-لِمَ لا، حاولي، وسأحاول من جهتي. سأسافر قريباً إلى بلغاريا لحضور العيد الوطني ومن هناك أتابع إلى موسكو. من يدري؟ وضحك.
تركني وحدي أواجه تحدياً، وقفزة نوعية قد تودي بي إلى كسر رقبتي.
-يا إلهي، يا إلهي، هل أقوى؟
لا تقارب المشكلة هذه المرة أية مشكلة أخرى، فإن تخطيت أشدها وعورةً وتملصت من الإنزلاق في هاوية الرضوخ حتى الآن، فهذا لا يعني إطلاقاً بأن الحظ سيحالفني دوماً. السؤال الصعب الذي يطرح نفسه: كيف أمهد السبيل مع عقول تؤمن بأن الإتحاد السوفييتي بلد الفسق والإلحاد وشيوع النساء، وأن الأطفال أطفال الدولة، كيف أفسر لأهلي بأنها دعايات خلقتها وأشاعتها الرأسمالية الغربية خوفاً من مدٍّ إشتراكي شعبي يرعبها ويهدد مصالحها في الشرق الأوسط؟
كيف أباغتهم بطلبي هذا الذي لم يجرؤ عليه إخوتي الشباب وآخرهم سامي الذي تلفح بعقلية تويجر.
اهتديت إلى أسلوب المباغتة. المباغتة في الحرب طريق النصر نفضت أمام أهلي ما بجعبتي مرة واحدة.
-إختارتني الجامعة مع عدد من الطالبات لتمثيلها في مهرجان موسكو، وهذه ميزة كبيرة وفرصة قد لا أنالها في سنوات مقبلة.
استدرت متراجعة متشاغلة حتى لاتقع عيني في أعينهم الدَهِشة لحظتها لن يسعني الانفلات من شباكها.
سمعت أمي:
-ما هذه البنت المجنونة- تطلع كل يوم بفن جديد، تود لو تأكل الدنيا وتهبجها ليتها تزوجت ذاك البدوي، وبقي همها في قلب زوجها. والله أنا خائفة عليها.
لم يرد والدي، ولم ينبس بكلمة. هل سيجري عليّ الحد، ويمنعني من مغادرة البيت إلى الجامعة مثلما ود أخي لو يفعل؟ لعله سئم تمردي. ماذا يبيت في سريرته؟ يلتزم صمتاً مريباً يطول، وقلبي يخفق ويخفق.. نجاحي وفشلي على كف عفريت..
لبث في زاوية أتنصت. لم أسمع شيئاً، هربت إلى غرفتي، وفتحت كتبي، حاولت أن ألخص أفكاراً ليونع، وآدلر، اشتغلت بهمة فائقة حتى خارت قواي، وتعبت عيناي ها قد دخل حياتي عامل آخر. السفر.
هل أسافر، أم لا أسافر....
من أجل أن أخفف من قلقي قرأت شيئاً من غوركي في الأم مرة أخرى، ومقاطع من الحرب والسلام لتولستوي، فاجأتني روعة العبقرية وصلابة الإنسان، كما أرعبتني سهوب سيبريا وصليل سلال ديستويفسكي.
-ترى كم مر على الإنسانية من حكام وظلام وقطاع طرق نهبوا الأخضر واليابس.
من غرائب الصدف غير المقولة، أن تنقر دجاجة رأس ديك. عارض أخي عادل، ودعمتني أختي هدى التي جاءتنا ضيفة لمدة يومين في طريقها إلى مصايف بيروت.
أصبت بالإحباط من موقف عادل الإنسان المثقف الهادي الذي يناقش وينظّر بخط قومي عربي مع أستاذه ميشيل... أخي عادل المثقف المتفتح وصفني بالتهور والأنانية.
بدت ثورته العارمة غير خاضعة لأي منطق. فجأة تحجر عقله وتبخرت نظرياته المبثوثة في زوايا الصحف حول دور المرأة الرفيقة في نهضة الأمة. وحلت محلها تقطيبة دائمة بين العنين. أعقبها صمت وقطيعة شبه كاملتين. لم يعد الحامي من شطحات هشام الفقاعية. بل أضحى المتسلط الذي يشن الهجوم المركز آن يستطيع ذلك حتى يثبط همتي. قلبت الأمور على وجوه عدة علني أجد تفسيراً لتحولاته.
-هل يخاف الجريء على اسمه من أخت ستسافر إلى بلدٍ شيوعي لا يعرف الأخ أخته فيه وإلى مجتمع مجهول ملحد مليء بالأخطاء. هل يخشى على منطلقاته التحررية من الإنهيار؟ ناقشت الأسئلة جميعاً. زادني الازورار عناداً وتشبثاً. ورحت أرتب أموري شيئاً فشيئاً، فما عدت ألتقيه على مائدة الطعام، أو في سهرة العائلة، خلقتنا جواً تعيساً في البيت لم يرض عنه والدي.
من جانبي بدأت انحت بإزميل دقيق حاد في تزمت عادل أمام العائلة وأتكتك مع أبي. ناقشنا الإحتمالات. وجدتني أدخل في دوامة محكمة صارمة وأمثل أمام قاض. قمت بدور المحامي بجدارة، تطوي الأيام أحلامي وأنا أحارب على عدة جبهات محرومة من الجامعة والمدرسة ومنبوذة في البيت ضمن عشيرة في قلب قبيلة لا تؤمن حقيقة بجوهر حرية المرأة إلا من خلال الكتب النظرية.
يشد أحمد أزري حتى لا ترتخي قوتي. برزت هدى بكل ثقلها وروائها وهمينتها على العائلة التي غادرتها صغيرة لتعيش في جوٍ آخر تحوطها الأبهة والارستوقراطية. رغم هذه المظاهر التي تستميت تحت أقدام المراسم، رغم هذه التبعية الخالصة مدت لي أملاً حريرياً، ويداً أتوكأ عليها في نقلتي تلك، وتطلعني نحو السفر، نحو الأفق البعيد.
أعلنت عن رأيها بصراحة وثقة أمام الجميع. مهدت لحديثها بأمثلة كثيرة عن البنات والسيدات اللواتي يقمن بأدوار راقية تعلو فوق المطبخ وإنجاب الأولاد والتنظيف.
-بابا، يجب أن تنزع سدادة الفلين عن طموح سلمى. بابا الحياة لا تعود إلى الوراء في زمنٍ دخلت فيه المرأة ميدان العمل، وخلعت الحجاب، هل تصدق أنني أدرس البروفيه مع أولادي هذه السنة سأتبعها بالبكالوريا فالجامعة.. زوجي معي خلف كل خطوة صالحة أرجوها. فلماذا نكبت طموح زهرة متفتحة نحو الجيد من اللامألوف؟
استدارت نحو أمي:
-ماما سلمى، مختلفة عنا، إتخذت طريقاً، ما يسعدنا قد لا يفرحها ثم قامت من مكانها، وقبلتها من رقبتها، ودغدغتها من خاصرتها. سألتها.
-أما كنت تحلمين بالسفر؟ يجب أن تتعرف سلمى على العالم. وهذه فرصة لإختراق ألوان قوس قزح في سماء أخرى. صارت حكيمة نفسها فلتواجه التيار وأنا على ثقة أنها ستطفو أما إذا أخطأت فعندئذٍ الحساب.
-هكذا ببساطة؟ ردت الوالدة.
أفعمتني الدهشة. بل سحرني بيانها. لم أصدق ما سمعته أذني. هذا المنطق، وتلك القدرة على الإقناع أين كانا، لم تخبأت هذه المرأة خلف الأستار طويلاً، ولماذا ابتعدت عني، وتركتني أواجه المشكلات وحدي. ما هذه الأحجية؟ ما أغباني عندما فتحت عيني على الدنيا ولم أجدها، ظننتها ماتت، رأيتها صبية مدللة بين يدي زوج يتقدمها بأشواط في العمر. يضحك بمقدار، ويأكل بمقدار. إعتبرتها ميتة. كيف استطاعت أن تنتشل نفسها من سلاسل الرسميات، والدعوات والنوادي المختلطة؟ وَعَتْ ذاتها وحققت شخصيتها من حيث لم تحتسب، ولا نتخيل البنت المدللة وقد صارت ربة عائلة وسيدة نفسها. هل أرادت أن تحقق المزيد من ذاتها من خلالي. أم تنتقم من إرث بالٍ حال دون استمتاعها بطفولة بريئة؟ أم أن تلك الحياة الأرستوقراطية لم تكن حقاً فارغة ولا تافهة كما ظننت، وإنما أكسبتها صقلاً رائعاً أضيف إلى ثقافتها الأجنبية الأولية؟
غادر ((عادل)) بمهمة مجهولة إلى المحافظات في وقت كنت بأشد الحاجة إلى غيابه.. تنفست الصعداء.. فقد فك أسري، وانفكت عقد العائلة.
ثبّتت دعوتي إلى مهرجان الشبيبة ككاتبة شابة.
قرر أبي السماح بسفري، لكن ليس قبل تأكده من أن الوفد يضم العديد من البنات ومن السيدات المعروفات.. وفاض علي فزودني بالرسم الرمزي للرحلة وأجرة السفر: أربعمئة وخمسين ليرة سورية.
ملأت هدى حقيبتي الجلدية الرمادية بالهدايا دون أن أدري، هدايا شامية، علب موزاييك، أقراط فضة مشغولة بصبر الدمشقي الفنان، قطع بروكار، عباءات مقصبة.
تذللت فجأة كل العقبات، لم تعد الأرض تحملني، صارت الرحلة هوس ليلي ونهاري. دارت برأسي الأحلام. حرة طليقة أنا، سيدة قراري، ما من رقباء، ولا تعاليم...
بحر وماء وسماء، اللاذقية، البوسفور، أوربا، ثم موسكو بالقطار، سأتفرج على العالم، أناجي القمر حرة مع أصدقاء العمر... بيدي هاتين أمسك زمام أموري.
في السابعة مساء، التقت جموع المسافرين في ساحة المرجة، هرج مرج وتجمع الباصات وكأننا في عيد.
لوحت لأبي وهدى من النافذة، لم أصدق أنني وحدي، وحدي دفعة واحدة، ومن عرين الأسد أخرج؟
تحرك ركبنا في أجمل ليلة صيفية مقمرة، هب نسيم عليل، وبدأ الشاعر محمد حديثه الضاحك، تفنن في رمي النكات الساخرة، ما هي إلا لحظات حتى استقطب ركاب الحافلة فالتفوا حولنا ليشاركوا معنا في ايقاد الفرح والظرف، النكتة تلو النكتة.
صباحاً شممنا رائحة البحر، رائحة السمك، أجمل بحر في العالم، بحر اللاذقية، صفحة زيت تجعدت بشرتها بنسائم لطيفة، قرب الشاطئ ربضت باخرة بيضاء أطل من سطحها بحارة بلباسهم الرسمي، رفرفت أعلام وزينات، وعلا مكبر صوت باستقبال موسيقي مهيب.
من سطح الباخرة بدا صف من الملاحين الشباب يتقدمهم الربان.
تجمعنا أمام السلم المرخى، وقفنا ننتظر التوزيع، نادوا علينا بالأسماء، وجدتني في حجرة ضيقة بنافذة مدورة تلطمها الأمواج تتسع لسريرين نضدا فوق بعضهما.
فوجئت بزميلة الندوة ناديا في الحجرة ذاتها، مع انطلاقة الباخرة هرعنا عشرات إلى السطح نتفرج على اللاذقية مستحمة بشمس الصباح وتبتعد عنا، فما غفوت بعض الوقت حتى صحوت على آلام في بطني ودوار في رأسي.
غالبته فغلبني، نهضت فدارت بي الدنيا، تشبثت بالباب، لم أعد أميز ما حولي، لم يوفرني دوار البحر أبداً منذ اللحظة الأولى للسفر، مثلي تساقط الرفاق واحداً تلو الآخر، والبحر يستل رويداً رويداً القوة من أبداننا ويتركنا في حالٍ من الإنهاك والصفرة البشعة، عمل البحر ضدنا ثلاثة أيام متوالية.
اكتشاف تلو الإكتشاف، ووجوه تترى خلف وجوه، وصداقات تعقد، والسفر أحلى كشاف لنفسية الناس، تبادلنا العناوين والأحاديث حول موائد الطعام، وتأرجحنا مع اهتزازات السفينة فوق موج البحر الأسود، شاهدنا شروق الشمس وغروبها وراقبنا في الليالي القمراء السمك بتقافز فوق الماء، يماشي سفينتنا ويناكدنا، ويماحكنا، يدعونا إلى الغوص معه، ثم يمل أعيننا، فيغيب، مع آخر فجر أرخيت المرساة عند قدمي أوديسا المتعالية ببيوتها الجميلة وسلالمها الحجرية المحفورة في التلال المشرفة على الطريق الملتف بطبيعته الخلابة، بدت أوديسا منارة مضاءة بنجوم متلألئة عبر بيوت الناس، تنسرب ألحان راقصة من مؤخرة السفينة تطلق وداعها الفرح بوجوه مستبشرة منطلقة، يرقص البحارة ويدورون، ينتشون، يتسلل الوجد إلى أفئدتنا، نحاول أن نغني جماعياً، ولكننا لا نجيد الغناء، نحاول أن نرقص، فلا نعرف كيف نرقص، فقط نعرف كيف نحزن، ونأسى ونبكي، شعرت بطعم المرارة في فمي.. هل حقاً سألتقي أحمد في موسكو.
تجولنا في المدينة الرائعة في طريق مسلط على البحر ثم انقلنا إلى محطة القطار، كان القطار أنيقاً جداً تشع النظافة من ثياب الأسرة الجديدة والستائر البيضاء المنسدلة على النوافذ، أكسبتنا المظاهر الحضارية راحة نفسية، تهالكنا على المقاعد، وقد عضنا الجوع، رتبنا حقائبنا، ومشينا نبحث عن المطعم، اجتزنا عربات كثيرة، في مقطورة المطعم كانت في انتظاري مفاجأة...
وجدتني أمام أحمد... هل أفرك عيني؟ أحمد بشحمه ولحمه أمامي مع الشاعر سليمان، يا إلهي، كيف يفاجئني على هذا النحو؟ تجمدت مصلوبة في مكاني وإذ شعر هو بحرج موقفي نهض عن كرسيه واتجه نحوي.
-الحمد لله على السلامة.. سبقتك بليلة كاملة.
-لم أجد كلمات أعبر بها عن دهشتي وفرحتي في آن واحد. أخذ بيدي وجلسنا إلى مائدة.
-أنت سادي.
تدخل سليمان وهو يراقب الموقف الغريب باسماً:
-قلت له ذلك قبلك.
-ألا يفرحك حضوري؟ على كل حال، اسمعي التقيت بشاعرنا سليمان في صوفيا، وطلبنا من مضيفينا البلغار إيصالنا إلى أوديسا لنرافقكم بدلاً من نقلنا إلى موسكو مباشرة.
-هكذا إذاً.
-أما كانت فكرة حلوة؟ أخذنا الطريق مقاطعة.. واقترب مني هامساً: من أجلك... ما عاد بي صبر على فراقك.
-شد كرسي نحوه، وأجلسني قربه، قبلني كعراب أمام الجميع.
نبرت خجلة:
-أراك تأقلمت مع جو صوفيا، وهات يا حرية؟
-يا ستي تأثرت، عندك مانع...
-ضحك سليمان وقال:
-ما رأيت حبيبين إلا تخاصما.
تفرست في وجه أحمد:
-خمسة عشر يوماً أعادتك إلي رشيقاً.
تلمس صدره بيده، ثم قهقه:
-رأيت نحولي، ولم تلحظي اشتياقي، حظ عاثر؟
ضحكنا ثلاثتنا.
-نشرب القهوة؟
-بل أنا جائعة.
دفعني من كوعي، تملص سليمان من رفقتنا بلباقة بعد تناول الطعام مباشرة.
-إيه، أخيراً وحدنا لارقيب ولا نظير.
-لا يعرف الطائر الحبيس ماذا يفعل بحريته، نبست.
-انس نفسك، ومن أنتِ. تنشقي الحرية بملء رئتيك.
وضع يده فوق يدي على الطاولة.
-مرحباً أستاذ أحمد.
ألقت ((نادرة)) تحيتها الخبيثة، وكأنها تسجل نقطة علينا.
جلسنا قرب النافذة الملمعة، نحتسي القهوة نطيل بقاءها في حلقنا، ونمتصها قطرة قطرة... غرقنا في لهفة التعبير، وتعثر التعبير، عاد يمسك كفي ويعصره.
-تأكلنا العيون...
-دعيها... فلتأكل جوعها...
-قال بعد قليل ونظرته تعبر النافذة الصغيرة المستدير.
-ما هي سوى أيام نقتنصها من فم السبع.. بها نختصر حياة. الآن بدأ عمرنا هكذا يجب أن تفكري، كفانا تشرداً، وملاحقة وخوفاً، أنت لي، وأنا لك.
هززت رأسي وجلة.
-هل رأيت بقية الرفاق؟
-جميعاً، إلا ليان، لم أره... البقية رافقوني من دمشق حتى اللاذقية في الباص ذاته.
لكزني من كتفي منبهاً.
اقترب منا ثلاثة شبان، بنتان سمراوان، وشاب منمنم، نهض أحمد مسلماً ومعرفاً.
-أهلاً بناديا بطلة الغساني، ونينا. سهيل أصغر وأذكى مترجم في سوريا.
من ينسى سالومي؟
-تشرفنا: ابتسمت بود.
تعارفنا، توافقنا، ولم نفترق طوال الرحلة.
عدت إلى سريري، وجدت مدرسة التاريخ وقد لطخت الوجنتين بالأحمر الفاقع. تعثرت في رحلتي تلك بنماذج إنسانية متنوعة، مختلفة المشارب والأهواء تحتاج إلى صفحات، أحببتها بأخطائها، وعقدها ومحاسنها، بإقبالها وإدبارها، كلنا سواء، نحمل رواسبنا أنى حللنا ولا ننسى شرقيتنا تكومت، غفوت على هدهدة القطار.
في الصباح، غيرت ملابسي، وتوجهت نحو المطعم، وجدت أحمد بين مجموعة من رفاقه. حنا، شوقي، ناديا، محمد، سهيل، نينا، شحادة.
-تتهادى هناء كنار الرحلة، بقامة مهيبة، بيضاء غضة، مفعمة بالأنوثة، تتحرك بدلال، دارت بعينيها الزرقاويين على الحاضرين ثم ارتدت خائبة.
علقت نايا بخفة:
-فشلت جولتها الصباحية، فتاها غائب يعلم الله أين حط ومع من.
-تقصدين الضخم بطل الكمال الجسماني؟ سأل حنا مغتاظاً.
قام عن كرسيه، لحق بها، رص على أسنانه، يطحن غيظه، يود أن يمزقها يشتمها، نبر بصوت متهدج: يحرق.... د.....
شده أحمد من كم قميصه مداعباً: ومن الحب ما قتل، بهدلتنا يا رجل، تماسك، لم تتعب نفسك، ليست لك، عندها رفيق حلو جميل ولست مثله.
يغرس حنا عينيه يائساً في وجوه رفاقه وفي حبات المسبحة المرمية على الطاولة، يكورها بين كفيه، يضغطها... يتنفس ببطء:
والله ذبحتني، يحرق د... تعرف نفسها، وتعرفني تريد أن تقتلني أن تمزقني، ذبحتني... والله ذبحتني أنا متهالك أمام هكذا جسد، اتركوني، وحدي بالله عليكم،
ولكنه هو من ترك الطاولة،... غابت قامته بين المجموع.
انضم سليمان إلينا...
-حرملك، وسلاملك هنا، ومثلها هناك.... مللت هذه الرحلة بالله.
-دعنا من أحاديث البنات والشباب، ما الجديد في الشعر؟
-((برتقالي معلق)) قصيدة جديدة، غداً نصل موسكو، وفي ساحة الكرملين وتحت القبة الزرقاء.. حيث لاتنام موسكو، ولا تعرف الليل، سأسمعكم إياها.
-وعد؟
-وعد.
أشعل سيكارة... طاتلي سرت....وسار الهوينا نحو عربة التدخين. تدعونا أنغام الموسيقى، نركض معاً، نتكاثر في المطعم، فجأة ينزلق من وفدنا جسدان غضان يرقصان، سرت عداوهما إلينا، حاولنا أن نحرك أرجلنا، مسحت صدري بيدي، لأجفف العرق، فالجو حار خانق، والقطار يخب ويكاد يغيب صوته. وصلنا محطة أخرى.
امتلأت عربات القطار بأنواع الورود، دارت رؤوسنا من رائحة الأزاهير، تجمع في المحطة مئات الناس نساء ورجالاً تحت المطر الغزير الصيفي، يرفعون رايات الترحيب، ينشدون أغان روسية حميمة، لا يمكن أن نفهمها، ولا نستطيع أن نستوعب معانيها وأمداءها، غمرتنا المشاعر العميقة فبكينا، تساءلت:
-هل يقبل الإنسان على إنسان غريب بهذه اللهفة، هل تختلط الدماء مع الماء يوماً ليصبح الجميع أخوة، لا حرب، ولا مؤامرات، ولا أسلحة، ولا قنبلة ذرية، مستجيبين لنداء السلم، يا لهؤلاء البشر، أية قوة ديناميكية تحرك عواطفهم، وتدفعهم في الليل والنهار وتحت المطر كي يقفوا الساعات الطوال في المحطة وليهتفوا لنا كفاتحين.
((مير.... دروجبا))) سلام صداقة
ماذا تريد الشعوب أكثر من سلام وخبز وماء وحب وحرية...؟!
سماء زرقاء، طقس ربيعي في صباح موسكو تجمعنا في ساحة كبيرة توسطت الفنادق المعدة لاستقبال الوفود، تفقدنا حقائبنا، ضم فندق الوفد السوري غرفاً لا نهاية لها. صالون كبير أفضى بنا إلى متاهة دهاليز امتدت طولاً وعرضاً التفت من حول طوابق حديثة بيضاء مثل الثلج، توزعنا الغرف بالأسماء.
أنا، وعفاف، ومنيرة باقة منسجمة امتدت جذور معرفتها إلى مقاعد الدراسة الإبتدائية.
ارتميت على سريري اتفقده، اتشمم رائحة النظافة المنعشة على الشراشف البيضاء.
تباعد عن وعيي حديث الصديقتين، ورحت في سابع نوم حتى صباح اليوم التالي، شبعت نوماً وراحة، هرولت فرحة نحو الشلة، كانت بينهما الجثة الهائلة لصديق الكل، وحبيب الكل مئة و عشرون كيلو من الطيبة وروح النكتة وخفة الدم.
قلت ممازحة بلهجة تمثيلية بطيئة متوجهة إليه:
-لتكن دليلنا ونقطة تلاقينا يا محمد.. الحيز الذي تشغله شكل نقطة علام حيثما كنت.... ضعنا ضمن الزحمة في هكذا متاهة.
تنحنح في مقعده وخلص جسده منه بصعوبة:
-من أجل عينيك، ونكاية بهذا الذئب أحمد أنا حاضر.
مد لي يده السمينة كنبيل فرنسي ومددت يدي. علق أحمد ضاحكاً:
-أين أين يا جماعة نحن هنا؟ نحن هنا....
ضمن التنظيمات الهائلة للمهرجان خصصت لكل مجموعة عرقية وجغرافية مطاعم تناسبها.
وجدنا أنفسنا ضمن مطعم سوري بكل أطايبه ورائحته، ومطبخه، تجولنا في المطاعم الأخرى، هذا فرنسي، وذاك إنكليزي، وذاك صيني، لكل وفد ذوقه وطعامه. بين الجموع المتلاطمة صدمت بالأستاذ ((رفيق)) صاحب سوسن التي قتلت على عتبة المدرسة يتأبط ذراع طباخة روسية قمئية قصيرة، تذكرت الرسائل الزهرية، ولعله تذكرها، احمر وجهه خجلاً.
وقفت مشدوهة أمام حرارة لقائه.
-أهلاً سلمى، يا للمفاجأة الرائعة؟
انغمسنا بلقاءات ثقافية وفنية معدة مسبقاً، لقاء تاريخي مع ((بولغانين)) بحضور سفيرنا الدكتور جمال، والأستاذ خالد والتلفزيون، وجهاً لوجه مع الزعيم السياسي الذي أوقف الاعتداء على مصر إثر تأميم قناة السويس عام ست وخمسين وتسعمئة وألف.
رمى نكات غير متوقعة، وضحك ببساطة آسرة نابعة من بساطة الإنسان الطيب لشعب طيب.
كرّم الشعبُ الطيب شعبنا الطيب. رأيت على المسارح الكثيرة المتناثرة بين الأحياء، وجهاً سورياً، وفي اللقاء الثقافي وجهاً سورياً، وفي المعارض الفنية وجهاً سورياً، خمسة عشر يوماً من الأعياد المتواصلة المتكاملة التي لم يبهت لونها، وأخيراً أقيم حفل الختام في الكرملين، قصر القياصرة، والأباطرة، والثوريين، آلاف من سحنٍ مختلفة رقصت على أغنية المهرجان ((مساء موسكو))، موسكو فيتشر.
هيمن الانبهار علينا، تساءلنا بخشوع هل داست هذه الحدائق أقدام ايفان الرهيب، هل، هل،.....؟
بطلب من إذاعي سوري يعمل هناك سجلت بصوتي قصة ((الورقة الصفراء)) اشتريت إسطوانات كلاسيكية لعباقرة الموسيقى.
لا يقوى وصفي أو قلمي على الإلمام بالغنى النفسي الكبير الذي اختزنته ذاكرتي من تلك الرحلة، حملت تجربة لا يعدلها ما قرأت من كتب، وحكايا إلى آخر العمر، التواصل الإنساني، التواشج، الصدق، في عالم مغاير لعالمنا، بعيد عن عاداتنا، وتقاليدنا، قريب من طيبتنا واستمرارنا وصراعنا وحبنا للحياة... فجأة انساحت القارات بحب في هذا المهرجان، وافعمت روحي هوى بالحرية وباستقلال الإرادة.
رجعت إلى بلادي، إلى جوي، كنت سعيدة، ممتلئة حتى آخر قطرة ممكنة.. لا شيء، لا شيء، وما من أحد يمكن أن يعيدني إلى القمقم بعد الذي عشت ورأيت.
-هل يسمح وقتك؟ دقرت أستشف صدى كلماتي.
أطرق برأسه إلى الأرض متبرماً.
-لدي كل الوقت.
يحيرني هذا الحبيب، يضعني في حلبة سباق مع الزمن وأنا لا أجيد الركض والقفز العالي، ألا يتعب؟
-سألني:
-أتودين المشاركة بمهرجان موسكو مع شبان الجامعة. لديك فرصة كبيرة، أصبح اسمك معروفاً.
-أنت تمزح.
-لِمَ لا، حاولي، وسأحاول من جهتي. سأسافر قريباً إلى بلغاريا لحضور العيد الوطني ومن هناك أتابع إلى موسكو. من يدري؟ وضحك.
تركني وحدي أواجه تحدياً، وقفزة نوعية قد تودي بي إلى كسر رقبتي.
-يا إلهي، يا إلهي، هل أقوى؟
لا تقارب المشكلة هذه المرة أية مشكلة أخرى، فإن تخطيت أشدها وعورةً وتملصت من الإنزلاق في هاوية الرضوخ حتى الآن، فهذا لا يعني إطلاقاً بأن الحظ سيحالفني دوماً. السؤال الصعب الذي يطرح نفسه: كيف أمهد السبيل مع عقول تؤمن بأن الإتحاد السوفييتي بلد الفسق والإلحاد وشيوع النساء، وأن الأطفال أطفال الدولة، كيف أفسر لأهلي بأنها دعايات خلقتها وأشاعتها الرأسمالية الغربية خوفاً من مدٍّ إشتراكي شعبي يرعبها ويهدد مصالحها في الشرق الأوسط؟
كيف أباغتهم بطلبي هذا الذي لم يجرؤ عليه إخوتي الشباب وآخرهم سامي الذي تلفح بعقلية تويجر.
اهتديت إلى أسلوب المباغتة. المباغتة في الحرب طريق النصر نفضت أمام أهلي ما بجعبتي مرة واحدة.
-إختارتني الجامعة مع عدد من الطالبات لتمثيلها في مهرجان موسكو، وهذه ميزة كبيرة وفرصة قد لا أنالها في سنوات مقبلة.
استدرت متراجعة متشاغلة حتى لاتقع عيني في أعينهم الدَهِشة لحظتها لن يسعني الانفلات من شباكها.
سمعت أمي:
-ما هذه البنت المجنونة- تطلع كل يوم بفن جديد، تود لو تأكل الدنيا وتهبجها ليتها تزوجت ذاك البدوي، وبقي همها في قلب زوجها. والله أنا خائفة عليها.
لم يرد والدي، ولم ينبس بكلمة. هل سيجري عليّ الحد، ويمنعني من مغادرة البيت إلى الجامعة مثلما ود أخي لو يفعل؟ لعله سئم تمردي. ماذا يبيت في سريرته؟ يلتزم صمتاً مريباً يطول، وقلبي يخفق ويخفق.. نجاحي وفشلي على كف عفريت..
لبث في زاوية أتنصت. لم أسمع شيئاً، هربت إلى غرفتي، وفتحت كتبي، حاولت أن ألخص أفكاراً ليونع، وآدلر، اشتغلت بهمة فائقة حتى خارت قواي، وتعبت عيناي ها قد دخل حياتي عامل آخر. السفر.
هل أسافر، أم لا أسافر....
من أجل أن أخفف من قلقي قرأت شيئاً من غوركي في الأم مرة أخرى، ومقاطع من الحرب والسلام لتولستوي، فاجأتني روعة العبقرية وصلابة الإنسان، كما أرعبتني سهوب سيبريا وصليل سلال ديستويفسكي.
-ترى كم مر على الإنسانية من حكام وظلام وقطاع طرق نهبوا الأخضر واليابس.
من غرائب الصدف غير المقولة، أن تنقر دجاجة رأس ديك. عارض أخي عادل، ودعمتني أختي هدى التي جاءتنا ضيفة لمدة يومين في طريقها إلى مصايف بيروت.
أصبت بالإحباط من موقف عادل الإنسان المثقف الهادي الذي يناقش وينظّر بخط قومي عربي مع أستاذه ميشيل... أخي عادل المثقف المتفتح وصفني بالتهور والأنانية.
بدت ثورته العارمة غير خاضعة لأي منطق. فجأة تحجر عقله وتبخرت نظرياته المبثوثة في زوايا الصحف حول دور المرأة الرفيقة في نهضة الأمة. وحلت محلها تقطيبة دائمة بين العنين. أعقبها صمت وقطيعة شبه كاملتين. لم يعد الحامي من شطحات هشام الفقاعية. بل أضحى المتسلط الذي يشن الهجوم المركز آن يستطيع ذلك حتى يثبط همتي. قلبت الأمور على وجوه عدة علني أجد تفسيراً لتحولاته.
-هل يخاف الجريء على اسمه من أخت ستسافر إلى بلدٍ شيوعي لا يعرف الأخ أخته فيه وإلى مجتمع مجهول ملحد مليء بالأخطاء. هل يخشى على منطلقاته التحررية من الإنهيار؟ ناقشت الأسئلة جميعاً. زادني الازورار عناداً وتشبثاً. ورحت أرتب أموري شيئاً فشيئاً، فما عدت ألتقيه على مائدة الطعام، أو في سهرة العائلة، خلقتنا جواً تعيساً في البيت لم يرض عنه والدي.
من جانبي بدأت انحت بإزميل دقيق حاد في تزمت عادل أمام العائلة وأتكتك مع أبي. ناقشنا الإحتمالات. وجدتني أدخل في دوامة محكمة صارمة وأمثل أمام قاض. قمت بدور المحامي بجدارة، تطوي الأيام أحلامي وأنا أحارب على عدة جبهات محرومة من الجامعة والمدرسة ومنبوذة في البيت ضمن عشيرة في قلب قبيلة لا تؤمن حقيقة بجوهر حرية المرأة إلا من خلال الكتب النظرية.
يشد أحمد أزري حتى لا ترتخي قوتي. برزت هدى بكل ثقلها وروائها وهمينتها على العائلة التي غادرتها صغيرة لتعيش في جوٍ آخر تحوطها الأبهة والارستوقراطية. رغم هذه المظاهر التي تستميت تحت أقدام المراسم، رغم هذه التبعية الخالصة مدت لي أملاً حريرياً، ويداً أتوكأ عليها في نقلتي تلك، وتطلعني نحو السفر، نحو الأفق البعيد.
أعلنت عن رأيها بصراحة وثقة أمام الجميع. مهدت لحديثها بأمثلة كثيرة عن البنات والسيدات اللواتي يقمن بأدوار راقية تعلو فوق المطبخ وإنجاب الأولاد والتنظيف.
-بابا، يجب أن تنزع سدادة الفلين عن طموح سلمى. بابا الحياة لا تعود إلى الوراء في زمنٍ دخلت فيه المرأة ميدان العمل، وخلعت الحجاب، هل تصدق أنني أدرس البروفيه مع أولادي هذه السنة سأتبعها بالبكالوريا فالجامعة.. زوجي معي خلف كل خطوة صالحة أرجوها. فلماذا نكبت طموح زهرة متفتحة نحو الجيد من اللامألوف؟
استدارت نحو أمي:
-ماما سلمى، مختلفة عنا، إتخذت طريقاً، ما يسعدنا قد لا يفرحها ثم قامت من مكانها، وقبلتها من رقبتها، ودغدغتها من خاصرتها. سألتها.
-أما كنت تحلمين بالسفر؟ يجب أن تتعرف سلمى على العالم. وهذه فرصة لإختراق ألوان قوس قزح في سماء أخرى. صارت حكيمة نفسها فلتواجه التيار وأنا على ثقة أنها ستطفو أما إذا أخطأت فعندئذٍ الحساب.
-هكذا ببساطة؟ ردت الوالدة.
أفعمتني الدهشة. بل سحرني بيانها. لم أصدق ما سمعته أذني. هذا المنطق، وتلك القدرة على الإقناع أين كانا، لم تخبأت هذه المرأة خلف الأستار طويلاً، ولماذا ابتعدت عني، وتركتني أواجه المشكلات وحدي. ما هذه الأحجية؟ ما أغباني عندما فتحت عيني على الدنيا ولم أجدها، ظننتها ماتت، رأيتها صبية مدللة بين يدي زوج يتقدمها بأشواط في العمر. يضحك بمقدار، ويأكل بمقدار. إعتبرتها ميتة. كيف استطاعت أن تنتشل نفسها من سلاسل الرسميات، والدعوات والنوادي المختلطة؟ وَعَتْ ذاتها وحققت شخصيتها من حيث لم تحتسب، ولا نتخيل البنت المدللة وقد صارت ربة عائلة وسيدة نفسها. هل أرادت أن تحقق المزيد من ذاتها من خلالي. أم تنتقم من إرث بالٍ حال دون استمتاعها بطفولة بريئة؟ أم أن تلك الحياة الأرستوقراطية لم تكن حقاً فارغة ولا تافهة كما ظننت، وإنما أكسبتها صقلاً رائعاً أضيف إلى ثقافتها الأجنبية الأولية؟
غادر ((عادل)) بمهمة مجهولة إلى المحافظات في وقت كنت بأشد الحاجة إلى غيابه.. تنفست الصعداء.. فقد فك أسري، وانفكت عقد العائلة.
ثبّتت دعوتي إلى مهرجان الشبيبة ككاتبة شابة.
قرر أبي السماح بسفري، لكن ليس قبل تأكده من أن الوفد يضم العديد من البنات ومن السيدات المعروفات.. وفاض علي فزودني بالرسم الرمزي للرحلة وأجرة السفر: أربعمئة وخمسين ليرة سورية.
ملأت هدى حقيبتي الجلدية الرمادية بالهدايا دون أن أدري، هدايا شامية، علب موزاييك، أقراط فضة مشغولة بصبر الدمشقي الفنان، قطع بروكار، عباءات مقصبة.
تذللت فجأة كل العقبات، لم تعد الأرض تحملني، صارت الرحلة هوس ليلي ونهاري. دارت برأسي الأحلام. حرة طليقة أنا، سيدة قراري، ما من رقباء، ولا تعاليم...
بحر وماء وسماء، اللاذقية، البوسفور، أوربا، ثم موسكو بالقطار، سأتفرج على العالم، أناجي القمر حرة مع أصدقاء العمر... بيدي هاتين أمسك زمام أموري.
في السابعة مساء، التقت جموع المسافرين في ساحة المرجة، هرج مرج وتجمع الباصات وكأننا في عيد.
لوحت لأبي وهدى من النافذة، لم أصدق أنني وحدي، وحدي دفعة واحدة، ومن عرين الأسد أخرج؟
تحرك ركبنا في أجمل ليلة صيفية مقمرة، هب نسيم عليل، وبدأ الشاعر محمد حديثه الضاحك، تفنن في رمي النكات الساخرة، ما هي إلا لحظات حتى استقطب ركاب الحافلة فالتفوا حولنا ليشاركوا معنا في ايقاد الفرح والظرف، النكتة تلو النكتة.
صباحاً شممنا رائحة البحر، رائحة السمك، أجمل بحر في العالم، بحر اللاذقية، صفحة زيت تجعدت بشرتها بنسائم لطيفة، قرب الشاطئ ربضت باخرة بيضاء أطل من سطحها بحارة بلباسهم الرسمي، رفرفت أعلام وزينات، وعلا مكبر صوت باستقبال موسيقي مهيب.
من سطح الباخرة بدا صف من الملاحين الشباب يتقدمهم الربان.
تجمعنا أمام السلم المرخى، وقفنا ننتظر التوزيع، نادوا علينا بالأسماء، وجدتني في حجرة ضيقة بنافذة مدورة تلطمها الأمواج تتسع لسريرين نضدا فوق بعضهما.
فوجئت بزميلة الندوة ناديا في الحجرة ذاتها، مع انطلاقة الباخرة هرعنا عشرات إلى السطح نتفرج على اللاذقية مستحمة بشمس الصباح وتبتعد عنا، فما غفوت بعض الوقت حتى صحوت على آلام في بطني ودوار في رأسي.
غالبته فغلبني، نهضت فدارت بي الدنيا، تشبثت بالباب، لم أعد أميز ما حولي، لم يوفرني دوار البحر أبداً منذ اللحظة الأولى للسفر، مثلي تساقط الرفاق واحداً تلو الآخر، والبحر يستل رويداً رويداً القوة من أبداننا ويتركنا في حالٍ من الإنهاك والصفرة البشعة، عمل البحر ضدنا ثلاثة أيام متوالية.
اكتشاف تلو الإكتشاف، ووجوه تترى خلف وجوه، وصداقات تعقد، والسفر أحلى كشاف لنفسية الناس، تبادلنا العناوين والأحاديث حول موائد الطعام، وتأرجحنا مع اهتزازات السفينة فوق موج البحر الأسود، شاهدنا شروق الشمس وغروبها وراقبنا في الليالي القمراء السمك بتقافز فوق الماء، يماشي سفينتنا ويناكدنا، ويماحكنا، يدعونا إلى الغوص معه، ثم يمل أعيننا، فيغيب، مع آخر فجر أرخيت المرساة عند قدمي أوديسا المتعالية ببيوتها الجميلة وسلالمها الحجرية المحفورة في التلال المشرفة على الطريق الملتف بطبيعته الخلابة، بدت أوديسا منارة مضاءة بنجوم متلألئة عبر بيوت الناس، تنسرب ألحان راقصة من مؤخرة السفينة تطلق وداعها الفرح بوجوه مستبشرة منطلقة، يرقص البحارة ويدورون، ينتشون، يتسلل الوجد إلى أفئدتنا، نحاول أن نغني جماعياً، ولكننا لا نجيد الغناء، نحاول أن نرقص، فلا نعرف كيف نرقص، فقط نعرف كيف نحزن، ونأسى ونبكي، شعرت بطعم المرارة في فمي.. هل حقاً سألتقي أحمد في موسكو.
تجولنا في المدينة الرائعة في طريق مسلط على البحر ثم انقلنا إلى محطة القطار، كان القطار أنيقاً جداً تشع النظافة من ثياب الأسرة الجديدة والستائر البيضاء المنسدلة على النوافذ، أكسبتنا المظاهر الحضارية راحة نفسية، تهالكنا على المقاعد، وقد عضنا الجوع، رتبنا حقائبنا، ومشينا نبحث عن المطعم، اجتزنا عربات كثيرة، في مقطورة المطعم كانت في انتظاري مفاجأة...
وجدتني أمام أحمد... هل أفرك عيني؟ أحمد بشحمه ولحمه أمامي مع الشاعر سليمان، يا إلهي، كيف يفاجئني على هذا النحو؟ تجمدت مصلوبة في مكاني وإذ شعر هو بحرج موقفي نهض عن كرسيه واتجه نحوي.
-الحمد لله على السلامة.. سبقتك بليلة كاملة.
-لم أجد كلمات أعبر بها عن دهشتي وفرحتي في آن واحد. أخذ بيدي وجلسنا إلى مائدة.
-أنت سادي.
تدخل سليمان وهو يراقب الموقف الغريب باسماً:
-قلت له ذلك قبلك.
-ألا يفرحك حضوري؟ على كل حال، اسمعي التقيت بشاعرنا سليمان في صوفيا، وطلبنا من مضيفينا البلغار إيصالنا إلى أوديسا لنرافقكم بدلاً من نقلنا إلى موسكو مباشرة.
-هكذا إذاً.
-أما كانت فكرة حلوة؟ أخذنا الطريق مقاطعة.. واقترب مني هامساً: من أجلك... ما عاد بي صبر على فراقك.
-شد كرسي نحوه، وأجلسني قربه، قبلني كعراب أمام الجميع.
نبرت خجلة:
-أراك تأقلمت مع جو صوفيا، وهات يا حرية؟
-يا ستي تأثرت، عندك مانع...
-ضحك سليمان وقال:
-ما رأيت حبيبين إلا تخاصما.
تفرست في وجه أحمد:
-خمسة عشر يوماً أعادتك إلي رشيقاً.
تلمس صدره بيده، ثم قهقه:
-رأيت نحولي، ولم تلحظي اشتياقي، حظ عاثر؟
ضحكنا ثلاثتنا.
-نشرب القهوة؟
-بل أنا جائعة.
دفعني من كوعي، تملص سليمان من رفقتنا بلباقة بعد تناول الطعام مباشرة.
-إيه، أخيراً وحدنا لارقيب ولا نظير.
-لا يعرف الطائر الحبيس ماذا يفعل بحريته، نبست.
-انس نفسك، ومن أنتِ. تنشقي الحرية بملء رئتيك.
وضع يده فوق يدي على الطاولة.
-مرحباً أستاذ أحمد.
ألقت ((نادرة)) تحيتها الخبيثة، وكأنها تسجل نقطة علينا.
جلسنا قرب النافذة الملمعة، نحتسي القهوة نطيل بقاءها في حلقنا، ونمتصها قطرة قطرة... غرقنا في لهفة التعبير، وتعثر التعبير، عاد يمسك كفي ويعصره.
-تأكلنا العيون...
-دعيها... فلتأكل جوعها...
-قال بعد قليل ونظرته تعبر النافذة الصغيرة المستدير.
-ما هي سوى أيام نقتنصها من فم السبع.. بها نختصر حياة. الآن بدأ عمرنا هكذا يجب أن تفكري، كفانا تشرداً، وملاحقة وخوفاً، أنت لي، وأنا لك.
هززت رأسي وجلة.
-هل رأيت بقية الرفاق؟
-جميعاً، إلا ليان، لم أره... البقية رافقوني من دمشق حتى اللاذقية في الباص ذاته.
لكزني من كتفي منبهاً.
اقترب منا ثلاثة شبان، بنتان سمراوان، وشاب منمنم، نهض أحمد مسلماً ومعرفاً.
-أهلاً بناديا بطلة الغساني، ونينا. سهيل أصغر وأذكى مترجم في سوريا.
من ينسى سالومي؟
-تشرفنا: ابتسمت بود.
تعارفنا، توافقنا، ولم نفترق طوال الرحلة.
عدت إلى سريري، وجدت مدرسة التاريخ وقد لطخت الوجنتين بالأحمر الفاقع. تعثرت في رحلتي تلك بنماذج إنسانية متنوعة، مختلفة المشارب والأهواء تحتاج إلى صفحات، أحببتها بأخطائها، وعقدها ومحاسنها، بإقبالها وإدبارها، كلنا سواء، نحمل رواسبنا أنى حللنا ولا ننسى شرقيتنا تكومت، غفوت على هدهدة القطار.
في الصباح، غيرت ملابسي، وتوجهت نحو المطعم، وجدت أحمد بين مجموعة من رفاقه. حنا، شوقي، ناديا، محمد، سهيل، نينا، شحادة.
-تتهادى هناء كنار الرحلة، بقامة مهيبة، بيضاء غضة، مفعمة بالأنوثة، تتحرك بدلال، دارت بعينيها الزرقاويين على الحاضرين ثم ارتدت خائبة.
علقت نايا بخفة:
-فشلت جولتها الصباحية، فتاها غائب يعلم الله أين حط ومع من.
-تقصدين الضخم بطل الكمال الجسماني؟ سأل حنا مغتاظاً.
قام عن كرسيه، لحق بها، رص على أسنانه، يطحن غيظه، يود أن يمزقها يشتمها، نبر بصوت متهدج: يحرق.... د.....
شده أحمد من كم قميصه مداعباً: ومن الحب ما قتل، بهدلتنا يا رجل، تماسك، لم تتعب نفسك، ليست لك، عندها رفيق حلو جميل ولست مثله.
يغرس حنا عينيه يائساً في وجوه رفاقه وفي حبات المسبحة المرمية على الطاولة، يكورها بين كفيه، يضغطها... يتنفس ببطء:
والله ذبحتني، يحرق د... تعرف نفسها، وتعرفني تريد أن تقتلني أن تمزقني، ذبحتني... والله ذبحتني أنا متهالك أمام هكذا جسد، اتركوني، وحدي بالله عليكم،
ولكنه هو من ترك الطاولة،... غابت قامته بين المجموع.
انضم سليمان إلينا...
-حرملك، وسلاملك هنا، ومثلها هناك.... مللت هذه الرحلة بالله.
-دعنا من أحاديث البنات والشباب، ما الجديد في الشعر؟
-((برتقالي معلق)) قصيدة جديدة، غداً نصل موسكو، وفي ساحة الكرملين وتحت القبة الزرقاء.. حيث لاتنام موسكو، ولا تعرف الليل، سأسمعكم إياها.
-وعد؟
-وعد.
أشعل سيكارة... طاتلي سرت....وسار الهوينا نحو عربة التدخين. تدعونا أنغام الموسيقى، نركض معاً، نتكاثر في المطعم، فجأة ينزلق من وفدنا جسدان غضان يرقصان، سرت عداوهما إلينا، حاولنا أن نحرك أرجلنا، مسحت صدري بيدي، لأجفف العرق، فالجو حار خانق، والقطار يخب ويكاد يغيب صوته. وصلنا محطة أخرى.
امتلأت عربات القطار بأنواع الورود، دارت رؤوسنا من رائحة الأزاهير، تجمع في المحطة مئات الناس نساء ورجالاً تحت المطر الغزير الصيفي، يرفعون رايات الترحيب، ينشدون أغان روسية حميمة، لا يمكن أن نفهمها، ولا نستطيع أن نستوعب معانيها وأمداءها، غمرتنا المشاعر العميقة فبكينا، تساءلت:
-هل يقبل الإنسان على إنسان غريب بهذه اللهفة، هل تختلط الدماء مع الماء يوماً ليصبح الجميع أخوة، لا حرب، ولا مؤامرات، ولا أسلحة، ولا قنبلة ذرية، مستجيبين لنداء السلم، يا لهؤلاء البشر، أية قوة ديناميكية تحرك عواطفهم، وتدفعهم في الليل والنهار وتحت المطر كي يقفوا الساعات الطوال في المحطة وليهتفوا لنا كفاتحين.
((مير.... دروجبا))) سلام صداقة
ماذا تريد الشعوب أكثر من سلام وخبز وماء وحب وحرية...؟!
سماء زرقاء، طقس ربيعي في صباح موسكو تجمعنا في ساحة كبيرة توسطت الفنادق المعدة لاستقبال الوفود، تفقدنا حقائبنا، ضم فندق الوفد السوري غرفاً لا نهاية لها. صالون كبير أفضى بنا إلى متاهة دهاليز امتدت طولاً وعرضاً التفت من حول طوابق حديثة بيضاء مثل الثلج، توزعنا الغرف بالأسماء.
أنا، وعفاف، ومنيرة باقة منسجمة امتدت جذور معرفتها إلى مقاعد الدراسة الإبتدائية.
ارتميت على سريري اتفقده، اتشمم رائحة النظافة المنعشة على الشراشف البيضاء.
تباعد عن وعيي حديث الصديقتين، ورحت في سابع نوم حتى صباح اليوم التالي، شبعت نوماً وراحة، هرولت فرحة نحو الشلة، كانت بينهما الجثة الهائلة لصديق الكل، وحبيب الكل مئة و عشرون كيلو من الطيبة وروح النكتة وخفة الدم.
قلت ممازحة بلهجة تمثيلية بطيئة متوجهة إليه:
-لتكن دليلنا ونقطة تلاقينا يا محمد.. الحيز الذي تشغله شكل نقطة علام حيثما كنت.... ضعنا ضمن الزحمة في هكذا متاهة.
تنحنح في مقعده وخلص جسده منه بصعوبة:
-من أجل عينيك، ونكاية بهذا الذئب أحمد أنا حاضر.
مد لي يده السمينة كنبيل فرنسي ومددت يدي. علق أحمد ضاحكاً:
-أين أين يا جماعة نحن هنا؟ نحن هنا....
ضمن التنظيمات الهائلة للمهرجان خصصت لكل مجموعة عرقية وجغرافية مطاعم تناسبها.
وجدنا أنفسنا ضمن مطعم سوري بكل أطايبه ورائحته، ومطبخه، تجولنا في المطاعم الأخرى، هذا فرنسي، وذاك إنكليزي، وذاك صيني، لكل وفد ذوقه وطعامه. بين الجموع المتلاطمة صدمت بالأستاذ ((رفيق)) صاحب سوسن التي قتلت على عتبة المدرسة يتأبط ذراع طباخة روسية قمئية قصيرة، تذكرت الرسائل الزهرية، ولعله تذكرها، احمر وجهه خجلاً.
وقفت مشدوهة أمام حرارة لقائه.
-أهلاً سلمى، يا للمفاجأة الرائعة؟
انغمسنا بلقاءات ثقافية وفنية معدة مسبقاً، لقاء تاريخي مع ((بولغانين)) بحضور سفيرنا الدكتور جمال، والأستاذ خالد والتلفزيون، وجهاً لوجه مع الزعيم السياسي الذي أوقف الاعتداء على مصر إثر تأميم قناة السويس عام ست وخمسين وتسعمئة وألف.
رمى نكات غير متوقعة، وضحك ببساطة آسرة نابعة من بساطة الإنسان الطيب لشعب طيب.
كرّم الشعبُ الطيب شعبنا الطيب. رأيت على المسارح الكثيرة المتناثرة بين الأحياء، وجهاً سورياً، وفي اللقاء الثقافي وجهاً سورياً، وفي المعارض الفنية وجهاً سورياً، خمسة عشر يوماً من الأعياد المتواصلة المتكاملة التي لم يبهت لونها، وأخيراً أقيم حفل الختام في الكرملين، قصر القياصرة، والأباطرة، والثوريين، آلاف من سحنٍ مختلفة رقصت على أغنية المهرجان ((مساء موسكو))، موسكو فيتشر.
هيمن الانبهار علينا، تساءلنا بخشوع هل داست هذه الحدائق أقدام ايفان الرهيب، هل، هل،.....؟
بطلب من إذاعي سوري يعمل هناك سجلت بصوتي قصة ((الورقة الصفراء)) اشتريت إسطوانات كلاسيكية لعباقرة الموسيقى.
لا يقوى وصفي أو قلمي على الإلمام بالغنى النفسي الكبير الذي اختزنته ذاكرتي من تلك الرحلة، حملت تجربة لا يعدلها ما قرأت من كتب، وحكايا إلى آخر العمر، التواصل الإنساني، التواشج، الصدق، في عالم مغاير لعالمنا، بعيد عن عاداتنا، وتقاليدنا، قريب من طيبتنا واستمرارنا وصراعنا وحبنا للحياة... فجأة انساحت القارات بحب في هذا المهرجان، وافعمت روحي هوى بالحرية وباستقلال الإرادة.
رجعت إلى بلادي، إلى جوي، كنت سعيدة، ممتلئة حتى آخر قطرة ممكنة.. لا شيء، لا شيء، وما من أحد يمكن أن يعيدني إلى القمقم بعد الذي عشت ورأيت.