أسس الفلسفة ج1 للشهيد مرتضى مطهري

خادم العترة

عضو مميز
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

مقدمة العلامة مرتضى المطهري

"العلم" هو الأمر الوحيد المقدس من وجهة نظر كل أفراد الإنسان، من كل قومية ومن تابعي جميع الطرق والمذاهب وكل هؤلاء يعترفون بعظمته وقدسيته، وحتى أجهل الناس فإنه لا يستصغر العلم ولا يحقره.
واحترام العلم وحبه ليس منبعثاً فقط من كونه أفضل وسائل الحياة، وليس فقط من أنه يمنح الإنسان القدرة والقوة في نضاله خلال حياته من أجل بسط سلطانه على الطبيعة، ولو كان الأمر كذلك لنظر الإنسان إلى العلم نفس النظرة التي ينظر بها إلى كل وسيلة عملية أخرى.
ويقترن تاريخ العلم بالآلام والمصائب والمتاعب وألوان الحرمان التي تحملها العلماء في سبيل تحصيل العلم ففاضت حياتهم المادية بالمرارة ولو كان الإنسان باحثاً عن العلم بهدف تغطية حاجاته المادية فلماذا إذن قد تحمل كل هذا ونسي ذاته وانصرف عن ملذات العيش وطيبات الحياة في سبيل تحصيل العلم؟
إن علاقة العلم بالروح لأرفع من هذه الارتباطات الوضيعة والحقيرة التي تبدو لأول وهلة وكلما كانت المعرفة أقرب إلى اليقين وأدنى إلى تبديد الشك والجهل وأقرب إلى الكلية والشمول بحيث تكشف ستاراً أكبر فإن أهميتها تزداد والطلب لها يشتد.
وهناك مجموعة من المواضيع - من بين كل المجهولات التي يأمل الإنسان في إيجاد الحلول لها - يعيرها الإنسان الدرجة القصوى من الأهمية، وهي تلك المسائل المرتبطة بالنظام الكلي للعالم والحركة العامة للحوادث والتي تؤخذ على أنها رمز الوجود وسر الكون.
والإنسان - سواء نجح أم خاب- لا يستطيع أن يكف نفسه عن المحاولات الفكرية والنشاطات العقلية التي تدور حول بدء العالم وغاية الوجود ومبدئه وحول الحدوث والقدم، والوحدة والكثرة، والمتناهي واللامتناهي والعلة والمعلول، والواجب والممكن، وغيرها من الأمور التي هي من هذا القبيل. وهذه الحاجة الفطرية هي التي أوجدت الفلسفة.
فالفلسفة تجعل الوجود بأجمعه ميداناً ليجول فيه الفكر البشري، وهي تحمل العقل الإنساني على جناحها وتحلق به إلى عوالم هي منتهى آماله وغاية طموحه.
وتاريخ الفلسفة مع تاريخ الفكر البشري توأمان ولهذا فنحن لا نستطيع أن نعتبر قرناً معيناً ولا منطقة خاصة على أساس أنهما مبدأ ومنشأ ظهور الفلسفة على وجه الأرض. فالإنسان- بحكم رغبته الفطرية- لم يفوت أية فرصة أتيحت له في أي وقت وأي مكان للتفكير وإبداء الرأي حول النظام الكلي للعالم. وقد أنبأنا التاريخ منذ تدوينه بأنه قد ظهر في مناطق متعددة من العالم مثل مصر وإيران والهند والصين واليونان فلاسفة ومفكرون من الدرجة الأولى استطاعوا أن يؤسسوا مذاهب فلسفية ذات أهمية فائقة، وقد بقيت بعض هذه الآثار الفلسفية من تلك الفترات التاريخية التي لا نبعد عنها كثيراً، فلم تتطاول يد الأيام لمحوها وتضييع الفرصة علينا للإطلاع عليها.
ومن الآثار الفلسفية التي انحدرت إلينا وهي أقدم وأفضل من غيرها تلك الآثار الناتجة من النهضة العلمية والفلسفية اليونانية التي بدأت قبل ألفين وستمائة عام تقريباً ولا تعتبر هذه الفترة طويلة جداً في مقياس التاريخ بحيث تقضي على هذه الآثار وتمحوها.
وقد بدأت هذه النهضة الفكرية في أطراف آسيا الصغرى واليونان ثم كانت الإسكندرية امتداداً لهذه النهضة، وبعد ذلك سارت الإسكندرية وأثينا نحو الاضمحلال والتمزق وأمر جستنيان إمبراطور روما الشرقية في سنة (529) ميلادية بتعطيل الجامعات وإغلاق مدارس أثينا والإسكندرية، وقد توارى العلماء من شدة الخوف، وانفرط نظام التعليم والتدريس. وفي هذه الأثناء بزغ نور الإسلام في جهة أخرى من العالم، وبهذا بدأت نهضة أخرى وتهيأت الظروف لمدنية جديدة وعميقة.
وتوقدت جذوة طلب العلم في النفوس بسبب تشويق وتجليل قدوة المسلمين وأوليائهم الكبار لمكانة العلم ولدارسيه، فانبعثت من هذا تيار المدنية الإسلامية الواسعة والعظيمة، وترجمت الكتب من اللغات المتباينة ولا سيما الكتب اليونانية، وأصبحت المدن الكبيرة في البلاد الإسلامية العريضة مهداً للعلم ومركزاً للحركة. وشد الرحال إلى البلاد الإسلامية أناس من أوربا الحالية وهم متعطشون إلى العلم، وقد أدى هذا- بعد مرور عدة قرون- إلى تحولات ضخمة في أوربا في مجالات العلم والمعرفة.
وهناك شيء مسلّم من وجهة النظر التاريخية وهو أن لأهل الشرق حقاً في أعناق اليونانيين القدماء فيما كسبوه من علم لأن العلماء اليونانيين قد ترددوا كثيراً على الشرق واقتبسوا من رصيد علمائه ثم عادوا إلى أوطانهم وأتحفوا أبناءها بما حملوه إليهم من تلك البلاد.
ونحن لا نريد في هذه المقدمة أن نعرف بفلسفة الشرق القديمة ولا بمقدار الفائدة التي ظفر بها اليونانيون القدماء من تلك الفلسفة ولسنا أيضاً بصدد التعريف بالفلسفة الإسلامية التي سبقتنا بعشرة قرون ولا بمقدار الفائدة التي اكتسبتها أوربا من تلك الفلسفة.
ولا نحاول هنا معرفة مقدار الميراث الذي انحدر إلى المسلمين من اليونانيين وما هي التحولات التي حدثت لهذا الميراث في المرحلة الإسلامية، وما هي الكيفية التي كتب بها المسلمون تراث اليونان، وما هو المقدار الذي أضافه المسلمون في هذا المضمار، فهذه المواضيع لا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بموضوع هذا الكتاب. وعلاوة على هذا فإنها تحتاج إلى تحقيق وتقديم وثائق تاريخية ليكون الحكم أقرب ما يكون إلى النتائج العلمية ويكلفنا هذا وقتاً طويلاً ومجالاً واسعاً مما يؤهله إلى تدوين كتاب مستقل بشأنه.
أما الذي يرتبط بشكل أكبر- إلى حد ما- بهذا الكتاب ولم يجر البحث فيه إلا قليلاً فهو القيام بتعريف إجمالي للفلسفة الإسلامية التي نشأت منذ ثلاثة قرون ونصف تقريباً وحتى الوقت الراهن. فهذه الفلسفة لم تنتقل إلى العالم بصورة دقيقة، ولم يلتفت إليها شبابنا ممن تتلمذ في المدارس والجامعات الحديثة، لأن كل المعلومات التي تصلهم إنما هي عن طريق الأوربيين.
وقد أسست هذه الفلسفة المعروفة بـ " الحكمة المتعالية" على يد صدر المتألهين الشيرازي المشهور بـ "ملا صدرا" في القرن الحادي عشر الهجري، ومنذ هذا التاريخ فما بعد اتخذت الدراسات الفلسفية في إيران تلك التحقيقات التي قام بها ذلك العالم الفذ في المواضيع الفلسفية المهمة محوراً لها.
وتدور معظم بحوث صدر المتألهين حول الفلسفة الأولى والحكمة الإلهية. وقد تمثل صدر المتألهين بصورة رائعة ما وصل إليه من آثار اليونانيين القدماء ولا سيما أفلاطون وأرسطو، واستطاع أيضاً هضم ما قدمه الفارابي وأبو علي وشيخ الإشراق وغيرهم من تفسير أو من إبداع، واستوعب أيضاً ما أدركه العارفون العظام بوحي من أذواقهم وقوة عرفانهم، ثم شاد أساساً جديداً على قواعد وأصول محكمة لا يتطرق إليها الخلل، وأخرج مسائل الفلسفة بشكل رياضي بوساطة البرهان والاستدلال، بحيث تستنبط وتستخرج إحداها من الأخرى، وبهذا أخرج الفلسفة من التبعثر والتشتت في طرق الاستدلال.
ومنذ عصر أرسطو ذلك الفيلسوف الثائر ضد آراء أستاذه أفلاطون تلاحظ وجود مذهبين فلسفيين يسيران بشكل متواز، ويعتبر أفلاطون ممثلاً لأحد هذين التيارين، أما أرسطو فهو الممثل للتيار الآخر، وقد وجد أتباع لكل واحد من هذين المذهبين في كل مرحلة تاريخية لاحقة، وعرف هذان المذهبان الفلسفيان في أوساط المسلمين باسم مذهب الإشراقيين ومذهب المشائين. واستمرت المشاجرات الفلسفية بين هذين الاتجاهين فترة تزيد على الألفين من الأعوام بين اليونانيين ثم في الإسكندرية وبعد ذلك بين المسلمين، ثم بين الأوربيين في القرون الوسطى.
وقد وضع صدر المتألهين نهاية حاسمة لهذا النزاع الطويل بالأساس الجديد الذي شاده في فلسفته، ومنذ هذا الزمن فما بعد لم يعد معنى لوقوف أحد هذين الاتجاهين في مقابل الآخر. وقد لاحظ كل من جاء بعده واطلع على فلسفته أن النزاع الذي امتد لألفي عام بين المشائين والإشراقيين قد اختتم على يد هذا الفيلسوف العظيم.
وكان فلسفة صدر المتألهين رائعة وغير مسبوقة ولكنه أفاد من جهود المحققين الكبار الذين تقدموا عليه خلال ثمانية قرون، والذين كان لكل منهم نصيب في تقدم الفلسفة وتطورها.
وقد مرت - مع الأسف- منذ ظهور هذه الفلسفة ولحد الآن أربعة قرون ولم تُقّدَم خلالها هذه الفلسفة ولو إجمالاً إلى أوربا. ويؤيد هذا الزعم المتخصصون بشؤون الشرق.
يقول البروفسور إدوارد براون المستشرق البريطاني المعروف والمتوفى سنة 1304 هجرية شمسية والذي أنفق عمره في البحث والتحقيق في شؤون إيران وتاريخها في كتاب تاريخ الآداب في إيران - الجزء الرابع:
" رغم انتشار فلسفة ملا صدرا ورواجها في إيران لم أجد لها أثراً على ألسنة الأوربيين إلا بشكل خلاصتين سطحيتين وناقصتين. فقد كتب كنث كوبينو بعض الصفحات التي تتناول عقائد ملا صدرا، ويبدو أنّ معلوماته كلها مستقاة من الدروس الشفاهية التي حضرها عند معلميه في إيران، ولم يكن لهؤلاء المعلمين- على ما يظهر- اطلاع كامل على آراء ذلك الرجل. وفي نهاية حديث كوبينو عن ملا صدرا قال أن الطريقة الحقيقية لملا صدرا مأخوذة بعينها من ابن سينا. بينما يقول صاحب روضات الجنان بشأن ملا صدرا كان.. منقحاً أساس الإشراق بما لا مزيد عليه، ومفتحاً أبواب الفضيحة على طريق المشاء والرواق. ولكن هناك تعريفاً لهذا المذهب أكثر اختصاراً وأكثر جدية وأقرب إلى الصحة وهو التعريف الذي قدمه الشيخ محمد إقبال (أي الدكتور إقبال الباكستاني) ".
وقد سجل إدوارد براون في نفس ذلك الكتاب:
" إن أشهر كتب ملا صدرا هو الأسفار الأربعة وشواهد الربوبية" ، ثم علق في الحاشية: " بأن كنت كوبينو قد أخطأ في معنى الأسفار فأخذها على أنها جمع سفر وهو الكتاب".
وكتب في كتاب " مذاهب وفلسفات آسيا الوسطى" ص 81:
"لقد كتب ملا صدرا عدة كتب أخرى تتعلق بالسفر". ولم تصل أيدينا إلى الكتاب الذي ألّفه المرحوم إقبال الباكستاني باللغة الإنكليزية أثناء دراسته في جامعة كمبريدج والمسمى بـ "تطور الحكمة في الإٍسلام"، ولكن القدر المسلم أنه كان مختصراً جداً ولا يرسم صورة واضحة للحكمة الإسلامية.
ويعتبر هذان المستشرقان (كنت كوبينو وإدوارد براون) من أكبر المستشرقين.
يقول العالم المتتبع المرحوم الشيح محمد خان القزويني الذي قضى ثلاثين سنة في المكتبات الأوربية وعقد روابط وثيقة وعن قرب مع كثير من المتخصصين بشؤون الشرق في مقالة نشرت في مجلة "إيرانشهر" الصادرة في برلين وذلك بمناسبة وفاة إدوارد براون وأدرجت في كتاب "بيست مقالة" (ومعناه "عشرون مقالة") - يقول بحق إدوارد براون :
"لم يتحمل هذا العناء ولم يبذل كل هذا الجهد أي مستشرق من أوروبا أو أمريكا في موضوع الآداب الإيرانية ولا سيما تلك الآداب والأذواق والمعنويات الإيرانية، أي أنه لم يكن هناك مثله من أحب من أعماق قلبه حباً خالصاً أفكار الحكماء والعارفين وأصحاب المذاهب المنتشرة في إيران".
وذكر في تلك المقالة إن كنت كوبينو "هو من كتّاب فرنسا المشهورين وله كتب عديدة فلسفية واجتماعية ودينية وتاريخية، وهو مؤسس طريقة معينة في فلسفة التاريخ تعرف باسم "الكوبينية"، ولهذه الطريقة اتباع منتشرون في ألمانيا، وقد عيّن منذ سنة 1271 (هجرية قمرية) نائباً أول لسفارة فرنسا في طهران وعيّن سنة 1278 وحتى سنة 1280 وزيراً مفوضاً لفرنسا في طهران".
وقد لاحظتم أن أحد هذين المستشرقين يعتبر صدر المتألهين تابعاً لمذهب المشائين، أما الآخر فهو يستند في رد هذا القول إلى واحد من كتب التراجم والتاريخ (وهو روضات الجنات). أحدهما يقول إن الأسفار هي جمع سَفَر أي السياحة في الأرض، والآخر يقول أنها جمع سفر وهو الكتاب. ولو كلف هذان الكاتبان أنفسهما عناء قراءة الصفحة الأولى من كتاب الأسفار لعرفا أن الأسفار هنا ليست جمعاً للسفر بمعنى السياحة ولا للسفر بمعنى الكتاب.
ويبدو أن المقصود بالمعلم الشفاهي الذي يقول إدوارد براون أنه قد علّم كوبينو فلسفة ملا صدرا في إيران هو رجل يهودي اسمه "ملا لاله زار"، وقد تمت بمساعدته ترجمة كتاب "مقال في المنهج"، لديكارت إلى اللغة الفارسية.
وعندما يذكر كوبينو أستاذ صدر المتألهين وهو الفيلسوف العظيم مير محمد باقر الداماد فإنه يعتبره فيلسوفاً "جدلياً" (ديالكتيكياً).
وهو يشير إلى ذهاب ملا صدرا إلى درس مير داماد بإشارة من الشيخ البهائي ومقدار ما حصله منه بقوله:
"وبعد عدة سنوات وصل إلى ما نعهده فيه من بلاغة وفصاحة". وليس غرضنا انتقاد طريقة المستشرقين لأنه من غير المتوقع من أبناء الأمم الأجنبية أن يأتوا ويفسروا فلسفتنا وعلومنا وديننا وآدابنا وتاريخنا ويقدموها للعالم كما هي. والمثل العربي يقول:
"ما حك ظهري مثل ظفري".
وإذا كان هناك أناس يتوقون إلى معرفة تاريخنا وآدابنا وديننا وفلسفتنا وهم يريدون نقلها إلى العالم فإن الطريق الوحيد لذلك هو أن ينهضوا لهذا العمل بأنفسهم.
أما الأشخاص القادمون من الأمم الأخرى فلو فرضنا أنهم ينهضون بالعمل بأتم حياد وحب فإنهم- بسبب نقص اطلاعهم- سيقعون فريسة لأغلاط واشتباهات كبيرة، كما نلاحظ وجود أخطاء متعددة في توضيح تاريخنا وآدابنا وعاداتنا، ناهيك بالفلسفة التي تحتاج إلى تخصص فني ولا يكفي فيها معرفة اللغة ومراجعة الكتب.
ولهؤلاء المعتقدين بالمستشرقين نذكر هذه القصة نموذجاً لما قدمنا الحديث عنه، فقد نشر كنت كوبينو الذي عاش في زمان ناصر الدين شاه وأقام في إيران وتكلم اللغة الفارسية بطلاقة -نشر كتاباً أسماه " ثلاثة أعوام في إيران" باللغة الفرنسية وترجم بعد ذلك إلى اللغة الفارسية. وهو عندما يشرح كيفية سؤال الإيرانيين لبعضهم عن أحوالهم يقول:
" عندما يستقربك المجلس ويجلس صاحب الدار مع بقية الحضور فإنك تتجه إلى صاحب الدار وتسأله:
أيكون أنفك سميناً؟
ويجيبك صاحب الدار: بحمد الله أنفي سمين، فكيف هو أنفك؟ وقد لاحظت في بعض المجالس أن شخصاً قد سُئِل هذا السؤال خمس مرات وأجاب عنه. ويذكر في مقام المدح أن واحداً من علماء طهران كان متميزاً بخصلة مهمة وهي أنه عندما يذهب إلى لقاء أحد الوجهاء فهو لا يسأله عن أنفه فقط ولا عن أنوف أقربائه فحسب وإنما يسأله عن أنوف الخدم والحراس أيضاً".
فهذا الرجل بسبب عدم معرفته الدقيقة باللغة الفارسية قد وقع في هذا الخطأ فظن أن جملة "دماغ شماجاق است؟" تعني " أيكون أنفك سميناً؟"، وهو ينقل هذه القضية متهكماً ساخراً(بينما هي تعني: أتصور أن المقصود عند الإيرانيين (هل أنت مرتاح؟ هل أنت طيّب الخاطر؟) لا الدماغ بمعنى المخّ!! "أيكون مخك سليماً؟").
ومن المؤكد أن كنت كوبينو لم يكن مغرضاً في هذا النقل ولكن معرفته الناقصة باللغة الفارسية قادته إلى هذا الخطأ.
وعندما يكون الأمر على هذه الصورة في التعريف بالآداب والعادات فكيف يكون الحال في مورد الأفكار الفلسفية؟
ونحن نعلم أنه في إيران - ذلك المكان الذي ترعرعت فيه أفكار أمثال ابن سينا وصدر المتألهين- قد رغبت أجيال في معرفة تلك الأفكار، وبعد أن ينفقوا أعمارهم لهذا الهدف لا يخرج من بين آلاف الطلاب إلا بعدد أصابع الكف الواحدة ممن يفهمون هذه الفلسفات ويدركون آفاقها.
وعلى هذا فكيف نطمئن بأن الفلسفة الإسلامية لعشرة قرون مضت وفلسفة ابن سينا كما يفهمها طلابه قد ترجمت كما تستحق أن تترجم وقد أُدّي المقصود في الترجمة كما هو موجود في الأصل.
في نفس الوقت الذي كان صدر المتألهين مشغولاً فيه بتقليب أمور الفلسفة وتشييد أساسه الجديد (في القرن الحادي عشر الهجري الموافق للقرن السادس عشر الميلادي) ظهرت في أوربا حركة فلسفية وعلمية عظيمة كانت قد تهيأت مقدماتها منذ عدة قرون.
وفي الوقت الذي آثر فيه صدر المتألهين العزلة للتفكير والرياضة في المنطقة الجبلية لمدينة قم حتى يتفرغ لكتابة أفكاره العميقة، أشاع ديكارت الفيلسوف الفرنسي نغمة جديدة في أوربا، فقد ألقى من عاتقه تقليد القدماء واتخذ لنفسه طريقة حديثة واختار زاوية من هولندا للانعزال وفرّغ نفسه للأعمال العلمية.
ومنذ عصر ديكارت فما حققت أوربا اكتشافات علمية ضخمة وبسرعة هائلة.
وتبدلت طرق التحقيق العلمي في مختلف التخصصات وظهرت موضوعات جديدة. وبالإضافة إلى ظهور علماء في العلوم الطبيعية والرياضية فقد ظهر فلاسفة عظام بصورة متلاحقة، وبهذا دخلت الفلسفة في مرحلة جديدة.
واهتمت الفلسفة الجديدة اهتماماً ضعيفاً بتلك الموضوعات التي كانت محور البحث في القرون الوسطى، أما الموضوعات التي لم يهتم بها القدماء فقد نالت في هذا الزمن كل الاهتمام.
وبرزت على الساحة في أوربا مذاهب فلسفية متباينة منذ عصر ديكارت وحتى العصر الحاضر، وكان لكل من هذه المذاهب أتباع ومؤيدون. فبعض انصرف إلى الفلسفة العقلية، وبعض نظر إلى الفلسفة من نافذة العلوم التجربية العقلية، وبعض اعتقد بأنه يمكن البحث والتحقيق في مسائل الفلسفة الأولى والحكمة الإلهية وأبدى آراء في هذا المجال، وبعض ادعى أن الإنسان عاجز عن إدراك هذه المواضيع، وكل ما قيل في هذا المضمار- نفياً أو إثباتاً- فقد كان قولاً بغير دليل. كانوا إلهيين في عقائدهم وبعض كانوا ماديين.
وعلى الإجمال لم يحصل أي تقدم مهم في هذا الفن المسمى بـ "الفلسفة الحقيقية" أو "العلم الأعلى" وهو الفن الذي يأخذ على عاتقه التحقيق في النظام الكلي للعالم وتوضيح الوجود بأسره، سواء في أوربا القرون الوسطى أم في أوربا الحديثة، ولم يظهر نظام قوي مقنع يحفظ الفلسفة من التشتت والتفرق وأدى هذا إلى ظهور مشارب متناقصة في أوربا.
وأما ما هو موجود في أوربا باسم الفلسفة وهو يستحق الإعجاب والاستحسان فهو لا يربط بالفلسفة، وإنما هو متعلق بالرياضيات أو الفيزياء أو بعلم النفس.
ومن الإنصاف أن نعترف بأن الفلاسفة المسلمين الذين وجّهوا معظم جهودهم للتحقيق الفلسفي قد أنجزوا الشيء الكثير ودفعوا الفلسفة- التي أوصلها اليونانيون إلى منتصف الطريق- نحو الأمام، ومع أن مسائل الفلسفة اليونانية عند ورودها إلى الحوزات الإسلامية لم تكن تتجاوز مائتي مسألة فإنها قد بلغت في الفلسفة الإسلامية سبعمائة مسألة، وتغيرت فيها أصول وطرق الاستدلال حتى في المسائل الأساسية لليونانيين، واكتسبت الفلسفة خاصية رياضية. وتظهر هذه الخاصية بجلاء فلسفة صدر المتألهين. ومن الإنصاف أن ننسب هذا التقدم إلى العلماء المسلمين.
وسوف تتضح هذه المواضيع خلال هذا الكتاب مدّعمة بالوثائق والأدلة.
منذ فترة من الزمن اقتحم إيران تيّار الفلسفة الأوربية، فترجمت بعض الكتب الفلسفية إلى اللغة الفارسية، ولعل أول أثر فلسفي يترجم إلى هذه اللغة هو كتاب " مقال في المنهج " لديكارت الذي ترجم قبل قرن من الزمن على يد كنت كوبينو ومساعدة بعض من أعوانه، ثم شاع صيت العلوم الغربية وترددت على ألسن الناس أسماء العلماء والفلاسفة الغربيين، وانتشرت الكتب باللغة المحلية، واستطاع البعض أن يطلّع على ما يكتب أو ينشر في المجلات باللغة العربية مما يدور حول النظريات الحديثة.
ومع أنه قد مرت برهة من الزمن على رغبة بعض الناس في تطعيم الفلسفة القديمة بالعقائد والآراء الحديثة، وفي إجراء المقارنة بين النظريات المعاصرة ونظريات الفلاسفة المسلمين، ولكن هذا الأمر لم يتحول إلى المجال العملي مع الأسف الشديد، ومنذ ذلك الزمن ولحد الآن إما أن تكتب المؤلفات الفلسفية بطريقة القدماء، وأحياناً كانت تتبع الآراء القديمة في تناولها للأمور المتعلقة بالطبيعيات والفلك، ونحن نعلم أن النظريات الحديثة تخالفها تماماً، وإما أن تكون ترجمة ونقلاً فقط للنظريات الحديثة.
ولما كانت طريقة التحقيق وتناول الفلاسفة المحدثين مختلفة تماماً عما نعهده عند القدماء، ومن ناحية أخرى فإن أغلب المسائل المطروحة في الفلسفة القديمة وخصوصاً في فلسفة صدر المتألهين وهي تؤدي دوراً أساسياً في فلسفته لم تنل إلا اهتماماً ضعيفاً أو لم يُلتَفت إليها إطلاقاً وصُرف الاهتمام نحو مواضيع أخرى لم يعرها القدماء إلا اهتماماً ضئيلاً أو لم يهتّموا بها إطلاقاً- لما كان الأمر كذلك لم تستطع هذه الكتب بقسميها أن تحقق الهدف الذي كان يتطلع إليه ألئك الداعون إلى التطعيم والمقارنة.
ولهذا فإن هذا الكتاب - الذي يمثل الجزء الأول منه الآن أمام نظر القارئ الكريم - لم يولّف بأحد هذين الأسلوبين الفلسفيين اللذين مرّ الحديث عنهما قبل قليل.
وهو يشتمل على دورة فلسفية مختصرة، ويوضح أمهات المسائل الفلسفية، وقد تم بذل الجهد فيه- حد الإمكان- ليكون مفهوماً عند أغلب الناس سهل التناول وذلك ليتمكن الأشخاص الذين يتذوقون الدراسات الفلسفية ويتمتعون باطلاع ولو مختصر في هذا المجال من الاستفادة منه، ولهذا أعرضنا عن ذكر الأدلة والبراهين المتعددة لكل موضوع وانتقينا أسهل السبل وأبسط البراهين لإثبات المدعى.
واستفيد في هذا الكتاب من التحقيقات القيّمة للفلسفة الإسلامية خلال ألف عام من عمرها، واستفيد أيضاً فيه من تحقيقات علماء أوربا العظام.
واستعرضنا فيه المسائل التي تحظى بالأهمية في الفلسفة القديمة والمسائل التي هي جديرة بالبحث في الفلسفة الحديثة. وسوف نلاحظ ضمن هذا الكتاب بعض المسائل التي لم يتقدم بحثها لا في الفلسفة القديمة ولا في الفلسفة الحديثة، مثل معظم المسائل الواردة في المقالة الخامسة، ومثل المسائل المدرجة في المقالة السادسة.
وفي المقالة السادسة تمّ تناول جهاز الإدراك والتمييز والتفكيك بين الإدراكات الحقيقية والإدراكات الاعتبارية بالنقد والتمحيص بشكل لم يسبق له مثيل. وأوضحنا فيها هوية الإدراكات الاعتبارية وموقعها بحيث استطعنا فصلها عن الفلسفة. وقد كان اختلاطها بالفلسفة سبباً لوقوع كثير من الفلاسفة في الضلال.
واحتفظت الفلسفة في هذا الكتاب بحدودها ولم تختلط بالعلم، وروعيت العلاقة بين العلم والفلسفة، ولكن قطعت فيه العلاقة تماماً بين الفلسفة وعلم الفلك القديم والطبيعيات القديمة، واستفدنا أيضاً في الموقع المناسب من النظريات العلمية الحديثة.
ومؤلف هذا الكتاب هو الأستاذ العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي دام بقاؤه الذي أنفق عمره في تحصيل الفلسفة وتدريسها، وأحاط بآراء ونظريات الفلاسفة المسلمين الكبار من قبيل الفارابي وابن سينا وشيخ الإشراق وصدر المتألهين وغيرهم،وعلاوة على هذا فإنه استوعب بدافع فطري وذوق طبيعي أفكار الفلاسفة المحققين في أوربا، وهو ينهض بعبء تدريس الفقه والأصول وتفسير القرآن. وبالإضافة إلى هذا فهو ينفرد بتدريس الحكمة الإلهية في الحوزة العلمية في قم. وقد حضرت جانباً من دروسه الفلسفية (إلهيات الشفاء لأبن سينا) واستفدت من هذه الدروس الشيء الكثير.
وتدور في ذهنه- منذ سنين عديدة- فكرة تأليف دورة فلسفية تشتمل على التحقيقات القيّمة للفلسفة الإسلامية خلال ألف عام، وتضّم الآراء والنظريات الفلسفية الحديثة أيضاً، بحيث تستطيع تقريب المسافة الواسعة التي تبدو أنها تفصل بين النظريات الفلسفية القديمة والحديثة، فتؤخذان على أنهما فنان مختلفان وغير مرتبطين ببعضهما. وبحيث تستطيع هذه الدورة الفلسفية التي تلبّي الحاجات الفكرية المعاصرة وتبيّن قيمة الفلسفة الإلهية التي تتجلى فيها عظمة العلماء المسلمين، والتي تشيع عنها الفلسفة المادية أنها قد انتهت مرحلتها التاريخية.
ومنذ برهة من الزمن والأستاذ يراقب ازدياد المنشورات الفلسفية واهتمام الشباب المثقف بالآثار الفلسفية للعلماء الأوربيين التي تخرجها المطابع في كل يوم بصورة ترجمة لمقالة أو كتاب، وهذا بنفسه دليل على وجود روح البحث والتفحص وطلب الحقيقة عند هؤلاء. وليس هذا الشيء أمراً استثنائياً وإنما له سابقة تاريخية تمتد لآلاف السنين. ومن جهة أخرى فهو يلاحظ المنشورات الطافحة بالدعايات السياسية والحزبية للفلسفة المادية الجديدة (المادية الديالكتيكية). كل هذه الأمور دفعته ليخطو نحو هدفه خطوة جديدة، فبادر إلى تشكيل مؤسسة إسلامية للبحث والنقد الفلسفي تضم مجموعة من العلماء. وتم الاتفاق منذ سنتين ونصف على أن يعّد الأستاذ بعض البحوث الفلسفية خلال الأسبوع ثم تقرأ هذه المواضيع في اجتماعات المؤسسة، وخصصوا لها ليلتين من الأسبوع. ثم يسمح للحاضرين في إبداء آرائهم وانتقاداتهم. وأسعفني الحظ في حضور هذه الاجتماعات عندما كنت في قم وذلك قبل سنة ونصف، ولا تزال هذه المؤسسة تواصل سيرها. ونتيجة لهذه الجهود دونّت لحد الآن أربع عشرة مقالة فلسفية، أربع منها يحتويها هذا الجزء الذي هو الآن بين يدي القارئ الكريم.
إن هذا العمل لشيء مهم جداً يدفع الفلسفة في إيران إلى مرحلة جديدة من عمرها.
فطلاب الفلسفة كانت معلوماتهم تنحصر فيما يقرءونه في كتبهم الدراسية المتداولة، ولكنه لم يمر على محاولة الأستاذ هذه إلا بضع سنين حتى ازداد في قم عدد الطلاب الذين يتمتعون بمعلومات فلسفية جامعة نسبياً وإحاطة بالبحوث الفلسفية ولا سيما الفلسفة المادية، وعرفوا- بدقة- المغالطات التي يتوسل بها أصحاب هذه الفلسفة.
 

خادم العترة

عضو مميز
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

تابع للمقدمة :



وكان الطلاب والمتذوقون منذ البدء يكتبون هذه البحوث، واهتّم بها بعض طلاب البحث الخارج في الحوزة العلمية في قم وأخذوا يتداولونها من يد إلى يد، حتى اقترح بعضهم أن تطبع هذه البحوث قبل سنة ونصف لتصل إلى أيدي الناس عموماً. وقد ذكر هؤلاء أن هذه الدراسات كتبت باللغة الفارسية ومع أن الأستاذ قد سعى في جعلها سهلة التناول ولكنها مع ذلك عسيرة الفهم لأغلب الناس ولهذا فهي محتاجة إلى التوضيح وتجديد النظر فيها.
وفي هذه الأثناء ألجأتني الظروف-وبعد خمس عشرة سنة من الدراسة العلمية في قم- لأغيّر مكان عملي إلى طهران.
ولكثرة أعمال الأستاذ العلمية من تدريس وتأليف في الفقه والأصول والتفسير والفلسفة فقد ألقى مسؤولية إنجاز هذا الأمر على عاتقي. وحاولت خلال عدة شهور-وعندما تسمح لي أعمالي- أن انهض بهذه المهمة، فوضحت بعض أقسامها وأضفت بعض الأمور ( وذلك في المجالات التي رأيت فيها لزوم الإضافة)، فظهرت بهذه الصورة التي ترون. وأنا وحدي الذي أتحمل مسؤولية هذا العمل.
ووفقت لحد الآن إلى كتابة التعليقات لأربع مقالات من هذه السلسلة، وجمعتها لتكون الجزء الأول من هذا الكتاب. وتتناول المقالة الأولى تعريف الفلسفة ( ما هي الفلسفة؟)، وتتعلق المقالات الثلاث الأخرى بمسائل العلم (الإدراك) وهي بعنوان. " النظرية الواقعية والنظرية المثالية" و "العلم والإدراك" و "قيمة المعلومات".
أما المقالات التي كتبت لحد الآن من قبل المؤلف فهي:
المقالة الخامسة: ظهور الكثرة في العلم.
المقالة السادسة: الإدراكات الاعتبارية.
المقالة السابعة: مباحث الوجود.
المقالة الثامنة: الإمكان والوجوب- الجبر والاختيار.
المقالة التاسعة: العلة والمعلوم .
المقالة العاشرة: الإمكان والفعلية - الحركة- الزمان .
المقالة الحادية عشرة: الحدوث والقدم -التقدم، التأخر، المعية.
المقالة الثانية عشرة: الوحدة والكثرة.
المقالة الثالثة عشرة: الماهية- الجوهر والعرض.
المقالة الرابعة عشرة: الكون ورب الكون (الإلهيات).
ـــــــــ
وتناولها ضمن هذه البحوث كثيراً من آراء العلماء السابقين والمحدثين بالبحث والنقد، وانصب اهتمامنا بصفة خاصة-ولعلّه سوف تذكر في محلها- على المادية الجديدة ( المادية الديالكتيكية) وسعينا جهد الإمكان لنوضح الانحرافات الواقعة في هذا المذهب.
وهناك عقائد مادية منذ أقدم الأزمنة كانت تنفي العلة الأولى أو تنفي تجرد الروح. ويظهر هذا بجلاء في بعض الكتب الفلسفية، ولكن المقطوع به تاريخياً أنه لم يوجد عند الماضين مذهب مادي معيّن ينكر كل ما وراء الطبيعة ويعتبر الوجود مساوياً للمادة. ومنذ العصور التاريخية القديمة كانت هناك بحوث عن عالم ما وراء الطبيعة، ولا شك أن هذه البحوث كانت ساذجة في أول الأمر ثم اتسعت وأصبحت برهانية وأكثر منطقية.
ويظهر من الكلمات التي نقلها القدماء أن "هرمس" الحكيم قد نظم أول بحث فلسفي بشكل مذهب فلسفي، وتربى في هذه المدرسة الفكرية مجموعة من الفلاسفة يدعون بـ"الهرامسة". ويبدو من كتاب العلل المنسوب إلى "بليناس" أن الفلسفة كانت تسمى في ذلك العهد باسم علل الأشياء. وأتباع هذا المذهب يعترفون بوجود عالم ما وراء الطبيعة.
وتوجد لدينا بعد هذه المرحلة نظرات فلسفية مختلفة للمالطيين، ونستطيع أن نعتبر مرحلة المالطيين المرحلة الثانية لتكامل الفلسفة. وحسب ما يذكر التاريخ القديم والحديث وحسب ما ورد من ذكر لعقائد هؤلاء وآرائهم في كتب الفلسفة فإنهم كانوا يتحدثون عن عالم ما وراء الطبيعة.
وكذلك اليونانيون المعاصرون للمالطيين أو المتأخرون عنهم حتى زمان سقراط .
وينقل مثل هذا عن فلاسفة الهند والصين المعاصرين للمطاليين (في القرن السادس قبل الميلاد) أو قبل ذلك.
وعلى أية حال فنحن لم نجد بين الماضين مذهباً فلسفياً معيناً ذا أتباع وهو ينكر تماماً ما وراء الطبيعة.
أما الأفراد الماديون الدهريون الذين وجدوا في أغلب الأزمنة فهم أشخاص متحيرون مترددون يزعمون أن الأدلة التي يعرضها الإلهيون لم تستطع إقناعهم.
وعلى هذا فلا يمكن اعتبار الفلسفة المادية ذات جذور تاريخية، وإنما هي استطاعت أن تحدث ضجة في أوربا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر لأسباب سوف نذكرها عما قريب، واتخذت لنفسها شكل المذهب الفلسفي، وأخذت تتباهى وتظهر قوتها أمام المذاهب الأخرى، ولم يستمر هذا طويلاً حتى طويلاً حتى اندحرت في القرن العشرين وفقدت رونقها وجلالها وجبروتها.
ففي الحقيقة إذن تاريخ الفلسفة المادية لا يمتد إلى أبعد من القرن الثامن عشر.
ولكن الماديين يحاولون أن يمنحوا المذهب المادي خلفيّة تاريخية غائرة في الماضي، ويحاولون إضفاء صفة المادية على العلماء العظام في العالم. فيقولون أن الطليعة في الثورة العلمية هم من الماديين، وأن الماديين هم الذين استطاعوا تفجير هذه الثورة. وعندما يتحدثون عن أرسطو يزعمون "أنه كان يتقلب بين المادية والمثالية".
وأحياناً يصفون ابن سينا بأنه " كان مادياً".
ويعتبر الماديون في ما ينشرون جميع الفلاسفة اليونانيين منذ زمن ثاليس المالطي وحتى زمان سقراط من الماديين.
ويسمى بخنر الألماني المادي الشهير الذي عاش في القرن التاسع عشر في المقالة الخامسة من شرحه لنظرية دارون والذي ترجمة إلى اللغة العربية الدكتور شبلي شميل، يسمى بخنر في هذه المقالة كثيراً من الفلاسفة بالماديين من قبيل انكسيماندر (انكسيمندروس) وإناكسيمن (انكسيمانوس) واكزينوفان ( اكسينوفانوس) وهراكليت (هرقليطوس) وبرمانيد (برمانيدس) وامبيروكل (انباذقلس) وديموكريت (ديمقراطيس).
ولكن الحقيقة أنه لا يمكن اعتبار هؤلاء العلماء ماديين بمعنى كونهم منكرين لما وراء الطبيعة.
وصحيح أن هذه المجموعة من العلماء عُرفت في تاريخ الفلسفة باسم الطبيعيين أو الماديين (وذلك في مقابل الرياضيين "الفيثاغوريين" القائلين بأن أصل العالم هو العدد وفي مقابل السوفسطائيين المنكرين لوجود العالم الخارجي) لأنهم يقولون بوجود المادة أو الأصل الأولي في الطبيعة.
فمثلاً يقول ثاليس أن الماء هو مادة المواد، ويعتبر انكسيمندروس الهيولى المبهمة مادة المواد، وانكسيمن الهواء، وهرقليطوس النار، وانباذقلس العناصر الأربعة، وذيمقراطيس الذرات الصغيرة التي لا تقبل الانقسام. فهؤلاء العلماء جميعاً كانوا يفسرون الحوادث الطبيعية بالعلل الطبيعية، ولكنه لا يوجد دليل واحد على أنهم كانوا ينكرون ما وراء الطبيعة.
والذي يعتمد عليه الماديون وبعض الكتاب في نسبة إنكار ما وراء الطبيعة إلى هذه المجموعة لا يرتبط إطلاقاً بهذا الموضوع، وإذا بنينا على اعتبار كل القائلين بالمادة الأولى وتفسير الحوادث الطبيعية بالعلل الطبيعية من جملة الماديين فلابد أن نعتبر كل الإلهيين من قبيل سقراط وأفلاطون وأرسطو والفارابي وابن سينا وصدر المتألهين وديكارت، بل كل الأنبياء والأولياء في مختلف الأديان من الماديين أيضاً.
وعلاوة على هذا فإن الكتب الفلسفية تنقل بعض الآراء عن قدماء اليونان في الموضوعات المتعلقة بما وراء الطبيعة وهي تكشف عن أنهم كانوا من الإلهيين، مثل عقيدة ثاليس وعقيدة انكسيمانوس في باب علم الباري.
ومن الغريب أن بخنر نفسه ينقل أموراً تناقص مايدعيه، فمثلاً يقول بحق هرقليطوس:
" كان هرقليطوس يعتقد بأن النفس الإنسانية هي شعلة نار منبعثة من الأزلية الإلهية"
[ 30 ]
ويقول بحق انباذقلس الذي يُعتبر الأب الأول لـ " الداروينية" ويعترف بأنه قد شرح بدقة نظرية التطور وتنازع البقاء لأول مرة- يقول بحقه:
"كان يعتقد بمفارقة النفس وينسب هذا إلى غاية معنوية وهي إن النفس تعود في تلك الغاية إلى حالتها الأولى حيث الراحة والشوق والحب".
والشيء الوحيد الذي يمكن أن يقال هو أن العلماء الذين سبقوا سقراط قد تأثروا غالباً ببيئتهم فاعتقدوا بأمور تختلط بالشرك في مورد الآلهة وأرباب الأنواع.
وينقل بخنر عن هرقليطوس:
"إن أصل العالم هو النار وهي تتأجج تارة وتخبو تارة أخرى، وهذه لعبة لـ "جوبيتر" (أحد الآلهة) وهو يلعبها دائماً مع نفسه".
ولا شك أن كلام هؤلاء العلماء لا يخلو من الرمز ولهذا فنحن لا نستطيع أن نقطع بمقصودهم الحقيقي.
وينقل صدر المتألهين في أواخر الجزء الثاني من الأسفار كلمات من ثاليس وانكسمايس وإنكساغورس وانباذقلس وأفلاطون وأرسطو. وديمقراطيس وأبيقورس (ابيكور) وفلاسفة آخرين. ويدعى أن هذه الكلمات ترمز إلى أمور لم يدرك حقيقتها ناقلو أحاديثهم، ثم يؤولها بما يتلاءم مع آرائه في الحركة الجوهرية وحدوث العالم.
والأدلة التي تذكر على أساس أنها ثبتت كون بعض القدماء أو المتأخرين من الماديين ليس لها أي ارتباط بهذا الموضوع من قبيل "الاعتقاد بالمادة الأصلية أو مادة المواد" أو " تعليل الحوادث الطبيعية بالعلل الطبيعية" أو الاعتقاد بأن "نظام الوجود نظام واجب وضروري" أو الاعتقاد بأنه " لا شيء يأتي من لا شيء" أو إعطاء الأهمية للمنطق التجربي في تحقيق المسائل الطبيعية، وأمثال هذه الأدلة.
ويظن الماديون- لعدم تعمقهم في المسائل الإلهية- إن هذه المواضيع المتقدمة تتنافى مع الاعتقاد بعالم ما وراء الطبيعة، ولهذا كل ما يتفوّه بموضوع منها فهم يعدونه من جملة الماديين، ومع أن الأشخاص المتهمين بالمادية يصرحون بأنهم على خلاف ذلك ولكن الماديين لا يتراجعون عن تلك الاتهامات.
ولم يقتصر هذا الخطأ والخلط على هؤلاء بل امتد ليشمل بعض الكتاب لتاريخ الفلسفة وبعض كتاب الموسوعات ودوائر المعارف من غير الماديين.
وسنوضح فيما بعد السبيل التي سلكت في مسألة " الحدوث والقدم" ومسألة " العلة والمعلول" فانتهت بهم إلى هذه الأخطاء.
نعم يوجد شيء لا يمكن إنكاره وهو أن بعض القدماء أنكروا تجرد الروح وبقاءه بعد الموت. وأصحاب هذه العقيدة هم ديمقراطيس وابيكور وأتباعهما.
واكتسبت هذه العقيدة (عدم بقاء النفس بعد الموت) أتباعاً لها منذ القرن السادس عشر الميلادي في أوربا. ويقال أن أول من كتب كتاباً في رد أرسطو بالنسبة إلى تجرد الروح هو بطرس بومبوناتيوس وذلك في عام 1516م. وشاعت هذه العقيدة تدريجياً وازداد أنصارها وكتبت عدة كتب في هذا الموضوع.
ويقول بخنر في المقالة السادسة من كتابه: إن بومبوناتيوس هذا كان من أتباع السيد المسيح ومن المدافعين عن تعاليمه، ثم يعقب بأن الناس جميعاً في القرن السابع عشر كانوا بهذا الشكل، ولعل علة الإيمان هذا هي الخوف من بطش الكنيسة أو رسوخ العقائد المتوارثة.
وحسب ما نقله بخنر فإن إنكار وجود الله علنا لم يبدأ إلا في القرن الثامن عشر، فكتب بارون هولباخ في سنة 1770 كتاباً سماه " نظام الطبيعة" أنكر فيه بصراحة وجود الله وحقيقة الدين.
واتفق مجموعة من العلماء في القرن الثامن عشر على تأليف دائرة للمعارف كان بعض كتّابها مادياً من قبيل هولباخ وديدرو ودلامبرت. بالخصوص كان يظهر التحير والتردد. ويقول بخنر: " إن دلامبرت صرح لمرات عديدة بأن أفضل السبل في مسائل ما وراء الطبيعة هو أن نقول (لا نعلم)".
ويُنقل عن ديدرو حديث لا يفهم منه إلا أنه حائر متردد.
أما في القرن التاسع عشر فقد ظفرت الفلسفة المادية بأتباع كثيرين، وأذيعت نظرية دارون المتعلقة بتحول الأنواع في النصف الثاني من هذا القرن، أي في سنة (1859م)، واعتبرها الماديون أفضل وسيلة لتقدم الفلسفة المادية.
ولم يكن دارون مادياً في عقائده، بل قد فرضيته هذه من الناحية البيولوجية (علم الأحياء)، ولكن الماديين استفادوا من هذه النظرية لصالح فلسفتهم المادية.
وقام الدكتور شبلي شميل المادي المعروف بترجمة شرح بخنر لنظرية دارون إلى اللغة العربية، ثم أضاف إليه بعض المواضيع المتنوعة وأذاع هذا الكتاب باسم "فلسفة النشوء والارتقاء". ويعترف الدكتور في ديباجة هذا الكتاب بأن دارون قدم نظرية التطور في الموجودات الحية من الناحية العلمية ( لا الفلسفية)، ولكن بعض المؤيدين للفلسفة المادية من قبيل هكسلي وبخنر اتخذوها وثيقة تصدّق دعاوى الفلسفة المادية.
ويقول في الصفحة (16) من ذلك الكتاب:
"والأعجب من هذا أن دارون مع كونه الواضع الأساسي لهذا المذهب فهو لم يستنتج منه كل النتائج التي كان يلزم استنتاجها".
وينقل عن دارون في المقالة الأولى من شرح بخنر من الترجمة العربية هذه الجملة:
"إن كل الموجودات الحية التي وجدت على الأرض قد تفرعت - حسب ما اكتشفتُ لحد الآن- من أصل واحد. والخالق هو الذي نفخ الروح وبعث الحياة في أول موجود حي وجد على هذه الأرض".
وبالإضافة إلى التيار الدارويني الذي ظهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأضفى على الفلسفة المادية رونقاً ونضارة فإن هناك تياراً آخر قد ظهر في هذا الوقت وأعطى للمادية شكلاً وهيكلاً آخر وأوجد مذهباً جديداً سمي بالمادية الديالكتيكية .
وقد ساهم كل من كارل ماركس (1818-1883) وفردريك انجلز (1820-1895) في إيجاد هذا المذهب، وكانا يتمتعان بأفكار ثورية وإحساسات اجتماعية متوقدة.
ومن ميزات هذا المذهب أنه يقتفي أثر منطق خاص يسمى بالمنطق الديالكتيكي".
ويعتبر كارل ماركس المؤسس الأول للمادية الديالكتيكية، وتتلمذ لمدة قصيرة على يد هيجل الفيلسوف الألماني الكبير وتعلم منه المنطق الديالكتيكي.
ولم يكن هيجل في أفكاره الفلسفية مادياً، ولكن كارل ماركس تعلق بالفلسفة المادية وأقام أساسها على المنطق الديالكتيكي الذي تعلمه من أستاذه فظهرت المادية الديالكتيكية.
وهناك ميزة أخرى لهذه الفلسفة وهي أن المقصود والهدف الأصلي منها- على خلاف سائر الأنظمة الفلسفية التي وجدت لحد الآن-ليس هو التحقيق في المسائل الفلسفية المعقدة، وإنما المقصود منها إيجاد أساس للأفكار الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الخاصة.
وبدلاً من أن ينفق حاملو لواء هذا المذهب أعمارهم- مثل سائر الفلاسفة والعلماء- في التفكير وتحقيق المسائل المعقدة العلمية والفلسفية فإنهم وقفوا جهودهم للعمل الحزبي والنضال السياسي.
ونشرت مجلة "انترناسيوناليست"(ومعناها "الأممية") التي تصدر في إيران متحدثة باسم أتباع هذا المذهب سنة 1325 هـ ش أن كارل ماركس اجتاز مرحلة الدكتوراه في سن الرابعة والعشرين واقتحم عالم النضال السياسي، وأمضى سنوات من النضال والاضطراب والملاحقات والنفي حتى الواحدة والثلاثين من عمره حين أبعد من باريس قاصداً لندن، فتارة يلجأ إلى ألمانيا وأخرى تضمّه باريس وثالثة تؤويه بروكسل. وفي أثناء إقامته في بروكسل كلّفه الاتحاد العام للشيوعيين في بروكسل بوضع برنامج للحزب الشيوعي فألف كتاب "المانيفست"(أي "البيان الشيوعي") الذي قال فيه لينين: أن هذا الكتاب تتجلى فيه المادية التاريخية والمادية الديالكتيكية وتتجلى فيه أيضاً نظرية النضال الطبقي والتعاليم الاجتماعية والاقتصادية لمذهب ماركس.
وأمضى كارل ماركس منذ سنة 1851 حتى آخر عمره في لندن. وفي الوقت الذي كان يتوقّد حماساً تفرّغ لكتابة "رأس المال" الذي تقول عنه المجلة السابقة الذكر أنه أساس النظريات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لمذهب كارل ماركس.
وحسب ما تذكر هذه المجلة فإن "انجلز" قد غادر المدرسة في سن الثامنة عشرة واتجه إلى برلين وانخرط في السلك العسكري، وفي ضمن أدائه للوظيفة شارك في المؤتمرات التي تعقدها جامعة برلين واتصل بالجناح اليساري لمذهب هيجل. والتقى في سن (24) لأول مرة في باريس بكارل ماركس، ومن هنا بدأ نضالهما المشترك.
وبعد هذه الحوادث أصبحت الفلسفة المادية تابعة في تقدمها للحركة الحزبية فبمقدار ما يزداد نفوذ الحزب الشيوعي في العالم فإنه يحمل معه الفلسفة المادية المعروفة بالمادية الديالكتيكية.
وفي السنوات الأخيرة نشرت في بلادنا كتب ومقالات كثيرة تحت عنوان "المادية الديالكتيكية".
واستغلت هذه المنشورات- لعلاقتها بالمراكز الحزبية- كما تستغل المنشورات الحزبية للإعلان والدعاية (وليس للعمل العلمي أو الفلسفي).
والهدف الأصلي من المنشورات الحزبية هو تعبيد الطرق السياسية. وأصحابها يجيزون التوسل بكل وسيلة لإزالة كل الموانع التي تقف سدّاً في طريقهم، وحسب أصولهم الحزبية فإن "الهدف يبرر الوسيلة".
ولا تتقيد الأخلاق الحزبية بإظهار كل شيء كما هو موجود، وإنما هي ملتزمة بإظهاره بشكل يؤمّن الوصول إلى الهدف، ولا يُتّبع هذا الأسلوب في الدراسات العلمية والفلسفية لأن الهدف الأساسي منها هو إرضاء نزعة البحث عن الحقيقة في نفس الإنسان.
ويتخيل الماديون في هذه القرون المتأخرة إن العلوم الحسية والتجربية بشكل عام تتقدم لصالح المادية، ولكن أتباع المادية الديالكتيكية يغرقون في المبالغة مدّعين إن الاتجاه المادي ثمرة مباشرة وخاصة لا تنفك عن العلوم التجربية، وينالهم العجب من أن العلماء وواضعي حجر الأساس لهذه العلوم لم يكونوا ماديين.
ويدعي أتباع هذا المذهب بصراحة أنه إما أن نكون تابعين للحكمة الإلهية ومؤمنين بوجود الله وعندئذ لابد من التنكر لكل العلوم والصناعات والاختراعات، وإما أن نحتضن هذه وعندئذ لا مفرّ من الإعراض عن الحكمة الإلهية.
وأقل فائدة يظفر بها القارئ المتذوق من قراءة هذا الكتاب هي أنه يدرك جيداً كون المادية الديالكتيكية- على رغم ادعاء أتباعها- لا ترتبط بالعلوم، وجميع أسسها إنما هي تحريفات واستنباطات شخصية ألفها أشخاص حسب ميولهم.
وأهم دليل يذكره هؤلاء في دعاياتهم أن في هذه القرون المتأخرة اقترن نمو العلوم الحسية والتجربية مع ترعرع الفلسفة المادية.
ولكن الحقيقة هي أن التقدم العلمي الأخير في أوربا قد حصل نتيجة للهزّة القوية التي عرضت للأفكار وأسقطت المسلّمات التي دامت آلافاً من السنين بشأن الفلك والطبيعيات وأوجدت دهشة وتشتتاً فكرياً رهيباً.
وصحيح إن هذا التحول قد حصل الموضوعات الحسية أو الحدسية ولكن هذا الزلزال قد امتد إلى الأفكار في المواضيع النظرية والعقلية وكذلك المسائل الدينية، وأدى هذا إلى ظهور مذاهب فلسفية مختلفة ومتناقضة في أوربا، وكل مجموعة منهم سلكت طريقاً معيناً، ومن جملتها هذه الفئة التي أعلنت عن نفسها أنها تسلك السبيل المادي. ونحن نعلم أن السوفسطائية التي كسد سوقها منذ ألفي عام، عادت اليوم ودبّت الحياة فيها وجرت الدماء في عروقها من جديد. ولو كان ظهور المذاهب التي اقترنت مع ظهور العلوم الحديثة دليلاً على الارتباط المباشر والسليم لهذه المذاهب بتلك العلوم لكانت المذاهب من قبيل " السوفسطائية والمثالية" أيضاً من الثمرات المباشرة والخواص التي لا تنفك عن العلوم الجديدة.
ولكن ظهور المذاهب المتنوعة في أوربا له سبب رئيسي آخر، وهو أن هذه البلاد تفتقر إلى مذهب فلسفي عقلي محكم وقوي ومتلائم مع العلوم الحديثة. ووجود سلسلة من العقائد السخيفة التي يطلق عليها اسم "الحكمة الإلهية" في أوربا قد هيأ الجو وفتح الباب على مصراعيه أمام الفلسفة المادية. ومن يرجع إلى الكتب المادية يجد ما هي نوعية العقائد التي بها هاجمها هؤلاء بشدة. وحتى إن مجموعة العلماء المحدثين الأوربيين المعتقدين بالنظرية الإلهية يعانون كثيراً من محتويات هذه الحكمة الإلهية.
يقول العلامة الفلكي المؤمن فلاماريون في كتابه المسمى "الله في الطبيعة":
"يلاحظ الناظر المدقق والباحث عن الحقيقة في عصرنا اتجاهين مختلفين في المجتمع ذي الأفكار الإنسانية، وكل واحد من هذين قد اجتذب نحوه جمعاً من الناس واستبدّ بهم. فمن جانب يوجد
"العلماء الكيمياويون" وهم مشغولون في مختبراتهم بدراسة ما يقع للمواد الكيميائية من أفعال وانفعالات، وهذا جانب من الجوانب المادية للعلوم، واستخرجوا بهذا التركيبات الجوهرية للأجسام.ويعلن هؤلاء بصراحة إن هذه المركبات المستخرجة من العمليات الكيميائية لم يشاهد فيها وجود الله إطلاقا.
ومن جانب آخر يوجد " الحكماء الإلهيون" وهم قابعون في أماكنهم على مجموعة من الكتب القديمة والنسخ المخطوطة التي يعلوها غبار الزمن، يحققون فيها ويفتشون في محتوياتها بشوق عظيم ورغبة عارمة يترجمون نصوصها ويستنسخون آياتها الدينية وأحاديثها المذهبية وهم يعتقدون بأنهم قد أصبحوا مشاركين للملك "رفائيل" في اتجاهه، ويعلنون بأنه توجد فاصلة طولها ستة آلاف فرسخ بين إنسان العين اليسرى وإنسان العين اليمنى للأب الخالد (وهو الله)".

وخصص القديس "توما الاكويني" الذي يعتبر أكبر الحكماء في القرون الوسطى وتتجلى فيه الحكمة "الاسكولاستية" (المدرسية) وبقيت كتبه لمدة أربعمائة سنة هي الكتب الرسمية للحوزات العلمية والدينية في أوربا- خصص فصلاً من كتاب "المجموعة اللاهوتية" يدور حول هذا السؤال:
"ما هو عدد الملائكة التي يمكن أن تحلّ في رأس إبرة؟".

ويقول الدكتور شبلي شميل في الجزء الثاني من كتاب فلسفة النشوء والارتقاء في الفصل المعنون بـ "القرآن والعمران" ما يأتي:
"لقد أحرزت الفلسفة بين المسلمين أقصى ما يمكنها من تقدم في النهضة الأولى، ولكنها بين المسيحيين انمحت وتلاشت في أول اصطدام لها، وحرمت الدراسات كلها ما عدا تلك التي تتعلق بـ (اللاهوت المسيحي)".

أما في المرحلة الجديدة للحكماء الإلهيين فقد ظهر فيها أمثال ديكارت وأعوانه ولكن هؤلاء العلماء لم يوفقوا لإبداع فلسفة إلهية قوية ومقنعة.

ومن المؤكد أن هذا التبعثر الفلسفي لم يكن ليوجد لو أن الحكمة الإلهية في أوربا قد أحرزت التقدم الذي ظفرت به بين المسلمين، وعند ذاك لم يكن الميدان ليسمح للسوفسطائيين أن يشيعوا خيالاتهم، ولا للماديين أن ينشروا غرورهم، وبالتالي فلا المثالية تستشري ولا المادية تستحكم.

وسعينا في هذا الكتاب إلى توضيح كل انحرافات المادية الديالكتيكية. وربما يعترض علينا بعض الناس الذين عرفوا أن هذه الفلسفة لا تتمتع بأساس رصين بأننا قد تناولناها بالنقد والتمحيص أكثر مما تستحق، ولكننا نذّكر هؤلاء بأننا لم نلاحظ في هذا مقدار القيمة الفلسفية والمنطقية لهذه الفلسفة، وإنما لاحظنا كثرة المنشورات المتعلقة بالمادية الديالكتيكية في بلادنا بحيث اجتذبت اهتمام كثير من شبابنا، ولعل بعضهم قد آمن بأن المادية الديالكتيكية هي أرفع نظام فلسفي للعالم وهي ثمرة مباشرة للعلوم الحديثة ومن خواصها التي لا تنفك عنها، وإن الحكمة الإلهية قد انتهت مرحلتها التاريخية، ولهذا رأينا من اللازم أن نتناول محتويات هذه الفلسفة وذلك المنطق بالتحليل والنقد لتتبين للجميع قيمتها الواقعية.

ونحن نستند في تعليقاتنا إلى الآراء والعقائد المنسوبة للماديين على كتب الدكتور تقي الآراني.
ويعترف أتباع المادية الديالكتيكية بأن الدكتور الآراني هو من أفضل علماء هذا المذهب الفلسفي. تقول مجلة "مردم"(وهي تعني "الناس") (وهي لسان حال حزب الشعب الإيراني) العدد الصادر في شهر بهمن سنة 1327 في مقالها الرئيسي:
"لا نظير للدكتور الآراني من حيث سعة المعلومات والإحاطة العلمية".
ونشر الدكتور الآراني مجموعة من المقالات في مجلة "الدنيا" جمعها مؤيدوه بعد وفاته في أجزاء مستقلة طبعت عدة مرات، منها "المادية الديالكتيكية" و "العرفان والأصول المادية" وغيرها.
وألّف مجموعة من الكتب المستقلة لعل أهمها "يسيكولوجي"(يطلق هذا الاصطلاح في اللغة الفرنسية على "علم النفس"، ويطلق عليه في اللغة الإنجليزية اسم "سيكولوجي". وحروف هذه الكلمة واحدة في اللغتين غير أن الحرف الأول منها لا ينطق في الإنجليزية).
ومع أنه قد مرت على وفاة الدكتور الآراني خمس عشرة سنة تقريباً ولكن أتباع المادية الديالكتيكية لم يستطيعوا أن يكتبوا أفضل منه. فهو قد عرض المادية الديالكتيكية بحلّة جميلة أفضل مما كانت عليه في كتابات كارل ماركس وانجلز ولينين وغيرهم، وذلك لأنه كان طويل الباع في اللغة والآداب الفارسية وله إلمام في الجملة باللغة العربية، ولهذا فاقت كتبه الفلسفية مؤلفات سابقيه.


ولهذا السبب اعتمدنا في هذا المضمار على أقواله مع أن هناك مؤلفات وترجمات كثيرة تتناول هذا الموضوع.
مرتضى المطهري
طهران / 12 / 1332 هـ .ش
1952 م​

يتبع:وردة:
 
أخي / خادم العترة !!

شكراً على هذا الموضوع الجيد !!

ولكن ...

ألا ترى أن الموضوع يحتاج إلى تجزئة ؟؟؟

حيث أنه المشاركة مليئة بالكلام دون تمييز وبدون فراغات بين الأسطر مما يتعب القارئ !!

وحبذا لو نقلتَ لنا أقوال علماء الشيعة الإمامية في حكم الفلسفة وآراءهم في الفلاسفة والقضايا الفلسفية التي دخلت على التراث الإسلامي !!

ولكن باختصار لو تكرمت !!
 

خادم العترة

عضو مميز
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أخي المتبحر سررت بمشاركتك

واقعا أنا لم أرتب المقدمة وسوف أعمل على تجزئة باقي الكتاب بالشكل الذي يناسب القارئ إن شاء الله

وأما بخصوص الفلسفة عند علماء الشيعه فأنت تقرأ للشهيد مرتضى مطهري وهو أحد علمائنا في الفلسفة والشيوخ والسادة الذين ذكرت اسماءهم هم فلاسفتنا كصدر المتألهين والمير آماد وكثيرين كالسيد دستغيب وغيرهم وعلم الفلسفة كباقي العلوم ومن المعاصرين لديك السيد كمال الحيدري له محاضرات مسموعة على الانترنت فقط ضع اسمه سوف تجد مواقع كثيرة لمحاضراته القيمة وإن شاء الله سوف نتناول الآراء في موضوع مستقل أخي الكريم

فتحياتي لك
 

كاظمة

عضو بلاتيني
شكرا أخي خادم العترة على نقل هذه الاسطر لهؤلاء المفكرين الذين ان دققت في ما كتبوا تتيقن انه ليس مجرد ترف فكري او املاءات..

بل انهم يأخذون القارئ برحلة فلسفية فكرية الى اعماق وجدان الانسان و اظهار جوانب متوهجة من هذه الطاقة الانسانية و وضعها امام نصب عين القارئ، فيتكون "يقينا" عند القارئ شعور بقيمة الذات و ماهية الانسان و وضيفته في رحلته من المهد الى اللحد..

فعلا، ما يتميز به هؤلاء المفكرين و العلماء انهم لم يقفوا عند مرحلة من التاريخ و قرروا انه هنا هي نهاية العالم، بل انهم ضخوا الحياة و النشاط و الحيوية للعقل و أعطوا فهما أعمق للحياة بعيدا عن السطحية و التحجر و الجهل، و انك ان ما بدأت بالمضي شيئا فشيئا في فهم ما يتدفق من قلم هؤلاء العلماء تتوقف و تدرك كم انت صغير و جاهل امام هذه العقول النيرة العرفانية.

و الاعجب انك ترى حقيقة ان ما يسطره هؤلاء العلماء يرتبط ارتباطا وثيقا بالحقائق الملموسة على مر التاريخ و ارتباطا أوثق بالاسلام، حيث انهم صبوا كل هذه المعلومات ببوتقة متكاملة و ربطونها ارتباطا منسجما مع المنطق من خلال معلومات قيمة لم نعرفها من قبل و ضمن سياق فلسفي غني لا يملك المرء الا ان يحفز نفسه على التعلم من هؤلاء و الوقوف اجلالا لعلمهم و اضافتهم ما هو مفيد للانسانية.
 
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أخي المتبحر سررت بمشاركتك

واقعا أنا لم أرتب المقدمة وسوف أعمل على تجزئة باقي الكتاب بالشكل الذي يناسب القارئ إن شاء الله

وأما بخصوص الفلسفة عند علماء الشيعه فأنت تقرأ للشهيد مرتضى مطهري وهو أحد علمائنا في الفلسفة والشيوخ والسادة الذين ذكرت اسماءهم هم فلاسفتنا كصدر المتألهين والمير آماد وكثيرين كالسيد دستغيب وغيرهم وعلم الفلسفة كباقي العلوم ومن المعاصرين لديك السيد كمال الحيدري له محاضرات مسموعة على الانترنت فقط ضع اسمه سوف تجد مواقع كثيرة لمحاضراته القيمة وإن شاء الله سوف نتناول الآراء في موضوع مستقل أخي الكريم

فتحياتي لك

أشكرك أخي / خادم العترة على هذه الإفادة !!

ولو تكرمت - حتى أوفر عليك - لو ترشدني إلى بعض المواقع أو الروابط التي تناولت موقف الشيعة الإمامية من الفلسفة والفلاسفة !!

وأتمنى تكون مواقع دسمة وراهيه !!:)

تقبل تحياتي !!
 

خادم العترة

عضو مميز
المقالة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الأخ المتبحر المحترم وصلت الرسالة إن شاء الله

نتابع مع القارئ هذا الكتاب :

المقــَـــــالة الأولــــــى


ما هي الفلسفـــة؟

يحتوي الكون كثيراً من الموجودات وعدداً لا يحصر من الظواهر ونُعّد نحن جزءاً من هذه المجموعة.
وكثيراً ما يحدث أن نظن بأن شيئاً ما موجود وله أساس من الواقع ونضفي عليه صفة الصدق ثم يتبن لنا أنه لا أساس له من الواقع وهو مندرج تحت عنوان الكذب. وكثيراً ما يحدث أيضاً أن نعدّ شيئاً ما معدوماً ونصفه بالكذب ثم يتضح لنا بعد ذلك أنه كان صحيحاً وهو متصف بميزات وله آثار متعددة في هذا الكون.

ونحن نعلم أن حب الاطلاع وغريزة الفحص في كل ما تصل إليه أيدينا والبحث عن علله الوجودية مغروسة في أعماقنا. ومن هنا فلا بد أن نميز الموجودات الحقيقية والواقعية (وباصطلاح الفلسفة: الحقائق) من الموجودات المتخيلة ( وهي الوهميات والاعتباريات)(سوف نذكر في نهاية هذه المقالة أن "الفلسفة" تقع في مقابل "السفسطة".

ولما كان السوفسطائي منكراً لأي واقع خارج الذهن ومعتبراً الإدراكات والمفاهيم الذهنية كلها لوناً من ألوان الفكر الخالص فهو ينكر إذن أن يكون هناك معنى لقولنا: إن الحقيقة هي الإدراك المطابق للواقع.

أما الفيلسوف فهو يذعن ويسلم بأن هناك واقعاً خارج أذهاننا وهو يعتبر بعض الإدراكات حقيقة لأنها تطابق الواقع، ويسلم بأن بعض الإدراكات لا تطابق الواقع (وهي الإعتبارات والوهميات) .

فمن وجهة نظر الفيلسوف تنقسم الإدراكات والمفاهيم الذهنية إلى ثلاث فئات رئيسية:

أ-الحقائق: وهي تلك المفاهيم التي لها مصاديق واقعية في الخارج.

ب-الاعتباريات وهي المفاهيم التي ليس لها مصداق واقعي في الخارج ولكن العقل يعتبر لها مصداقاً.أي أن العقل يعتبر الشيء الذي ليس هو مصداقاً واقعياً لهذه المفاهيم- يعتبره مصداقاً.

وسوف نوضح في فصل مستقل كيفية ظهور الإدراكات الإعتبارية، وكيف أن العقل لا مفرّ له من اعتبار مجموعة من المفاهيم.

ولكي يميز القارئ الكريم الإدراكات الحقيقية من الإدراكات الإعتبارية في الجملة نذكر هذا المثال:

لو شكّل ألف جندي فوجاً من الجيش فإن كل جندي يعتبر جزءاً من هذا الفوج، أما الفوج فهو عبارة عن مجموعة الجنود. ونسبة كل فرد إلى المجموع هي نسبة الجزء إلى الكل. ونحن ندرك كل فرد من هؤلاء ولنا أحكام مختلفة حول الأفراد، وندرك أيضاً مجموع الأفراد الذي أطلقنا عليه اسم" الفوج" ولنا أحكام معينة بحقه.

فإدراكنا للأفراد إدراك حقيقي لأن له مصداقاً واقعياً خارجياً، أما إدراكنا للمجموع فهو اعتباري لأن المجموع لا مصداق له في الخارج والذي له تحقق في الخارج إنما هو كل فرد من الأفراد وليس المجموع.

ج-الوهميات: وهي الإدراكات التي لا مصداق لها إطلاقاً في الخارج وهي باطلة من أساسها مثل تصور الغول والعنقاء والحظ وأمثالها.

وتسعى الفلسفة بموازينها الدقيقة إلى فصل الأمور الحقيقية عن الفئتين الأخريين.

وتمييز الأمور الاعتبارية - التي تبدو كأنها حقيقية - من الحقائق يعتبر من المواضيع المعقدة التي زلّت فيها أقدام كثير من الفلاسفة.

وحاول العلماء المحدثون في أوربا - والذين انصرفوا إلى نقد العقل وفهم الإنسان - أن يفصلوا مخلوقات الذهن عن الحقائق التي لها واقع خارجي، وأدى هذا إلى انحراف بعضهم نحو " السفسطة" (idealism ) القائلة أن جميع المفاهيم هي مخلوقة أذهاننا. ودفع البعض الآخر إلى اختيار " أسلوب الشك" ( scepticism) ).

وبذلت الفلسفة الإسلامية جهداً ملحوظاً في هذا المضمار وقدمت تحقيقات نافعة للتفكيك بين الاعتباريات والحقائق. ونرجئ تفصيل ونقد العلماء الأوربيين وتحقيق العلماء المسلمين إلى المقالة الخامسة) .

وبغض النظر عن هذا الدافع الغريزي لتأمين احتياجات الحياة فنحن كلما اقتحمنا فرعاً من فروع العلم المختلفة فإن إثبات كل خاصة من خواص الموجودات لموضوعها يحتاج إلى ثبوت الموضوع نفسه قبل ذلك ( نحن محتاجون إلى الفلسفة من ناحيتين:

الأولى: إن الإنسان قد غرست في نفسه غريزة حب الاطلاع، وهو يحب دائماً أن يميز الحقائق من الأوهام، والأمور التي لها واقع من الأمور التي لا واقع لها.

الثانية: أن العلم بجميع فروعه يحتاج إلى الفلسفة، لأن العلم - كما سوف يذكر- سواء أكان طبيعياً أم رياضياً، وسواء أكان يتقدم بالأسلوب التجربي أم بالأسلوب البرهاني والقياسي فهو يأخذ موضوعه مفروض الوجود والواقعية ثم يتناول آثاره وحالاته بالبحث والتمحيص، ومن الجلي أن ثبوت حالة لشيء أو تحقق أثر له لا يمكن إلا في حالة وجود ذلك الشيء نفسه.

فإذا أردنا أن نطمئن إلى أن هذه الحالة أو ذاك الأثر موجود لذلك الشيء. فلا بد لنا قبل ذلك من الاطمئنان بأن ذلك الشيء بنفسه موجود، ولا يتحقق هذا إلا في ظل الفلسفة).

وهذه المجموعة من البحوث البرهانية التي تهدف إلى تأمين ما سبق ذكره وتكون نتيجتها إثبات الوجود الحقيقي للأشياء وتشخيص علل وأسباب وكيفية ومرتبة وجودها- كل هذه يطلق عليها اسم "الفلسفة".

ويختلف عن هذا أسلوب البحث ونتيجة الفحص في العلوم الأخرى (المقصود هنا هو التفريق بين الفلسفة والعلم. ويحتاج هذا الموضوع إلى دقة كبيرة، لأن لفظ "الفلسفة" قد استعمل أخيراً بصورة واسعة، ونتج عن ذلك أن ظل معناه مبهماً بحيث أصبح الناس يفهمون من هذا اللفظ معانٍ مختلفة، فبعض يظن أن الفلسفة تعني إبداء الآراء المشوبة بالدهشة والحيرة بالنسبة إلى الكون. وبعض تخيل أنها تعني الأقوال المبعثرة أو الأحاديث المتناقصة. وبعض لا يميّز بين المسائل الفلسفية والمسائل التي تبحث في العلوم، ومن هنا فهو ينظر حل مشكلة فلسفية من العلوم الأخرى، أو يطلب الجواب عن سؤال متعلق بالعلم من الفلسفة.

وبعض آخر لا يفرق بين الأسلوب الفكري المتبع في الفلسفة ( وهو أسلوب القياس العقلي) والأسلوب الفكري المستخدم في العلوم ولا سيما العلوم الطبيعية (وهو الأسلوب التجربي)، ولهذا فهو ينتظر حل المسائل الفلسفية الدقيقة والعميقة بواسطة المجاهر أو بواتق المختبرات العلمية، من أنها لا يمكن إزالة الغموض عنها إلا بواسطة البراهين العقلية الخاصة.

وتعود جذور لفظ " الفلسفة" إلى اليونانيين ، فكانت تطلق سابقاً ويقصد منها معنى عام يشمل كل المعلومات النظرية والعملية، فتكون مرادفة تقريباً للفظ "العلم".
وشاع الاصطلاح حتى بين علمائنا، ولكن العلماء فصلوا أخيراً بين لفظ العلم ولفظ الفلسفة وذلك منذ تخلّت بعض العلوم عن أسلوب البرهان والقياس العقلي وأحلّت الأسلوب التجربي محله، فأصبح كل لفظ من هذين يطلق على معنى خاص.

ولابد من النظر بعين الاعتبار إلى أن الاصطلاحات الشائعة بين العلماء المحدثين تختلف أيضاً باختلاف آرائهم وأساليبهم في فهم عقل الإنسان وحدود قدرته وقواه المدركة.

وعادة يطلق العلماء - الذين يؤمنون بقيمة الأسلوب التجربي والأسلوب العقلي في البرهان والقياس- لفظ "العلم" على تلك المواضيع الناتجة من تجارب الإنسانية، ولفظ "الفلسفة" على تلك المسائل النظرية والعقلية المحضة.

ولما كانت الحكمة الأولى حصيلة خالصة لقوة العقل البشري ولا دخل للتجربة الحسية في مسائلها ففي أغلب الأحيان عندما تطلق كلمة "الفلسفة" فإن المقصود بها هو الحكمة الأولى (كانت تعتبر أحد الفروع الثلاثة للفلسفة النظرية، وكان العلماء السابقون يسمونها بـ "الفلسفة الحقيقية" لأنها نظرية وعقلية محضة، ويسمونها بـ " العلم الكلي" لأنها تبحث في أكثر الأمور كلية وهو الوجود، ويطلقون عليها أيضاً اسم "الإلهيات" لأن إحدى مسائلها هي مسألة علة العلل وواجب الوجود. وأطلق عليها اليونانيون القدماء اسم "الميتافيزيقية" (metaphysics) لأسباب خاصة سوف نستعرضها في نهاية هذه المقالة).

ومنذ بداية القرن السابع عشر فما بعد ظهرت فئة من العلماء تنكر قيمة "البرهان والقياس العقلي" وتعتبر الأسلوب التجربي هو الأسلوب الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه. ويعتقد هؤلاء أن الفلسفة النظرية والعقلية المستقلة عن العلم لا تتمتع بأي أساس، وليس العلم إلا ثمرة للحواس، وهذه الحواس لا تتعلق إلا بأعراض الطبيعة وظواهرها (phenomenon)، إذن لا قيمة لمسائل الفلسفة الأولى التي هي نظرية وعقلية محضة ومتعلقة بكنه الواقع وبأمور غير محسوسة، ولا يمكن إدراك هذه المسائل للإنسان، لا نفياً ولا إثباتاً، فلابد من إخراجها من حيّز البحث ولا بد من اعتبارها ضمن الأمور غير القابلة للتحقيق.

ومن العلماء المنكرين لقيمة الفلسفة العقلية والنظرية الفيلسوف الفرنسي الشهير أوجست كونت (uguste comte) الذي عاش في القرن التاسع عشر، وهو يعتقد بفلسفة حسية تعتمد على العلم، والفلسفة عنده تعني بيان علاقات العلوم فيما بينها وكذلك بعض الفرضيات الواسعة التي تستفيد منها كل العلوم أو أغلبها . ويسميها بهذا الاسم لوجود بعض الشبه بالفلسفة الأولى من حيث العموم والكلية فيها.

ويطلق اليوم اصطلاح "الفلسفة العلمية" على الأساليب المتّبعة في العلوم والطرق السائدة في كل علم.

فهذه الفلسفة الحسية التي جاء بها أوجست كونت وهكذا سائر الأنظمة الفلسفية الحسية التي أعلنها الفلاسفة الحسيون (epiristes) كلها تعتمد على العلوم الحسية، فهي إذن محدودة مثل تلك العلوم، ولا تتجاوز حدود تفسير أعراض وظواهر الطبيعة (phenomeno ).
ولا نتعرض في هذه المقالة للفلاسفة الحسيين ولا لأولئك الذين يقولون أن الفلسفة الأولى ليست قابلة للتحقيق والبحث لأنها نظرية وخارجة عن مجال الحس والتجربة. وقد خصصنا مقالة أخرى في هذه السلسلة من المقالات لرد عقيدة هذه الفئة من العلماء، وأوضحنا هناك أن أسلوب البرهان والقياس العقلي مفيد ومعتبر وأن مسائل الفلسفة قابلة للتحقيق.

وينحصر اهتمامنا هنا في مناقشة أولئك الذين يتناولون مواضيع هذه الفلسفة نفياً أو إثباتاً.

ويشمل النقاش الماديين (Materialistes) وأتباع المادية الديالكتيكية (materialism -Dialectic)الذين أبدوا آراءً في مسائل هذه الفلسفة دون أن يفككوا بين هذه المسائل والمسائل المتعلقة بالعلوم.

والغريب أن هذه المجموعة من العلماء تعلن عن نفسها أنها تابعة للمنطق الحسي والتجربي، مع أنها قد تناولت هذه المسائل بالنفي أو الإثبات، والحس والعلوم الحسية لا يمكنها إثبات ذلك ولا نفيه.

ويحسن بالقارئ الكريم أن يلاحظ منذ الآن، وسوف يحصل له اليقين بذلك في المقالات اللاحقة، إن الفلسفة المادية وآخر أشكالها "المادية الديالكتيكية" هي لون من ألوان الفلسفة النظرية وليست فلسفة حسية ولا تجربية.

ومن المؤكد أنه قد وجد في أوربا بعض العلماء الذين آمنوا بالفلسفة الحسية ولكن فلسفة هؤلاء لم تكن مادية ولا إلهية، وذلك لأن الفلسفة الحسية قيدتهم على الرغم منهم بالمسائل المتعلقة بالعلوم الحسية، والمنطق الحسي يفرض عليهم السكوت إزاء كنه الوجود وحقيقته.


يتبع المقالة الأولى إن شاء الله

تحياتي
 

خادم العترة

عضو مميز
يتبع المقالة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نتابع معك أخي القارئ المقالة الأولى


وأشهر الفلسفات الحسية هي الفلسفة الوضعية (positivisme) ومؤسسها هو الفيلسوف الفرنسي أوجست كونت.


أما الفلسفة المادية في شكلها الأخير (المادية الديالكتيكية) فهي تسهب في الحديث - لأغراض دعائية - عن الحس والعلوم الحسية، وأحياناً يحرفون مسألة علمية ليصدقوا بها أحاديثهم، ولكنهم لم يتقيدوا بالمنطق الحسي لأنهم قد تناولوا بالنقد مسائل الفلسفة الأولى النظرية والعقلية، وهذه المسائل لا تدخل مجال الحس ولا التجربة.

ولهذا تناولنا في هذه المقالة تعريف الفلسفة الأولى ( التي يتناولها بالبحث الماديون أيضاً شاءوا أم أبوا) وفصلها عن مسائل العلوم (وقد خلط الماديون بين هذين البحثين ولم يستطيعوا فصل أحدهما عن الآخر).

فالمقصود من الفلسفة في هذه المقالة هو الفلسفة الأولى التي هي نظرية وعقلية صرفة، والهدف من هذه المقالة هو تعريفها وتوضيح الفرق بينها وبين سائر الأقسام التي تسمى اليوم بالعلوم.

ولا نجد مفرّاً من ذكر مقدمة قصيرة ليتمكن القارئ الكريم من إدراك تعريف الفلسفة بشكل دقيق وليستطيع تمييز المسائل الفلسفية من المواضيع العلمية:

تشكل العلوم المنتشرة في المجتمعات البشرية أقساماً مختلفة، ويعرف كل قسم منها باسم خاص، فهناك الفيزياء، الكيمياء، الحساب، الهندسة، الفلك، الأحياء، و... وكل واحد من هذه يطلعنا على لون معين من المعارف بحيث نستطيع قبل أن نَرِدَ ذلك القسم أن نعرف ما هو لون المسائل التي سنواجهها في هذا المجال لأننا نعلم:

إن كل علم عبارة عن البحث في سلسلة من المسائل المتعلقة بموضوع معين، وتوجد رابطة خاصة تربط بين مسائل كل علم وتصلها ببعضها وتفصلها عن مسائل العلوم الأخرى.

إذن لكي نظفر بتعريف لكل علم، ولكي نميز كون المسألة الفلانية لأية مجموعة من المسائل هي منضمة، ولأي علم هي منتمية، ولا بد أن نشخص موضوعات العلوم أنفسها.

فما دمنا لا نعرف ما هو موضوع علم الحساب وما هو موضوع علم الهندسة فإننا لا نستطيع أن نفرق بين مسائل الحساب ومسائل الهندسة، وهكذا بقية العلوم.

وننتقل من هذه المقدمة لنقول أن الفلسفة بدورها قد أخذت على عاتقها حل مشكلات معينة، وتدور مسائلها حول موضوع معين. وهي لا تتدخل فيما يتعلق بالمسائل العلمية، ولا تسمح أيضاً لهذه المسائل أن تتطفل على حدودها.

والفلسفة عبارة عن البحث والدراسة في سلسلة من المسائل التي تتحدث عن مطلق الوجود وأحكامه وأعراضه على أساس البرهان والقياس العقلي.

وهي تتكلم عن وجود الأشياء أو عدمها وتدقق في أحكام مطلق الوجود ولا تنظر إلى الأحكام والآثار المختصة بموضوع واحد أو عدة مواضيع معينة، وهذا بعكس العلوم التي تتناول دائماً موضوعاً واحداً أو عدة مواضيع مفروضة الوجود ثم تدقق في أحكامها وآثارها وهي لا تنظر إلى وجود الأشياء ولا إلى عدمها.

وليتضح هذا الموضوع أكثر نذكر هذين المثالين:

لو أخذنا موضوع الدائرة وقلنا أن محيط كل دائرة يساوي (3,14) مضروباً في قطرها، فهذا متعلق بعلم الهندسة، ومعنى هذا الكلام هو كل دائرة لها وجود خارجي فإن لها خاصية (تساوي محيطها مع 14،3) مضروباً في قطرها).

إذن فرضنا للدائرة وجوداً خارجياً ثم أثبتنا لها هذه الخاصية (وهي أن محيطها يساوي 3,14 مضروباً في قطرها).أما لو تسائلنا: أيكون للدائرة وجود خارجي أم أن ما نتصوره دائرة ليس إلا شكلاً كثير الأضلاع؟

فهذا موضوع يتعلق بالفلسفة، لأننا هنا لم نتحدث عن خواص الدائرة ولا عن أحكامها وإنما تحدثنا عن وجودها أو عدمها.

والمثال الآخر يدور حول الجسم، فلو قلنا أن لكل جسم شكلاً، أو لكل جسم إشعاعاً، فهذا مرتبط بالعلوم الطبيعية.

أما لو قلنا: أيكون الجسم (وهو الشيء الذي له ثلاثة أبعاد) موجوداً في الخارج أم أن ما نحسّ به على أساس أنه جسم وله ثلاثة أبعاد ليس في الواقع إلا مجموعة من الذرات الخالية من أيّ بعد؟
فهذا موضوع فلسفي.

موضوعاً أو عدة مواضيع مفروضة الوجود ثم يواصل دراسة الخواص ويوضح الآثار.

ولا يتناول أي علم البحث في أن الموضوع الفلاني موجود أم لا؟ وإذا كان موجوداً فما هي كيفية وجوده؟

وإنما هو يأخذ الموضوع مفروض الوجود ثم يبحث أحكام هذا الموضوع، ويحيل مسألة وجوده وكيفية ذلك الوجود إلى مجال آخر (هو الحس أو البرهان الفلسفي).

ونستطيع أن نلخص ما مضى من حديث فيما يأتي:

نحن قد نخطئ أحياناً أو نتردد في بعض خواص الأشياء وأحكامها فنقول مثلاً: أن التركيب الفلاني لا طعم له (بالقطع أو بالترديد) مع أن له في الواقع طعماً، أو بالعكس.

وأحياناً أخرى قد نخطئ أو نجهل أصل وجود الأشياء أو عدمها فنقول مثلاً: الروح ليست موجودة في الخارج، أو نقول أن الحظ له تحقق في الواقع.

فهذان لونان وأسلوبان من البحث في هذين المثالين ليسا هما متشابهين.
فلا بد أولاً من إثبات وجود الشيء أو أخذه مفروض الوجود ثم ننتقل إلى البحث في خواصه وأحكامه

نعم كثيراً ما يحدث هذا الأمر وهو أن تثبت البحوث العلمية أحكاماً وخواصّ لموضوع ما، ثم نعرف من هذا كيفية وجود هذا الموضوع وبأية علة هو مرتبط.

مثلاً إذا أثبتنا في العلوم الطبيعية أن جزءاً من الذرة المسمى بـ " البروتون" يدور حول نفسه بحركة سريعة، إذن نستطيع القول:

"إن لدينا في الخارج حركة وضعية دائرية"

ومن الجلي أن في هذا الحديث قضيتين:

الأولى: أن جزء الذرة المسمى بالبروتون يدور حول نفسه، وهذا القول يعتمد في إثباته على البرهان الطبيعي والتجربة العلمية.

الثانية: أن لدينا حركة وضعية دائرية في الخارج، وهذا يعتمد على القول الأول، ولا يستند مباشرة إلى التجربة.

وبهذا يتضح أن العلوم بأسرها تتوقف في صمود محاولاتها واستمرا تقدمها على الفلسفة.

وكذلك الفلسفة فهي تتوقف في بعض المواضيع على شيء من مسائل العلوم فهي تستفيد وتنتزع منها بعض النتائج (إلى هنا اتضح الفرق بين الفلسفة والعلم، وعرفنا كيف تحتاج العلوم إلى الفلسفة في إثبات موضوعاتها.

ونريد أن نبيّن هنا كيف تستفيد الفلسفة أحياناً من العلوم، فهي لا تستفيد منها بهذا النحو وهو أن تكون بعض المسائل العلمية في صف ورتبة المسائل الفلسفية، ولا تستفيد منها بحيث نستنتج المسألة الفلسفية من المسألة العلمية، وإنما تستفيد منها بهذا الشكل وهو أن الفلسفة "تنتزع" بعض المسائل ذات الوجهة الفلسفية من مسائل العلوم.

ويلزمنا أن نبيّن الفرق بين معنى الانتزاع ومعنى الاستنتاج لكي نعرف أن المسألة الفلسفية ليست هي نفس المسألة العلمية وليست هي مستنتجة منها وإنما هي منتزعة منها.

الاستنتاج: وهو يعني أن يقوم العقل بأخذ نتيجة جزئية من حكم كلي أي أنه يحيط علماً بالجزئي بوساطة الكلي.

مثلاً لو ثبت لنا أن كل موجود طبيعي معرض للفناء فإننا " نستنتج" كون الشجرة فانية لأنها موجود طبيعي، وإذا أردنا أن نرتبها ترتيباً منطقياً قلنا: "الشجرة موجود طبيعي، وكل موجود طبيعي معرض للفناء، إذن الشجرة معرضة للفناء".

وإذا دققنا في هذا وجدنا أن العلم بالجزئي قد ولد من العلم بالكلي، فهو يعتبر إذن نتيجة له.
ومن الواضح أن مسائل الفلسفة لا يمكن أن تستنتج من مسائل العلم، لأن المعطي للنتيجة لا بد أن يكون أكبر في شموله وكليته من الآخذ للنتيجة، والحال أن المسائل الفلسفية أعم وأكبر كلية من جميع المسائل الأخرى لأن موضوعها هو مطلق الوجود، وليس بين الموضوعات ما هو أكبر كلية من الوجود.

الانتزاع: وهو اصطلاح تستعمله الفلسفة وعلم النفس لعمل ذهني خاص يمكن تسميته أيضاً بـ "التجريد" . وهو يعني أن الذهن عندما يدرك عدة أشياء متشابهة فهو يقيس بعضها إلى البعض الآخر ويميز بين صفاتها المختصة وصفاتها المشتركة ثم يصوغ من الصفة المشتركة مفهوماً كلياً يصدق على كل تلك الأفراد، وحينئذ يقال أن هذا المفهوم الكلي قد انتزع من هذه الأفراد، مثل مفهوم الإنسان المنتزع من الصفات المشتركة بين علي وخالد وغيرهما.

وفي اصطلاح الفلسفة يستعمل لفظ الانتزاع في موارد أخرى.
فالمقصود من قولنا أن المسألة الفلسفية "تنتزع" من المسألة العلمية هو أن الفلسفة تسير في استدلالها الفلسفي على أساس مسألة علمية ثم تصل إلى نتيجة فلسفية. وبعبارة أخرى فإن الفلسفة ترتب قياساً منطقياً تحتل فيه المسألة العلمية صغرى هذا القياس (لا كبراه) ، ثم تستنتج الفلسفة نتيجة فلسفية حسب قواعدها الكلية.

إذن أصبح واضحاً أن الفلسفة شيء غير العلم وأن بينهما علاقة خاصة، وحسب هذه العلاقة فإن العلم يستفيد من الفلسفة، كما أن الفلسفة أيضاً تستفيد من العلم.

وسوف يجيء في المقالات الآتية أن حاجة العلوم إلى الفلسفة غير منحصرة فيما ذكرناه، وإنما كل القوانين الكلية العلمية متوقفة في قطعيتها وقانونيتها على أصول عامة لا يمكن إثباتها إلا في ظل الفلسفة).



يتبع المقالة الأولى إن شاء الله





 

خادم العترة

عضو مميز
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نتابع المقالة الأولى من الكتاب


وتوجــد هناك عدة ملاحظـــات

الملاحظة الأولى:

لما كان البحث الفلسفي مختلفاً مائة بالمائة عن البحوث العلمية

في الأسلوب، إذن فالمسألة العلمية ومن أي علم كانت لا يمكن أن تصبح جزء البحث الفلسفي، بل ينفصل كل لون من الدراسات الفلسفية (الإلهية والمادية) عن البحوث العلمية، ويسير بإسلوبه الخاص ويتحدث عن وجود الأشياء وعدمها.

وبهذا يتضح أن الظنون لازمت علماء الفلسفة المادية الديالكتيكية (التحولية) لا تتمتع بأساس سليم.

فهؤلاء العلماء يزعمون أن الفلسفة الميتافيزيقية (ما وراء الطبيعة) تعتمد فقط على مجموعة من المقدمات العقلية والظنون الساذجة التي لم تتأكد صحتها، بينما فلسفتنا تستند إلى العلم المعاصر الذي تقدم بوساطة الحس والتجربة، وفي كل يوم تؤكده صحة مسيرة آلاف التحف التي تقذف بها مؤسساته الصناعية، وهو لا يعتمد على غير الحس والتجربة وليس فيه إثارة مما وراء المادة .

ويدعون أيضاً أن الفلسفة ما وراء الطبيعة تؤدي إلى طرق مسدودة يتوقف فيها البحث ويموت بسببها العلم، أما فلسفتنا فهي مستندة إلى العلم وتقدم بتقدمه.

وفيما مضى من حديث جواب لهذا الادعاء ولكن الفصول القادمة بإذن الله سوف توضح الموضوع بشكل أدق.
وينبغي أن يعلم هؤلاء العلماء أن البحث الفلسفي منفصل أساساً عن البحث العلمي، وأن المادية الديالكتيكية - مثل الميتافيزيقية تماماً- تستفيد من نتائج العلوم الحقيقية (يقصد بالعلوم الحقيقية ما يقابل العلوم الاعتبارية، وكان القدماء يسمون العلوم الاعتبارية بالعلوم العملية كعلم الأخلاق وغيره) بالاعتماد على البحث الفلسفي.

ولكن النزاع واقع في أن أياً من هاتين الفلسفتين قد أخذت ما يلزمها من مقدمات بصورة صحيحة وسليمة ؟(لو دققنا في كتب المادية الديالكتيكية لوجدنا المسائل المطروحة فيها للبحث إنما هي لون من الاستنباط النظري من الفرضيات والنظريات العلمية قام به العلماء الماديون. وسوف نبين في الفصول القادمة الأسس الفلسفية والمنطقية للمادية الديالكتيكية مع نقدها. وسوف نعرف كيف إنها استنباطات خاطئة من النظريات والفرضيات العلمية).

ويشهد ما قلناه إننا لا نجد في حديثهم السابق أية مسألة علمية طبيعية أو رياضية، ولا نجد أيضاً أثر لهذا الحديث في الكتب الطبيعية أو الرياضية.

وإذا كانت الفلسفة الميتافيزيقية لا تتغير كما تتغير العلوم (من شاء أن يعرف المعنى الحقيقي لتكامل العلوم والفلسفة، وأي لون من التكامل الموجود في العلوم لكن الفلسفة محرومة منه فليرجع إلى المقالة الرابعة).

فسبب ذلك أن العلوم تعتمد على الفرضيات وهي تتغير بتقدم وتوسع التجربة، أما الفلسفة فهي تعتمد على البديهيات وتعطي نتائج علمية ثابتة.

ويؤيد هذا الرأي أن الفلسفة لا تأبى التغيير في المجالات التي تأخذ فيها مقدماتها من العلوم كالفلكيات والجواهر والأعراض وغيرها فهي تتغير كالعلوم بتغير الفرضيات.

والأروع من هذا أن هؤلاء العلماء يعرضون لنا "المادية الديالكتيكية المتغيرة بتغير العلم" على أساس أنه رأي ثابت غير متغير (فهو يواجه طريقاً مسدوداً).

الملاحظة الثانية:

نقتنص مما مرّ من حديث خول علاقة الفلسفة بالعلوم ما يأتي:

1-تحتاج العلوم جميعاً إلى الفلسفة في إثبات وجود موضوعاتها.

2-تختلف البحوث الفلسفية عن الآراء العلمية في الإِطلاق (سبق لنا أن أوضحنا في الحاشية (1و2 ص 46 وص 47) أن كل علم يتخذ موضوعاً أو عدة مواضيع يقصر عليها نشاطه ليكتشف خواصها وآثارها، أما موضوع الفلسفة ومجال نشاطها فهو مطلق الوجود العاري عن كل قيد، ولهذا فإن كل علم يتحرك في محيط محدود ولا تتجاوز نظرياته حدود موضوعه الخاص.

وإذا قال علم بأن الشيء الفلاني موجود فهو يعني أنه موجود في دائرة عملي، وإذا قال أنه غير موجود أي أنه غير موجود في هذه الدائرة.

أما الفلسفة فلكون موضوعها عاماً وهو مطلق الوجود فإذا قالت أن الأمر فلاني غير موجود فمعنى ذلك أنه لا وجود له إطلاقاً) والتقييد والعموم والخصوص.

ونقصد بهذا أن البحث المادي يستطيع فقط إثبات أو نفي الوجود المادي ولا يستطيع إثبات ولا نفي مطلق الوجود، لأن نشاط كل علم لا يخرج عن حيّز موضوعه، ولما كان موضوع العلم هو المادة إذن إثباته ونفيه لا يتجاوز حدود المادة ولا يحقّ له أن يتناول غير المادة نفياً ولا إثباتاً. وهذا بخلاف الفلسفة حيث أن موضوعها مطلق ولا يقتصر على موجود معين.

وعلى هذا فإنه من الممكن أن تثبت العلوم شيئاً ولا تقتنع الفلسفة بهذا الإثبات، أو تنفي العلوم أمراً ولا تعتني الفلسفة بهذا النفي.

المثال الأول:

تقول التجارب الطبية أنه في حالة التفكير تطرأ كيفية خاصة على مادة المخ يسميها العلماء الطبيعيون بالإدراك.

ومعنى هذا القول أن الإدراك ظاهرة مادية حسب ما تثبت التجارب.

ولكن أيكون هناك موجود آخر بالنسبة إلى الإدراك وهو ليس مادياً أم لا؟

إن البحث الطبيعي والتجارب صامتة عن هذا (من أحب التفصيل فليرجع إلى المقالة (3))، وعلى فرض كونه موجوداً فالبحث الطبيعي لا يستطيع أن يُريه لأن كل مقدمة لا يمكنها أن تعطي نتيجة إلا من سنخها.

ومعنى المادة والوجود في الطبيعيات واحد وذلك لغرض فني (فالمادة تساوي الوجود)، ونفي الوجود فيها يساوي نفي المادة.

ولما كان أفق الفلسفة أوسع فإنها لا تقتنع بمجرد نفي شيء من قِبل البحوث الطبيعية وإنما هي تواصل سيرها .

المثال الثاني:

يقول الرياضي أن المعادلة الجبرية تشتمل على طرفين وفيهما أرقام سالبة أو موجبة، ونحن نستطيع أن نأخذ أحد الأرقام الموجبة من طرف ونبدل إشارته إلى السلب ونضعه في الطرف الآخر وبالعكس دون أن يختلّ توازن المعادلة. وهذا شيء مبرهن عليه وحق أيضاً.

والفلسفة توافق على هذا الكلام على أساس أن معناه هو ثبوت النتائج المثبتة، وليس معناه تبديل الوجود إلى عدم أو بالعكس.

وإجمالاً فإن حال العلوم مع الفلسفة حال ذلك الحطّاب الذي حمل فأسه وقصد الجبل ليحطب فلقي شخصاً منحدراً من ذلك الجبل فقال للحطاب: "ارجع لا شيء هناك"، فمعنى هذا القول أنه لا يوجد حطب في الجبل، لأن الشيء يساوي الحطب بالنسبة إلى غرض الحطاب (الحطب = الشيء)، ومن البديهي كون ذلك القول لا يعني إنه لا يوجد أي شيء على الإطلاق فلا جبل ولا تراب ولا صخر ولا نبات.

وإذ قيل هذا الصّياد يحمل سلاحه ويتجه نحو الجبل فمعناه حينئذ أنه لا صيد هناك، فالصيد والشيء عند الصياد بمعنى واحد (الشيء = الصيد). وهكذا ...
أما الذي له هدف عام فإن لهذا القول (لا شيء هناك) عنده معنى واسعاً بحيث يضطره ليكذّبه.

ونستنتج مما مضى :

"نحن لا نستطيع أن نردّ بما أعدّه العلم نفياً أو إثباتاً أية نظرية فلسفية موجبة أم سالبة".

الملاحظة الثالثة:

قلنا أن البحث الفلسفي يدور حول وجود الأشياء أو عدمها فإذا لم يؤثر البحث الفلسفي في فرد ما ( أي لم يستطع أن يقطع بوجود شيء على الإطلاق) فهذا الفرد يسمى بـ "السوفسطائي" أو المثالي وهو يقابل الفيلسوف.

ومن هنا فإن المذهب الذي يتعرض لوجود الأشياء وعدمها ينقسم أولاً إلى الفلسفة والسفسطة أو الواقعية (realism) والمثالية (Idealism) (سوف نوضح في المقالة الثانية معنى هذين اللفظين (الواقعية والمثالية) ).

وتنقسم الفلسفة من حيث إثبات أو إنكار ما وراء الطبيعة إلى مدرستين هما (الميتافيزيقية) (تعود كلمة "الميتافيزيقية " إلى أصول يونانية، وهي مركبة من كلمتين: (ميتا) وهي تعني ما بعد، و(فيزيك) وهي تعني الطبيعة، فيكون معنى الكل هو ما مراء الطبيعة.

ويعترف تاريخ الفلسفة بأن أرسطو قد ألّف كتباً في جميع علوم ذلك الزمان (القرن الرابع قبل الميلاد) ما عدا علم الرياضيات.

ومجموع مؤلفاته يشكّل دائرة للمعارف تضمّ دائرة للمعارف تضّم ثلاثة أقسام:

أ-العلوم النظرية: وتشمل كتباً مختلفة في الطبيعيات وفي نهاية هذا القسم يكون كتاب الفلسفة الأولى.

ب-العلوم العملية: وتشمل الأخلاق وتدبير المنازل وسياسة المدن.

ج-العلوم الإبداعية: أي الشعر والخطابة والجدل.

ولما كانت الفلسفة واقعة بعد الطبيعيات بحسب ترتيب التأليف ولم يكن المؤلف قد أطلق عليها اسماً ولا عنواناً خاصاً فقد أُطلق عليها فيما بعد اسم الميتافيزيقا (أي ما بعد الطبيعة) ويعني ذلك القسم من البحث الواقع بعد الطبيعيات، وبتطاول الزمن وأخطاء المترجمين أصبح معناه علم ما وراء الطبيعية من المجردات، وصار يطلق على الفيلسوف الإلهي اسم " الميتافيزيقي".

ففي البدء كان هذا الخطأ لفظياً ولكنه أًصبح منشأ لأخطاء معنوية كبيرة.

ومن يراجع الكتب المادية يجدها تعرّف الميتافيزيقا بأنها:" ذلك العلم الباحث عن الله والروح".

ويحسن بالقارئ الكريم أن يصون نفسه من هذا الخلط فلا يظن أن موضوع البحث الميتافيزيقي هو الله أو الروح وإنما موضوع الميتافيزيقا (الفلسفة الأولى) هو مطلق الوجود، ومن المحتمل حينئذ أن يكون شخص ما ميتافيزيقياً وهو نفس الوقت مادي.

ولكنه لشيوع هذه المصطلحات فضلنا أن نطلق كلمة "الميتافيزيقا" على المذهب الفلسفي المعترف أيضاً بما وراء الطبيعة .و(المادية).

وتنقسم المادية من حيث الاعتماد على منطق ثابت أو منطق متغير إلى مدرستين هما: (المادية الميتافيزيقية) و (المادية الجدلية) (الديالكتيك (Dialectic) من أصل يوناني وهي مشتقة من ديالكو ( dialogos) وتعني المباحثة والمناظرة.

وكان لفظ الديالكتيك يطلق على الأسلوب الخاص الذي كان يتبعه العالم اليوناني العظيم سقراط في مناظراته.

فهو لكي يثبت للطرف المقابل خطأه يبدأ بذكر مقدمات لا تعقيد فيها ثم ينتقل إلى التساؤل ليظفر بإقرار الطرف المقابل له ويواصل أسئلته حتى يصل إلى نقطة يجد فيها المباحث له نفسه وقد سلّم بدعوى سقراط.

وهذا الأسلوب في الخطاب يطلق عليه اليوم اسم "الأسلوب السقراطي" في علوم التربية والتعليم.

ثم استعمل أفلاطون وهو تلميذ سقراط هذه الكلمة لتدلّ على الطريقة الخاصة التي يتبعها في تسيير العقل بالأفراد المحسوسة، لأن متعلق العلم لابد منه كونه كلياً لا جزئياً.

والمعرفة الحقيقية هي إدراك "المثل" وهي حاصلة لروح كل فرد قبل أن يأتي إلى هذا العالم.

والعلم في هذا العالم إنما هو "تذكر" للماضي. ويعتقد أفلاطون بأننا نستطيع بواسطة الرياضة الفكرية وعن طريق الذوق والحب أن نذّكر النفس بالماضي.

إذن يسمي أفلاطون طريقته الخاصة لكسب هذا اللون من المعرفة بواسطة التذكر باسم "الديالكتيك" وقد استعمل العلماء المحدثون من قبيل كانتْ الألماني وغيره هذه الكلمة في بعض الموارد.

أما الفيلسوف الألماني الشهير هيجل الذي عاش في النصف الأول من القرن التاسع عشر فقد اختار لنفسه منطقاً خاصاً وأسلوباً معيناً لإعطاء الفرصة للعقل ليكتشف الحقائق وأطلق على هذا المنطق اسم "الديالكتيك".

وسوف يأتي معنى " المنطق الديالكتيكي" لهيجل في المقالات الآتية.

ولم يكن هيجل في نظرياته الفلسفية مادياً، ولكن كارل ماركس وأنجلز اللذين تتلمذا على يديه واستعارا منه المنطق الديالكتيكي كانا من ذوي النظريات المادية وممن يقتفون أثر الفلاسفة الماديين في القرن الثامن عشر.

وأشاد ماركس وأنجلز نظرياتهما المادية على أساس منطق هيجل، ومن هنا ظهرت "المادية الديالكتيكية".

وفي الحقيقة فإن الديالكتيكية هي تركيب من الفلسفة المادية للقرن الثامن عشر ومنطق هيجل استطاع كارل ماركس وأنجلز أن يربطا بينهما.

وكما سوف يأتي فإن أحد أصول المنطق الديالكتيكي هو أصل الحركة.

فالديالكتيك يقول أنه لابد من دراسة الأشياء كلها في حالة الحركة والتغيير. ويدعى الديالكتيك أن الجمود وعدم التغيير إنما هو من خواص التفكير الميتافيزيقي.

ومن هنا فإن علماء الفلسفة المادية الديالكتيكية يطلقون اسم "المادية المتافيزيقية" على تلك الفلسفة المادية التي تفكر بطريقة مينافيزيقية، أي أنها مادية مشيدة على أساس الجمود وبقاء الموجودات على ما هي عليه.

إذن فالمادية الميتافيزيقية تقع في مقابل المادية الديالكتيكية ( materialism- dialectic) ).

وكل من هذه المذاهب قد انقسم على أيدي الأتباع والمريدين إلى أقسام أخرى ليس هذا محل ذكرها.

والشيء المهم هنا والذي ينبغي أن نشير إليه هو أن هذه التقسيمات مهمة من ناحية تاريخ الفلسفة، وليس لها أهمية كبيرة عند من استفرغ جهده في البحث والنقد هادفاً إلى تمييز الحق من الباطل وفصل الصدق عن الكذب.

انتهت المقالة الأولى وسوف يتبع المقالة الثانية إن شاء الله
 

خادم العترة

عضو مميز
المقالة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

المقَـــــالة الثَانيـــة

الفلسفة والسفسطة :

توجد فئة من العلماء الذين عاشوا قبل سقراط يطلق عليهم اسم السوفسطائيين ويستفاد من المصادر التاريخية الموجودة تحت أيدينا أن هناك عاملين لظهور السفسطة في اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد:

أحدهما: ظهور الآراء والعقائد الفلسفية المختلفة والمتضادة و والمحيّرة.

الثاني: رواج فن الخطابة ولا سيما الخطابة القضائية بشكل منقطع النظير.

أي أنه قد ظهرت مذاهب فلسفية مختلفة وقام كل واحد منها بتقديم نظرية معينة حول العالم وبأبطال عقائد الآخرين، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فقد وقعت منازعات مالية كثيرة في أثر حادثة تاريخية عرضت لسكان تلك المنطقة ثم انتقل الموضوع إلى المحكمة، وأخذ بعض العلماء على عاتقهم مهمة المحاماة في المحاكم العامة وتحت نظر وسمع جموع غفيرة من الناس وقاموا بالدفاع عن حقوق موكليهم بخطابات مؤثرة.

وتألق في هذا الأفق نجم الخطابة فافتتح الأساتذة صفوفاً لتعليم هذا الفن وبدءوا يدرسون أصولها وذلك في مقابل أجر يتقاضونه من الطلاب، فاجتمعت للأساتذة بهذا أموال طائلة.

وسعت هذه الفئة لكي تقدم دليلاً وتقيم برهاناً على ما تدعيه حقاً كان أم باطلاً، وأحياناً كان الطرفان كلاهما يقدمان الدليل، وشيئاً فشيئاً انتهى الأمر بهم إلى الاعتقاد بأنه ليس هناك في الواقع حق ولا باطل، ولا صدق ولا كذب بحيث ينطبق عليه رأي الإنسان أحياناً ويخالفه أحياناً أخرى، وإنما الحق هو ذلك الشيء الذي يعتبره الإنسان حقاً، والباطل هو ذلك الشيء الذي يظنه الإنسان باطلاً، وسرت هذه العقيدة تدريجياً إلى سائر أمور العالم فقالوا أن الحقيقة تتبع بصورة عامة الشعور والإدراك الإنساني، وكل ما يدركه أيّ إنسان من أمور العالم فهو صحيح، وإذا اختلف شخصان في الإدراك فكلاهما يتصفان بالصحة.

وكانت هذه الفئة ماهرة في كل علوم وفنون عصرها، ومن هنا جاء إطلاق كلمة " السوفيست" عليهم، ومعناها العالم، وقد ترجمت الكلمة إلى العربية فقيل "السوفسطائي"، وصارت هذه الكلمة بعد ذلك تطلق على كل الذين يستخدمون هذا الأسلوب، أي أنهم لا يلزمون أنفسهم بأي أصل علمي ثابت، ويسمى هذا المسلك بالسوفسطائية.

ويعدّ بروتوكوراس( protagoras) واحداً من السوفسطائيين وهو يقول: " إن الإنسان هو مقياس كل الأشياء". كل إنسان إذا حكم بشيء حسب ما فهمه على حق، لأن الحقيقة ليست شيئاً سوى ما يفهمه الإنسان، ولما كان الناس يدركون الأشياء بشكل مختلف، فالشيء الواحد مثلاً قد يظنه إنسان صدقاً ويتخيله آخر كذباً ويشك ثالث في صدقه وكذبه، إذن أصبح الشيء الواحد صادقاً وكاذباً في نفس الوقت وصواباً وخطاً في وقت واحد.

وكوركياس ( gorgias) أحد هؤلاء أيضاً. وتنقل عن هذا الرجل براهين على أنه من المستحيل أن يوجد أي شيء وإذا فرضنا -محالاً- أنه قد وجد فهو لا يمكن إدراكه وإذا فرضنا -محالاً- أنه قد عرف فهو لا يمكن تعريفه ولا وصفه للآخرين. وهو يذكر لمزاعمه الثلاثة أدلة مبسوطة في كتب التاريخ التي تتعرض له.

وقام في وجه هؤلاء سقراط وأفلاطون وأرسطو وكشفوا للناس مغالطات السوفسطائيين وأثبتوا أن للأشياء واقعاً معيّناً وكيفية خاصة بغض النظر عن إدراكنا.

والحكمة هي عبارة عن العلم بأحوال الأعيان الموجودة كما هي موجودة .وإذا استطاع الإنسان أن يفكر بصورة صحيحة فإنه يستطيع أن يلمّ بالحقائق، ولهذا الغرض قام أرسطو بجمع وتدوين قواعد المنطق لكي يفكر الإنسان بشكل صحيح ويميز الصواب من الخطأ.

ولكن فئة أخرى ظهرت على مسرح الأحداث من زمن أرسطو فما بعد وتسمى "بالمشككين" ويسمى مذهبهم بمذهب الشك ( scepticism).

ويعتقد هؤلاء بأنهم اختاروا السبيل الوسطى، فلا هم يقتفون أثر السوفسطائيين في زعمهم لا يوجد واقع خارج ذهن الإنسان، ولا هم يتبنون عقيدة السقراطيين القائلين بإمكان معرفة حقائق الأشياء، وإنما هم يزعمون أن الإنسان يفتقر إلى وسيلة يمكن أن يطمئن بها لكي توصله إلى حقائق الأشياء، والحس والعقل كلاهما يخطئان، ولا تكفي في هذا المضمار الطرق المنطقية التي وضعها أرسطو لكي تصون الفكر عن الخطأ، فيبقى الطريق الصحيح الوحيد للإنسان في جميع المسائل هو التوقف وعدم الإدلاء بأي رأي قطعي.

وحتى المسائل الرياضية من قبيل الحساب والهندسة فنحن نوافق عليها بالترديد وعلى أساس أنها لا ترتفع عن مستوى الاحتمال.

وكان لهذا المذهب كثير من الأتباع في اليونان ثم في الإسكندرية واستمر حتى بعد قرون من ميلاد المسيح.

وظهرت في القرن التاسع عشر الميلادي مسالك فلسفية تشبه هذا المذهب في قليل أو كثير، وسوف يأتي شرح هذه الفلسفات في المستقبل بإذن الله.

وندحض في هذه المقالة المذهب "السفسطي" المرادف للمذهب "المثالي"، وهذان معاً يشكلان النقطة المقابلة للمذهب الواقعي (الفلسفة).

ولا بد هنا من ذكر بعض التوضيح لكلمتي "المثالية" و "الواقعية"، لأن الكتب المادية الحديثة تستعمل كلمة "المثالية" في مقابل "المادية" (أصالة المادة). ويفهم من هذا أن كل العلماء من غير الماديين إنما هم مثاليون.

ولكي يستوعب القارئ الكريم الموارد التي تستعمل فيها هاتان الكلمتان "المثالية" (ايده آليسم) و "الواقعية" (رياليزم)، ويحيط علماً بالمغالطات التي نتيجة لاختلاف المعاني التي اعتورت هذه الكلمات ولا سيما كلمة " ايده آليسم" (المثالية) على طول التاريخ، لا بد لنا من شرح المعنى اللغوي والاصطلاحي لهاتين الكلمتين كما جاء في نظريات الفلاسفة وكما يظهر من ترجمة دائرة المعارف البريطانية.

المثالية : = ايدياليزم :

أصل كلمة ايدة ( idee) يوناني، وذكرت لها معانٍ مختلفة من قبيل الظاهرة والشكل والنموذج وغيرهما، وهي مشتقة من "ايده ئيو" ومعناها الرؤية.

واستعملها أفلاطون لأول مرة ضمن المصطلحات الفلسفية بمعنى "النموذج" أو " المثال" الذي هو أحد معانيها اللغوية، وقصد بها سلسلة من الحقائق المجردة التي كان يقول بها وتعرف بيننا اليوم باسم "المثل الأفلاطونية".

ويقول أفلاطون أن لكل نوع من أنواع موجودات هذا العالم المادية وجوداً مجرداً عقلياً، والأفراد المحسوسة لكل نوع إنما هي ظل ذلك الوجود المجرد، وهو النموذج الكامل لهذه الإفراد، ويسميه "ايده"، وترجمت هذه الكلمة في المرحلة الإسلامية إلى كلمة "مثال".

ولا ينكر أفلاطون وجود الأفراد المحسوسة وإنما يعتبر وجودها وجوداً متغيراً جزئياً فانياً على عكس "المثال" الذي يعتقد بكونه متمتعاً بوجود كلي باق وغير متغير.

ويعتقد الإشراقيون من بين المسلمين بالمثل الأفلاطونية. ويشير مير فندرسكي في قصيدة معروفة له إلى هذا الموضوع بقوله:

"إن الفلك بما يحتوي من نجوم، رائع وجميل
وصورته التي في الأسفل هي نفسها التي في الأعلى
وصورته السفلى إذا ارتقى عليها بسام المعرفة
إلى الأعلى فسوف تكون كالأصل
وسوف تكون الصورة العقلية اللانهائية والخالدة
واحدة سواء وجد الأفراد جميعاً أم لم يوجدوا
وقد أودع العارفون الماضون هذا الحديث في الرمز
ولن يدرك هذا الرمز إلا من كان عارفاً
ولا يدرك عمق هذا الحديث أي فهم ظاهري

وحتى لو كان الفارابي أو ابن سينا".

ومن المعروف أن الشيخ الرئيس ابن سينا يخالف بشدة الاعتقاد بالمثل الأفلاطونية وقد وجّه إليها انتقادات شديدة وشهّر بها كثيراً.

ويعتقد أفلاطون بأن الأفراد المتغيرة المادية تدرك فقط بالحواس أما العلم فلا يتعلق بها، لأن العلم لا يتعلق إلا بشيء كلي خارج عن الزمان والمكان أي بـ"المثال".

وحسب ما تذكره كتب تاريخ الفلسفة فإن "المثالية" كانت تطلق فقط على "الاعتقاد بالمثل" إلى أواخر القرن السابع عشر، ولم يكن لها أي معنى آخر .

ولكن هذه الكلمة استعملت بعد ذلك في موارد عديدة حتى قيل لعلّه لم تشاهد لغات الدنيا كلمة مثلها قد استعملت بهذه الكثرة في المعاني.

أما المعنى المصطلح عليه والشائع في زماننا والذي يستعمله الماديون في مؤلفاتهم ويعرفون به " المثالية" والذي جرينا عليه في هذه المقالة فهو:

أن كلمة " المثال" تعني مطلق التصورات الذهنية (حسية كانت أم خيالية أم عقلية)، و "المثالية" تعني مذهب الذين يعدون هذه التصورات الذهنية هي الأصيلة، أي أن هذه التصورات صنيعة الذهن، وليس هناك وجود خارجي لهذه الصور في العالم المنفصل عنا.

ولما كان هذا المذهب منكر الشيء بديهي وهو العالم الخارجي وأنه ليس بشيء، فهو إذن مثل السفسطة المنكرة للبديهيات والتي لا تعتبر العالم الخارجي شيئاً، وقد استعملنا في هذه المقالة المثالية مرادفة للسفسطة وجعلناها في مقابل "الواقعية" المؤمنة بأصالة الواقع الخارجي.

ويبقى علينا أن نشير إلى ملاحظة مهمة وهي أن الماديين يعرفون المثالية في كتبهم بنفس هذا المعنى المرادف للسفسطة ولكنهم لا يعيرون أهمية للتحولات والتغيرات التي طرأت على هذه الكلمة منذ عهد أفلاطون وإلى يومنا هذا بحيث أصبحت لها دلالات مختلفة ومعانٍ متباينة.

وهم يسمون جميع العلماء من غير الماديين من قبيل أفلاطون وأرسطو بـ " المثاليين"، ويقولون عنهما أنهما يدفعان إلى الانحراف عن أصول المادية نحو المثالية أي السفسطة.

ومع أن الدكتور تقي الآراني يعرف المثالية بنفس هذا التعريف في كتيب له بعنوان "المادية الديالكتيكية" ولكنه بعد أن يستعرض عقيدة "بركلي" ذلك المثالي المعروف وعقيدة ديكارت في خواص الأجسام الأولية والثانوية وعقيدة كانت أيضاً في كون الزمان والمكان ذهنيين -بعد هذا يواصل حديثه قائلاً: " إن شرح جميع أقسام المثالية خارج عن موضوع مقالتنا وداع إلى إطالة الكلام، لأن المثالية قد تشعبت كثيراً، ونسج كل فيلسوف في خياله شيئاً واستدل لنفسه استدلالاً خاصاً وأخرج للناس -حسب قوله - دليلاً جديداً لإثبات كون العالم ذهنياً".

ولا نقصد من ذكر هذه الملاحظة أن نناقش في الاصطلاح فلكل فيلسوف الحق في أن يضع لنفسه اصطلاحاً خاصاً، وحينئذ لا مانع من جعل المثالية في مقابل المادية، ولكن المثالية حينئذ يكون لها معنى آخر غير أصالة التصور.

ولكن هدفنا هو أن ننبّه على أن المصطلحات المختلفة ينبغي أن لا تصبح منشأ للمغالطات أو الغموض.

والحقيقة أن "المثالية" بمعنى أصالة التصور تقابل " الواقعية" التي هي بمعنى أصالة الواقع.

والمثالي هو المنكر للعالم الخارج عن الذهن من قبيل بروتا غوراس protogoras) ) وغورغياس ( Gorgias) من اليونانيين القدماء، وبركلي ( Berkely) وشوبنهاور ( Schopenhauer) من الأوربيين المتأخرين.

أما كون الإنسان إلهياً أو روحياً فلا علاقة له بالمثالية، ونحن مع أننا ندحض أصول المثالية ولا نقول بأصالة الذهن ولكننا مع ذلك نثبت بنظرة واقعية عقائدنا الإلهية والروحية بأدلة ناصعة محكمة.

يتبع المقالة الثانية إن شاء الله

تحياتي:وردة:
 

خادم العترة

عضو مميز
تابع للمقال الثاني

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نتابع معك أخي القارئ المقال الثاني : :وردة:


الواقعية : = رياليزم .

وهذه الكلمة مشتقة أيضاً من "ريل" ( Reel ) بمعنى الواقع أو الحقيقة واستعملت على مـرّ التاريخ بمعانٍ مختلفة:

أ-تعرف فلسفة "الاسكولاستيك" (Scholastic) بفلسفة المدرسيين. وقد جرى بين أصحاب هذه الفلسفة في القرون الوسطى جدال عظيم حول مبحث واحد جعلوه شغلهم الشاغل وهو وجود الكلي.

فالكلي مثل "الإنسان" أهو موجود أم لا ؟

وعلى فرض وجوده أهو موجود في الذهن أم في الخارج؟

فالقائلون بأن للكلي واقعاً مستقلاً عن الأفراد أطلق عليهم اسم "الواقعيين"،
أما الذين أنكروا وجود الكلي في الخارج والذهن واعتبروا الكلي لفظاً فارغاً فقد أطلق عليهم لفظ "الاسميين" ( Nominaliste) ،
وأما القائلون بأن للكلي وجوداً ذهنياً ووجوداً خارجياً ضمن الأفراد فقد أطلق عليهم اسم "التصوريين" أو " المثاليين".

ولا يخلو من الفائدة أن ننبّه على أن فلسفة المدرسيين لم تفكك بين مسألتين:

أ-مسألة وجود الكلي.
ب- مسألة المثل الأفلاطونية.


فهذان الموضوعان قد اختلطا فيما بينهما.
والقارئ المطّلع على الفلسفة الإسلامية يعلم بأن هذه الفلسفة قد فصلت هاتين المسألتين. فالمسألة الأولى تذكر في المنطق وأحياناً تذكر في الفلسفة، ولم يكن بين الفلاسفة اختلاف
بشأنها بل كانوا جميعاً يتناولونها بأسلوب واحد.

أما المسألة الثانية فكانت تطرح في الفلسفة في فصل خاص ولم يكن للفلاسفة بإزائها موقف واحد، فبعضهم نفى وبعض أثبت. وهذا المبحث- على أية حال- كان عبثاً ولا معنى له بتلك الصورة التي كان يطرح فيها خلال القرون الوسطى في أوربا.

ويقول المرحوم فروغي في الجزء الأول من "سير الحكمة في أوربا" بعد نقلة للنزاع حول الكليات في القرون الوسطى:

"أرجو أن تلاحظوا أن البحث في الكليات لم يكن عبثاً ولا فائدة منه، فهو يحمل في طياته النزاع هو المسألتان السابق ذكرهما ولا علاقة له بمسألة وحدة الوجود.

ولكننا نعلم مما سبق أن ذلك النزاع وبتلك الصورة كان عبثاً، وأساس ذلك النزاع هو المسألتان السابق ذكرهما ولا علاقة له بمسألة وحدة الوجود.

ب-المعنى الثاني للواقعية هو المعنى الذي شاع أخيراً في المصطلحات الفلسفية وهو يعني أصالة الواقع الخارجي، وبهذا المعنى تكون "الواقعية" في مقابل "المثالية" التي تعني أصالة الذهن أو التصور.

ونحن نستعمل هذا اللفظ بهذا المعنى في هذه المقالة.

والواقعية في الآداب تقابل المثالية أيضاً، فالأسلوب الواقعي هو الذي يعتمد في الحديث أو الكتابة على العيّنات الواقعية والاجتماعية، أما الأسلوب المثالي فهو الذي يعتمد على الخيالات الشاعرية للمتحدث أو الكاتب).

أو

الواقعية والمثالية

كل واحد منا إذا نظر منا إذا نظر إلى نفسه واستعرض حياته ثم عاد القهقري إلى أيامه السوالف وأوغل في ماضيه إلى الحد الذي تعلقت به ذاكرته فسوف يجد أنه منذ تفتحت عيناه وبدأ... يراقب جمال هذا الكون وقبحه- منذ هذا الوقت شاهد أشياء " هذا الكون" خارجة عنه، وقام بأعمال حسب ما يحلو له (ولا ننسى أن نذكر هنا أنه خلال هذا الاستعراض سوف نصادف أيضاً بعض الأخطاء التي أدركناها تدريجياً عن طريق العلم والعمل).

وإذا كررنا هذا الشيء مرات عديدة ودققنا في كل مرحلة من مراحل حياتنا فسوف تتضح جيداً تلك الحقيقة القائلة: (يوجد في الواقع كون وهو خارج عني وأنا أستطيع أن أؤدي فيه أعمالاً حسب ما أحب).

فإذا أخذنا هذا المعلوم الفطري (لكي لا يختلط علينا الأمر لا بد من الإشارة إلى أن المعلومات الفطرية أو الفطريات قد استعملت في المصطلحات بمعنيين:

الأول: تلك المعلومات الناشئة مباشرة من العقل، وتدركها القوة العقلية دون أن تعتمد على الحواس الخمس أو على أشياء أخرى، وإنما هي موجودة في العقل بحسب الطبع.

ويوجد اختلاف بين العلماء في أن معلومات كهذه أهي موجود فعلاً أم لا وجود لها؟

فجميع المعلومات عند أفلاطون فطرية وليس العلم إلا تذكراً.

أما ديكارت( Descartes) وأتباعه فيقولون أن بعض المعلومات فطرية وناشئة من العقل.

الثاني: تلك الحقائق المسلمة التي تتّفق عليها كل العقول ولا يمكن إنكارها ولا التشكيك فيها لأي أحد. وإذا أنكرها شخص أو تردد فيها فإنما يفعل ذلك لساناً، أما عملاً فهو يقبلها ويعمل بها.

واللفظ الوارد في المتن يقصد به المعنى الثاني لا الأول) بعين الاعتبار ثم سمعنا أن في هذا العالم أشخاصاً لا يصدقون بأن للكون والوجود واقعاً خارجاً عن ذواتنا أو هم منكرون للواقع أساساً، فستنتابنا لأول وهلة الحيرة ويتملكنا العجب، خاصة إذا علمنا أن هذه الفئة كانت من العلماء والباحثين الذين قضوا شطراً كبيراً من أعمارهم في سبيل إكتناه أسرار الوجود من قبيل بركلي (جورج بركلي Berkely) ( أسقف إنجليزي ولد عام 1685 م وتوفي سنة 1753.

والذي يبدو من شرح حياته ونظرياته أنه من أصحاب الحس وفلاسفة (Empiriste)،أي من القائلين بكون التجربة والحس منشأ لكل العلوم، ولا يعترف بالمعلومات العقلية والفطرية التي كان يعترف بها بعض فلاسفة أوربا.

وهو يتبع في هذه النظرية العالم الإنجليزي المعاصر له جون لوك (G Lock) (G.، ولكنه في نفس الوقت لا يعترف بوجود خارجي للمحسوسات ولا يعترف بأن منشأ الإحساس هو التأثيرات الخارجية، ويذكر الأخطاء التي تقع فيها الحواس دليلاً على أن الإحساس لا يكون دليلاً على الوجود الخارجي للمحسوسات.

ويقول بركلي أن للتصورات الذهنية وجوداً خارجياً وبهذا يثبت وجود النفس، ويقول أن الإدراك يحتاج إلى مدرك وهو النفس.

ويظهر بركلي أنه لا ينكر وجود الأشياء، ولكنه يتساءل:

ما معنى قولنا: "أن الشيء الفلاني موجود ؟"

لو تعمقنا في هذه الجملة لوجدنا معناها:

"أنني أدرك وجوده".

فمثلاً إذا قلنا: الأرض موجودة، السماء موجودة، الجبال موجودة، البحار موجودة، أو قلنا: الشمس تشع النور أو هي جسم ذو بعد أو أن الأرض تدور، فإن كل هذه الجمل صحيحة ولكن معناها هو: أننا علمنا بهذا الشكل".

فالوجود إذن هو الوجود في إدراك الشخص المدرك.

وينكر بركلي أن يكون من السوفسطائيين ويعلّل ذلك بأنه لا ينكر وجود الموجودات، ولكنه يقول أن معنى الوجود عندي غير ما يتخيله الآخرون فهو عندي الوجود في إدراك الشخص المدرك.

فهو يعدّ الحس- إذن- منشأ للعلم ولكنه ينكر أن يكون منشأ الحس هو الوجود الخارجي للشيء المحسوس. وهو يعترف بوجود النفس فهي القوة المدركة عنده، ويعترف أيضاً بوجود الله، ويستدل على ذات الله بهذه الطريقة:

نحن نرى صور المحسوسات تظهر في أذهاننا بترتيب خاص ونظام معيّن ثم تذهب منه، وهذا الظهور والاختفاء خارج عن اختيار أنفسنا، فمثلاً أحياناً نحس أنه نهار وفي تلك الحال لا نستطيع الإحساس بأنه ليل، وبعده عدة ساعات نحسّ أنه ليل وفي تلك اللحظة لا نستطيع أن نحس بأنه نهار، وهكذا في سائر المدركات البصرية والسمعية وغيرهما فإن لها نظاماً خاصاً وترتيباً معيناً.

ومن هذا نعرف أن ذاتاً أخرى قد أوجدت هذه التصورات بذلك النظام والحساب في أذهاننا، وتلك الذات هي ذات الباري تعالى)

وشهوبنهاور (شوبنهاور هو العالم الألماني الشهير ولد سنة 1788 م في ألمانيا وتوفى سنة 1860 .

ويعتبر شوبنهاور زعيم المتشائمين في العالم، وهو يعّد الحياة كلها ألماً وعذاباً، وهو يعدّ الدنيا مكاناً للحزن والغم، وقد عاش منعزلاً وقضى عمره أعزب.

ويقال أنه كان يعاني من الأوهام والمخاوف التي لا أساس لها، وتعتريه الوحشة من أقل الأشياء ، فمثلاً كان يقفز من نومه عندما يسمع أقل صوت ويندفع ليتناول سلاحه.

ويقال أنه ورث روح التشاؤم من أبيه الذي كان تاجراً ملولاً ضيّق البال، وقد انتحر أخيراً.

وصادف شوبنهاور في الحياة كثيراً من ألوان الحرمان والحوادث السيئة. ولم تلاق كتبه في زمانه أي رواج، ولم يُظهر الناس رغبة في قراءتها، فصمّم على القيام بتدريس الفلسفة في جامعة برلين، ولكن أحداً من الطلاب لم يسجّل اسمه في ذلك الموضوع الذي تقرر أن يدرسه شوبنهاور ما عدا ثلاثة أشخاص لا يتمتعون باستعداد فلسفي، وأخيراً قرّر أن يقوم بتلقين معلوماته وأفكاره لامرأة خياطة كانت تسكن إلى جواره، ولكن النقاش بينهما أدى إلى النزاع والضرب، فأقامت المرأة عليه دعوى في المحكمة وأصدرت المحكمة حكماً بالغرامة على شوبنهاور لضربه وجرحه تلك المرأة.

ولا يعتقد شوبنهاور- على العكس من ديكارت وأتباعه - بالمعلومات والتصورات الناشئة من العقل، وهو يعدّ الحس منشأ لكل التصورات ومبدأ لكل العلوم، أما عمل العقل فهو التصرف فيما تظفر به الحواس فقط.

ومن هنا فإن شوبنهاور يعّد من المثاليين لأنه يعتبر كل المعلومات لا حقيقية لها، ويقول أن العالم الذي ندركه بالحس والشعور والعقل وهو عالم المادة إنما هو ذهني واستعراضي محض، وعلى العكس من بركلي الذي كان يظن إن وجود الإدراك وقوة المدرك حقيقية فإن شوبنهاور كان ينكر هذين الأمرين، ويعترف فقط بشيء واحد على أنه حقيقة وذلك هو "الإرادة" ويقول أن حقيقة الكون هي الإرادة، ويستطيع الإنسان أن يدرك حقيقته التي هي الإرادة بدون وساطة الحس والعقل.

ويقول إن الإرادة في ذاتها حقيقة مطلقة ومستقلة بالذات وخارجة عن حدود الزمان والمكان، وجميع حقائق العالم إنما هي درجات ومراتب من الإرادة.

وعلى هذا فمهما أنكر شوبنهاور حقيقة المعلومات وعدّ مثالياً ولكنه معترف بعالم حقيقي واحد وراء المعلومات وهو لا يدرك بالحس والشعور والعقل، وذلك العالم هو عالم الإرادة، ولهذا فنحن نستطيع أن نعدّه من "الواقعيين".

ولشوبنهاور عقائد خاصة تنبع من فلسفته في الحياة واللذّة والحب والمرأة والسعادة الحقيقية.

ويقول إن الإرادة التي هي أصل العالم وحقيقته هي أساس الشر والفساد لأنها في الأصل واحدة ولكنها لما جاءت إلى عالم الكثرة وهي تريد استمرار الوجود تحولت في الإفراد إلى حب الذات وعبادتها، وأدى حب الذات في الأفراد إلى النزاع والصراع والشر والفساد.

واللذة عند شوبنهاور أمر عدمي، أما الألم فهو شيء وجودي . والحب بين الرجل والمرأة سبب للتعاسة،وحقيقة هذا الحب أن الحياة تريد استمرار النسل، ولكي يتحمل الأفراد المصائب والمشاكل الناشئة من الناشئة من ذلك فإن الطبيعة تخدع الأفراد بهذه اللذات.

ويتساءل لماذا يحاول العاشقان أن يخفيا حركاتهما عن أعين الآخرين؟ ولماذا تحاول آلاف العيون بألم وحذر أن تتطلع إليهما؟

ثم يجيب:

لأن الحياة كلها تعاسة، والعاشقان يحاولان استمرار هذه التعاسة بالأنسال فهم يرتكبون جناية فظيعة، ومن الواضح أنه لو لم يكن لدينا هذا العشق لوصلت الدنيا إلى نهايتها واختتمت هذه المصائب المؤلمة.

وكان شوبنهاور معتقداً اعتقاداً راسخاً بفلسفة بوذا وهو يحصر السعادة الحقيقة في الرياضة النفسية وفي خنق إرادة الحياة ولا سيما اللقاء الجنسي مع النساء لكي ينقطع النسل ويرتاح النوع).


يتبع المقال الثاني إن شاء الله :وردة:
 

كاظمة

عضو بلاتيني

المدقق والمحقق صاحب المؤلفات الفكرية والعقائدية والفلسفية التي تصدرت قمة
المؤلفات الإسلامية.


المُفَكِر وَالفَيلسُوفِ الإسلامْي الكبيـر آيةُ الله الشهيد المُطهري

1177769576.jpg

يقـول الإمام الخميني وهو يوصي الطلبةِ والجامعيين :

(( ..الطبقة المفكرة والطلاب الجامعيين، ألا يَدَعوا قراءة كُتب الأستاذ العزيز (الشهيد مرتضى مطهّري)، ولا يجعلوها تُنسى جراء الدسائس المبغضة للإسلام، (..) فقد كان عالماً بالإسلام والقرآن الكريم والفنون والمعارف الإسلامية المختلفة، فريداً من نوعه، (..) وإن كتاباته وكلماته كلها، بلا إستثناء، سهلة ومربّية ))
 

خادم العترة

عضو مميز
تابع للمقالة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أشكر الأخ كاظمة على إدراج الصورة بالإضافة إلى كلمات أستاذ الشهيد مطهري الإمام الخميني قدس سره فيه وسوف أورد في نهاية هذا الجزء من الكتاب كلمات المراجع والعلماء في هذا العالم الجليل .

ننتقل إلى متابعة المقالة الثانية

ولكننا إذا أخذنا أنفسنا بالصبر ودققنا في حياتهم واستعرضنا أوضاعهم فسنلاحظ أن كل واحد منهم لم تلده أمه سوفسطائياً ولم ينطلق لسانه أول ما انطلق بحديث السفسطة، ولم تفلت من يده فطرته الإنسانية"الإدراك والإرادة"، فهو مثلاً لم يبك مرة واحدة في المناسبة التي عليه فيها أن يضحك في المجال الذي عليه أن يبكي فيه، ولم يستعمل مرة واحدة حس البصر لكي يدرك المسموعات أو بالعكس، ولم يستعض بالنوم عن الأكل ولم يفعل العكس، ولم يغلق فمه لكي يتكلم، بل لم يتحدث حديثاً مبعثراً مشتتاً، وإنما هم يعيشون تماماً كما نعيش نحن (نحن الواقعيين) وبنفس ذلك النظام الخاص الموجود في الحياة الإنسانية، ويشاركوننا في الحياة النوعية والأفعال الإرادية . ومن هنا نفهم:

إن هؤلاء هم شركاؤنا في الحقيقة المذكورة في بداية هذا الحديث وفي كل المعلومات التي تشكل الأسس الأزلي لهذه الحقيقة (إذا حللنا هذه الحقيقة (يوجد خارج ذهني عالم أستطيع حسب رغبتي أن أؤدي فيه أعمالي) التي ركّبها الذهن من مجموع المعلومات والإدراكات التي تعدّ أجزاءها أو عناصرها الأصلية فسوف نلاحظ عدداً من المعلومات الأولية التي ساهمت في إيجاد هذه الحقيقة.

وتذكر هذه المعلومات الأولية في المنطق وتسمى تارة بالمبادئ التصورية والتصديقية (في مقالة التحليل والتركيب)، وتارة أخرى بالضروريات والبديهيات (في باب البرهان) ويتمتعون بالإدراكات ويقومون بالأفعال البسيطة الأولية كما هو موجود عندنا.

ثم بعدما نزلوا إلى ساحة الفكر والبحث ووصلوا إلى مستوى النضج اعتنقوا السفسطة والمثالية وأعلنوا بملء أفواههم أنه "لا يوجد إي واقع" ولكن بعضهم التفت إلى أن هذه الجملة تحتوي على تصديق كثير من الواقعيات فبادر إلى تغيير شكلها وقال: "نحن لا نعلم بالواقع"، ولاحظ بعضهم- بدقة أعظم- أن في هذه الجملة تصديقاً بحديث أنفسهم وبعلمهم (تفكيرهم)، لذلك لجأ إلى هذه العبارة:

"نحن لا نملك أي واقع خارج أنفسنا (ذواتنا وأفكارنا) " أي لا علم لنا بأي واقع خارج ذواتنا وأفكارنا.

وخطا بعضهم خطوات أوسع فأنكر كل شيء ما عدا ذاته وفكره فقال: "أنا لا أعلم بشيء إطلاقاً ما عدا نفسي وفكري".

والأدهى من هؤلاء جميعاً أولئك الذين أنكروا الواقع مطلقاً وحتى واقعية أنفسهم ولم يظهروا إلا التردد والشك.

ويتضح لنا من هذا الحديث أن حقيقة السفسطة هي إنكار العلم (الإدراك المطابق للواقع)، وكل الأدلة المنقولة عن هذه الفئة تدور حول هذا المحور وتؤكد هذا الأمر.

ومن هنا فإن الفلسفة تؤكد كون السفسطة مبنية على أساس "عدم التناقض" لأن كل المعلومات تعتمد على هذه القضية بالتحليل الدقيق، فإذا سلمنا بها فأننا لا يمكننا إنكار أية حقيقة، وإذا أنكرناها لم نستطع أن نثبت أية حقيقة (سوف نوضح في المقالات اللاحقة أنه بإنكار أصل عدم التناقض لا يمكن إثبات أية حقيقة، وسوف نبسط الحديث عن الأصل الذي يذكره علماء الفلسفة المادية الديالكتيكية تحت عنوان "أصل وحدة الضدين" الذي يعتبرونه الهادم لأصل عدم التناقض.

فالملاحظة التي ينبغي الالتفات إليها هنا هي أن العالم الفرنسي المعروف ديكارت حاول أن يعيد النظر في كل معلوماته وأن يضع أساساً جديداً فشك في أفكاره من المحسوسات والمنقولات والمعقولات، وقال لنفسه لعلّ الحقيقة ليست هي كما أحس أو أفكر أو كما قيل لي، ولعلّ هذه جميعاً خيال محض تتراءى لي كما يظهر للنائم الحلم أثناء نومه. وما هو الدليل على أنه ليس الأمر كذلك؟

إذن كل أفكاري (وحتى أصل عدم التناقض) باطلة، ولم يبق لي حتى أصل واحد يمكنني أن أعتمد عليه. وفي هذه اللحظة انتبه إلى أنه مهما شك وتردد في كل شيء ولكنه لا يمكن أن يشك في وجود الفكر، إذن أنا لا أتردد في وجود الفكر، وهذا يدل على وجود المفكر، فاطمأن بوجوده وقال" أنا أفكر إذن أنا موجود" (Cogito.ergo sum) ، وجعل هذا أساساً لسائر الأصول وتقدم نحو الأمام.

ولا نريد أن نستعرض هنا الإشكالات التي أوردها العلماء على استدلال ديكارت هذا، ولكننا نكتفي بذكر إشكال واحد يناسب هذا المقام لم نجد أحداً قد التفت إليه، وهو أن الإنسان إذا تردد في هذا الأصل (أصل عدم التناقض) أيضاً فهو لا يستطيع أن يصل إلى نتيجة (أنا أفكر إذن أنا موجود) لأنه مع فرض عدم امتناع التناقض يمكن القول أنا أفكر وفي نفس الوقت أنا لا أفكر إطلاقاً، ويمكن القول أيضاً أنا موجود وفي نفس الوقت أنا لست موجوداً.

إذن أصل امتناع التناقض في الحقيقة هو الأساس لجميع العلوم والإدراكات، وإذا صرفنا النظر عن الأصل فلن يستقّر لنا أي علم، ولهذا قال الفلاسفة منذ أقدم الأزمنة أن إنكار هذا الأصل لا يمكن معه إثبات أية حقيقة).

ومما ذكرناه في هذه المقدمة يتبين لنا أن هناك طرقاً متعددة لدحض مذهب الفئة (إن صح إطلاق لفظ المذهب على هذا الزعم)، فهم بحديثهم هذا ومحاولتهم الفهم والتفهيم يعترفون بكثير من المعلومات دون أن يشعروا، منها:(أنه يوجد لدينا متكلم، ومخاطب، وكلام، ودلالة، وإرادة و... وأخيراً فإنه يوجد تأثير، وتوجد عليه ومعلولية مطلقة). وكل واحد من هذه الأمور كاف ليردهم وليوضح الحق.

وهذه بعض الشبهات من المثالية

نحن مهما بسطنا أيدينا نحو الواقع فلن نظفر بشيء سوى الإدراك (الفكر)، إذن ليس لدينا شيء سوى أنفسنا وإدراكنا.

وبعبارة أخرى نقول:

كل واقع نظن أننا قد أثبتناه ليس هو في الحقيقة إلا فكرة جديدة قد نشأت فينا، إذن كيف يمكننا أن نقول (أن لدينا واقعاً خارجاً عنا وعن أفكارنا) بينما هذه الجملة بنفسها ليست شيئاً أكثر من فكرة وظن ( وبعبارة أخرى فإن الطرق التي تخيلها الإنسان للوصول إلى الواقع لن توصله إلى الواقع وإنما توصله إلى مجموعة من الأفكار فقط.
مثلاً يريد الإنسان أن يطلع على السماوات عن طريق الحس والمشاهدة مباشرة، أو يكتشف قانوناً كلياً في الطبيعة عن طريق التجربة، أو يثبت حقيقة عن طريق العقل والتفكير، فبعد أن يطيل النظر من وراء التلسكوب وبعد أن ينجز عملياته في المختبر وبعد أن يضغط على عقله بالتفكير، أيكون قد ظفر بشيء غير مجموعة من الإدراكات والصور الذهنية التي جمعها في ذاكرته؟ إذن هذه الطرق التي يتخيل الإنسان أنها توصله إلى الواقع لم توصله إلى الواقع بل أوصلته إلى مجموعة من الأفكار الذهنية فقط.) ؟

الجواب :

في هذه الشبهة أثبت الواقع في الجملة وذلك هو "واقعنا وفكرنا" المعلوم لنا، وهذا الكلام صحيح.

والذي ينبغي الالتفات إليه هو أن المستدل تصور إنه إذا كان في الخارج واقع حقيقي فلا بد في حالة تعلق العلم به أن نصبح واجدين لنفس ذلك الواقع، لا واجدين للعلم بالواقع، مع أن القضية بالعكس فالذي نظفر به هو العلم وليس المعلوم (الواقع).

وهذا تصور ساذج لأنه صحيح أن العلم وحده الذي نظفر به وليس المعلوم ولكنه غاب عنهم أننا نظفر بالعلم مقروناً بخاصته وهي الكاشفية (إن الشبهات التي تذكرها المثالية لتستنتج منها أموراً تخالف البديهيات والحقائق المسلمة لا قيمة لها، وكل أحد يعلم أنها مغالطات، ويقتنع عادة في جوابها بوضوح وبداهة الموضوع، ولكن الجواب العلمي والفلسفي لهذه المغالطات يحتاج إلى دقة عظيمة ويتوقف على معرفة حقيقة العلم (الإدراك) وقيمة المعلومات، وهذان الموضوعات مشروحان بالتفصيل في المقالتين الثالثة والرابعة .

وسوف يأتي في الملاحظة الثالثة من هذه المقالة أن الفلسفة المادية الديالكتيكية قد اتخذت لنفسها في بيان حقيقة العلم نظرية مثالية مائة بالمائة مع أن المادية الديالكتيكية تعتبر نفسها النقطة المقابلة للمثالية.

وللجواب العلمي على هذه الشبهة الموجودة في المتن نكتفي بالجواب المذكور فيه أيضاً ويتلخص في أن للعلم خاصة الكاشفية عن الخارج، بل العلم هو عين الكشف عن الخارج وليس من الممكن أيضاً أن يوجد علم غير متصف بالكشف، وليس من الممكن أيضاً أن يوجد العلم والكشف ولا يوجد الواقع المكشوف، وإذا فرضنا أن الواقع المكشوف غير موجود، فالكاشفية إذن لا وجود لها، وإذا كانت الكاشفية غير موجودة فالعلم إذن غير موجود مع أن الخصم مقرّ بوجود العلم، وهذه الخاصة لا تنفك عنه، وإلا لم يبق علماً.)

ولا يدعي أحد أننا عند العلم بالخارج سوف نضيف الواقع الخارجي إلى أنفسنا، وإنما الدعوى هي أننا نظفر بالعلم بالخارج فقط.

الشبهة الثانية

إن حواسنا التي هي أقوى الوسائل للعلم بالواقع الخارجي تخطئ كثيراً (فمثلاُ ترى العين الجسم البعيد أصغر والقريب جداً أكبر مما عليه في الخارج.

وكذلك عندما ندير بأيدينا خيطاً في نهايته نار فإن العين ترى النار بشكل دائرة حينما ندير هذا الخيط.

وهي ترى أيضاً قطرة المطر حينما تنزل من السحاب بشكل خط متصل، وكذلك بقية الحواس فمثلاً نحن ندرك الحرارة والبرودة بحس اللمس فلو فرضنا أن إحدى يدينا كانت حارة والأخرى باردة ثم غمسناهما معاً في ماء دافئ فسوف نشعر بإحدى يدينا أن الماء بارد وبالأخرى نحس به أنه حار.
وتوجد أخطاء كثيرة للحواس وهي مذكورة في الكتب العلمية والفلسفية.

ويعتقد بعض العلماء أن أنواع أخطاء الحواس تصل إلى ثمانمائة) وكذلك الوسائل والطرق الأخرى غير الحواس فهي مبتلاة بالأخطاء الكثيرة أيضاً، وهكذا فإن العلماء الذين تسلحوا بمختلف الوسائل ليصونوا أنفسهم عن الأخطاء لم يستطيعوا أن يجنبوا أنفسهم الخطأ.

إذن كيف نثق ونطمئن بوجود واقع حقيقي؟
ا
لجواب :

لا يمكن لأحد أن يدعي (إن وقوع الخطأ في بعض الموارد لا يدعو إلى سلب الاعتماد من كل المعلومات والفطريات والحقائق المسلمة، ولا يبرر إنكار جميع الواقعيات الخارجية التي توصلنا إليها عن طريق العلم، بل هذا الإدراك للخطأ بنفسه دليل على وجود سلسلة من الحقائق المسلمة التي جعلناها مقياساً وعرفنا الخطأ عن طريقها، وإلا لم يكن معنى لإدراكنا للخطأ، لأنه لا يمكن تصحيح الخطأ بخطأ آخر.

وعلاوة على هذا فإن العالم المثالي- مع كل الأخطاء التي وجدها من الحس- لم يحدث له مرة أن أغلق عينيه وسار في الطريق، أو عندما يرى الطريق والبئر فإنه يساوي بينهما ويقول أن كلا منهما فكرة .

وكذلك فمع كل الأخطاء التي لاحظها في العقل لم يحدث له أن أعرض عن الاستدلال العقلي، وإنما هو قد أوضح هذه الشبهات المثالية عن طريق الاستدلال العقلي، وإذا كان الاستدلال العقلي باطلاً فاستدلاله على المثالية أيضاً باطل) أننا لا نخطئ ولا نزل في معلوماتنا أو أن كل ما نفهمه فهو صحيح وصادق، والفلسفة أيضاً لا تدعي هذا الشيء لنفسها، وإنما تدعي الفلسفة أن لدينا- في الجملة- واقعاً خارجاً عن ذواتنا، ويمكن إثبات هذا الواقع عن طريق الفطرة، لأننا لو لم نثبته لم نرتب أثراً منظماً على الموضوعات فلم نفكر في الأكل بعد الجوع مباشرة، ولم نهرب بعد الإحساس بالخطر مباشرة، ولم نرغب بعد الإحساس بالنفع... وهكذا ...

(مع أن الفكر الفارغ تحت تصرفنا ومن آثارنا، ونحن نستطيع في كل وقت أن نصوغ أفكاراً كما يحلو لنا).


يتبع المقالة الثانية إن شاء الله ومع الشبهة الثالثة تحياتي :وردة:
 

خادم العترة

عضو مميز
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


عودة مجددة مع الأخوة القراء :وردة:


الشبهة الثالثة

لو كانت كاشفية العلم والفكر عن الخارج صفة واقعية ولم تكن ظناً وفكرة فحسب لما أمكن أن تتخلف عن موصوفها أبداً مع أننا نقطع بتورطنا في كثير من الأفكار المليئة بالتناقص ومن المعلومات المليئة بالأخطاء، لأنه ليس من الممكن أن يتصور وجود الخطأ والغلط في الواقع الخارجي، ولا يمكن أن يكون وجودنا وتفكيرنا مخطئاً.

إذن لا نستطيع أن نثبت شيئاً ما عدا أنفسنا وأفكارنا.

وأما كاشفية العلم عن الخارج فليست شيئاً سوى ظن من الظنون.

الجواب

إن هذه الشبهة لا تؤمّن للمثاليين غرضهم ولا يمكن أن نستنتج منها السفسطة، والشيء الوحيد الذي يمكن تؤديه هذه الشبهة هو أن تضع أمامنا هذا التساؤل:

إذا كانت للعلم والإدراك خاصة الكشف ذاتاً فلا بد أن لا يكون هناك خطأ ولا بد أن يكونا دائماً مرتبطين بالواقع الخارجي وحينئذ نتساءل : من أين جاءتنا إذن كل هذه الأخطاء؟

والأخطاء أهي مطلقة أم نسبية؟

وسوف نجيب على هذا في مقالة منفصلة (وهي المقالة الرابعة).

نعود إلى بداية الحديث

كما قلنا في بدء الحديث أن كلام السوفسطائي قد نظم على أساس أنه ينكر الواقع، ولكنه في الحقيقة سيق من أجل إنكار وجود العلم (وهو الإدراك اليقيني المطابق للواقع).
فإذا كان كلامه يتضمن إنكار الواقع مع التسليم بوجود العلم (نحن نعلم بعد وجود أي شيء) فإن نتيجة هذا هو إثبات العلم بعدم الواقع، وهذا بنفسه إثبات لواقع معين وهو (أنا-العلم-خاصة كاشفية العلم عن عدم الواقع).

وإذا سلّمنا بخاصة الكشف في هذا العلم فلا يمكننا حينئذ أن نسلبها عن سائر أفراد العلم.

وتستنتج من هذا الحديث عدة ملاحظات:

الملاحظة الأولى

لا ينبغي لنا أن نعد الأشخاص الذين يثبتون لوناً من ألوان الواقع الخارجي ضمن المثاليين، ولا أن نطلق عليهم اسم السوفسطائيين من قبيل:

أولاً: أولئك الأشخاص الذين نفوا كون خواص الأجسام - ما عدا الخواص الهندسية - جزءاً من الواقع، واعتبروا تلك الخواص من تأليف الذهن (كما يقول ديكارت بأن الخواص الهندسية للجسم موجودة أما الخواص غير الهندسية - وهي المسماة عند بالخواص الثانوية من قبيل اللون والرائحة والطعم والكيفيات الأخرى المتوهمة- فهي صنيعة الذهن).

ثانيـاً: وبعض الفئات التي أنكرت وجود الجسم وخواصه واعتبرت العالم مجرداً من المادة.

ثالثـاً: بعض الأفراد الذين اعتبروا المكان وهماً.

رابعـاً: والبعض الذي اعتبر الزمان وهماً.

خامساً: والبعض الآخر الذي اعتبر الزمان والمكان وهمين.

وصحيح أن هذه الاعتقادات فارغة ولا أساس لها، وقد أزاحت الفلسفة الستار عنها وأوضحت بطلان كل منها وضوح الشمس، ولكن لأن أصحابها معتقدون بعالم واقعي فلا يمكن تسميتهم بالسوفسطائيين ولا إدراجهم ضمن أعداء العلم (ليرجع من شاء إلى التعليقة في الصفحة (72)).

ولا ينبغي أن نعد من المثاليين أشخاصاً من غير الفلاسفة سلكوا سبيلاً غير الاستدلال، ولا ينبغي أن نقيمهم بهذا المقياس من قبيل:

1-فئة من العارفين المنكرين لأسلوب الاستدلال والقائلين بأن الطريق الوحيد للوصول إلى الحقائق هو الكشف الذوقي.

2-وفئة من أصحاب الشرائع الذين حصروا المعلومات الصحيحة بتلك المأخوذة من طريق الوحي السماوي وأديان الرسل والأنبياء.

وكذلك طائفة أخرى من الفلاسفة السائرين على أسلوب علمي والقائلين بأن العالم مؤلف من شيئين مختلفين هما المادي والمجرد والسالكين لسبيل عملي يدعو إلى التنزه من العالم المادي الفاني والارتقاء نحو العالم العقلي الباقي.

وينقل هذا عن هرمس (يتعرض التاريخ القديم لمجموعة من الحكماء وعلماء النجوم المعروفين بـ "الهرامسة"، وهم سابقون للمرحلة اليونانية، وأشهر هؤلاء هو هرمس الهرامسة. وعندما يطلق اسم هرمس وحده فهو المقصود به. ولما كان هذا التاريخ موغلاً في القدم فإنه لم يبق منه شيء صحيح يمكن الاعتماد عليه .

وكتب القفطي في تاريخ الحكماء:

"ولد هرمس الهرامسة في مصر قبل الطوفان، وهو نفسه المعروف عند العبريين باسم "أخنوخ"، وعند اليونانيين باسم " أرميس"، وعند العرب باسم "ادريس"، وهو الذي أعطاه الله النعم الثلاث (الملك والحكمة والنبوة)".

ويستنبط من أقوال المؤرخين القدماء أن هرمس هو النبي إدريس المذكور في الكتب السماوية.

وينقل الأشكوري في محبوب القلوب عن تاريخ ابن الجوزي:

أن هرمس هو أول شخص استخرج الحكمة وعلم النجوم بالإلهام الإلهي.

وينقل عن أبي معشر البلخي أن الهرامسة كانوا كثيرين وكان أعلمهم ثلاثة أشخاص. وكان لهرمس دار في مصر وهو الذي بنى الأهرام) وبليناس (بليناس هذا هو من أقدم الحكماء وينسب إليه كتاب موجود بين أيدينا يسمى بعلل بليناس،ويقال إنه أحد الهرامسة.

وقد ترجم علل بليناس على يد القسيس ساخنوس. وتوجد في أول هذا الكتاب قصة عجيبة تشتمل على لون من المكاشفة فهو ينقل عن لسان بليناس قوله:

"كنت يتيماً ومن أهل طوانة ولم أكن أملك شيئاً وكان في بلدنا تمثال صخري نصب على عمود من الخشب وقد كتب عليه: أنا هرمس الذي خصّه الله بنعمته، وقد جعلت هذه علامة واضحة ولكني أخفيت رأسها لئلا يعرف ذلك الرأس إلا حكيم مثلي.

وكتب على صدر ذلك التمثال: من أحب أن يعرف سر الخلقة وصنعة الطبيعة فلينظر إلى ما تحت قدمي.

ولم يلتفت الناس إلى المقصود الحقيقي من هذه الجملة، حتى كبرت أنا وأصبح سنّي ملائماً وقرأت ما كتب على صدر التمثال واستوعبت مقصوده. وحينئذ حفرت قطعة من الخشب كانت تستقر تحت التمثال فوجدت ثقباً مظلماً لا يستطيع أحد أن يُدخل إليه نوراً لأنه كلما حاول إنسان أن يدخل شيئاً من النار للإضاءة به هبّت من ذلك الثقب ريح عاتية تطفئ تلك النار.

فسيطر عليّ الهمَّ وغلبني النوم، ورأيت فيما يرى النائم صورة تشبه صورتي فنادتني: انهض يا بلينوس وأدخل هذه الحفرة التي هي تحت الأرض. فأجبت: إنها مظلمة ولا يمكن لأحد أن يقتحمها . فأمرتني الصورة أن أجعل النار بكيفية خاصة في جسم شفاف لئلا تنطفئ واستضيء بها في ذلك الظلام. فغمرني السرور وتأكدت بأني وجدت الطريق فسألت الصورة: من أنت أيتها التي مننت عليّ بكل هذا الفضل؟

فأجابتني: أنا معك وسرّك الباطن. وعندئذ استيقظت من النوم فرحاً مسروراً وعملتُ ما أمرتْ، وبمجرد أن دخلت الحفرة شاهدت تمثالاً لرجل يحمل لوحاً في يده وأمامه كتاب، وقد كتب في اللوح:

هنا صنعة الطبيعة، وكتب في الكتاب: هذا سرّ الخلقة. وقد تعلمت أنا علم علل الأشياء من هناك ومن ثم فقد اشتهرت بالحكمة") وفيثاغورس (ولد فيثاغورس ( Pithagore) في القرن السادس قبل الميلاد وهو من أشهر الحكماء السابقين.

وعقيدته مشهورة في باب الأعداد وإن العدد هو أصل الوجود وإن الأشياء كلها تظهر بوساطة التركيب العددي.

وكل هذا مذكور في الكتب الفلسفية. وينقل الشيخ الرئيس في الشفاء شرحاً مفصلاً لعقيدته ويجيب عليها.

وكان فيثاغورس يعدّ الأرض كروية ومتحركة. ويقول أن الأرض وجميع السيارات ومن جملتها الشمس وكرة غير مرئية أخرى تدور حول مركز ناري غير مرئي.

وقد ساح في شرق الأرض وأفاد من آراء علماء ذلك الشرق، وهاجر إلى إيطاليا بعد أن عاد من سفره إلى وطنه.

ولما كان يتمتع بآراء سياسية واجتماعية ودينية خاصة بالإضافة إلى آرائه الفلسفية فقد شكل هناك جماعة من النساء والرجال وكان من ضمنهم زوجة له وثلاث بنات، ولكنه لم يحقق نجاحاً، وقتل في إحدى الثورات.

وسافر أفلاطون إلى إيطاليا واكتسبت عقائده الاشتراكية في الثروة والمرأة من فيثاغورس.

ونشرت فلسفة فيثاغورس لأول مرة في اليونان على يد أفلاطون) وأفلاطون (ولد أفلاطون ( Platon) في القرن الخامس قبل الميلاد سنة 427 وتوفى سنة 346 قبل الميلاد.

وهو من سلالة ملوك اليونان القدماء وينتهي نسبه من ناحية الأم إلى صولون الحكيم والمقنّن اليوناني المعروف.

وبعد أن نال أفلاطون قسطاً من مقدمات العلوم والرياضيات والفلسفة تتلمذ على يد سقراط وظل معه حتى آخر عمر سقراط وكان به مشغوفاً. ومدرسة أفلاطون الفلسفية من أشهر المدارس الفلسفية في العالم. وتشكل "المثل" المحور لعقائده الفلسفية.

وبعد وفاة سقراط قرر أفلاطون أن يجوب العالم فسافر إلى مصر والقيروان ثم ذهب إلى إيطاليا وتعلّم فيها فلسفة فيثاغورس وكان أفلاطون ضليعاً في فن الكتابة، وكانت له آراء خاصة في السياسة وطريقة إجارة المجتمع وتكوين المدينة الفاضلة، ومن آرائه أن المجتمع لا بد أن يدار بوساطة الحكماء.

ولكي يطبق هذه الفكرة سافر إلى جزيرة سيسل ولكنه لم يوفق وإنما ألقي القبض عليه وبيع عبداً حتى صادف أحد أصدقائه فحرّره، ولكنه لم يتراجع وسافر للمرة الثانية لنفس ذلك الهدف ولم يحقق شيئاً منه.

وأخيراً فقد تراجع عن آرائه الاشتراكية وكتب كتباً آخر أبطل فيه نظرياته السابقة بأدلة مذكورة فيه.

وكانت لأفلاطون حديقة خارج مدينة أثينا يعلم فيها الحكمة والعلم وتسمى بـ " الأكاديمية". ومن هنا فقد سمي أتباع أفلاطون بالأكاديميين) وأفلوطين (إن أفلوطين ( Plotin) هو رأس مجموعة من الفلاسفة المسماة بالأفلاطونيين المحدثين.

ولد سنة 205 وتوفي سنة 270 ميلادي. وكان إنساناً عارفاً مروضاً. سافر إلى إيران والهند، ولعلّه كسب كثيراً من عقائده العرفانية من هذين البلدين. ويقال إن كتاب "الأثولوجيا" (معرفة الربوبية) المنسوب إلى أرسطو إنما هو من تأليف أفلوطين).

إذن لنا عد هؤلاء من المنكرين للواقع واعتبارهم آباء للمثالية، لأنهم بحكم العلم والبصيرة أصدقاء للحقيقة وعشاق للواقع، ولم يكونوا طامحين إلى شيء إلا تكميل العلم والعمل والخدمة للإنسانية.

وهم قد وضعوا الحجر الأساس لهذا القصر الشامخ. وليس من اللائق أصلاً أن يستغل الإنسان فمه ولسانه اللذين جاءه من دم والديه-بمجرد أن يقدر على الكلام- في لعن صلب أبيه ورحم أمه، بل شتم رجل ناقد وباحث هو بعينه يؤكد أن الشاتم من أدعياء المعرفة ويصدق كونه من الحريصين على بقاء الجهل.

يتبع المقالة الثانية ومع الملاحظة الثانية :وردة:
 

خادم العترة

عضو مميز
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أعتذر عن التأخير فقد كنت مشغولا ولازلت فتقبلوا اعتذاري

وسوف نكمل هذا الكتاب ان شاء الله ونحن على العهد باقون

الملاحظة الثانية

لا بد أن نعتبر من جملة المثاليين أولئك العلماء القائلين بأن الفكر مادي محض، وهم يفسرونه بتعابير مختلفة من قبيل:

"إنه صنيعة المخ" أو هو "أثر الفعل والانفعال الحاصل بين جزء من المادة وجزء من المخ" أو هو "رد الفعل للتأثير الخارجي في الأعصاب والنخاع" أو هو "تبديل الكمية إلى كيفية" أو هو "صورة يلتقطها المخ للخارج" أو هو "ترشيحات المخ".

وإجمالاً فهم يفسرونه على أساس كونه أثراً مادياً للمادة ( القول بالأشباح في موضوع الوجود الذهني من الفلسفة).

وهذه العقيدة ليست جديدة وإنما هي مذكورة في الكتب الفلسفية القديمة، ومنقولة عن الماديين القدماء وعن غير الماديين أيضاً. ولكنها اكتسبت شهرة ضخمة في هذا العصر ونالت الموافقة العامة.
ومن الواضح إن أسلوبهم العلمي يقتضي هذا الرأي (يحسن الرجوع إلى الملاحظة الثانية من المقالة الأولى).[ 94 ]

وقد اعتمد العلماء المحدثون على هذه الأصول الثلاثة:

1-لا يوجد في الكون شيء غير المادة (المادة تساوي الوجود).2-إن المادة في تحول وتكامل ذاتي.
3-كل أجزاء المادة يؤثر بعضها في بعض
.


وبناء على هذه الأصول اضطروا لأن يعتبروا الفكر وليد المادة وأن يضفوا على كل خواص الفكر وإثارة صفة المادية، وأن ينتزعوا من المفاهيم الذهنية كل هذه الصفات:

1-الكلية.

2-الدوام

(الدوام: في المنطق القديم كانوا يقسمون القضية إلى أقسام متعددة من نواحٍ مختلفة، ومن جملتها تقسيم القضية بحسب "الجهة"، أي كيفية ارتباط المحمول بالموضوع، وللقضية من هذه الناحية أقسام مختلفة.

وليس من مهمتنا هنا أن نتناول بالشرح كل هذه الأقسام، وإنما يؤدى ذلك في كتب المنطق. ولكننا هنا نلقي بعض الضوء على قضية واحدة منها وهي "الدائمة"، وهي تلك القضية التي حكم فيها بثبوت المحمول للموضوع دائماً وأبداً كما في الموارد التي يكون فيها المحمول من الخواص التي لا تنفك عن الموضوع ويضرب القدماء مثالاً لهذا بحركة الفلك.

أما أتباع صدر المتألهين القائلون بالحركة الجوهرية فإن الجسم الفلكي-الذي هو موضوع الحركة الدائرية للفلك- مع كل الأجسام الأخرى متغير ومتحرك بالحركة الجوهرية الذاتية عندهم، ولهذا فهم يقولون أن موضوع الحركة الفلكية هو الجسم المطلق وليس الجسم الخاص.

ويوجد تفصيل هذا في منظومة المنطق للسبزواري في باب بيان العرض اللازم والعرض المعارق.وتقول المادية الديالكتيكية:

إن المنطق الجامد (المنطق القديم) الذي يعتقد بالضروري والدائمي يقود إلى نتائج خاطئة لأن كل مفهوم إنما هو جزء من الطبيعة وواقع تحت تأثير الأجزاء الأخرى منها، وأجزاء الطبيعة دائماً في تغير وتبدل، إذن تصبح المفاهيم دائماً في حالة تغير، ومن هنا نعرف أنه لا وجود لأي مفهوم جامد".

وتقول أيضاً:

"لما كانت القضايا التي تظهر في أذهاننا صوراً للارتباطات الموجودة بين أجزاء الطبيعة، ونحن نعلم أن ارتباطات الأجزاء فيما بينها هي في حالة تغيير، إذن لا توجد قضية دائمة.

والاعتقاد بالضروري والدائمي في المنطق الجامد هو الذي قاد الإنسان إلى النتائج الخاطئة". (ليرجع القارئ إلى كتاب "المادية الديالكتيكية" للدكتور الآراني، ص 46،47،48)

وكما تلاحظون فإن الماديين أنفسهم يعترفون- دون أن ينتبهوا- بكون بعض القضايا دائمة (المادة دائماً في حركة). والمنطق القديم أيضاً كذلك فهو يعترف بكون القضايا دائمة وليس كل القضايا.

ويقول الدكتور الآراني في الصفحة (57) من المادية الديالكتيكية:

"إن الجمود والثبات نسبيان ومحدودان، أما الحركة والتغيير فهما دائميان ولا حد لهما".

إذن أقصى ما يقال هو أن القدماء يذكرون حركة الفلك مثالاً، أما الماديون فهم يذكرون حركة مطلق المادة مثالاً. فالاختلاف فقط في المثال.

ولا بد لنا من سؤال هؤلاء الأشخاص:

هذه القوانين التي تعرض من قبلهم بعنوان أصول للديالكتيك كأصل نفوذ الضدين وأصل تغيير الطبيعة أهي قضايا دائمة ولا تتغير أم هي قضايا مؤقتة؟

إذا كانت دائمة فقد ثبت ما ادعيناه. وإن لم تكن دائمة - فعلى فرض صحتها -تكون صحتها مؤقتة وليس بإمكانها أن تفسر العالم وكل الطبيعة منذ الأزل وإلى الأبد.

والملاحظة التي ينبغي الالتفات إليها هي أن علماء المادية عندما يريدون نفي الحقائق الدائمة فهم يسلكون سبيلين (وهم يمزجون بين هاتين السبيلين)، إحداهما أنهم يقولون كل القضايا الذهنية تصور الارتباطات الموجودة في الطبيعة، ولما كانت تلك الارتباطات في تغير دائم، إذن لا توجد قضية دائمة. وقد أجبنا قبل قليل عن هذا الإشكال وقلنا إن الماديين أنفسهم يعترفون بوجود قضايا دائمة في الطبيعة (بغض النظر عما وراء الطبيعة).

والثانية أنهم يقولون: "كل مفهوم إنما هو جزء من الطبيعة وواقع تحت تأثير كل الأجزاء الأخرى للطبيعة، وهو وسائر أجزاء الطبيعة دائماً في تحول وتغيّر، إذن لا يوجد لدينا مفهوم ثابت جامد".

وعلى هذا فإن الصور التي في أذهاننا عن الارتباطات المتغيرة هي أيضاً متغيرة.

ولا بد أن نقول نفس هذا الشيء في باب المفاهيم الذهنية على أساس كون الروح مادية ولها خواص المادة.

ولكنه هنا يظهر أمامنا هذا الإشكال وهو:

إذا كانت المفاهيم والصور المنطبعة في الذهن عن علاقات الطبيعة المتغيرة متغيرة هي أيضاً، إذن لا تبقى أية قضية في الذهن لحظتين. وعلى هذا فنحن لا نستطيع أن نستبقي في أذهاننا صورة للحظة خارجية واقعية بحيث تكون تلك الصورة الذهنية أو القضية صادقة في كل اللحظات بالنسبة إلى تلك اللحظة الخاصة.

مثلاً إذا انطبعت في أذهاننا هذه الصورة وهي أن محمداً قد لقي علياً في اليوم الفلاني أو أن أرسطو كان تلميذاً لأفلاطون ، فلا بد أن تتخذ هذه الصورة شكلاً آخر في لحظة أخرى ولا بد أن تتغير في هذه اللحظة تلك الرابطة فتصبح مثلاً أن أرسطو لم يكن تلميذاً لأفلاطون. وبعبارة أخرى نقول:

في الواقعيات الخارجية لا تبقى-على حالة واحدة - أية علاقة تربط بين جزأين في لحظتين.
وهنا نتساءل :

كيف تكون الصور المنطبعة في أذهاننا عن لحظة خاصة ؟ كما في قولنا أن أمس قد جاء بعد أمس الأول أو أن زيداً قد تحدث في يوم الجمعة أو أرسطو كان تلميذاً لأفلاطون. أتكون هذه الصورة باقية على حالها أم متغيرة أيضاً؟

من الواضح أنه لا يمكن الجواب بأنها باقية مع القول بكون الروح مادية. وإذا أجيب بأنها متغيرة فعلاوة على مخالفة ذلك لأمر بديهي فإننا حينئذ ل بد أن نسلب اطمئناننا من الصور المنطبعة في أذهاننا عن الحقائق الماضية، لأننا نعلم أن المفاهيم الذهنية متغيرة بذاتها ولها في كل لحظة حالة خاصة.

وسوف نذكر في المقالة الرابعة إن هذا الموضوع هو من جملة المواضيع التي تدخل أصحاب المادية الديالكتيكية ضمن المشككين).

3-الإطلاق
(لا بد من تقديم مقدمة حتى يتضح معنى الإطلاق في المفاهيم، هذا الذي يقول به المنطق القديم، ومعنى نسبية المفاهيم التي تدعيها المادية الديالكتيكية .

توجد هنا مسألة مهمة التفت لها الفلاسفة منذ الأزمان الغابرة وهي قيمة المعلومات وكونها حقيقية . يعني ما هو المقدار الذي تستطيعه العلوم (الإدراكات) في كشف الواقعيات؟
وما هو المقدار الذي تطابق فيه إدراكاتنا الوجود الخارجي؟

قلنا فيما مضى أن السوفسطائيين والمثاليين ينكرون أية قيمة للمعلومات، لأنه حسب زعمهم لا يوجد واقع وراء أذهاننا حتى تطابقها إدراكاتنا أو لا تطابقها، وفي الواقع فإنه لا معني للحقيقة والخطأ إطلاقاً.

أما المشككون فصحيح أنهم غير منكرين للواقع الخارجي ولكنهم ينكرون القيمة اليقينية للعلوم والإدراكات ، ويدعون أنه من الممكن أن تكون للأشياء الخارجية كيفية خاصة ولكننا ندركها بشكل آخر يتلاءم مع قوانا المدركة ويتناسب مع الظروف الزمانية والمكانية، ونحن لا نعلم كون معلوماتنا حقيقية أم مخطئة، ولا نملك مقياساً أصلاً نستطيع به أن نميز الحقيقة من الخطأ.

وقد أسس مذهب المشككين بيرون (Pirron) الذي ولد سنة 370 وتوفي سنة 280 قبل الميلاد. وذكر بيرون أنه توجد عشرة أسباب تقضي على القيمة القطعية للمعلومات.

إذن لا توجد في عقيدة السوفسطائي حقيقة (إدراك مطابق للواقع)، ويعتقد المشكك بكونه لا يدري أن علومنا حقيقية أم لا.

وقد ظهرت في القرون المتأخرة مذاهب أخرى تتفق في هذه المسألة مع مذهب المشككين (سيتيسيسم) مع اختلافات جزئية، منها مذهب النقد للفيلسوف الألماني كانتْ (Grticisme) ، وهكذا مذهب البراجماتزم (Pragmatism) "النفعية" للفيلسوف الأمريكي وليام جيمس.

وسوف يأتي شرح هذه المذاهب، كل على حدة، في المقالة الرابعة المخصصة للبحث في قيمة المعلومات.

وعندما نتجاوز هاتين الفئتين (السوفسطائيين والمشككين) نصادف أناساً يطلق عليهم " أصحاب الجزم واليقين" أي أنهم يقولون بالقيمة القطعية للمعلومات (أنا أعرف أن العلم والإدراكات مطابقة للواقع). وتعتقد هذه الفئة بأن الفكر إذا سار على أسلوب منطقي صحيح فهو يظفر بحقائق لا تقبل الترديد وهي مطابقة للواقع.

وتنقسم هذه الفئة إلى قسمين:

القسم الأول:
أتباع الفلسفة الأولى (الميتافيزيقية) ومن جملتهم أفلاطون وأرسطو وأتباعهما من اليونانيين القدماء، وجميع الفلاسفة المسلمين وديكارت ولينتس واسبينوزا وفلاسفة آخرون من الأوربيين المحدثين.

وتعتقد هذه الفئة بالحقيقة المطلقة وبأن الواقعيات تنعكس (في الجملة) في أفكارنا كما هي عليه في الخارج دون أن تتصرف فيها أذهاننا ودون أن تضفي عليها لوناً منها.

ونحن نعلم أن المنطق القديم الذي شيدت عليه الفلسفة الأولى وكذلك الأصول الفلسفية التي شادها ديكارت كلها قائمة على أساس استيعاب الحقائق المطلقة. ولكنه يوجد بعض الاختلاف بين آراء القدماء وآراء ديكارت وأتباعه، وقد فصلنا القول فيه في مقدمة المقالة الرابعة.

القسم الثاني:
وهم النسبيون، وهم القائلون بالحقائق النسبية وسوف يأتي في المقالة الرابعة شرح عقائد هذه الفئة.

ويعتقد الماديون الديالكتيكيون بنسبية الحقائق وهي مأخوذة من النسبيين، ونحن نركز الحديث هنا حول أقوال هؤلاء فقط.

إن هؤلاء يعتبرون أنفسهم اتباعاً لمنطق خاص قد بيّن أصوله الفيلسوف الألماني هيجل. وهم يقولون:

"إن مقياس الإنسان لمعرفة الحقيقة هو العمل والتجربة فكل علم يصدقه العمل فهو صحيح وإلا فهو خاطئ.

والدليل على صحة العلوم الطبيعية في عصرنا هو أننا نشاهد المصانع يومياً وهي تنتج لنا عملياً ضروريات الحياة.
ومن ناحية أخرى يقولون أن منشأ العلم هو التأثيرات الحاصلة في الأعصاب نتيجة احتكاكها بالخارج بوساطة السمع والنظر وغيرهما، ولكن أعصابنا أيضاً تترك تأثيراً منها على ما اكتسبته الحواس، ولما كان الجهاز العصبي لكل حيوان مختلفاً مع الجهاز العصبي لحيوان آخر، والجهاز العصبي لكل فرد من الإنسان مختلفاً مع الفرد الآخر، إذن لا بد أن تختلف هذه التأثيرات فيما بينها.، وعلى هذا فإنه في الوقت الذي يكون فيه كل علم وإدراك حقيقياً فهو متعلق - بشكل خاص- بنوع الجهاز المادي لسلسلة الأعصاب في الشخص المدرك، ويتدخل فيه أيضاً التأثير الخاص لمخ المدرك. فالحقائق إذن نسبية، أي إنها واقعية ومع ذلك فهي مرتبطة بطريقة تكوين المخ في المدرِك وبالملابسات الزمانية والمكانية أيضاً.


يتبع إن شاء الله المقالة الثانية ومع قول الدكتور الآراني

تحياتي للجميع:وردة:
 

خادم العترة

عضو مميز
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نكمل معكم المقالة الثانية

يقول الدكتور الآراني في الصفحة (34 ) من المادية الديالكتيكية:

"من التافه جداً أن تتوقع المذاهب المخالفة لنا إدراك صورة للخارج دون أن يتصرف فيها فكرنا ويترك فيها أثراً منه.

وفي الحقيقة فإن هذا التصرف هو المعرفة، وهؤلاء الباحثين وراء عين الحقيقة والحقيقة المطلقة ووراء المفاهيم الفارغة الأخرى مثلهم مثل من يحاول أن يتم عمل الهضم دون أن يدخل الغذاء إلى المعدة ودون أن تؤثر المعدة على هذه المواد الغذائية".

وأنتم تلاحظون أن الماديين يعتقدون بكون المحسوسات بالنسبة إلى الفكر مثل المواد الغذائية بالنسبة للمعدة.

والمعرفة إنما هي تأثير مادي خاص تتركه سلسلة الأعصاب على تلك الظواهر المادية المحسوسة مثل التأثير الخاص التي تتركه المعدة على المواد الغذائية، وكما أن المعدات تختلف فيما بينها في الهضم فكذلك الأعصاب مختلفة فيما بينها.

ويقول أيضاَ في نفس الصفحة الماضية:

"إن بناء السلسلة العصبية بشكل خاص يؤثر في المعرفة لأن هذا التأثير هو المعرفة.

ونحن نعلم أن أعصاب الإنسان تعمل بشكل مختلف عن الحيوانات الأخرى فقد تنفر رائحة ما الإنسان ولكنها تجذب حيواناً آخر، وقد يثير لون ما حالة في حيوان وهو بنفسه يثير حالة أخرى في حيوان آخر، أو قد يلذّ لحيوان آخر سماع صوت ما بينما ينفر منه حيوان آخر.

وقد تبدو درجة حرارية معينة باردة بالنسبة إلى حيوان وهي بنفسها تبدو ساخنة لحيوان آخر.
وملخص الكلام أننا نعتقد بتأثير التكوين العصبي في المعرفة. ولكنه لا ينبغي أن نستنتج من هذا أننا لا نستطيع أن نعرف عين الحقيقة لأننا قد ذكرنا أن مفهوم كلمة " المعرفة" شامل لهذا التأثير الخاص أيضاَ".

وبغض النظر عن الإشكالات الواردة على هذا الحديث والتي ستذكر في المقالة الرابعة بشكل مفصل فنحن بالتفات بسيط يتضح لنا أن موضوع الحقائق النسبية الذي يعتقد به الماديون يؤدي بهم في النتيجة إلى مذهب المشككين وهو ليس شيئاً جديداً وإنما هو نفس ما ذكره المشككون ونفوا فيه القيمة القطعية للمعلومات بسبب اختلاف إدراكات الموجودات التي تدرك.

وأحد الأدلة التي يذكرها "بيرون" مؤسس مذهب المشككين ضمن الأدلة العشرة - لنفي القيمة اليقينية للمعلومات هو اختلاف الإدراكات في الأشخاص المختلفين.

وما ذكرناه في بدء الحديث. من أن اتباع المادية الديالكتيكية هم من جملة أصحاب الجزم واليقين فذلك إنما هو حسب ادعائهم، وإلا فإنه لا يوجد في الحقيقة مذهب ثالث غير مذهب ثالث غير مذهب الشك (سيتي سيسم) والمذهب الميتافيزيقي بالنسبة إلى بيان قيمة المعلومات.

فأما أن نكون تابعين للأصول الميتافيزيقية أو لأصول مذهب الشك.

وسوف يأتي تفصيل أكبر لهذا الموضوع في المقالة الرابعة).

وإن يخطوا بخط البطلان على المنطق القديم الذي روّج هذه المفاهيم ومنحها صفة الشرعية، وأن يشيدوا مكانه منطقاً جديداً أسموه بالمنطق الديالكتيكي.ولا يمكن أن نتصور - حسب القواعد الديالكتيكية- مفهوماً لا كلياً أو ثابتاً أو مطلقاً، ولا أن نصدق به.

وكل تصور أو تصديق فلا بد أن يكون متغيراً جزئياً نسبياً، لأنه حسب قانون العلية والمعلولية يكون الفكر (الإدراك) وليد المادة ونتيجة جبرية تحولية لما يظهر في مجموع والديه.

وهذه الظاهرة بنفسها لم تبق لحظة واحدة على حالها وإنما هي متحولة في كل آن ظواهر جديدة تأتي الواحدة منها بعد الأخرى. فالفكر - الذي هو الوليد المادي لظاهرتين ماديتين - إنما يشكل ظاهرة ثالثة ليست متساوية للظاهرة الأولى (الجزء المادي الخارجي) ولا هي مساوية للظاهرة الثانية (جزء المخ).
ويقتصر حديثنا على هذه الجملة الأخيرة ولا شأن لنا في بقية الكلام بل نؤخر الحديث فيه إلى مجال آخر.

إن مضمون هذه الجملة هو:

(إن الفكر وليد شيئين هما جزء من المادة وجزء من المخ ، وهو بنفسه غير هاتين الظاهرتين).

وهنا نتساءل:

ألا تتضمن هذه الجملة اعترافاً صريحاً بأن المعلوم (وهو جزء المادة) لا ينتقل بنفسه إلى أفكارنا وإن أفكارنا وإن الذي يحل في الفكر هو شيء غير الواقع الخارجي ( لكي يتضح المقصود من هذا لا بد من تقديم مقدمة وهي أن العلم في العرف الفلسفي على نوعين:

علم حضوري وعلم حصولي.

فالعلم الحضوري هو العلم الذي يحضر فيه عين الواقع المعلوم لدى العالم (النفس أو أي مدرك آخر) ويظفر العالم بشخصية المعلوم، كعلم النفس بذاتها وحالاتها الذهنية والوجدانية.

أما العلم الحصولي فهو الذي لا يحضر فيه واقع المعلوم عند العالم وإنما يظفر العالم فيه بصورة للمعلوم، مثل علم النفس بالموجودات الخارجية من قبيل الأرض والسماء والشجر والناس الآخرين وأعضاء بدن المدرك نفسه.

ففي العلم الحضوري وحسب التعريف السابق يكون العلم والمعلوم شيئاً واحداً، أي أن وجود العلم هو عين وجود المعلوم، ويكون فيه انكشاف المعلوم عن العالم بوساطة حضور المعلوم بنفسه عند العالم، ولهذا سمي بالعلم الحضوري.

أما العلم الحصولي فهو على خلاف ذلك حيث أن واقع المعلوم فيه غير واقع العلم، ويكون فيه انكشاف المعلوم للعالم بوساطة مفهومه أو صورته عند العالم. وبعبارة أخرى بوساطة حصول صورة المعلوم عند العالم، ولهذا سمّي بالعلم الحصولي.

وكل معلوماتنا عن العالم الخارج عن أذهاننا إنما هي من العلم الحصولي.

وفي العلم الحصولي يظفر الذهن-أولاً وبالذات وبلا وساطة - بالمفاهيم والصورة الذهنية، ولكن توجد لهذه المفاهيم خاصة مهمة وهي كونها مرآة للخارج بحيث يتخيل الإنسان لأول وهلة أنه قد ظفر بالعالم الخارجي دون وساطة.

ثم يقول في المرحلة الثانية أن هذه المفاهيم التي أتصورها عن الأرض والسماء لها وجود في الخارج.

ويقول في المرحلة الثالثة أن منشأ ومبدأ ظهور التصورات الذهنية هو التأثيرات الخارجية.

إذن صحيح أن الذهن يدرك في المراحل المتأخرة أن ظهور الصور الذهنية كان بسبب التأثيرات الخارجية ولكنه لا بد أن يلاحظ قبل ذلك ما هي العلاقة بين المفهوم الذهني والوجود الخارجي ؟

فقبل أن تصل النوبة إلى المرحلة الثالثة فإنه في المرحلة الأولى يدرك أن المفاهيم تعكس العالم الخارجي، ثم يقول الإنسان لنفسه في المرحلة الثانية أن هذه الأشياء التي توجد صورها في ذهني من قبيل الأرض والسماء والشجر ألها واقع خارجي؟

وأخيراً فما هي الخاصية المتوفرة في العلم والتي تدفع العالم ليلتفت إلى الواقع الخارجي؟

وكل إنسان مثالياً كان أم واقعياً ولأي مذهب كان نابعاً فهو يعتقد -يحسب الفطرة - بأن للعلم خاصية الكشف التام عن الخارج ولا يشك في أن نفس ما في الذهن -لا شيء آخر- له واقع خارجي.

فهناك إذن وحدة وعينية بين الذهن والخارج (سوف يشرح هذا الموضوع بالتفصيل في المقالة الرابعة)، ولكن تحليل هذا الموضوع الفلسفي يعدّ من أهم المسائل الفلسفية، وتنبع منه مسألة قيمة المعلومات التي أشرنا إليها في التعليقة السابقة.

وقد أعفى المثاليون (السوفسطائيون) أنفسهم من تعقيدات هذا الموضوع وذلك بإنكارهم للواقع الخارجي (حسب الدعوى الفلسفية لا بحسب الفطرة) وليس حديثنا معهم في هذا المجال .

أما اتباع المادية الديالكتيكية فقد اعتبروا أنفسهم في الجهة المقابلة للمثالية واختاروا في هذا المجال نظرية تؤيد مائة بالمائة ما ادعاه المثاليون.

فالديالكتيكيون يقولون أن الفكر (الإدراك) جزء من الطبيعة ووليد سائر أجزاء الطبيعة.

فكما أن سائر أجزاء الطبيعة توجد في أثر الفعل والانفعال الطبيعي فكذلك المفاهيم والتصورات فهي ظواهر مادية توجد في أثر الفعل والانفعال الحاصلين بين الخارج والمخ، والعلاقة بين هذه المفاهيم والواقع الخارجي هي علاقة الولادة والأمومة.

ويظهر أمامنا هنا هذا السؤال:

إذا كانت العلاقة بين العلم والمعلوم هي علاقة الولادة فحسب، فما هو معنى قولنا أن العلم يكشف عن الواقع؟هذا أولاً،

وثانياً: إن كل مفهوم يظهر في الذهن ( لاحظوا أن كل معلوماتنا عن الخارج إنما هي عن طريق هذه المفاهيم) من قبيل الإنسان والحيوان والنبات والجماد وغيرها لا نستطيع أن ندعي بأن له مصداقاً خارجياً وإنما نستطيع القول فقط بأن به منشأً خارجياً، وإذا لا حظنا أن كل معلوماتنا عن الخارج إنما هي عن طريق المفاهيم فلا بد أن نقول أن كل المفاهيم التي في أذهاننا ليس لها واقع خارجي. وهذا هو نفس ما يقوله المثاليون.

وثالثاً: إذا لم يكن العلم بذاته كاشفاً عن الواقع فمن أين عرفنا أن الواقع الخارجي موجود وأنه منشأ ومولد هذه المفاهيم والصور؟

وقد لاحظ القارئ الكريم في التعليقة السابقة أن الماديين الديالكتيكيين اختاروا لأنفسهم نظرية في موضوع قيمة المعلومات أدت بهم مذهب المشككين.

وأما في هذه المسألة (وهي مسألة ماهية العلم) فانهم اختاروا نظرية تنتهي بهم إلى مذهب السوفسطائيين. وسوف يأتي في المقالة الرابعة والخامسة التحقيق في مسألة ماهية العلم بناء على أصول الفلسفة الأولى (الفلسفة الميتافيزيقية)؟

وحينئذ يظهر هذا السؤال:

إذا كان الواقع الخارجي لا ينتقل بذاته إلى الفكر فمن أين عرفنا أن هناك واقعاً خارجاً وإن فكرنا وليد ذلك الواقع مع أننا كلما فرضنا شيئاً في الخارج فهو فكر غير الواقع الخارجي ؟

إذن ينتج من هذا أننا لا طريق لنا الإطلاق إلى الخارج أي أننا لا علم لنا أصلاً بالخارج وهذا بعينه حديث المثاليين.

ويجيبنا العلماء الديالكتيكيون :بأنكم تفكرون بطريقة ميتافيزيقية وتأخذون المفاهيم بصورة مطلقة فتورطكم في الخطأ، وتحاولون أن تحملونا مسؤولية نفي العلم بالخارج المطلق، ولكن هذا لا يلحق بنا أي ضرر لأن الخارج المطلق ليس له وجود في حدود العلم، ونحن دائماً ليس لدينا بالنسبة إلى الخارج إلا علم نسبي.

ونحن نقول في جوابهم:

إن في جوابكم الماضي اعترافاً بوجود الفكر التصوري والتصديقي المطلق لأنكم قد وافقتم على وجود هذا الفكر في عقولنا ولكنكم نفيتم صحته بعد ذلك (أي أن الصحة المطلقة قد نفيتموها نفياً مطلقاً، وإلا فإن الصحة المطلقة لا تتنافى مع النفي النسبي).

ثانياً: إذا كان العالم الديالكتيكي فعلاً يتعقل الخارج تعقلاً نسبياً فلا بد أن يعترف بالواقع المطلق والتعقل المطلق لأن قوله التعقل نسبي يعني فيه وصف التعقل بالنسبية، ونحن نعلم أن الموصوف لا بد أن يغاير الصفة، إذن لابد أن يكون التعقل هنا بذاته غير نسبي ولهذا جاز وصفه بالنسبية.

بل وكيف يمكننا أن نتصور أمراً نسبياً دون وجود أمر مطلق؟

ثالثاُ: إن المثالية عندما تنفي العلم بالواقع الخارجي فمقصودها هو العلم المطلق بالخارج (لأننا كلما تصورنا الخارج فهو فكر غير الخارج)، وعلى هذا فما هو السبب الذي دفع العلماء الديالكتيكيين ليشنوا الحرب على مشاركيهم في العقيدة (وهم المثاليون) ويدحضوا آراءهم؟



ويجيب الديالكتيكيون مرة أخرى:

إن الواقع الخارجي في تحول دائم وليس ثابتاً، والتغيير هو عين ذاته، والصفة والموصوف هنا شيء واحد وإن اضطررنا أن نعبر عن هذا المصداق الواحد بمجموع مفهومين، وهذا هو الذي حمل الميتافيزيقي على الظن بأن هناك مفهومين مطلقين.

ونجيب على هذا الأمر:

بأننا نعترف بوقوع التغيير والتحول في المادة الواقعية ولكننا ننكر أن تكون للفكر هذه الخاصة. وهذا الذي تقولونه من أن هذا المفهوم مطلق وثابت في ظنكم هو بنفسه دليلنا على مدعانا.

الملاحظة الثالثة :

المثالي الحقيقي هو ذلك الشخص الذي ينكر مطلق الواقعيات وهو بمعنى النفي المطلق.

وهؤلاء قليلون في هذا الزمان بل لعلهم لا وجود لهم إطلاقاً، ولكن التاريخ قد سجل أن بعض القدماء قد تمسكوا بهذا المذهب. وعلى أية حال فالمثالي (السوفسطائي) الحقيقي هو مثل هذا الشخص.

ومع هذا فنحن لا نستطيع أن نصدق بوجود إنسان يتمتع بخلقة سوية ويؤدي الأعمال التي يؤديها سائر أفراد الإنسان ثم لا توجد لديه العلوم والإدراكات التي توجد في سائر أفراد نوعه.

وكل فرد منا لاحظ بالتجارب آلاف الأعمال من نفسه وهي تنبع من مختلف العلوم وبعنوان كونها نظرة واقعية (وليس بعنوان كونها فكرة).

وكل فعل إرادي منه فهو يعتمد على الإرادة، والإرادة تعتمد على العلم، وكذلك فإن كل فرد منا قد لاحظ آلاف الأفراد الآخرين من نوعه وهم يؤدون آلاف الأعمال بإرادة وعلم، وهذه العلوم والأفكار تنبع من الخارج (من البديهي أن واقعية العلوم والأفكار ليست بنحو واحد كما سيصح ذلك في المقالات اللاحقة).

ومن هنا يتبين أن المثالي الحقيقي هو أحد شخصين:

1-ذلك الشخص الذي اختلطت عليه بعض العلوم والأفكار النظرية ولكنه في نفس الوقت الذي يحتفظ في ذهنه بالعلوم والأفكار العلمية والنظرية اللازمة للحياة اليومية وتكون منشأ الأثر عنده فهو يلتفت إلى الاختلافات والتناقضات الواقعة في أفكار وآراء العلماء أو إلى الأخطاء التي يلاحظها في الحواس عنده وحينئذ لا يحسب حساب المعلومات المحفوظة عنده ويغفل عن واقعيتها ويتعلق فقط بالتناقضات السابقة ثم يدعي أن العلوم والإدراكات لا تكشف عن الخارج أي أننا لا نعلم بشيء أبداً.

2-ذلك الشخص الذي لم تصادقه آفة ذهنية وإنما هو يتمسك بهذا المذهب لتحقيق بعض الأهداف المنحرفة وللتحرر.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

إنتهينا من المقالة الثانية وإلى الثالثة إن شاء الله

تحياتي للجميع:وردة:
 

خادم العترة

عضو مميز
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نعود معكم من جديد ومع المقالة الثالثة في الكتاب

المقَــــالة الثَـــالثة

العلم والإدراك

يتعلق الحديث في هذه المقالة بالعلم (الإدراك) حيث ندقق في هويته ونفحص سنخ واقعيته (سوف نثبت في هذه المقالة أن الروح والخواص الروحية مجردة من المادة وندحض عقيدة الماديين القائلة أن الروح والإدراكات الروحية من الخواص المعينة للمادة، وذلك بإبطال الأدلة التي يذكرونها لمدعاهم.

ولابد أن نتساءل هنا بأن العلم والإدراك المبحوث عن ماهيته وواقعيته أهو من سنخ المادة أم مجرد منها؟ وفي هذه المقالة يقصد به ما يشمل الإدراك الحسي والخيالي والعقلي. ولكي يحيط القارئ الكريم بأهداف هذه المقالة نذكر الفرق بين هذه الأمور الثلاثة.

يقول القدماء والمتأخرون أيضاً أن الإدراكات الإنسانية للخارج لها ثلاث مراحل: مرحلة الحس- مرحلة الخيال- مرحلة التعقل.

مرحلة الحس:

وهي عبارة عن صور الأشياء التي تنعكس في الذهن في حالة المواجهة أو المقابلة أو الاتصال المباشر للذهن بالخارج وذلك باستعماله حاسة من الحواس الخمس (أو أكثر).

فمثلاً عندما يفتح الإنسان عينيه ويتأمل في منظر أمامه فإن صورة من هذا المنظر تنعكس في ذهنه، وتلك الصورة هي بنفسها الحالة الخاصة التي يشاهدها الإنسان في ذاته حضوراً ووجداناً، وهذا هو ما نسميه بالمشاهدة. أو عندما يصافح إذنه صوت شخص يتكلم، فهذه الحالة في وقت صدورها نطلق عليها اسم السمع.

مرحلة الخيال:

عندما ينتهي الإدراك الحسي فإنه يخلف أثراً في الذهن،أو بتعبير القدماء أنه بعد ظهور الصورة الحسية في الحاسة تظهر صورة أخرى في قوة أخرى، وهي التي نسميها بالخيال أو الحافظة، وبعد أن تنمحي الصورة الحسية فإن الصورة الخيالية تبقى على حالها ويستطيع الإنسان أن يستحضرها في أي وقت يشاء، وبهذه الوسيلة فهو يتصور الشيء الخارجي. والصورة الخيالية تشبه الصورة المحسوسة مع هذه الفروق:

أولاً: الصورة الخيالية في الغالب وفي الحالة العادية ليس لها وضوح الصورة الحسية.

ثانياً: يُحَسّ دائماً بالصورة الحسية أنها بوضع خاص (بنسبة خاصة إلى أجزائها المجاورة) وفي جهة معينة (إلى اليسار أو إلى اليمين أو أمام الوجه أو وراء الظهر) وفي مكان محدد.

فمثلاً كلما شاهد الإنسان شيئاً فهو يشاهده في مكان معين وجهة معينة وملابسات محددة. أما إذا أراد الإنسان أن يتخيل ذلك الشيء الذي رآه مراراً وبأوضاع وجهات مختلفة وأماكن متعددة فهو يستطيع أن يجسّمه أمام خياله دون أن يلتفت إلى وضعه وجهته ومكانه الخاص.

ثالثاً: يوجد شرط في الإدراكات الحسية وهو اتصال قوي الحواس بالخارج وبمجرد زوال هذا الاتصال فإن الإدراك الحسي يزول معه أيضاً. أما الإدراكات الخيالية للذهن فهي ليست بحاجة إلى الخارج ولهذا تكون الإدراكات الحسية خارجة عن اختيار الشخص المدرك، فلا يستطيع الإنسان عادة أن ينظر إلى وجه إنسان غير حاضر أو يسمع صوته أو يشم عَرْف وردة ليست موجودة قربه، ولكنه يستطيع أن يتخيل هذه جميعاً ويتصورها في أي وقت يشاء.

مرحلة التعقل:

إن الإدراك الخيالي جزئي أي أنه لا يمكن أن ينطبق على أكثر من فرد واحد، ولكن ذهن الإنسان قادر بعد إدراك عدة صور جزئية على صياغة معنى كلي يمكن انطباقه على أفراد كثيرة، فهو بعد أن يدرك أفراد كثيرة يلاحظ في هذه الأفراد صفات مختصة بكل فرد من الأفراد ولكنه يلاحظ أيضاً صفات مشتركة بينها، أي أنه يلاحظ شيئاً في فرد ثم يلاحظه بنفسه في فرد آخر وثالث ورابع و .... ورؤية هذا الشيء في أفراد متعددين تهيئ الذهن ليكوّن من ذلك الشيء صورة كلية يمكن انطباقها على كثيرين . وهذا اللون من التصور يسمى بالتعقل أو التصور الكلي.

هذه ألوان ثلاثة من الإدراك يتصف بها الإنسان، وكل إنسان يدرك هذا في نفسه بالعلم الحضوري.
وقد كان الفلاسفة المسلمون- تبعاً للفلاسفة اليونانيين- يقولون أن القوة العاقلة فقط وهي التي تدرك الكليات هي المجردة من المادة. وكل براهينهم التي أقاموها على تجرد النفس تنصب على القوة العاقلة فحسب.

أما صدر المتألهين فهو يعتقد بأن قوة الخيال وكل القوى الباطنة مجردة من المادة. وهو يثبت هذا عن طريق عدم تطابق خواص هذه مع الخواص العامة للمادة والمذكورة في هذه المقالة).

ولما كنا قد بحثنا في المقالة الثانية عقائد المثاليين وأصحاب السفسطة فإن من الواجب علينا أن نتناول بالبحث بعده مباشرة موضوع العلم (هوية العلم-مقدار كشفه عن الواقع- قيمة المعلومات - الخطأ في العلم- ظهور الكثرة في العلوم- الاختلافات الواقعة في الأسرة العلمية)، ولولا هذه المناسبة لأصبح مكان هذا البحث في الفلسفة متأخراً عن كثير من المواضيع الأخرى لتوقف البرهان فيه عليها.

ونضرب لذلك مثالاً
لو تأملنا في صورة طولها (12) سم وعرضها (8) سم وهي تضم منظراً رائعاً تستريح فيه عائلة مكونة من عدد من الأفراد.

في هذا المنظر توجد بحيرة يتكسر فيها الضوء على الماء فيبدو كأنه فضة وتهتز فيها الأمواج فيطرب الإنسان لنغماتها وتمر النسمات الهادئة على وجهه فتنعش روحه.

وإلى جانب هذه البحيرة توجد حديقة غناء بأرضها الخضراء وأشجارها الفتية تتمايل وتختال بقدها الجميل ويهز أغصانها نسيم عبق يملأ النفس حباً وهياماً.

ويمتد أفق هذا المنظر إلى خمسة عشر كيلومتراً وينتهي بصف من الجبال كأسنان المشط. ويشبه هذا المنظر لوحة فنية تستقر في حضن طفل، وهي تضم قمماً شاهقة كأنها تتطلع وتنظر.

وفي زاوية من هذه الحديقة الرائعة قد فُرش بساط جلس عليه رجل تدل تقاطيع وجهه على أنه يقارب الأربعين عاماً مع بعض الأطفال في جو من العطف والحب يشير إلى أنهم أطفاله وأمامهم طبق من التفاح.

وفي هذه الحلقة ينشغل أحدهم بأكل تفاحة في يده، والآخر منصرف إلى شم تفاحته، والثالث مع أنه يمسك بتفاحته ولكنه لم يكتف بها وإنما ارتمى في حضن أبيه يطلب المزيد، والآخر مع أنه غير محروم ولكنه قد ألقي بنفسه على الطبق يريد أن يحرم منه الآخرين.

إنه صراع ونزاع.

وهذه النظرة هي النظرة الأولى.

أما إذا عدنا إلى الصورة مرة أخرى فسوف نلاحظ فقط قطعة من الورق الصقيل الأبيض تتناثر عليها نقاط سود بأشكال مختلفة بعضها كبير نسبياً وبعض صغير، وبعضها بعيد أو قريب من البعض الآخر أي أن الفواصل بينها كبيرة أو صغيرة.

وهذه النظرة هي النظرة الثانية.

والآن إذا سُئلت أهذا المنظر العريض بكل ميزانه التي وصفت (ومن الواضح أنه كلما ازددت تأملاً ازدادت المعلومات التي تفهمها من المنظر) قد كان في يدك واقعاً وكانت كل هذه المعلومات مخزونة في مساحة (12×8) سم‌‍‍2؟

فما هو جوابك؟

من البديهي أنك سوف تجيب: كلا.

فليس من الممكن أن يخزن منظر بطول خمسة عشر كيلوا متراً بتلك المحتويات المتنوعة وذلك الطول والعرض والعمق والمسافات المختلفة والخواص الجسمية والروحية المتنوعة مما يظهر فيه- ليس من الممكن أن يخزن كل هذا في صفحة بمساحة (12×8)سم2، وأيضاً لا يمكن أن يقال ذلك.

نعم أن هذه الصورة "تشير" إلى المنظر، وإلا فإن الصفحة الورقية لا تحتوي سوى النقاط السود والبيض التي التقطتها "الكاميرا".

لاحظ الاختلاف العظيم بين النظرتين.

عودة إلى الموضوع الأصلي

لقد أثبتت التجربة والمشاهدة (يثير الماديون لإثبات كون الروح والأمور الروحية مادية (أو لتشويش الموضوع وإلقاء الرعب في قلوب المعارضين) موضوعات متنوعة من مختلف العلوم، من قبيل الفيزياء والفسيولوجيا (علم وظائف الأعضاء) وعلم النفس وغيرها مما لا يرتبط بالمدعى ويخيلون للآخرين إن في هذه المواضيع دليلاً قاطعاً على كون الروح والمواضيع الروحية مادية، ولهذا رأينا من اللازم أن نقدم بعض المقدمات التي تهيئ القارئ الكريم لأصل الموضوع:

أ- أن كل إنسان يعترف بالبداهة والحضور-بوجود مجموعة من الأمور الذهنية المسماة بالعلوم والإدراكات،وهي أوضح عنده من وجود العالم الخارجي، لأنه لو فرضنا وجود إنسان (من قبيل المثاليين) يتردد في وجود العالم الخارجي ويبطل الإدراكات أي لا يعتبرها مطابقة للواقع فإنه لا يستطيع أن يتردد في وجود الإدراكات أنفسها.

إذن وجود هذه المجموعة من الأمور الذهنية - التي يعيها كل إنسان بالعلم الحضوري -بديهي وليس بحاجة إلى دليل علمي ولا فلسفي.

ب- لقد أثبتت بحوث العلماء الأقدمين والمحدثين أن هناك مجموعة من العوامل المادية الخاصة الموجودة خارج الذهن بكيفية ووضع خاص وهي تؤثر ظهور الإدراكات الحسية، أما كيفية هذا التأثير فهي مشروحة في العلوم الطبيعية، ولكل واحد من العلماء بدوره نظرية في هذا المضمار.

ويتناول علم الفيزياء الحديث مواضيع تدور حول الضوء والصوت وغيرهما، وما هي أمواج الأثير؟ وكيف تقتحم العين وتؤثر على أعصابها؟ وما هي الأمواج الصوتية؟ وفي أية ظروف تؤثر على أعصاب السمع؟

وأثبتت تلك البحوث أن لمجموعة الأعصاب في الإنسان والحيوان وظيفة معينة مثل سائر أعضاء البدن، وهي تؤدي أعمالاً خاصة وتتأثر بالعوامل الخارجية وهي تبدي رد فعل أحياناً . وتشرح هذه النشاطات العصبية في علم الفسيولوجيا.

وهذان الموضوعان (وهما حدوث مجموعة من العوامل الواقعية في الخارج وحدوث النشاطات العصبية) يعترف بهما كل العلماء "الواقعيين" المؤمنين بالعلم الخارجي، روحيين كانوا أم ماديين. ويختلف الروحيون عن الماديين في موضوع آخر سوف نذكره قريباً.

وينبغي الالتفات إلى هذه الملاحظة وهي أن الإنسان لا يعي النشاطات العصبية في مخه بوساطة العلم الحضوري،وإنما يعلمها الإنسان عن طريق الاكتشافات العلمية التي ينجزها العلماء.

ج- أن الأمور الروحية والنفسية - مثل كل أشياء الكون - تتبع أصولاً وقواعد وقوانين معينة،وتسيطر علاقة العلية والمعلولية على هذه الأمور فيما بينها أو بين كل واحد منها والمواد البدنية أو العوامل الخارجية.

ويبين علم النفس الحديث هذه الأصول والقوانين حسب أسلوبه الخاص (وهو المشاهدة والتجربة).

ولم يدعّ العلماء ولا الفلاسفة الروحيون أبداً أن الروح والأمور الروحية متحررة تماماً من كل قيد وقانون ولا تتبع أية قاعدة علمية وإنما أثبتوا فقط أن الروح والأمور الروحية ليس لها تلك الميزات المختصة بالمادة، ولا تسيطر عليها القوانين المادية.

إذن ما ينسبه بعض الماديين - عن علم أو عن غير علم - إلى العلماء الروحيين ليس له أساس على الإطلاق.

يقول الدكتور الآراني في كتاب "يسيكولوزي"،أي علم النفس، في الصفحة (6) بعد أن يبين التغييرات الحاصلة في أسلوب التحقيق العلمي في أوربا منذ القرن الثامن عشر فما بعد - يقول:

" إن هذا الأصل الكلي أصبح سائداً منذ هذا الوقت في كل التحقيقات العلمية، وأصبح التحقيق العلمي يعني الفحص الدقيق والعميق. ولا يتم هذا الفحص الدقيق العميق إلا حينما يقترن العلم بالعمل، وترتبط التغييرات التي أثبتتها التجارب العلمية ببعضها بوساطة التفكير، وتفهم علاقات العلية والمعلولية التي تربط بينها".

ويواصل المؤلف حديثه بعد عدة أسطر فيقول:

"منذ القرن السابع عشر ظهر الفلاسفة العقليون ( Rationalist) من قبيل هوبز واسبينوزا وليبنتس،وأدخلوا تغييرات مهمة على العقائد العلمية في باب الروح وغيّروها تماماً.

وأوضح هؤلاء الفلاسفة لأول مرة أن كل التغييرات الروحية تتبع سلسلة من القوانين الثابتة المعينة، وعلى العكس مما تدعيه مذاهب وأديان القرون الوسطى فإن الروح ليست متحررة، وهي لا تستطيع أن توجد أثراً بذاتها، وما نشاهده من علاقة العلة والمعلول في العلوم الأخرى ولا سيما العلوم الطبيعية فهو موجود بدقة وبصورة كاملة في علم الروح .

واكتشف "هوبز" قانون الجبر في الروح وهو يشبه قانون نيوتن في الميكانيك، وهذا القانون يقول:

إن أية قضية روحية لا تولد بدون سبب ولا تزول من غير علة"

فهذا الموضوع وهو أن الأمور الروحية تتبع سلسلة من القوانين الثابتة والمعينة، وموضوع كون القضايا الروحية لا تولد بدون سبب ولا تزول من غير علة وموضوع العلاقات بين الأمور الروحية والأمور البدنية أو الأمور الخارجية

-كل هذه المواضيع تعتبر من بدايات علم الروح، وقد أقام الفلاسفة أفكارهم على أساسها، ولم تذكر هذه الأمور لأول مرة في القرن السابع عشر، وإنما على العكس من هذا فمنذ القرن السابع عشر فما بعد ظهرت فئة من الفلاسفة في أوربا تناولت مسألة الجبر والاختيار وقالت باختيار الروح، واختيارها يستلزم تحررها من قانون العلة والمعلول، ولكن العلماء يعرفون أن هذه العقائد لم تكن لها قيمة علمية ولا فلسفية.

والمذاهب والأديان أيضاً لم تنكر هذا الأصل، وقصارى ما يقوله الروحيون هو أن الأمور الروحية تفتقد الخواص العامة للمادة، ولا يقولون أنها تفتقد القانون والقاعدة ولا يقولون أنها لا علاقة لها أبداً بالمادة ولا يدعون أن بين الروح والمادة سدا كسد الصين.

وإنما الروح -حسب آخر الدراسات التي قام بها الفيلسوف الإسلامي الكبير صدر المتألهين ووافق عليها الفلاسفة الذين جاءوا بعده - هو الثمرة العليا للمادة، أي أنه وليد سلسلة من الرقي والتكامل الذاتي للطبيعة.

وحسب هذه النظرية فإنه لا يوجد إي سد بين عالم الطبيعة وما وراء الطبيعة، فمن المحتمل أن يتحول موجود مادي إلى موجود غير مادي في مراحل من الرقي والتكامل.

وننتقل من هذه المقدمات إلى المسألة التي وقع الاختلاف فيها بين الروحيين والماديين وهي:

ما هي حقيقة الروح والإدراكات الروحية؟

أهي مجردة من المادة أم هي ظاهرة مادية؟

وبعبارة أخرى نقول: أن الاختلاف في ماهية وكيفية واقع هذه الأمور وحسب ما مر علينا إثباته في المقالة الأولى فإنه لا يمكن إثبات وجود شيء أو كيفية وجوده (ماهيته) إلا بوساطة المعايير الفلسفية الخاصة فقط. ولا اختلاف بين الجميع فيما ذكر من هذه الأمور الأربعة وهي:

1-وجود الإدراكات.
2-حدوث سلسلة من العوامل الخارجية.
3-حدوث النشاطات العصبية.
4-وجود سلسلة من القوانين الروحية.


يتبع إن شاء الله المقالة الثالثة :وردة:
 

خادم العترة

عضو مميز
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


تحياتي للجميع

نتابع المقالة الثالثة


ويثبت العلماء الروحيّون - عن طريق عدم انطباق خواص الأمور الروحية على الخواص العامة للمادة- إن الأمور الروحية (وهي تلك الأشياء التي نعيها بالعلم الحضوري) ليست مادية، وحينئذ لا يمكن أن تنطبق على النشاطات العصبية.
إذن فالنشاطات العصبية مقدمة لظهور سلسلة من الأمور غير المادية وليست عين تلك.

أما العلماء الماديون فهم لا يلتفتون إلى أصل الموضوع ولا يثبتون لنا أن ما ندركه هو عين هذه النشاطات العصبية وإنما يشذون عن الموضوع ويذكرون مواضيع مأخوذة من الكتب الفيزيائية أو الفسيولوجية أو من علم النفس (بأساليبها الخاصة وهي المشاهدة والتجربة مما يبعدنا عن ماهية الأمور الروحية وكيفيتها) وهي لا ترتبط إطلاقاً بما يقوله الفلاسفة.

ويتصور هؤلاء أن القائلين بكون الروح والأمور الروحية مجردة لا يعلمون شيئاً مما يقول هؤلاء وإذا فرضنا أنهم قد أحاطوا بهذا علماً لما بقي أي داع لاعتقادهم بتجرد الروح.

مثلاً يقول الدكتور الآراني في كتيب له بعنوان "البشر من وجهة النظر المادية":

"تحدث في حال التفكير تغييرات مادية أكبر في قشرة المخ وتتجه كمية أكبر من الدم نحو المخ فيمتص غذاءً أكثر ويطرد مواد فسفورية أكثر بحيث تزيد كمية هذه المادة في إدرار الشخص المفكر، أما في حالة النوم حيث تقل أعمال المخ فإنه يمتص غذاءً أقل وهذا بنفسه دليل على كون الآثار الفكرية مادية".

وسائر الأدلة التي يذكرها الماديون أيضاً من هذا القبيل، أي أنها جميعاً خارجة عن موضوع البحث، بل ادعى بعضهم أكثر من هذا فقال إنني قمت بتشريح البدن فلم أجد أثراً للروح، إذن لا وجود للروح.

وينقل فيلسين شاله في القسم المسمى بـ "ما وراء الطبيعة" عن "بروسه" أحد علماء وظائف الأعضاء الماديين قوله:

" إنني لن أؤمن بوجود الروح إلا إذا اكتشفتها تحت مشرط التشريح".

والحقيقة إن قراءة كتب الماديين تثبت للإنسان إن هؤلاء لم يكن لهم اطلاع صحيح وسليم على عقائد الفلاسفة الإلهيين والروحيين ولا على آراء هؤلاء العلماء فيما يختص بالله والروح وسائر المواضيع، وتنحصر معلوماتهم في هذا المضمار بما هو شائع بين العامة فيما يتعلق بالروح والجن والملائكة، أو بما يقوله المثاليون وهو أحط وأتفه مما يقوله العامة)

أننا عندما نستعمل حواسنا فإن المادة الواقعية تترك أثراً في سلسلة الأعصاب والمخ وينتج عن هذا رد فعل مادي يظهر فينا بمجرد استعمال ويزول مباشرة بعد صرف تلك الحاسة عن وظيفتها.
ولكننا نظفر بشيء - نتيجة هذا العمل - نسميه بالإدراك.

ولا نستطيع أن نقبل كون هذا المنظر العريض للعالم- بكل خصوصياته المحيرة وكل خطوطه وسطوحه وأجسامه التي تتجلى لنا على أنها متصلة- قد خزن واستقر في مجموعة مادية صغيرة من الأعصاب والمخ مكونة من أجزاء منفصلة عن بعضها ومتراكمة وهي بمجموعها أصغر من جسمنا.

ومن جهة أخرى فنحن نلاحظ اختلافات في أثناء استعمال الحواس (أخطاء الحواس) في الأشياء المحسوسة، ولا يدعنا هذا أن نقول بأن واقع العالم المادي الخارج عنا قد أدركناه كما هو وحصلنا عليه بنفسه.

إذن هذه الصورة الإدراكية ليست حاله في مادتنا ولا في المادة الخارجة عنا.

وخلاصة الحديث أنه لما كانت هذه الصورة الإدراكية تفتقد الخواص العامة للمادة (من قبيل الانقسام-عدم انطباق الكبير على الصغير) فهذه الصورة إذن غير مادية.

إشكـــال

قد يعترض إنسان على ما ذكرنا فيقول: إن الإدراك هو تلك الحالة المادية الحاصلة في المخ والأعصاب.

أما موضوع الكبر والصغر والبعد والقرب فقد حلت البحوث العلمية كل إشكال فيه.

فالعلم الحديث يعتقد بأن جهاز الإدراك البصري ليس إلا " آلة تصوير" دقيقة فحسب، وتتجمع كل الأشعة الواردة في النقطة الصفراء للعين فيتحقق الإبصار (كانت هناك نظريتان شائعتان بين القدماء بشأن كيفية الإبصار وكيفية تحقق الرؤية:

أ-نظرية الانطباع.
ب-نظرية خروج الشعاع.


ويعتقد أصحاب نظرية الانطباع بأن عدسة العين جسم شفاف وصقيل مثل المرآة ، ، ولهذا فكل جسم يقف أمامها فإن صورة منه تقع على سطحها فيتحقق الإبصار. وتنسب هذه النظرية إلى أرسطو وأتباعه وإلى محمد بن زكريا الرازي وابن سينا من العلماء المسلمين.

أما أصحاب نظرية خروج الشعاع فهم يعتبرون عدسة العين جسماً ينبع منه نور تماماً مثل النار والشمس والنجوم، وهم يعتقدون بأن العين يخرج منها شعاع من النور فيصطدم بالجسم المقابل لها فيتحقق الإبصار.

وانقسم أصحاب هذه النظرية إلى فئتين:

أولاهما تعتقد أن ذلك الشعاع مخروطي الشكل يقع رأسه في العين وقاعدته على الجسم المرئي، والأخرى تعتقد بأنه اسطواني الشكل، وطرفه الواقع على الجسم المرئي يكون دائماً في حركة واضطراب.

وتنسب هذه العقيدة إلى أفلاطون وجالينوس وأتباعهما. واعتنقها من العلماء المسلمين نصير الطوسي وعدة آخرون.

وقد سرد اتباع كل من النظريتين أدلة لصالحهم وضد خصومهم، وهي مذكورة في كتب الفلسفة.

ومن جملة الإشكالات التي وجهها أصحاب نظرية خروج الشعاع إلى أصحاب نظرية الانطباع هو إشكال عدم انطباق الكبير على الصغير المشار إليه في المتن.

وأجاب عليه أصحاب نظرية الانطباع بنفس الجواب المذكور في المتن. وهذا الجواب مقبول اليوم يبن العلماء الطبيعيين.

وللشيخ شهاب الدين المعروف بشيخ الإشراق عقيدة ثالثة ليست مهمة ولهذا أعرضنا عن ذكرها.

وللفيلسوف الإسلامي الكبير صدر المتألهين رأي خاص في باب حقيقة الإبصار فهو يقول:

على فرض صحة أية واحدة من هاتين النظريتين فإن ذلك لا يفسر حقيقة الإبصار لأن كلتا النظريتين تتعلقان بالعمل الطبيعي (الفيزيائي) للعين، والإبصار هو ما وراء العمل الطبيعي.

وبإثبات هذا العالم لنظريته في باب اتحاد العاقل والمعقول واتحاد الحاس والمحسوس فقد أثبت أن النظر هو لون من النشاط الإبداعي للنفس، ويعتبر العمل الطبيعي (الفيزيائي) مقدمة له، فبعد أن يتم العمل الطبيعي تقوم النفس - بقدرتها الفعالة - بإبداع وإنشاء صورة مماثلة للشيء المحسوس في جانب منها.

يقول صدر المتألهين في الجزء الرابع من الأسفار ضمن رده لنظرية أصحاب الانطباع:

"وهذا بعد تمامه إنما يدل على انطباع الشبح فيه لا كون الإبصار به".

وفيما يتعلق بنظرية خروج الشعاع يقول:

"نحن لا ننكر أيضاً تحقق الشعاع من البصر إلى المرئي صورته لكن نقول لا بد في الرؤية من حصول صورة المرئي للنفس".

وحسب نظرية صدر المتألهين فإن كلتا النظريتين السابقتين تفسران فقط العمل الطبيعي (الفيزيائي) للعين، ولا تفسران حقيقة الرؤية والإبصار من الناحية الفلسفية.

وطبق الدراسات الأخيرة للعلوم الطبيعية في موضوع الضوء من جهة وفي كيفية تركيب العين من جهة أخرى فقد أصبح من المسلم أن هاتين النظريتين خاطئتان حتى من ناحية تفسير العمل الطبيعي للعين، أي أنه ليس انطباعاً ولا خروجاً للشعاع.

وتقول الدراسات العلمية الحديثة أن جهاز العين تماماً مثل آلة التصوير (الكامرا)، فالأشعة المباشرة أو المنعكسة من الجسم المرئي تقتحم العين وتمر خلال الغشاء الشفاف للقرنية والرطوبة المائية وتصل إلى إنسان العين ثم تمر من خلال عدسة العين وترسم صورة من نور في نقطة معينة حسب خواص العدسات وتسمى تلك النقطة الواقعة في الشبكية والتي ترتسم فيها الصورة باسم النقطة الصفراء.

ويعلم القارئ الكريم أن هذه النظرية الحديثة في كيفية الإبصار ولو أنها تبطل النظريتين الماضيتين ولكنها لا تمس نظرية صدر المتألهين بأي ضرر. وجواب الإشكال المذكور في المتن مبني على نظرية صدر المتألهين،ويتلخص في أن هذه الأعمال الطبيعية (الفيزيائية) لا تستطيع تفسير حقيقة الإبصار) .

ونحن لا نرى شيئاً سوى تلك النقطة.

وكل ما في الأمر أننا نقيس بقية الأجزاء من أصغر جزء نشاهده في هذه النقطة، ومن هذه النسب والفواصل بين الأجزاء نظفر بالكبر والصغر النسبيين.

وتؤثر في هذه الحال أيضاً الكيفيات الأخرى من قبيل الظلال وما يشبهها. وإلى هنا فإن الاختلافات النسبية تكون مؤثرة.

ولما كنا قد قسنا في مشاهداتنا الأخرى حجم باصرتنا بأجسامنا ، وأجسامنا بالأجسام المغايرة لنا فنحن نعلم إذن وبشكل نسبي إلى أي حد يجب علينا أن نكبر هذه الصورة لنقترب من الحقيقة.

واختصار فإننا في حالة الرؤية نفيد من أفكارنا ونستوعب العالم الواسع ونتخيل أننا قد أدركنا هذا الكبر بوساطة أبصارنا.

الجواب

نحن لم ننكر في حديثنا الماضي أياً من هذه الحقائق العلمية وإنما كان حديثنا يرمي إلى شيء آخر وهو أن ما ندركه بإضافة العلاقات التصديقية وفكر المدرك فهو يشكل شيئاً واحداً ويوجد من هذا ما يطلق عليه صاحب الإشكال بالصورة الخيالية، وهذه الصورة الخيالية لا تنطبق عليها الخواص العامة للمادة في الوقت الذي تكون فيه هذه الظاهرة ذات خواص مادية حال وقوعها في النقطة الصفراء أو في المخ.

وعلاوة على هذا فإن هذه العلاقات التصديقية (إن هذا هو ذاك - إن هذا بهذا الشكل) لا تقبل الانقسام، ولو كانت هذه ظاهرة مادية وحالة في المخ لانقسمت بانقسام المخ.

ومن هنا فإننا لا نستطيع أن ننسبها إلى أشعة مجهولة ولا إلى أمواج غير مرئية، لأن هذه جميعاً أمور مادية ولها أحكام المادة.

إشكال

نحن لا نرى في الخط والسطح والجسم خواص المادة، وعدم رؤية شيء لا يعني أنه غير موجود. ونحن نرى أحياناً الخط والسطح والجسم بشكل شيء واحد متصل، وهذا يعني أننا نشاهد أجزاء المادة ولا نشاهد الفواصل (الفراغات)، ولا يعني كوننا قد رأينا أنه لا توجد فواصل وعندئذ نتخيل وجود أشياء ليس لها خواص المادة.

الجواب

لا كلام لنا في صحة هذا الحديث، ولكنه على العكس مما ينتظر صاحب الإشكال فإنه يؤدي إلى نتيجة لصالحنا فنحن نرى الخط والسطح والجسم بلا فراغات،إذن هذه الأشياء موجودة في إدراكنا بلا فراغات ( إن من جملة الإدراكات والتصورات الحاصلة للذهن إدراك الكميات المتصلة.

ويقال عادة لها في تعريف الكم المتصل هو تلك الكمية المرتبطة أجزاؤها ببعضها كالخط والسطح. ومن الواضح كون هذا لا يعني للكم المتصل أجزاءً بالفعل وهي متصلة ببعضها، وإنما المقصود منه أنه يوجد بين كل جزأين مفروضين حدّ مشترك وليس بينهما انفصال.

وهذا بخلاف الكميات المنفصلة التي لها أجزاء بالفعل وتكون تلك الأجزاء مستقلة عن بعضها ومنفصلة.

إذن الكم المتصل هو الشيء الواحد الذي له امتداد واتصال كالخط المستقيم والمنحنى والدائرة والسطح.

وتوجد في هذا اللون من الإدراكات ملاحظتان من الناحية الفلسفية لا بد من الالتفات إليهما:

أ-ما هو منشأ هذه التصورات ومن أين نشأت هذه المفاهيم؟

قالت مجموعة من الفلاسفة الأوربيين ممن يطلق عليهم اسم العقليين (وهم القائلون بأن بعض التصورات تنشأ من الفطرة ولا تنتهي إلى الحس)

إن منشأ هذه التصورات هو العقل. وتقول هذه الفئة: لما كانت النقطة (ذلك الشيء هو بدون بعد) والخط (ذلك الشيء ذو البعد الواحد) والسطح (ذلك الشيء ذو البعدين) لا وجود لها في الخارج، والموجود في الخارج إنما هو تلك الأشياء ذات الأبعاد الثلاثة وهي الأجسام، إذن منشأ هذه التصورات لا يمكن أن يكون هو الإحساس لأن الإحساس فرع كون المحسوس موجوداً في الخارج، وعلى هذا تكون هذه التصورات ناشئة بصورة مباشرة من العقل.

أما الفئة الأخرى فهم الحسيون (القائلون بأن جميع التصورات والإدراكات منتهية إلى الحس)

الذين يعتقدون بأن منشأ التصورات الرياضية أيضاً هو الإدراكات الحسية الخارجية. ويزعمون أن تصور النقطة والخط والسطح والدائرة قد حصل للذهن نتيجة لرؤية الأشياء في الطبيعة، ولكن تلك الأمور التي نشأ منها ابتداءً تصور هذه المفاهيم ليست هي المصداق الواقعي الدقيق وإنما هي نماذج ناقصة للذهن، ثم بعد أن يحيط الذهن بها علماً فإنه يصوغ بقدرته الفعالة النماذج الكاملة لها.

مثلاً عندما نرى سم الخياط (ثقب الإبرة) فإنه يصبح نموذجاً للعقل لكي يخترع تصور النقطة الحقيقية وعندما نشاهد خيطاً دقيقاً أو شيئاً مدوراً كالبدر في الليلة الرابعة عشرة فإن هذا يصبح نموذجاً للذهن ليبدع تصور الخط والدائرة بمعناهما الهندسي.

وما يقوله العقليون من أن تصور المفاهيم الهندسية لا يستند إطلاقاً إلى الإحساس فهو غير صحيح، ودليلهم على ذلك غير تام.

(وقد أثبت ذلك في الفلسفة في باب نسبة المقدار إلى الجسم)، ولكن هذا المقدار- وهو أن إدراك الكميات المتصلة لا يمكن بدون تدخل الذهن ونشاطه - فهو مورد اتفاق بين العلماء ولم يتردد فيه حتى العلماء الحسيون.

ب-سواء أقلنا أن المنشأ الأصلي لتصور الخط والتسطح والدائرة هو العقل أو الحس (كما في النزاع الماضي) فلا شك بأن هذه الأمور -بكيفياتها وخواصها التي ندركها- لا وجود لها في الطبيعة المادية، لا من جهة "إن الخط مثلاً له بُعد واحد والسطح له بعدان أما الوجود في الطبيعة فهو الجسم ذو الأبعاد الثلاثة" كما يقول العقليون الأوربيون،

وإنما من جهة كون الموجودات في الطبيعة (أعم من المادة المخية والمادة الخارجية) منقسمة ولها أجزاء ومفاصل، أما هذه الأمور في حيز الإدراك فهي متصلة، فنحن ندرك مثلاً الحد الفاصل بين سطحي المكعب بصورة خط ، والحد الفاصل بين جسم ما والفضاء الخارجي بصورة سطح، والرسم الناتج من حركة أحد طرفي الفرجار بصورة دائرة، مع إننا نعلم من القرائن العلمية القطعية إنه لا وجود للخط والسطح والدائرة بهذه الكيفيات في المجال المادي، بل لعله يقال أنه لا وجود للدائرة إطلاقاً في الطبيعة، إذن الأمور بهذه الخواص المعينة الموجودة في أذهاننا ليست مادية، والذهن هو الذي يصورها في مجاله الذهني أو الهندسي المتفاوت عن المجال المادي..

ونحن نرسم في أذهاننا خطوطاً وأشكالاً للمواضيع الهندسية ثم نصدر عليها أحكاماً ثابتة قطعية. فنحن مثلاً نرسم في أذهاننا دائرة أو مثلثاً ثم تصدر عقولنا الأحكام الخاصة بالدوائر والمثلثات بشكل يقيني وقطعي (تعتبر الرياضيات من أكثر العلوم يقينية) مع أن هذه الأحكام لا موضوع لها في الطبيعة المادية.

يقول فيلسين شاله في كتاب "معرفة المناهج"( methodologid) في فصل "أسلوب الرياضيات":

"إن الذهن يرسم الأشكال الهندسية في فضاء موهوم شبيه بالمكان المحسوس ولكنه ليس هو بعينه.

والمقصود من المكان المحسوس هو البيئة التي يجد فيها الإنسان الأشياء الخارجية، وهذه البيئة يدركها الإنسان البصير بوساطة عينية، أما الإنسان الأعمى فهو يدركها بوساطة اللمس وإعانة من السمع.

والمكان المحسوس دائماً مليء بالأشياء، ولما كانت هذه الأشياء مختلفة من حيث المقاومة فالمكان المحسوس يصبح غير متجانس ومحدوداً أيضاً لأن المسافة التي يمكن منها سماع الصوت أو الرؤية محدودة، أما الفضاء الهندسي فهو - على خلاف المكان المحسوس - بيئة فارغة متجانسة قابلة للقسمة إلى غير نهاية".


يتبع المقالة الثالثة وتعليق الشخ مطهري على كلام فيلسن شاله

تحياتي:وردة:
 
أعلى