أسس الفلسفة ج1 للشهيد مرتضى مطهري

الملف رقم 9

عضو بلاتيني
سؤال بسيط يتبادر الى الذهن ..

مالمشكلة التي يحلها علم الفلسفة ؟ ( ان صح تسميتها بعلم ) .

سواء في الجانب الديني ، او الدنيوي ؟

حتى يتضح السؤال ..

الطب يحل مشكلة الامراض

الحساب يحل مشكلة الارقام ..

الخ ..


تحياتي :)
 

خادم العترة

عضو مميز
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


نتابع معكم المقالة الثالثه وتعليق الشهيد مطهري على كلام فيلسين شاله :وردة:

وخلاصة هذا الحديث هي أن إدراكاتنا للكميات المتصلة لا تتطابق مع الخواص المعينة للمادة، إذن لابد أن نعتبر هذه الإدراكات غير مادية). وبعبارة أخرى نقول: أن صاحب الإشكال يؤكد على أننا نتخيل في مورد إدراك الخط والسطح والجسم وجود أمور ليس لها خواص المادة أي أنه في حدود التخيل قد وجدت أشياء ليس لها خواص المادة، وهذه الأشياء موجودة حقيقية، فالخطأ والصواب والخيال والحقيقة إنما هي مفاهيم نسبية وقياسية.

والصور الخيالية في أذهاننا عندما نقيسها إلى الخارج فإنها تعتبر خيالاً وإلا فأنها حقيقة من الحقائق إذا قصرنا النظر عليها بذاتها.

وما قلناه بالنسبة إلى المحسوسات بالحواس الظاهرة يصدق أيضاً بالنسبة إلى الأمور الروحية من قبيل الإرادة والكره والحب والعلم والتصديق (وباصطلاح المنطق الوجدانيات)، فنحن نلاحظ هذه الظواهر بوضوح في أنفسنا وهي تفتقد الخواص العامة للمادة من قبيل الانقسام والتحول فهذه الظواهر النفسية إذن ليست مادية أيضاً.

ويمتد هذا الحديث ليشمل فئة أخرى ليشمل فئة أخرى من الإدراكات (وهي الإدراكات العقلية الكلية باصطلاح الفلسفة)، لأن هذه المعاني الكلية تقترن بسلسلة من الخواص التي يمتنع وقوعها في المادة، ولو أنها كانت تنطبق بنحو من الأنحاء على المادة (مثل المفهوم الكلي للإنسان الذي يصدق على كل إنسان خارجي مع أنه لا يوجد إنسان في عالم المادة ينطبق على انسان، وإنما كل إنسان موجود في الخارج فهو لا ينطبق على أكثر من واحد).

إن هذه المعاني الكلية ثابتة ومطلقة وكلية، وليس هناك موجودات بهذه الصفات في عالم المادة، وكل ما عندنا في عالم المادة فهو شخصي ومتغير ومقيد. إذن هذه المجموعة من الإدراكات لابد من اعتبارها مجردة من المادة أيضاً.

برهان آخر

لو نظرنا إلى العلم بصورة دقيقة ووجدان صافٍ لوجدنا أن الصورة العلمية لا تتلاءم مع التغير، وبتعبير فلسفي فإن حيثية العلم غير حيثية التغير والتحول، ولما كان الموجود المادي هو عين التغير والسيلان فلابد أن نحكم سنخ العلم غير سنخ المادة.

وللتوضيح نذكر من حالات العلم والإدراك حالة المعرفة والتذكر فلو أدركنا شيئاً ما ثم عدنا لندركه مرة أخرى لعرفنا أن ما أدركناه في المرة الثانية هو بنفسه الذي أدركناه في المرة الأولى( إن موضوع قدرة الذهن على حفظ ما جاءه عن طريق الحواس (قوة الحافظة) ثم تذكر ذلك ثم تقييم هذا التذكر بأنه هو الذي قد أدركناه سابقاً أو ليس هو بعينه، ومعرفة أنه ليس إدراكاً جديداً-إن هذه المواضيع جميعاً تعتبر من أشد المسائل الروحية غموضاً ومن أكثر الأسرار خفاء.

والدقة الفلسفية في هذا الموضوع تقود حتماً إلى الاعتقاد بأن الجهاز الروحي والإدراكي فينا هو وراء الأعصاب والنشاطات العصبية، وعلى العكس من فرضيات الماديين فنحن لا نستطيع أن نعتبر الإدراكات من الخواص المعينة للمادة.

ولكي نهيئ أرضية صلبة للاستدلال نشرح أولاً كيفية هذا الاستعداد الذهني حسب ما يشعر به كل فرد منا حضوراً ووجداناً وحسب ما فصله علماء النفس، ثم نذكر النظريات العلمية والفلسفية العائدة إلى هذا الموضوع.

لاشك في أن الإنسان إذا أحس بشيء بوساطة إحدى حواسه فإنه يستطيع في المستقبل أن يستحضر في ذهنه ذلك الشيء من غير حاجة إلى الإحساس به من جديد.

فمثلاً لو لقي صديقه يوماً في مكان معين وأجرى معه حديثاً فإن خاطرة تترسب في ذهنه من هذا اللقاء والحديث وهو يستطيع- في كل وقت يحب- أن يستعيد ذلك اللقاء والحديث وأن يستحضر تلك الصور والكلمات في ذهنه مع التفاته إلى أن هذه الخواطر الفعلية ليست متوهمة ولا من اختراع ذهنه وليست إحساساً جديداً أيضاً، أي أن ذلك اللقاء والحديث لم يتجدد مرة أخرى، وإنما هذه الخواطر تتعلق بذلك اللقاء والحديث الذي تم في الماضي.

أما علماء النفس فهم يقولون أن ذهن الإنسان يجتاز أربع مراحل منذ يقع ذهنه تحت تأثير العوامل الخارجية للإحساس وحتى استحضار ذلك الشيء في الزمان اللاحق دون تأثير العوامل الخارجية للإحساس مرة أخرى:

أ-مرحلة الإحساس الابتدائي:

أي أن الشيء لابد من الإحساس به أولاً حتى يستطيع الذهن أن يحتفظ به ويتذكره، ومن البديهي أن الشيء إذا لم ترد صورته إلى الذهن من الخارج فإن التذكر عندئذ لا معنى له.

ب-مرحلة الحفظ:

فالصورة الواردة إلى الذهن إذا لم تترك فيه أثراً (أو لم تبق فيه) فليس من الممكن أن تحضر في الذهن من جديد دون تأثير العوامل الخارجية.

ج-مرحلة التذكر:

أي الالتفات إلى تلك الخاطرة الماضية أو إحضار الماضي في صفحة الذهن.

د-مرحلة التشخيص:

أي تمييز هذا التذكر وإنه بنفسه ذلك الماضي وليس إحساساً جديداً ولا تخيلاً وهمياً.
أما النظريات والفرضيات العلمية فهي تتعلق بالمرحلة الثانية من هذه المراحل الأربع وهي مرحلة الحفظ.

وهي تشرح حال الصور المدركة في الفترة التي يغفل عنها الذهن وبأية صورة هي تُحفظ فبالنسبة إلى المثال الماضي نتساءل: ما هو حال صورة اللقاء والحديث بعد لقائهما وانتهاء الحديث في الفترة التي يكون فيها الذهن غافلاً عنها؟

وكيف تحفظ هذه بحيث نستطيع أن "نتذكرها" في المرحلة الثالثة وأن "نقيمها" في المرحلة الرابعة؟

هذه بعض النظريات المهمة في هذا المضمار:

كان بعض الحكماء اليونانيين القدماء أن صورة ترتسم في الذهن من الشيء المدرك وتبقى تلك الصورة في المخ وليس لهذه النظرة مؤيدون في عصرنا الحاضر. وهي مردودة من جهات عديدة.

يقول ديكارت: إن التأثيرات الابتدائية توجد خطوطاً في المخ وكلما مرت الروح على هذه الخطوط فإنه يوجد تأثير يشبه التأثير الأول.

وتكون الروح حسب هذه النظرية موجوداً مستقلاً بذاته عن البدن، والشيء الوحيد المتبقي من الإدراكات هو تلك الخطوط المخية.

ويرفضون هذه النظرية الفلاسفة الروحيون والفلاسفة الماديون.

وهناك نظريات أخرى ليست مهمة، ولهذا فنحن نهمل ذكرها ونقصر الحديث على ذكر نظريتين إحداهما تقول بكون الحافظة شيئاً مادياً وقد اختارها ماديوا عصرنا الراهن وشرحها أتباع المادية الديالكتيكية،

والأخرى تقول أن الحافظة ليست أمراً مادياً وذلك حسب الأسس الخاصة لمذهب صدر المتألهين الفلسفي، وسوف نتناول ضمن هذا الحديث الإشكالات التي ترد على النظرية القائلة بمادية الحافظة ونحن نبين هاتين النظريتين تحت عنوان "النظرية الروحية" وعنوان "النظرية المادية".

النظرية الروحية:

يعتبر أصحاب هذه النظرية الإدراكات من النشاطات المباشرة للنفس (وهي جوهر غير مادي) ويعتبرون الأعمال العصبية مقدمة لوجود هذه الإدراكات فقط.

وحسب هذه النظرية تكون نسبة الإدراكات إلى النفس كنسبة الفعل إلى الفاعل، وبالاصطلاح الفلسفي فإن لهذه الإدراكات إلى قيام صدور وليس قيام حلول، وتبقى هذه الصور الإدراكية بنفسها في ناحية من النفس. والتذكر إنما هو الالتفات تلك الصورة الأولى.
وحسب هذه النظرية فإن الصور الإدراكية الأولى تحفظ بنفسها ثم تُتذكر وتُقيم.

النظرية المادية:

إن أصحاب هذه النظرية (وإن كانوا لا يستطيعون إبداء الرأي بشكل قاطع) يقولون: على العكس من النظرية السابقة فإن الإدراكات الأولى لا تحفظ بعينها لأن الإدراك عبارة عن نشاط الأعصاب، ولا يمكن أن يكون للأعصاب نشاط مستمر بالنسبة إلى شيء واحد، أي إن نشاط الأعصاب يتجه في كل لحظة إلى شيء خاص، وما دام الشيء غير متوجه إليه فمن المؤكد كون السلسلة العصبية لا نشاط لها بالنسبة إلى ذلك الشيء، إذن في حالة عدم التوجه لا توجد الخاطرة المدركة بصورة إدراك ولا يمكن أن تكون كذلك.

ويزعم هؤلاء العلماء أن الشيء إذا أدرك مرة واحدة فهو يترك أثراً في نقطة معينة من المخ، فمثلاً تظهر خلية أو أكثر، وكلما أثيرت تلك النقطة وهيجت بتأثير أحد العوامل الخاصة (كالإرادة وغيرها) فإن الأعصاب تبدأ نشاطها من جديد وتولد الإدراك الأول مرة أخرى.

ففي المثال السابق ما دام الإنسان غير ملتفت إلى اللقاء والحديث مع الصديق فإن ذلك غير موجود في الذهن بشكل خاطرة إدراكية، وإنما يوجد منها أثر فقط في نقطة معينة من المخ، وفي أي وقت تهيج هذه النقطة فهي تبعث على توليد تلك الخاطرة مرة أخرى، ويتخيل هذا الشخص أن هذه الخاطرة قد بقيت محفوظة طيلة هذه الفترة.

وعلى هذا يصبح التذكر- حسب هذه النظرية- توليداً جديداً، وهذا مخالف للنظرية الأولى التي لا تعتبر التذكر توليداً جديداً.

ولإلقاء الضوء يشكل أكبر على نظرية الماديين في موضوع مادية الحافظة ننقل شيئاً من أقوالهم:

يقول الدكتور الآراني في كتاب "يسيكولوجي" ص117:

"لابد من الالتفات في عمل الحافظة إلى أنه: كيف يثبت التأثير أو الإحساس في الروح؟ وكيف يولد مرة أخرى؟ وكيف تجسم الروح قضية حدثت في الأزمنة الغابرة؟".

ويجيب على هذه الأسئلة في الصفحة (118) قائلاً:

"يقال إن قنوات ارتباط توجد بين القضايا، وتبقى هذه القنوات في المخ... ووجود هذه القنوات هو الذي يبقى القضايا في الذاكرة، وتهييجها هو الذي يبعث على تذكر تلك القضايا مرة أخرى".

ويقول في الصفحة (116) بامتعاض وتردد:

" ليس من المعروف كيفية بقاء ارتباط الحافظة بالروح مدة طويلة، وكيف يستطاع توليد قضية معينة في الروح مرة أخرى. ولكنه يمكن معرفة أن الشخص في حال تذكر القضايا يُحْدِث تغييراً في مخه بصورة إرادية، ويشمل هذا التغيير حالة ضغط الدم ودرجة الحرارة والعوامل الفيزيائية الأخرى".

وحسب النظرية المادية يصبح جهاز المخ مثل جهاز التسجيل الذي يحفظ الصوت على صفحة الشريط. فكما أن الشريط المغناطيسي له خاصة حفظ الكلمات التي تلقى أمام اللاقطة، أي أن الكلمات تترك أثراً في نقاط خاصة من الشريط فإذا هُيّجت تلك النقاط بعوامل فنية خاصة فإنها تولد صوتاً مماثلاً تماماً للصوت الذي صدر أمام اللاقطة.

والصوت ليس باقياً بشكل مستمر وبحالته الصوتية في الشريط وإنما توجد حالته الصوتية فقط عند تهييج تلك النقاط الخاصة. والمخ أيضاً كذلك فإذا أثرت العوامل الخارجية على سلسلة الأعصاب فإنها تولد رد فعل، ورد الفعل هذا ليس إلا خاصة الإدراك، ثم يبقى من ذلك أثر في نقطة معينة من المخ ولسنا نعرف لحد الآن كيفية هذا الأثر، والذي نعرفه فقط هو أن الإدراك ليس موجوداً بشكل إدراك في حالة عدم الالتفات وعدم نشاط المخ بالنسبة إلى ما أدركه سابقاً.ولكنه في أي وقت تهيج فيه تلك النقطة المعينة فإن الإدراك الأول يولد مرة أخرى.

وترد على هذه النظرية إشكالات مهمة نذكر منها:

أ-حسب هذه النظرية فإنه لابد أن نخصص لكل مفهوم ذهني خلية واحدة أو أكثر، وهذا مرفوض لعدة أسباب:

أولاً: من البديهي أننا عندما ندرك أو نتذكر أحد المفاهيم فإن الخلايا تعمل جميعاً وليس خلية واحدة أو عدة خلايا. فمثلاً عندما ننظر إلى شيء فإن خلايا البصر تعمل جميعاً، وإذا نظرنا إلى شيء آخر فإن تلك الخلايا بنفسها تعود لتعمل مرة أخرى، وهكذا الحال عند التذكر والسماع وغيرهما.

ولورود مثل هذا الإشكال فقد تردد الماديون أنفسهم في صحة هذه النظرية، فقال الدكتور الآراني في صفحة (100) من كتاب "يسيكولوجي":

"إن الروح تستطيع في كل وقت أن تولد الصور المجسمة، فهي تستطيع مثلاً أن تجسم رجلاً أو كلباً بجميع أو أغلب صفاته. ولم يستطع العلم لحد الآن أن يبين كيفية توليد هذا الشكل المجسم في الروح. وتوجد في هذا الباب عقائد متباينة. مثلاً لو فرضنا أنه بعد رؤية كلب معين تستعد خلايا معينة من المخ لتوليد كلب مجسم فلابد في هذه الحال من تخصيص فئة معينة من الخلايا لكل شيء، وهذا الأمر مشكوك فيه لأن عدد الخلايا حينئذ سوف لن يكفي تلك الأشياء التي لا تعّد ولا تحصى".

ثانياً: إذا فرضنا أن خلية واحدة أو عدة خلايا تتأثر عند رؤية أو سماع شيء ما، وخلية أو عدة خلايا تتأثر عند رؤية أو سماع شيء آخر فإذا تكرر سماعنا أو رؤيتنا لذلك الشيء الأول فلماذا لا تتأثر خلايا أخرى وإنما تتهيج تلك الخلايا التي تأثرت أولاً ويتحقق لتذكر؟

ب-من خواص الحافظة -كما مر علينا- التقييم، وهو النظر إلى هذا التذكر على أساس أنه بنفسه ذلك لإدراك الأول وليس إدراكاً جديداً وليس وهماً ولا معنى له أيضاً.

ولا ينسجم هذا مع كون الحافظة مادية، لأنه إذا فرضنا إن المخ بالنسبة إلى الإدراكات مثل جهاز التسجيل فلابد أن يتصف بهذه الصفة وهي أنه متى ما هيجت فيه تلك النقطة الخاصة فهو يولد إدراكاً يشبه الإدراك الأول من جميع الجهات كما يولد جهاز التسجيل صوتاً يشبه تماماً الصوت الأول وليس هو بعينه، بينما نحن نعلم-حضوراً ووجداناً- أن لذهننا خاصة التقييم أي أنه يحكم بأن هذا هو ذاك وليس توليداً جديداً ولا فعلاً جديداً .

وملخص هذا الإشكال أننا لا نستطيع أن نقبل كون الحافظة مادية وذلك لأننا ندرك أن قوة الحافظة تتصف بالعينية أي أن ما نتذكره هو عين ما أدركناه سابقاً.

ج-يتغير المخ بكل محتوياته وهو دائماً في معرض التحول والتبدل، والمادة المخية تتغير عدة مرات بكل محتوياتها خلال الفترة التي يعيشها الإنسان لمدة سبعين عاماً مثلاً وتحل محلها مادة أخرى، بينما تبقى الخواطر النفسية ثابتة وغير متبدلة سواء أكانت "تصورات" مثلما لو رأينا صديقاً في أيام طفولته أو تذكرنا معلماً فارقناه منذ أنهينا المرحلة الابتدائية، أو كانت "تصديقات" كما لو سمعنا في المرحلة الابتدائية بأن أرسطو كان تلميذاً لأفلاطون وقد أذعنا لذلك (وهذا هو التصديق بالمعنى المنطقي).

وخلاصة القول فإن كل التصورات والتصديقات السابقة باقية على حالها ولو كانت هذه حالة في المادة لتغيرت بتغيرها قطعاً.

وأما مثال الصورة المنعكسة في الماء الجاري الهادئ المذكور في المتن منسوباً للماديين فهو ليس إلا مثالاً شاعرياً،لأننا نرى تلك الصورة ثابتة بسبب كون الصورة ثابتة في الخيال، ولو فرضنا أنها غير ثابتة حتى في الخيال لما أمكننا أن نتخيلها ثابتة.

وخلاصة هذه الأشكال إننا لا نستطيع أن نقبل كون الحافظة مادية وذلك لأن من خواص قوة الحافظة ثبات الإدراكات الذهنية.





نتابع معكم ان شاء الله المقالة الثالثة ودليل الماديون على ان الذاكرة مادية :وردة:
 

خادم العترة

عضو مميز
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


نتابع معكم المقالة الثالثة وأدلة الماديين على أن الذاكرة مادية :وردة:

وأهم دليل يتمسك به الماديون لإثبات كون الذاكرة مادية هو أننا نشاهد عملياً كون الحافظة مرتبطة ببعض أقسام المخ. وصحيح أن كثيراً من الأعمال الروحية من قبيل الحافظة لم يعيّن مكانها بدقة فيه ولكنه من المقطوع به أن الذاكرة تنعدم باختلال بعض أقسام المخ.

إذن يعرف من هذا أن الحافظة من خواص التكوين المادي للمخ.

ويمكن أساساً دعم هذه النظرية بطريقتين:

أولاً: عروض النسيان:

لاشك أن كل إنسان بل وحتى الحيوان أيضاً مع التفاوت يعرض له النسيان، ولا يوجد إنسان يتذكر كل حوادث حياته، ولو كانت الذاكرة غير مادية لم يكن هناك معنى للنسيان لأن النسيان هو زوال الصور الإدراكية من صفحة الذهن، ولو كان للروح وجود مستقل عن البدن وكانت الصورة الإدراكية معلومة للروح وغير مادية لوجب أن تكون تلك الصور باقية دائماً لأن علتها وهي الروح المجرد باقية كما يعتقد الروحيون، وكل معلول يتبع علته في البقاء. أما علة النسيان حسب النظرية المادية فواضحة، وهي تلك التغييرات الحاصلة في المادة العصبية فيهم .

يقول الدكتور الآراني:

"قدرة الحافظة في كل شخص منوطة بقدرة مادته العصبية على حفظ التغييرات فكلما استطاعت أن تحفظ التغيير بصورة أفضل فإن قدرة الحافظة تزداد".

ثانياً: عروض الأمراض للحافظة في أثر بعض الاختلافات الحاصلة في المخ:

فكثيراً ما يقع أن يفقد الإنسان كل ذكرياته الماضية أو قسماً منها في أثر مرض يصاب به أو في أثر ضربة قوية توّجه إلى مخه.فبعض المصدومين في الحرب من الذين أصيبوا في رؤوسهم وجماجمهم لم يستطيعوا بعد تماثلهم للشفاء أن يتذكروا أسماء آبائهم وأمهاتهم ومدنهم وحتى أسماءهم. إذن نعرف من هذا أن الحافظة شيء مادي ولذلك فقد ذهبت في أثر وقوع الاختلال في المخ.


وجوابنا على هذا الاستدلال بأننا نقصد بقولنا "الحافظة ليست مادية" أن الصور الإدراكية تحفظ فيما وراء المادة، أما التذكر الذي هو عبارة عن إحضار الصور الإدراكية في الصفحة الظاهرة للذهن فهو لون من ألوان "الفعل"، وقد أثبت في الفلسفة أن الروح في أفعالها تحتاج إلى المادة وتستخدمها بعنوان كونها "آلة للفعل".

وعلى هذا فالنسيان الحاصل نتيجة لطول المدة في الحالات الاعتيادية أو الحاصل بسبب الإختلالات المخية لا يعني أن الخواطر الذهنية قد انعدمت من أساسها وإنما يعني أن (تذكرها) لأن "آلة الفعل" قد انعدمت.

يقول برجسون-حسب ما ينقل ذلك المرحوم فروغي-:

"الفرق بين الحافظة والذاكرة أن الحافظة هي التي تحتفظ بصور الأشياء والمعاني وهي ليست أمراً مادياً ولا من خواص المخ، بل على العكس من ذلك فالمادة تحجب الحافظة وتسبب النسيان. أما الذاكرة فهي عمل المخ. فصور الأشياء والمعاني محفوظة دائماً في الحافظة . والذاكرة قوة تنبعث من المخ في أوقات محددة وبأسباب معينة فتكشف ذلك الستار ويتذكر الإنسان ما سُجّل في الحافظة. والذاكرة عمل والعمل من وظائف الجسم. والمخ الذي الذاكرة صورتها إنما هو جزء من الجسم، ولكن الحافظة مخزن للصور، والصور ليست ذوات وإنما هي معانٍ والمعاني لا تحل في مكان".

والدليل على أن الصور الإدراكية لا تنعدم بسبب طول المدة أو الإختلالات المخية وإنما تفقد الروح قدرتها فقط على التذكر وإحضار تلك الصور لأنها تحتاج إلى المادة هو أن التجارب النفسية المتعددة قد أثبتت أنه في الحالات غير الطبيعية أو بالضغوط غير العادية التي تسلّط على الروح يتذكر الروح كل الحوادث الماضية التي كان قد نسيها.

ويعتبر هذا الموضوع من المسلمات في علم النفس الحديث. ونكتفي هنا بنقل كلام الدكتور الآراني الذي يعدّ أحد الماديين القائلين بأن الروح خاصة من خواص المادة، يقول في الصفحة (117) من كتاب "يسيكولوجي":

"ألم يعلم لحد الآن بصورة قطعية أن القضايا التي تحدث في الحياة بصورة متوالية أهي ثابتة وباقية في الروح أم لا؟

فنحن نلاحظ من ناحية أن أغلب القضايا الجزئية في الحياة قد نسيناها تماماً بحيث أن بعضها لا نستطيع أن نولده في الروح مرة أخرى أي نحن لا نستطيع أن نتذكره، ولكنه من ناحية أخرى تشير التجارب المتعددة في الحالات غير الطبيعية ( كما في التنويم المغناطيسي hypnose) ( إلى أن الأشخاص المدمنين على المخدرات والأشخاص المشرفين على الموت بسبب الجوع وغيرهم عندما يزول ذلك العامل غير الطبيعي فإن هؤلاء الأشخاص يعلنون أنهم قد تذكروا قضايا بَعُدَ العهد بها وحدثت لهم في مراحل حياتهم الأولى".

ويعلن جماعة من العلماء أيضاً أن الإنسان في حالة الاحتضار يتذكر كل الحوادث التي مرت عليه طيلة فترة حياته.

وبهذا تكون الدراسات العلمية قد تركت الباب مفتوحاً لاحتمال استحضار الروح- بعد مفارقته للبدن- كل الحوادث الضخمة والتافهة وكل الأعمال الطبية والرديئة التي مرت عليه خلال الحياة. وهذا هو بنفسه ما كان يعلنه الفلاسفة الإلهيون منذ قرون متطاولة) .

وهكذا الشيء الذي أدركناه ثم نسيناه أو غفلنا عنه ثم تذكرناه بعد ذلك فإننا نلاحظ إن ما تذكرناه الآن هو بنفسه الذي أدركناه سابقاً، مع أن ما أدركناه في الحالتين لو لم يكن واحداً حقيقياً ولو لم يكن له ثبات وبقاء مما يحافظ على العينية لما كان هناك لتحقق المعرفة والتذكر. ونحن نعلم أن لدينا معارف وتذكرات قد يناهز عمرها السبعين عاماً أو أكثر أو أقل وفي خلال هذه السبعين من الأعوام قد تغيرت -عدة مرات- أعصابنا ومخنا بكل ما تحتوي من مادة.

إشكال

ويجيب العلماء الماديون على هذا الدليل بأن التغير والتبدل الحاصلين في المخ إنما هما دقيقان وقد حصلا بالتدريج ولا يستطيع الإدراك أن يستوعبهما، ومن ناحية أخرى فإن الجزء الجديد يحل محل الجزء القديم بمنتهى السرعة، ويتخذ الجزء الجديد لنفسه مثل الخواص التي كانت لذلك الجزء القديم بحيث لا يستطيع أن يتابع ذلك إدراكنا، ومن هنا فهو يتخيل إن الجزء الجديد هو بنفسه الجزء القديم وهذا يشبه ما لو نظرنا إلى صورتنا منعكسة في ماء صاف يسير هادئاً فإننا نتخيل أن صورتنا في الماء ثابتة، بينما نحن نرى- في الواقع- في كل لحظة صورة جديدة ولكننا لا نلاحظ ذلك. ولا بد أن نتصور تبدل المدركات بهذا الشكل بعينه.

جوابه

نحن- كما ذكرنا في جواب الإشكالات الماضية - لا نريد أن ننكر حدوث الأعمال الفيزيائية في المخ ولا نريد أن ننفي التحول ولا التغيير في الماديات، وإنما نركز الحديث حول مفهوم هذه الجملة (نحن نتخيل أن هذا الجديد هو بنفسه ذلك القديم) ونقول إن هذه الوحدة المتخيلة بين الجديد والقديم لا تتلاءم مع كون الإدراك مادياً.

ويحتمل أن يكون أن يكون هذا الإدراك خطأ إذا قسناه إلى الخارج ولكنه لا يمكن أن يكون خطأ إذا نظرنا إليه بحد ذاته أي بما أنه صورة خيالية.

وبناء على قول هؤلاء العلماء الماديين فإنه لا يمكن أن يتحقق التصديق (المقابل للتصور) لأن الذهن بمجرد أن يفرض الموضوع ثم يذهب إلى المحمول ليحمله على الموضوع فإنه سيجد الموضوع قد ذهب وحل محله موضوع جديد آخر، وعندئذ يمتنع الحمل وتبطل كل قضية.

وبالإضافة إلى هذا فإنه لا يرتبط أي جواب بأي سؤال، ولا يرتبط أي إبطال بأي إثبات، ولا أي ذيل بأي صدر. والوجدان السليم لا يذعن أبداً لهذا اللون من التشكيك ولا يقر هذا النوع من السفسطة.

إشكال

قد يقال إن ذهننا وفكرنا له خاصة التحول والتغير وهكذا مدركاتنا (الصور العلمية) لأن أصل الجميع هو المادة وهي في تغير وتحول دائمين، ولكن لما كانت المادة هي الأصل لهما معاً فالتغير الحاصل فيها من حيث السرعة والحركة حاصل فيهما أيضاً بنفس السرعة والحركة، ومن هنا فنحن نتخيل مدركاتنا (الصور العلمية) ثابتة. وهذا يشبه ما لو تحرك جسمان بحركتين متشابهتين من حيث السرعة والجهة فإن هذين الجسمين سوف لن يتغير موقع أحدهما من الآخر ويظلان في حالة ثابتة.

وجوابه

إن حديثنا عن هذا الظن والتصور هو نفس حديثنا السابق. وعلاوة على ذلك فإننا نضيف- بخصوص هاتين الحركتين المتشابهتين- إن هذا السكون النسبي إن لم يكن له واقع فهو على مستوى التخيل ثابت وإن قلنا إن له واقعاً إذن ثبت إن في العالم الخارجي موجوداً ثابتاً ليس له خاصة التغيير التي للمادة. وهذا إشكال على الماديين أنفسهم وليس موجهاً إلينا.

ويعود الماديون ليقولوا لا يوجد في العالم الطبيعي تأثير من طرف واحد كما أثبتت ذلك التجارب العلمية، فكل مؤثر يحتاج إلى متأثر له دخل في وجود الأثر فيكون هذا مؤثراً أيضاً من هذه الجهة، فالأثر إذن قد حصل بمشاركة طرفين. وهذا الوليد قد وجد من مجموع الأب والأم (المؤثر والمتأثر) الماديين.

ومن هذا نعلم أن الإدراك الحسي أيضاً يحصل نتيجة للتأثير المتبادل بين المادة الخارجية وسلسلة الأعصاب أو المخ فيما نشاهده لدى الموجودات الحية ولا سيما الإنسان. ولما كان تأثير الأعصاب والمخ لا معنى له بدون وجود المادة الخارجية، وتأثير المادة الخارجية لا معنى له بدون تأثر الأعصاب والمخ، وكذلك التأثير والتأثر الحاصلان بين المادة الخارجية والأعصاب والمخ لا معنى لهما بدون ظهور أثر مادي في سلسلة الأعصاب والمخ (وكل منهما تركيب خاص من المادة)، والعكس صحيح أيضاً، إذن يصبح الإدراك الناتج من التأثير والتأثر خاصة من الخواص المادية التي تظهر في المخ.

ولما كان المخ يتمتع بميزة التوليد ويستطيع أن يتأثر بفكره (وليس الفكر إلا خاصة مادية جديدة، وهذا التأثير الثاني يحدث بشكل جبري نتيجة لـتأثير الطبيعة والبيئة) فهو إذن يستطيع أن يولد الأفكار الجديدة التي لا تستطيع الأعصاب أن تكتسبها من الخارج. وهو يستطيع أن يصل العلم بالعلم، وأن يوجد المعلومات الروحية والمعنوية والقوانين الكلية من قبيل اكتشافه لقانون العلة والمعلول، وأن يحول المعلومات الحسية من إحدى الحواس إلى الأخرى.
هذه أقسام مختلفة من الأفكار والإدراكات التي تولد في المخ متعاقبة وليس لها من هوية سوى تلك الخاصة المادية التي يتركب منها المخ.

الجواب

نحن لا نريد أن ننكر شيئاً مما ذكرتموه (وهو أن الإنسان في أثناء الإدراك يقوم ببعض الأعمال الفيزيائية)، ولكننا نلفت النظر إلى المثال الذي أوردناه في مطلع هذه المقالة (وهو مثال الصورة التي تحكي نزهة عائلية) وإلى الرؤيتين اللتين يستطيع الإنسان أن ينظر بهما إلى تلك الصورة. فالرؤية الأولى تنقل الإنسان إلى ما خلف الصورة من واقع، والرؤية الثانية تحبس الإنسان على مشاهدة النقاط السود والبيض المتناثرة على صفحة الورقة ثم نتساءل:

مع أية رؤية من هاتين ينسجم هذا الذي ذكرتموه أخيراً؟

إنه ينسجم مع الرؤية الثانية، ولكن تلك الرؤية لا تنطبق على حقيقة الفكر والإدراك. أما الرؤية الأولى التي تنطبق على حقيقة الفكر والإدراك فهي لا تنسجم مع حديثكم .

والغريب أن هؤلاء العلماء الماديين قد نسوا محل النزاع (وليس هذا النسيان بعيداً عن التناسي المقصود) وهم يجّرون الخصم إلى النزاع فيما هو مسلم بين الجميع.(ليرجع القارئ إلى التعليقة الموجودة في الصفحات (115-120)

ولا يريد أحد أن يقول بأنه أثناء حصول الإدراك لا توجد في الإنسان تلك الخواص المادية المتعلقة به. ولا يقصد أحد أن الأحياء - ومن جملتها الإنسان - لا تستعمل المخ والأعصاب أثناء تفكيرها وإدراكها (والقائلون ببقاء النفس بعد مفارقة الجسم واستمرارها في إدراكها لا يريدون المساس - من قريب ولا من بعيد- بهذا الذي ذكر كما سوف يأتي إن شاء الله)، ولكن الحقيقة أنه لا يمكن التغافل أيضاً عن كون إدراكاتنا الواسعة وأفكارنا العميقة ليس لها شيء من الخواص الضرورية للمادة من قبيل: الأجزاء، الانقسام، التحول، التشخص، وحينئذ كيف نستطيع اعتبارها مادية؟

ألسنا نثبت كل حقيقة بوساطة خواصها الضرورية؟

وبغض النظر عن هذا نقول: إذا كان فعلاً ما ندركه ليس إلا هذه النقاط السود والبيض في الصورة (حسب الرؤية الثانية) والمنعكسة في طبقات المخ وشعيرات الأعصاب فكيف استطعنا أن نجد الواقع الخارجي فيها؟

وكيف استطعنا أن نحيط علماً بذلك الواقع الخارجي (قد مرّ علينا هذا الموضوع في نهاية المقالة الثانية ص102 -106. وعرفنا أن النظرية المادية تدعى أن العلم والمعلوم متباينان في الوجود والماهية. وفرضوا رابطة وحيدة بين العلم والمعلوم وهي رابطة التوليد. وذكرنا هناك أن هذه النظرية مثالية محضة لأن الكاشفية - التي هي صفة ذاتية للعلم- تسلب منه، وبسلب هذه الصفة عن العلم لا يبقى لنا أي سبيل لإثبات العالم الخارج عن الذهن. وأما تصور الماديين أنهم يستطيعون إثبات العالم الخارجي عن طريق اعتبار الإدراكات وليدة التأثيرات الخارجية فهو تصور مخطئ لأن إثبات الخارج فرع كوننا نستطيع تصوره واستحضاره في أذهاننا حتى نستطيع أن نحكم بأن هذا الشيء الذي تصورناه موجود في الخارج، وإذا بنينا على أن كل ما يظهر في الذهن فهو غير الواقع الخارجي من جميع الجهات فسيصبح من المستحيل أن ينعكس الواقع الخارجي في الذهن. وملخص الكلام فإن الفرضية الخاطئة للماديين في باب حقيقة العلم والإدراك تؤدي إلى أنه ليس هناك أحد على الإطلاق يستطيع أن يدرك الواقع الخارجي

فلو أن الإنسان لم يكن قد شاهد من قبل ما تحكيه تلك الصورة في الواقع ثم نظر إلى هذه النقاط السود والبيض في الصورة فإن ذلك ليس كافياً لينقل الناظر للصورة إلى ما تحكيه من واقع.

ونتابع معكم المقالة الثالثة والاشكال المطروح :وردة:

ملاحظة قد وصلنا إلى الصفحة 145 من الكتاب
 

خادم العترة

عضو مميز
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نتابع معكم :وردة:

إشكال

يقول هؤلاء العلماء نحن مضطرون للاعتراف بالمغايرة بين العلم والواقع الخارجي حسب القانون الآتي: هو (أ)، والجزء المتأثر من المخ بالمعلوم هو (ب)، فالأثر الذي هو الفكر والإدراك سيكون مساوياً لـ (أ+ب)، ولا يساوي (أ) وحده ولا (ب) وحدها.

الجواب

إذا فرضنا أن المعلوم هو (أ)، والجزء المتأثر هو (ب)، والأثر المادي المفروض هو (ك)، والصورة العلمية هي (ج)، فهذا القانون لا يكون صحيحاً إلا إذا أثبتنا أن (ج=ك)، وفي غير هذه الصورة لا تصبح له أية قيمة.

ونستطيع أن نعبّر عن هذا باللغة الفلسفية فنقول أن الموجود الذهني والموجود الخارجي متحدان في الماهية مختلفان في الوجود، والشيء المستحيل هو اتحاد موجودين مستقلين في الوجود، وليس مستحيلاً اتحاد وجودين في الماهية مع اختلافهما في الوجود فأحدهما له وجود خارجي هو منشأ للآثار والآخر له وجود ذهني (غير خارجي) ليس منشأ للآثار.

إشكال

صحيح أن الصورة العلمية أو الفكر والإدراك ليس لها بعض خواص المادة كالانقسام والتغير، ولكنها تتصف ببعض خواصها الأخرى، فأفكارنا وإدراكاتنا- مثلاً -زمانية، وهذه الصفة من خواص المادة.

الجواب

لقد تفوه بهذا الكلام أيضاً بعض علماء النفس، ولما كان هؤلاء غير متعمقين في دراسة الزمان فهم قد تورطوا في هذا الاشتباه (في الغالب يذكر علماء النفس أن الأمور الذهنية ليست مكانية أي أنها لا يمكن أن يفرض لها مكان معين في نقطة خاصة من المخ فيقال مثلاً أن القصة الكذائية التي أتخطرها أو القصيدة الفلانية التي أحفظها توجد في النقطة الفلانية من المخ. فهذه الأمور الذهنية إذن ليست مكانية ولكنها زمانية لأن ظهورها واختفاءها يتمان في زمان معين.

ومن الواضح أن في هذا التعبير تسامحاً، والأدق منه نظرية صدر المتألهين الفلسفية حول الزمان وقد أُديّت بإسلوبه الفلسفي الخاص مدّعمة بالبراهين الفلسفية العميقة، وتشهد لصحتها النظريات العلمية المعتمدة في هذا العصر عند العلماء الغربيين وهي تتضمن كون الزمان والتغيير مترافقين، وإن هذين منتزعان من جوهر الأمور المادية الطبيعية، ولا يمكن تصور واقع مادي غير متغير أو غير زماني، ولا متغير غير زماني، ولا زماني غير متغير، وبالتالي فلا يمكن اعتبار التغيير (الحركة) والزمان خارجين عن حقيقة وواقع الأمور المادية الطبيعية، وبتعبير صدر المتألهين فإن أحد مشخصات كل موجود مادي هو الزمان، ذلك الزمان الذي وجد فيه وطرأت عليه التغييرات أثناءه.

أما العلماء الغربيون المعاصرون فهم يعبرون عن ذلك بقولهم: كل شيء مادي فله أربع ميزات: الطول والعرض والعمق والزمان، وعلى هذا فإذا أثبتنا أن موجوداً ما ليس فيه تغيير فقد ثبا ضمناً أنه ليس مادياً ولا زمانياً. ولما كنا قد أثبتنا كون الإدراكات ثابتة ودائمة وليس فيها تغيير إذن فقد ثبت ضمناً أنها ليست زمانية).

فالزمان هو مقدار الحركة (كما سيتضح في المقالات الآتية).

وبعبارة أخرى: فنحن نطلق الزمان على تلك الحركة المأخوذة بسرعة وبُطئ معينين وقد اتخذت مقياساً لسائر الحركات. فالزمان إذن لا يمكن أن يكون بدون حركة، والحركة لا يمكن أن تتحقق بدون مادة، والمادة لا توجد بدون خواصها الضرورية.

ولو كان إدراكنا شيئاً مادياً للزم أن تكون له خواص المادة الأخرى. والذي يتصور أن الإدراك (الفكر) زماني فهو يخلط بين العمل الفيزيائي الذي يتم في المخ وحقيقة الإدراك "الفكر" (والعلماء الماديون أيضاً متورطون دائماً في هذا الخلط).

فالصورة العلمية التي تكتسبونها في ساعة معينة من الزمان عن طريق الحواس يرافقها ظهور أثر مادي في سلسلة الأعصاب أو المخ، وهذا الأثر لا يمكن أن يوجد قبل ذلك الزمان المعين ولا بعده، ولكن حقيقة ذلك الإدراك ليست مقيدة بذلك الزمان المعين. ويشهد لذلك أننا نستطيع أن ندرك تلك الصورة بعينها في أزمنة مختلفة، مع أن الموجود الزماني لا يبقى على حال واحدة في زمانين مختلفتين.

إكمال لأصل الموضوع

ما قلناه بالنسبة الإدراكات المتعلقة بالحواس والمخ من أنها غير مادية يمتد ليشمل شيئاً آخر وهو العلم بالنفس (جرى البحث لحد الآن حول الأمور المسماة بالخواص الروحية من قبيل الإدراكات الحسية والخيالية والعقلية والإرادة والحب والكره والبغض والحكم والتصديق وغيرها، وثبت لدينا أن هذه الأمور تفتقد الخواص العامة للمادة ، ولهذا لا يمكن اعتبارها من خواص التركيبات المادية، ولم يجر البحث فيما مضى عن نفس شخصية الروح المستقلة التي تعتبر هذه الأمور من أعراضها وحالاتها أو من أفعالها وأعمالها. وهذا الموضوع الذي في المتن إنما هو إشارة إلى أحد البراهين المجملة التي أوردها الفلاسفة الإلهيون لإثبات الشخصية المستقلة للروح في مقابل التركيبات المادية الخاصة.

والقارئ الكريم على علم بأن الماديين يعتبرون الروح ليس إلا اجتماعاً وارتباطاً خاصاً لأجزاء المادة، ويفسرون الخواص الروحية أيضاً بأنها خواص معينة للأجزاء المادية المترابطة.
أما الروحيون فهم في نفس الوقت يعتبرون فيه الروح (الذي ظهر نتيجة حركة المادة وتكاملها الجوهري) مرتبطاً ومتعلقاً- بشكل ذاتي بالمادة فإنهم يقولون أنه يتمتع بشخصية مستقلة ومنفصلة.

وأقام العلماء الروحيون في الشرق والغرب أدلة متضافرة لإثبات الشخصية المستقلة للروح وتجرده. ولا يخفى أن بعض هذه الأدلة ليس خالياً من الخلل. وليس هذا مجال سرد هذه الأدلة بكاملها ثم نقدها، بل نكتفي بذكر برهان واحد من البراهين الواضحة التي ذكرها الفلاسفة المسلمون (وأول من ذكر هذا البرهان مفصلاً هو السيخ الرئيس) وهو ليس بحاجة إلى مقدمات كثيرة، ويمكن أيضاً دعمه بأسس النفس الحديث، وقد أشير إليه في المتن ، وهو علم النفس بذاتها (الوعي بالذات).

ولا بد من ذكر مقدمة تتضمن أن "الوعي بالذات" وهو معرفة كل إنسان بوجوده إنما هو بديهي لكل شخص، وكل واحد منا يعلم بنفسه بالعلم الحضوري. ولا ينكر الماديون وجود هذا الشعور ( الشعور بالذات) في الإنسان . إذن لا اختلاف ولا شك في أن كل أحد يتعقل ذاته ويعرف وجوده ويعتبر نفسه موجوداً مستقلاً وممتازاً من سائر الموجودات، فكل إنسان يدرك بالضرورة "إني موجود" ولكن الشيء الذي هو بحاجة إلى الاستدلال هو:

ما هي حقيقة هذه "الأنا" التي كان وجودها بديهياً؟ وما هي خصوصياتها؟ أهي مادية أم لا؟ ألها وجود مستقل أم هي عين الجسم والخواص الجسمية؟
إذن "أنا موجود" قضية بديهية حسب الحس الخاص في "الوعي بالذات" وليست بحاجة إلى الاستدلال، وقد صرف العلماء استدلالهم إلى حقيقية "الأنا" وليس إلى بيان أصل وجودها لأن وجود "الأنا" أمر بديهي.

ومن هنا يعلم أن استدلال ديكارت لإثبات وجود "الأنا" عن طريق التفكير ليس سليماً، يقول ديكارت: "أنا أفكر إذن أنا موجود"، وليس هذا صحيحاً، لأن الوجود والتفكير بديهيان بالنسبة إلى كل إنسان، بل وجود الذات أكثر بديهية لأن الوعي بالتفكير متعلق بـ "الأنا" وهو فرع الوعي والشعور بـ "الأنا" ذاتها.
ثم نرجع إلى أصل الموضوع ونتساءل:

ما هي حقيقة "الأنا" التي كان وجودها أمراً بديهياً؟ وما هو هي الميزات التي تتمتع بها؟ أهي مادية أم لا؟

توجد في هذا المضمار نظريتان هما:
1-النظرية الحسية.
2-النظرية الروحية.


النظرية الحسية:-

يدعي أصحاب هذه النظرية أن "الذات" أو "الأنا" هي عبارة عن مجموعة من الإدراكات المختلفة التي جاءتنا دائماً وعلى التعاقب من طريق الإحساس أو التخيل أو غيرهما، وهي لا تنقطع عن بعضها. وحسب هذه النظرية لا تصبح "الذات" موجوداً واحداً وإنما هي مجموعة من الإحساسات والتخيلات والأفكار التي تشكل سلسلة واحدة. فـ "الأنا" إذن مجموع ما أراه وما أسمعه وما أتذكره وما أفكر فيه طيلة حياتي.

وقد أعلن هذه النظرية - في البداية- الفلاسفة الحسيون و التجربيون الذين ظهروا في أوربا منذ القرن السابع عشر فما اعتقدوا أن أساس المعرفة الصحيحة هو الإحساس والتجربة. ويقول هؤلاء العلماء: لما كان أساس المعرفة الصحيحة هو الحس والتجربة وهما لا يدركان سوى الأعراض والحالات، إذن نحن نرفض أي شيء سوى ما تثبته التجربة (ولكنهم مع ذلك لا ينكرونها).

وقد كان من بين هؤلاء الأشخاص (من قبيل الفيلسوف الإنجليزي دافيد هيوم) من لم يكتف بعدم الإيمان بوجود الجوهر النفساني المستقل، وإنما هو يفتقد الإيمان الراسخ أيضاً بوجود الجوهر المادي الخارجي الذي تعتبر الأعراض الطبيعية من حالاته، لأنهم يقولون أن الإحساس والتجربة تدلنا على وجود سلسلة من الأمور المسماة بالأعراض والحالات، وأما وجود الجوهر الجسمي الذي هو منشأ حالات الضمير والوجدان فلا تؤيده التجربة ولا يشهد له الحس.

وتعرّف هذه الفئة النفس بقولها: "النفس مجموعة من التصورات المتعاقبة التي تظهر في الذهن".
والماديون- أي القائلون بأصالة المادة بمعنى أنها الجوهر الوحيد الأصيل والقائلون بأن أساس المعرفة هو الإحساس والتجربة- يقتفون أثر الحسيين في بيان حقيقة "الأنا" ويزعمون أن "الأنا" أو النفس هي عبارة عن مجموعة الأفكار والخيالات و الإحساسات المتعاقبة التي توجد من تركيب مادي معين .

يقول الدكتور الآراني في الصفحة (104) من كتاب يسيكولوجي":

"إن تأثير العوامل المؤثرة لا ينمحي من الروح على الفور، وتوجد رابطة عامة بين كل المؤثرات التي تتعاقب على الروح وتؤثر فيه، وفقدان هذه الرابطة يبعث على غيبوبة الروح. وفي الحالة الطبيعية يكون الوعي الروحي موجوداً بفضل وجود الرابطة الكلية بين جميع العناصر والعوامل المؤثرة".

ويقول في الصفحة نفسها:
"إن مفهوم "الأنا" يظهر بهذه الصورة وهي أن تركيبة مادية تستقبل دائماً بعض التأثيرات الخارجية (مثل الصوت والضوء وغيرهما) وهذا الأمر يبعث الموجود الحي نحو الوعي بوجوده".

ويقول في الصفحة (105):

"لا بد لنا من التمييز بين ناحيتين من نواحي "الأنا" وهما :"الأنا المؤثرة" و "الأنا المتأثرة"، فالأنا المؤثرة عبارة عن الهيكل الذي اعتبره نفسي أما الأنا المتأثرة فهي تعني إنني أعرف ذاتي. والأنا المؤثرة هي نتيجة كل الظروف التي أوجدتها من قبيل الأجزاء المادية، والعوامل المؤثرة فيها (كالصوت والضوء وغيرهما) والإحساسات المرافقة لتأثير العوامل، والحركات (الإرادية وغير الإرادية). أما الأنا المتأثرة فهي التي تشهد وترى هذه النتيجة الكلية".

ويقول في الصفحة (104):

"في الموجود الحي السليم يوجد مفهوم "الأنا" بصفة مستمرة ومنتظمة في أزمنة متعاقبة، وهو لا ينقطع إلا في حالة النوم، ويمكن أن يوجد الاختلال في "الأنا" نتيجة لتناول المواد المخدرة والمسكرة".

ويواصل حديثه في الصفحة (106):

"إني في نفس الوقت الذي أكون فيه أنا نفسي فإني لست بنفسي، إني أنا ذلك الثابت ولكني في نفس الوقت متغير. وأفضل مثال يمكن ذكره لفهم هذه القضية هو التشبيه بالنهر، فالنهر جار باستمرار، وهو في كل لحظة يختلف عن اللحظة السابقة، وفي نفس الوقت النهر هو النهر".

إذن خلاصة هذه النظرية هي أن مفهوم "الأنا" عبارة عن سلسلة من الإدراكات والإحساسات والأفكار المتعاقبة التي تشكل مجرى واحداً.

النظرية الروحية:

تقول هذه النظرية أن "الأنا" أو "الذات" التي يعلم بها الإنسان حضوراً ويؤمن بوجودها بداهة هي عبارة عن موجود واحد متشخص (وليس سلسلة الأمور المتعاقبة) ثابت باق خلال كل الحالات والأعراض، وهو لا يقبل التعدد ولا الكثرة ولا الفساد.

والدليل على كون "الأنا" حقيقة واحدة وليست سلسلة من الإدراكات المتوالية هو:

أولاً: إن حقيقة "الذات" تنسب كل تلك الإدراكات المتعاقبة إلى نفسها، وهي تعدّ المنسوب غير المنسوب إليه، فتقول (أنا أفكر) أو (أنا أنظر)، وكما أنها تعي ذاتها بالعلم الحضوري أيضاً ولا شك لها فيها ولا ترديد.

ثانياً: كل واحد منا يدرك أنه واحد في الماضي والحاضر وليس أكثر من ذلك ولو كان مثل حلقات السلسلة يوجد منها في كل لحظة حلقة لما أمكن هذا التمييز.أيمكن أن نحكم على حلقة تقع في هذا الطرف من السلسلة بأنها نفس تلك الحلقة الواقعة في الطرف الآخر؟

وعلاوة على هذا فإن النفس لا تحتاج إلى إحياء الخواطر الماضية لكي تميز أنها واحدة في الماضي والحاضر، ولو كانت كحلقات السلسلة لما أمكن أن تدرك ذاتها في الماضي بدون تذكر الخواطر الماضية.

ثالثاً؛ ما قلناه بالنسبة إلى الحافظة من أنه لا يمكن التذكر حسب فرضية الماديين أي أنه لا يمكن تذكر ما مرّ في الماضي على أساس أنه ليس إدراكاً جديداً- ما قلناه هناك وأردهنا بطريق أولي، أي إذا كانت "الأنا" عبارة عن مجموعة متعاقبة من الإدراكات التي لا ترتبط ببعضها إلا برابطة التعاقب أو العلية والمعلولية فكيف يمكن عنئذ أن يميز الشخص بأنه هو نفسه ذلك الذي كان من قبل؟

رابعاً: تصبح الإدراكات -حسب نظرية الماديين- عبارة عن نشاطات وخواص الخلايا التي تكون سلسلة الأعصاب، وهذه الخلايا هي دائماً في تغير وتبدل بجميع محتوياتها، فمجموعة منها تموت ومجموعة أخرى تحل محلها، مع أن كل واحد منا يلاحظ أنه هو ذلك الشخص الذي كان قبل ستين أو سبعين عاماً دون تغيير ولا تبديل ولا زيادة ولا نقصان (ذلك كله في ذاته وليس في حالاته).

وخلاصة هذا الكلام الذي يعتمد على أساس وعي النفس بوجودها وكيفية وجودها هو أننا نثبت كون الإنسان يعرف ذاته على أساس أنها حقيقة واحدة ثابتة، وكل الحالات النفسية إنما هي مظاهر لها، وإنها حقيقة مجردة من المادة -نثبت ذلك بهذه الطرق:

أولاً: عن طريق النسبة (أي إن الإنسان ينسب إلى ذاته كل الإدراكات، وهو لا يعتبرها عين ذاته).
ثانياً: عن طريق الوحدة (أي أن كل إنسان يدرك أنه واحد في الماضي والحاضر وليس أكثر).
ثالثاً: عن طريق العينية (أي أن كل إنسان يدرك أنه هو بنفسه ذلك الذي كان وليس غيره).
رابعاً:عن طريق الثبات (أي أن كل واحد منا يدرك أنه لم يحصل له أي تغيير في ذاته).

وحاول الدكتور الآراني أن يفرّ من أشكال الثبات وعدم التغيير- الذي هو من خواص الروح ولا ينسجم مع الخواص العامة للمادة- وكذلك بقية الإشكالات ولكنه تورط في تناقض صارخ، فهو يقول في الصفحة (106) من كتاب يسيكولوجي":

"ولا بد أن ننظر الآن لنرى "الأنا" و "الذات" أهي ثابتة أم متغيرة؟ فالموجود الحي يتبدل دائماً حيث تموت مجموعة من الخلايا لتحل محلها خلايا أخرى، وتتحلل مواد البدن باستمرار ثم تتكون مرة أخرى بفضل تدفق المواد الغذائية. إذن مادة الجسم في كل موجود حي تتغير دائماً. ومن ناحية أخرى فإن حالة الشعور والوعي ومعرفة الذات تتغير دائماً أيضاً، فـ "الأنا" الاجتماعية قبل عدة سنوات تختلف عنها هذا اليوم. وأنا أستطيع كذلك أن أقسم ذاتي- في لحظة واحدة- إلى عدة ذوات،

فمثلاً أنا أسير في طريق معلوم أعرفه وأفهمه وفي نفس الوقت أقوم بحل مسألة رياضية أو مشكلة سياسية، فهذان القسمان في ذاتي يختلفان عن ذواتي الأخرى التي تتحقق في أزمنة متعاقبة.

وملخص الحديث أنه ليس فقط مادة جسمي هي في تغير دائم وإنما كيفية الارتباط الزماني والمكاني لأجزاء تلك المادة (أي حالات الشعور) أيضاً في تغيير مستمر، ولكنه من ناحية أخرى فأنا نفس ذلك الإنسان المسؤول عن كل قراراتي الماضية والمنفذ لكل أعمالي السابقة التي تنبعث منها ذاتي الحالية وذاتي في المستقبل المتوقع. ونستطيع أن نحل هذا التضاد بوساطة التفكير الديالكتيكي فأنا في نفس الوقت الذي أكون فيه نفسي فأنا لست بنفسي، وأنا بذاتي ثابت ولكني متغير أيضاً.

وأفضل مثال يمكن ذكره لتوضيح هذا الموضوع هو النهر، فالنهر جار وفي كل لحظة يختلف عن اللحظة السابقة وفي نفس الوقت فالنهر هو النهر وهو موجود في نفس المكان لسنين متطاولة. فالنظرة الديالكتيكية تتجه إلى القضايا وهي في حال الجريان، أي أن الديالكتيك ينكر وجود "الأنا" المرتبطة بمجموعو كبيرة من القضايا الخارجية. إذن توجد "الأنا" الثابتة المرتبطة بالقضايا الخارجية المتغيرة".

فالكاتب يحاول هنا أن يفسر "الأنا" و "الذات" حسب الأسس الديالكتيكية فهو يعترها متغيرة متكثرة وفي نفس الوقت يعدّها واحدة ثابتة باقية حسب العلم الحضوري للنفس بذاتها. ولإثبات القسم الأول -وهو تكثر "الذات" وتغيرها- يذكر دليلاً يتعلق بكثرة حالات "الأنا" وبينما نحن نعرف بأقل تأمل أن هذه تتعلق بتغير وكثرة حالات "الأنا" وليس ذات "الأنا" أما في القسم الثاني فهو يدعي أن هذا الثبات لا يتنافى مع التغيير، وهذه الوحدة لا تتناقض مع الكثرة.

ولسنا نعرف لماذا انحرف الكاتب في هذا المجال حتى على أسس الديالكتيك؟ أليس أصل التغيير واحد من أسس المنطق الديالكتيكي؟ وحسب هذا الأصل ألا يصبح أصل الثبات والجمود والبقاء على حالة واحدة منفياً تماماً؟ ويتخيل المنطق الديالكتيكي أنه يحل كل تضاد بأصل التغيير هذا فيزعم أنه لما كان كل شيء في حالة حركة فهو إذن نفسه وهو أيضاً ضد نفسه.
وعندئذ نسأل هؤلاء: بأي أصل نحن نستطيع حلّ التضاد الواقع بين أصل التغيير وأصل الثبات؟ وماذا يعني التشبيه بالنهر؟

أنه ليس أكثر من تشبيه شاعري لأن ماء النهر مكون من وحدات تسمى بالجزيئات وكل جزئ فهو مكون من ذرات وكل ذرة تتكون من أجزاء أصغر، وكل هذه في حالة حركة مستمرة بحيث لا يوجد جزء ثابت، وهذه الصورة الواحدة لا توجد إلا في أذهاننا حيث جعلت أذهاننا لمجموع هذه مفهوماً واحداً (هو النهر) واعتبرته لها.

ولسنا ندري لماذا يتناسى الماديون هنا الجملة الشهيرة للفيلسوف اليوناني "هراقليطوس" مع أنها تذكر في كتبهم شاهداً وقد ذكرها الدكتور الآراني في كتيب "المادية الديالكتيكية" شاهداً على هذا الاتجاه، يقول "هراقليطوس": "لا يمكن أن نرد نهراً واحداً مرتين". وتشير هذه الجملة بوضوح إلى أن النهر ليس هو ذلك النهر في لحظتين متعاقبتين.

ومن الواضح جداً أن هناك تفاوتاً هائلاً بين الوحدة والثبات اللذين يشعر بهما الإنسان بالعلم الحضوري بالنسبة إلى ذاته، والوحدة والثبات اللذين يفرضان للنهر حال جريانه أو الفوج العسكري حال تفقده، لأن الأول منهما (أي الذات) واحد حقيقي واقعي وثابت، أما الثاني فهو فرضي واعتباري، وليس صحيحاً أن يعتبر هذان بصورة واحدة)فكل واحد منا شعور بـ "الأنا"، وتشير التجارب والقرائن إلى أن بعض الموجودات الحية لها نفس هذه الحال
.
وكل فرد منا يشاهد -عيناً- وجود شيء لا ينطبق على أي عضو ولا ينسجم مع الخواص العضوية، لأنه لا يختلف بزيادة أو نقيضة تلك الأعضاء، ولا يتغير باختلاف سنّي العمر ولا بتحلل القوى، بل هو يزداد وضوحاً وكمالاً، وقد يغفل الإنسان أحياناً عن أحد أعضائه أو عن مجموعة منها ولكنه لا يغفل أبداً عن ذاته.

وهو يشاهد ذاتاً ثابتة غير متحولة ولا يجد أي تغيير قد طرأ على "الأنا" منذ أقدم الأيام التي يستطيع أن يتذكرها ويستحضرها في ذهنه (لابد من الالتفات إلى أن هذا التذكر يقترن غالباً بتذكر مجموعة من الأعمال أو الحوادث التي هي زمانية، وأما "الأنا" التي تدرك فهي لا تنطبق على الزمان وحتى بحسب التصور).[ 155 ]وهو يشاهد شيئاً واحداً ليس فيه كثرة ولا انقسام.

ويشاهد أيضاً (وهذا هو الأهم من الجميع) أن هناك شيئاً محضاً خالصاً ليس قيه خليط ولا تحديد نهائي، وليس فيه غيبة عن ذاته، ولا يحول بينه وبين ذاته أي حائل.

النتيجة

نستنتج من هذا الكلام أن العلم بالنفس ليس مادياً، والأهم من هذا أنه يستنتج منه كون النفس بذاتها تعلم بذاتها، أي أن واقع العلم وواقع المعلوم في مورد النفس واحد، ولهذا تقول الفلسفة أن هذا اللون من الإدراك (العلم الحضوري) يباين الإدراكات الأخرى، وهي تقسم مطلق العلم إلى قسمين:

1-العلم الحصولي.
2-العلم الحضوري.


وحسب التعبير الفلسفي فالعلم الحصولي هو حضور ماهية المعلوم عند العالم، أما العلم الحضوري فهو وجود المعلوم عند العالم (ليرجع من يحب إلى التعليقة المثبتة في الصفحة (102)، وأيضاً إلى المقالتين الرابعة والخامسة ففيهما تفصيل أكبر بالنسبة إلى هذا الموضوع) . ومن هنا فنحن نستغرب حديث العلماء الماديين الذي مرّ ويثير فينا قانونهم السابق العجب والحيرة.

إشكال

يقول العلماء الماديون أن التأثيرات المختلفة التي ترد بسرعة عظيمة من الأعصاب إلى المخ تكوّن- عن طريق تبديل الكمية إلى كيفية- شيئاً واحداً نسميه بالخاصة الروحية، ويشهد لهذا أن انعدام هذه الحواس أو الغيبوبة أو الموت- كل هذه تذهب أيضاً بهذه الخاصة الروحية.

الجواب

جواب هذا الكلام واضح مما مرّ علينا من قبل، لأننا لسنا منكرين لوجود مثل هذه الخواص للمخ. وهذه هي عين النفس التي يفرضها علماء النفس في بحوثهم لحاجتهم الفنية لذلك.
وكلامنا ينصب على أن ما نشاهده في مورد "الأنا" لا ينطبق على خواص المخ، لأن كل ظاهرة مادية لا بد أن يكون لها-في كل الأحوال- الخواص الضرورية للمادة. وما يقال من أن الروح أو الشعور الروحي يفنى أحياناً ليس إلا ادعاءاً لا يسنده دليل، بل قد يلتفت الإنسان إلى ذاته في حالة الإغماء، وأحياناً قد لا يتذكر شيئاً بعد انتهاء الإغماء لا أنه يلتفت إلى أنه لم يلتفت إلى ذاته في تلك الحال، وبين هاتين الجملتين فرق هائل.

إذن ثبت في هذه المقالة أمران:

1-أن العلم والإدراك ليسا ماديين إطلاقاً.
2-العلم على قسمين:
حصولي وحضوري



تحياتي للجمبع وإلى المقالة الرابعة :وردة:.
 

خادم العترة

عضو مميز
المقال الرابعة

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نعود معكم والمقالة الرابعة :وردة:

المقَــــالة الرابعَـــة


قيمة المعلومات

مقدمة صاحب التعليقة

من الأفضل أن نسمي قيمة المعلومات باسم قيمة العلوم والإدراكات، ويهدف هذا الموضوع إلى توضيح عدة أمور:

منها: إلى أي حد تكون إدراكاتنا حقيقية (أي مطابقة للواقع)؟
ومنها: أيمكن الاطمئنان بأن ما ندركه عن طريق الحس والعقل موجود في الواقع ونفس الأمر بهذا الشكل؟ أم يحتمل أن لا يكون هناك واقع إطلاقاً، وكل المعلومات إنما هي عبث في عبث؟ أم يحتمل أن يكون هناك واقع ولكننا ندركه بشكل آخر حسب البيئة الزمانية والمكانية التي تحيط بعقولنا؟

وقد مرّ علينا في المقالة الأولى أن الفلسفة تطلق على بعض الإدراكات اسم الحقائق (وهي المطابقة للواقع)، وهي تسعى لكي تميز الحقائق من الاعتباريات والأوهام. ومن البديهي أن هذا السعي لا يكون مثمراً ما لم يكن ذهن الإنسان مستعداً لإدراك الواقع كما هو موجود، ولو كان الذهن يدرك الأشياء-دائماً-بكيفيات مخلوقة من عنده لأضحت الفلسفة بلا موضوع ولأمسى سعيها عبثاً.

فمن ناحية يمكن اعتبار مسألة قيمة المعلومات أساس المسائل الأخرى لأن المذاهب المختلفة تفرق فيها.

فعند هذه المسألة تفترق " الواقعية"(Realism) عن "المثالية"(Idealism) وعن "السوفسطائية"(Sophism)، ومنها تنفصل سبيل الفلسفة اليقينية "الدكماتية"(Dogmatism) التي جاء بها أفلاطون وأرسطو وأتباعهما من قدماء اليونان وجميع الحكماء في المرحلة الإسلامية، وديكارت(Descartes) وليبنتس (Leibniz)ومجموعة أخرى من الفلاسفة المحدثين في أوربا عن سبيل فلسفة الشك "السيتسية"(Scepticism) التي أسسها بيرون( Pyron) زهاء القرن الرابع قبل الميلاد في اليونان وكان لها اتباع في اليونان ثم في الإسكندرية وأخيراً في أوربا.

وصحيح أن هذه المقالة قد اقتصرت على موضوع كيفية وقوع الخطأ الذي راح يتعلل به المثاليون، ولكن قيمة المعلومات قد أُثبتت إجمالاً في المقالة الثانية أثناء أجوبتنا على شبهات المثاليين، ونقدنا في الملاحظة الثانية من تلك المقالة (ص93-107) عقائد المادية الديالكتيكية في هذه المسألة ونأمل أن يتمكن القارئ نتيجة لقراءة هذه المقالة "قيمة المعلومات" والمقالة الثانية التي سبق ذكرها والمقالة الخامسة التي سوف تجئ بعنوان "ظهور الكثرة في العلم" مع التعليقات التي كتبت لها- نتيجة لقراءة هذه جميعاً نأمل أن يجد حلاً لهذه المسائل الفلسفية المهمة:

1-قيمة المعلومات.
2-طريق الحصول على العلم.
3-تعيين حدود العلم.


ويتضح لنا وجوب إمعان النظر في هذه المسائل إذا لاحظنا أن الفلاسفة الأوربيين خلال القرون الأربعة الأخيرة قد قصروا جهودهم على دراسة العلم والمسائل لمتعلقة به، وكانت هذه المواضيع الثلاثة السابقة الذكر محور مسائل الفلسفة الأوربية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن مسائل العلم في الفلسفة الإسلامية هي من أكثر المسائل تعقيداُ وأشدّها غموضاً.

ولأهمية مسألة "قيمة المعلومات"، التي هي موضوع هذه المقالة، ولكون العلماء الماديين معتقدين بعقائد خاصة فيما يتعلق بها وهم يذكرونها عند تناولهم موضوع "قيمة المعلومات"، فنحن نقدم بمقدمة مفصلة لهذه المقالة ليزول كل غموض يكتنف هذه المواضيع. ونسعى في هذه المقدمة إلى ذكر خلاصة لاتجاه الأفكار ومسير العقائد منذ العصور التاريخية الغارقة في القدم وحتى العصر الحاضر فيما يتعلق بهذه المسألة. ونترك تفصيل المسألتين الأخريين إلى المقالة الخامسة.

والقراء الذين يحرصون على معرفة الأسلوب الواقعي-الذي تنهض هذه المقالات بعبء توضيحه- سوف يطلعون خلال بحثنا لموضوع "الحقيقة" في هذه المقدمة على مواقف كثير من المذاهب الفلسفية التي تزعم أنها تلتزم بالأسلوب الواقعي، ولكنها سلكت سبيلاً في "قيمة المعلومات" يبعدها كثيراً عن الواقعية ويلقي بها في مزالق المثالية. ونخصّ بالذكر المادية الديالكتيكية التي تعدّ نفسها واقعية مائة بالمائة ولكنها انحرفت في مسألة "قيمة المعلومات" وبيان الحقيقة إلى حدّ أنها وقعت في لجج "السفسطة" ومذهب الشك وهي لا تعلم بذلك.

قيمة المعلومات:

أيكون الواقع ونفس الأمر مطابقاً لما نحسّه ونتعقّله أم لا؟ وبعبارة أخري فإن بحثنا يدور حول كون إدراكاتنا حقيقية ومطابقة للواقع أم لا.
وقبل أن نلج في صميم الموضوع لابد من البحث عن تعريف للحقيقة بأسلوب فلسفي.

ماذا تعني الحقيقة؟

يطلق العرف كلمة الحقيقة على معانٍ غير مقصودة هنا، والمقصود منها هنا هو المفهوم الفلسفي لهذه الكلمة. ومن السهل أن نفهم تعريف الحقيقة بالأسلوب الفلسفي، فالفلسفة تستعمل "الحقيقة" مرادفة-عادة-لكلمة "الصدق" أو "الصحة"، وتطلق على القضية الذهنية المطابقة للواقع اسم "الحقيقة". أما "الخطأ" و "الكذب" و "الغلط" فهو يطلق على القضية الذهنية التي لا تطابق الواقع فالاعتقاد

مثلاً بأن "الأربعة تساوي ضرب اثنين في اثنين" وأن "الأرض تدور حول الشمس" هو اعتقاد حقيقي وصادق وصحيح، أما الاعتقاد بأن "الثلاثة تساوي ضرب اثنين في اثنين" وإن "الشمس تدور حول الأرض" فهو اعتقاد مخطئ وكاذب.

إذن كلمة "الحقيقة" هي وصف للإدراكات من حيث مطابقتها للواقع ونفس الأمر.

ويجري عادة في الإصلاح الحديث إطلاق اسم "الواقع" على الواقع الخارجي ونفس الأمر، ولا يطلق عليه اسم "الحقيقية"، ونحن مقتفون أثر هذا الاستعمال، ففي أي مكان نذكر الواقع فنحن نقصد به ذات الواقع ونفس الأمر، وكلما ذكرنا الحقيقة فنحن نقصد ذلك الإدراك المطابق للواقع.

ويفسر الفلاسفة-منذ أقدم العصور- الصدق والصحة بهذا المعنى الذي ذكرناه، فكلما قالوا أن الموضوع الكذائي حقيقي أو صادق أو صحيح فهم يقصدون أنه مطابق للواقع، وإذا قالوا أنه مخطئ أو كاذب أو غلط فهم يعنون أنه لا يطابق الواقع.

ويذكر المنطقيون والفلاسفة الأقدمون مبحثاً بعنوان "المناط في صدق القضايا وكذبها" يجري البحث فيه على هذا الأساس أيضاً.


ولكن بعض العلماء المحدثين قد أورد إشكالات على هذا التعريف (سوف يأتي بيان هذه الإشكالات ضمن كلمات هؤلاء) واعتقد أنها لا يمكن حلّها ولهذا فهو قد اعتبر أشياء أخرى مقياساً لصدق القضايا وحقيقتها "(ولم يعتبر المطابقة للواقع مقياساً وعرفوا الحقيقة بإشكال أخرى تنقذهم-كما يتخيلون- من تلك المحاذير.

وهذه هي بعض التعاريف والتفسيرات التي قدمها بعض العلماء يقول المفكر الفرنسي الشهير "أوجست كونت" (August comte) مؤسس "الفلسفة الوضعية"(Positivism):

"إن الحقيقة هي عبارة عن تلك الفكرة التي تتفق عليها الأذهان في زمان واحد".

فهذا الكاتب لا يعتبر اتفاق الأذهان جميعاً في زمان ما علامة على الحقيقة وإنما هو يقول أن الحقيقة وإنما هو يقول أن الحقيقة لا تعني شيئاً غير هذا.

أما فيلسين شاله (F.Chaluis) الذي اختار عقيدة أوجست كونت في باب "الحقيقة" فهو يقول في كتاب الفلسفة العلمية- فصل قيمة العلم وحدوده:

"يقال عادة في تعريف الحقيقة (أو الصدق) أنها مطابقة الفكر لموضوعه أو مطابقة الفكر للواقع. ولكن هذا التعريف لا ينطبق على الحقائق الرياضية التي ليس لموضوعها وجود خارجي، وهو لا ينسجم أيضاً مع الحقائق النفسية التي كل وجودها ذهني، وهو لا يتلاءم مع الحقائق التاريخية التي يكون موضوعها قد ذهب حسب التعريف.

ولا يخلو هذا التعريف من الأشكال إذا اخترناه بالنسبة إلى الحقائق التجريبية لأنه بالقياس إلى الذهن لا يكون الموضوع الخارجي سوى مجموعة من الإحساسات والصور فقط وليس شيئاً آخر".

إلى أن يقول: "وحسب القول العميق لأوجست كونت فإن الحقيقة تعني انسجام كل الأفكار في ذهن الفرد واتفاق عقول كل أفراد المجتمع الإنساني في مرحلة تاريخية معينة بحيث تتحقق الوحدة المعنوية".

أما ويليام جيمس (William james) الفيلسوف وعالم النفس الأمريكي الشهير المؤسس للفلسفة "النفعية" (البراجماتية) (Pragmatism) فهو يعرف بشكل آخر فيقول:

"الحقيقة هي عبارة عن تلك الفكرة التي تؤثر في العمل تأثيراً مفيداً".

فهذا العالم يجعل جملة " أنه مفيد" مرادفة لجملة "أنه حقيقي".

ولا يعتبر هذا العالم كون الشيء مفيداً في العمل علامة على أنه حقيقي وإنما هو يقول أن "الحقيقة" لا تعني شيئاً غير هذا.

وينقل المرحوم فروغي عن ويليام جيمس قوله:

"يقولون أن الحق هو صورة طبق الأصل من الأمر الواقع، يعني أن القول المطابق للواقع هو الحق. حسن، ولكن ما هو هذا الواقع الذي إذا وافقه القول أصبح حقاً؟ أهو أمر ثابت ولا يتغير؟ كلا، لأن العالم يتغير باستمرار ولا يوجد فيه شيء ثابت. إذن من الأفضل أن نقول: الحق هو ذلك الشيء الذي له تأثير نافع على ما هو موجود فعلاً، فالقول الذي له نتيجة صحيحة هو حق. وليس صحيحاً أن نقول: لما كان هذا حقاً فنتيجته لابد أن تكون صحيحة."

وتدعى فئة أن: "الحقيقة هي ذلك الفكر الذي أثبتته التجربة".

ولا تعتبر هذه الفئة انطباق الفكر على التجربة ولا كونها عملية علامة على الحقيقة وإنما هي تقول أن معنى الحقيقة ليس شيئاً غير هذا

وتزعم فئة أخرى: "أن الحقيقة تعني ذلك الفكر الذي يظهر نتيجة للتأثير المتبادل والمواجهة المتحققة بين الحواس والمادة الخارجية، فلو فرضنا أن إنسانين قد واجها واقعاً واحداً ولكنهما أدركاه بإدراكين مختلفين أي أن أعصاب كل منهما قد تأثرت بشكل مختلف، فكلا الإدراكين حقيقي، فلو رأى إنسان مثلاً أحد الألوان أخضر ورآه الآخر أحمر فكلتا الرؤيتين حقيقية، لأن كلتيهما قد حدثتا نتيجة للاتصال الحاصل بين الحواس والخارج".

أما البعض الآخر فيزعم: " أن الحقيقة هي ذلك الشيء الذي هو أسهل بالنسبة إلى الذهن، فعندما نقول أن وجود العالم الخارجي حقيقة فهو يعني أن قبول ذلك أسهل للذهن، وليس له معنى آخر غير ذلك".

وفسّر بعضهم الحقيقة بشكل آخر فقال مثلاً:

"إن الحقيقة تعني ذلك الفكر الذي اهتدى إليه العقل بأسلوب علمي".

وواضح جداً إن هذه التعاريف ولتفسيرات ليست إلا "استسلاماً" لإشكالات المثاليين والسوفسطائيين والإشكالات الأخرى التي ذكرت ضمن كلام فيلسين شاله وويليام جيمس.

ونزاع الفلسفة والسفسطة، أو الواقعية والمثالية ليس نزاعاً لفظياً اصطلاحياً حتى نستطيع بتغيير الاصطلاح أن نفّر من محاذير وانحرافات المثالية.

أيوجد للسوفسطائيين حديث آخر غير إنكارهم خاصية الإدراكات في كونها مطابقة للواقع؟

أيمكن جعل "اتفاق كل العقول في زمان ما وعدم اتفاقهما" مقياساً لتمييز الأفكار العلمية والفلسفية من الأوهام السوفسطائية؟

أو أن المقياس هو كونها مفيدة وغير مفيدة؟ أهو مواجهة الحس للخارج وعدم مواجهته له؟
ألا يلزم من تفسير الحقيقة بهذا النحو نفي قيمة المعلومات ثم الانغماس في لجج المثالية ومذهب الشك؟

والمطلعون على المنطق والفلسفة الإسلامية يعلمون أن الإشكالات التي أوردها أمثال فيلسين شاله وويليام جيمس على التعريف القائل بأن الحقيقة هي مطابقة الأفكار للواقع قد وجدت حلولها في هذه الفلسفة وذلك المنطق وهي لا تشكل خطراً جديّاً.

وعلى هذا فالفيلسوف الواقعي الذي ينفر من الأصول المثالية ويبحث عن أسلوب ورؤية واقعية لا يجد بدّاً من تفسير الحقيقة كما فسّرها القدماء، واعتبار ما اعتبره القدماء "مقياساً للصدق".

ولا تفسّر هذه المقالات-التي تهدف إلى بيان الأسلوب الواقعي-الحقيقة ولا مقياس الصدق بأي معنى من هذه المعاني التي تودي في النهاية إلى المثالية والسفسطة، وإنما هي تفسرها بالمعنى الذي جرى عليه العلماء الماضون وأغلب العلماء المحدثين.

وقد تناولت الفلسفة القديمة مواضيع متعددة ومتنوعة فيما يتعلق بالحقيقة بهذا المعنى لا مذكور، وليس بإمكاننا أن نلّم بكل هذه البحوث، وإنما نقصد في هذا المجال أن نذكر بشكل مختصر بعض هذه الدراسات. ولهذا فنحن نتناول هنا بالبحث هذه المواضيع:

1-أللحقيقة وجود في الجملة أم كل إدراكات البشر وهمية وباطلة وعابثة؟
2-ما هو المقياس لتمييز الحقيقة من الخطأ؟
3-أيمكن أن يكون شيء واحد حقيقة وخطأ؟
4-أتكون الحقيقة مؤقتة أم دائمة؟
5-أتكون الحقيقة قابلة للتحول والتكامل؟
6-لماذا تكون الحقيقة الناتجة من التجربة غير يقينية؟
7-أتكون الحقيقة مطلقة أم نسبية؟



يتبع المقالة الرابعة ان شاء الله ومع اجابة السؤال الأول :وردة:
 

بو محمد

عضو ذهبي
يرفع ببركة محمد وآل محمد

مستمتعين بالمتابعة

وشكرا لكم


اللهم صل على محمد وآل محمد
 

خادم العترة

عضو مميز
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نتابع من جديد مع الأخت القارئة و الأخ القارئ :وردة:


1-أللحقيقة وجود في الجملة؟

إن كون إدراكات الإنسان (في الجملة) حقيقية ومطابقة للواقع أمر بديهي.
وهذا يعني أن القضية القائلة: "إن المعلومات البشرية ليست وهميّة مائة بالمائة على العكس على العكس مما يدعيه المثاليون" واضحة جداً وهي ليست بحاجة إلى استدلال، بل الاستدلال على هذا الموضوع مستحيل وغير ممكن.

وهناك مجموعة من الحقائق المسلمة التي أطلقنا عليها اسم البديهيات في المقالة الثانية، وهي موجودة في عقل كل إنسان وحتى في عقول السوفسطائيين أنفسهم، فهم يعترفون بها في أعماق أنفسهم، ولا نجد في واقع الحياة سوفسطائياً واقعياً، أي بمعنى ذلك الشخص المتردد في كل شيء المنكر لكل حقيقة.

وعندما يحاول السوفسطائيون والمثاليون إثبات وقوع الأخطاء فهم يذكرون لذلك أدلة من الحس والعقل. وقد قلنا في جوابنا للشبهة الثانية من المقالة الثانية أن إدراك الخطأ نفسه دليل على وجود مجموعة من الحقائق المسلّمة لدينا وقد اتخذناها مقياساً ومعياراً ثم أدركنا الخطأ على أساسها، وإلا فلا يكون معنى للخطأ حينئذ، لأن الخطأ لا يمكن تصحيحه بخطأ آخر.

والغرض من هذا الحديث هو تنبيه كل إنسان إلى إدراكاته الفطرية، وليس الغرض منه الاستدلال وإقامة البرهان على المدّعى، فالشخص المنكر لكل الحقائق المسلمة (من الواضح أنه ينكرها باللسان فقط) يصبح الاستدلال بالنسبة إليه عبثاً ولغواً، لأن كل استدلال لابد أن يعتمد على مقدمات، وهذه المقدمات إما أن تكون مستغنية عن الاستدلال وإما أن تكون معتمدة على أسس مستغنية عن الاستدلال، وإذا كان الطرف المقابل غير مذعن لأيّ أصل وهو يطلب لكل مقدمة دليلاً فإن ذلك يتسلسل إلى غير نهاية وعندئذ لا يمكن الحصول على أية نتيجة.

وقد تمسّك أحد الماديين في مقام ردّ سفسطة المثاليين وإثبات وجود العالم الخارجي بفرضية لابلاس في أن الأرض قد انفصلت عن الشمس وبقيت فترة طويلة في حالة التهاب وبعد ملايين السنين ظهرت الموجودات الحيّة ومن جملتها الإنسان ومن جملتها الشخص المثالي الذي يعتبر كل الأشياء ذهنية. وتخيّل هذا المادي أنه قد ردّ سفسطة المثاليين بدليل قاطع، ولكنّه من الواضح أن هذه الأدلة لا تفيد شيئاً في ردّ من يعدّ الشمس والأرض والإنسان وكل العالم صوراً ذهنية لا واقع لها، ويعدّ العلم والفلسفة هراءً لا معنى له.

وليس المقصود مما ذكر في المتن فيما يتعلق بكيفية وقوع الخطأ هو إقامة الدليل على ردّ ما يدعيه السوفسطائيون، وإنما المقصود منه الجواب على الشبهة (الشبهة الثانية من المقالة الثانية) التي ذكرت في باب كاشفية العلم وكيفية وقوع الخطأ في القوى الإدراكية.

وقد ذكر في متن هذه المقالة أنه لا يوجد علم بلا مكشوف وإن القوى المدركة لا تخطئ في عملها أبداً، وإن منشأ وقوع الأخطاء والإشتباهات أشياء أخرى ذكرت في محلها.

2-ما هو المقياس لتمييز الحقيقة من الخطأ؟

ننتقل من الحقائق المسلمة للعقل-التي نراها بالبداهة أوضح ما تكون- إلى المسائل الأخرى التي هي ليست واضحة لدينا وعلينا أن نكتشفها عن طريق الاستدلال وإجهاد الفكر، وكما أن وجود مجموعة من الحقائق البديهية مسلّم لدينا فكذلك هذا الموضوع من المسلّمات عندنا أيضاً وهو أن الإنسان قد يخطئ ويتورط في اشتباه في بعض محاولاته العلمية وفي بعض استدلالاته، فلابد إذن من البحث والتساؤل بأنه:

أتوجد وسيلة لتمييز السليم من السقيم والحقيقة من الخطأ أم لا؟
وإذا كانت موجودة فما هي هذه الوسيلة؟

نعم هناك وسيله لهذا التمييز تسمى بالمنطق، ولعل أشهر وأقدم الأساليب المنطقية هو المنطق الذي وفّق أرسطو لجمعه وتدوينه.

وقد أصبح منطق أرسطو مورداً للاعتراض والانتقاد الشديدين من قبل العلماء الأوربيين خلال التحولات الحديثة في أوربا، فادعى بعض العلماء مثل ديكارت وهيجل ( Hegel) تأسيس منطق جديد. وقد قصرنا مقالة من هذه المجموعة من المقالات على هذا الموضوع، وبحثنا فيها الأساليب المنطقية الحديثة ولا سيما أسلوب المنطق الديالكتيكي، ونقدناها جميعاً؛ ولهذا فنحن لا نعترض هنا لهذا الموضوع.

3-أيمكن أن يكون شيء واحد حقيقة وخطأ؟

يضع الناس الحقيقة-عادة-في مقابل الخطأ، والصحيح في مقابل الغلط، والصدق في مقابل الكذب، فيقولون إذا كانت فكرة ما صحيحة وصادقة وحقيقية فليس من الممكن إذن أن تكون مخطئة ومغلوطة وكاذبة. والعكس صحيح أيضاً فإذا كانت مخطئة فليس من الممكن أن تكون حقيقية.

مثلاً إما أن تكون هذه الفكرة:

"الأرض تدور حول الشمس " صادقة أو كاذبة، ولا يمكن أن يكون هناك احتمال ثالث. وكذلك الحال في كل المواضيع الأخرى سواء أكانت من المسائل المتعلقة بالحياة اليومية كقولنا "كان أرسطو تلميذاً لأفلاطون" أم كانت من القضايا الكلية العلمية الرياضية كقولنا "إن ضرب الرقم خمسة في خمسة يساوي خمسة وعشرين" أم كانت من المسائل الكلية في الطبيعة مثل قولنا "إن الأجسام تتمدد نتيجة للحرارة" أم كانت من الحقائق الفلسفية كقولنا "أن الدور والتسلسل باطلان".

ولكنه شاع أخيراً بين العلماء المحدثين أن الحقائق العلمية في نفس الوقت الذي تكون فيه حقيقة فمن المحتمل أن تكون مخطئة. واستغل هذه الفرصة علماء المادية الديالكتيكية القائلة بوحدة الضدين وإن جميع الأضداد والنقائض قابلة للاجتماع والتصالح فزعموا أن الحقيقة والخطأ أو الصحيح أو الغلط أو الصدق والكذب ليسا مختلفين اختلافاً كبيراً وإنما من المحتمل أن يكون شيء واحد حقيقياً ومخطئاً، صحيحاً وغلطاً، صادقاً وكاذباً في نفس الوقت.

ولكنه من المستحيل أن تكون فكرة ما من حيثية وجهة واحدة حقيقية وصحيحة وفي نفس الوقت تكون أيضاً مخطئة ومغلوطة، وليس هذا خافياً حتى على طفل لم يجتز المرحلة الابتدائية.
وهؤلاء العلماء الماديون أنفسهم أهم مستعدون لقبول أن تكون فلسفتهم وكذلك منطقهم صحيحاً وخطأ في نفس الوقت؟

أهم يقبلون أن نقول أن هذه القاعدة التي ذكرناها عنهم وهي:

"من الممكن أن يكون شيء واحد حقيقياً ومخطئاً في نفس الوقت " حقيقية ومخطئة في نفس الوقت، صادقة وكاذبة معاً؟

وما ادعاه هؤلاء العلماء بالنسبة إلى اجتماع الحقيقة والخطأ يسحبونه إلى النظريات والفرضيات العلمية الكبيرة، ويعنون به في هذا الباب أن النظرية أو الفرضية العلمية تشتمل على عدة مواضيع وتضم كثيراً من الأفكار، ولهذا فمن المحتمل أن يكون أحدها-أو أكثر- مخطئاً وهذا أمر مقبول من قبلنا ولا علاقة له أصلاً بـ"وحدة الضدين".

وسوف نتناول هذا الموضوع بالبحث والتدقيق خلال هذه المقالة ونستعرض فيها نظريات المادية الديالكتيكية ولا سيّما ما يخص "قيمة المعلومات" متبوعة بنقدنا وتقييمنا لها.

4-أتكون الحقيقة دائمة أم مؤقتة؟

هذا الموضوع يستحقّ الدّقة، والدقة فيه تحول دون الوقوع في كثير من الأخطاء.
والمحققون القدماء من المنطقيين والفلاسفة عندما يذكرون خواص المفاهيم والأفكار الحقيقية فإنهم يعدّون من ضمنها صفة الدوام ويقولون إن الحقائق دائمة. وقد أشبعها بحثاً الشيخ الرئيس ابن سينا في منطق الشفاء.

واختلط هذا الموضوع على بعض العلماء المحدثين ولا سيّما الماديين فظنوا كون المقصود منه هو أنّ موضوع الفكر الحقيقي ومطابقته للواقع إنما هو أمر ثابت وخالد، ولهذا هاجموا هذه الفكرة بشدّة مدّعين أن هذه العقيدة قد حصلت للقدماء بسبب عدم التفاتهم إلى أصل التغيير الشامل للطبيعة، وأما من يلتفت إلى أصل التغيير فهو مضطر إلى القول بكون الحقائق مؤقتة وليست دائمة.

ويعدّ الماديون الاعتقاد بكون الحقائق دائمة من نتائج جمود المنطق القديم ومن خواص التفكير الميتافيزيقي.

إذن من الواجب علينا أن نلقي مزيداً من الضوء على هذا الموضوع.

وقبل أن نقتحم صميم موضوع كون الحقيقة دائمة أو مؤقتة، ولكي لا يقع الخلط بيم موضوعين وليتمّ الفصل بينهما، لابد أن ننظر إلى الواقع ونفس الأمر الذي تحكيه المفاهيم والأفكار أهو مؤقت أم دائم؟

ليس من شك في أن الواقع ونفس الأمر الذي تحكي عنه القضية الذهنية قد يكون مؤقتاً وقد يتصف بالدوام. فالواقع المادي مثلاً في الخارج موقت لأن المادة والعلاقات التي تربط بين أجزائها في تغيير مستمر، فالشيء الواحد في الطبيعة لا يبقى على حالة واحدة خلال لحظتين، وكل واقع يظهر على الساحة الطبيعية لمدة محدودة ثم يزول. إذن هذا اللون من الواقع موقت وزائل.

ولكن هناك نوعاً من الواقعيات المستمرة والأبدية موجوداً في الطبيعة "(بغض النظر عما وراء الطبيعة) مثل واقع الحركة فإذا قلنا أن المادة متحركة فقد تحدثنا عن أمر مستمر ودائم.

وعندما يتحدث المنطق القديم في باب القضايا عن الدوام والضرورة وغيرهما فالمقصود به ذلك النوع من الدوام الذي هو من خواص بعض الواقعيات، وهذا اللون من الدوام لا علاقة له بموضوعنا هذا.

إذن من المحتمل أن تكون الواقعيات الخارجة عن الذهن مؤقتة ومن المحتمل أيضاً أن تكون دائمة.
والآن نتساءل عن الحقائق أهي دائمة أم مؤقتة؟

يعني أتكون مطابقة المفاهيم والمحتويات الذهنية للواقع ونفس الأمر (سواء أكان مؤقتاً أم دائماً) مؤقتة أم دائمة؟

من الواضح أن هذه المطابقة لا يمكن أن تكون مؤقتة، لأنه صحيح أن هذه المفاهيم تبين واقعاً متغيراً وذلك في لحظة خاصة من الزمن، ولكن مطابقة ذلك المفهوم لواقعه أبدي، وهي لا تختص بلحظة معينة من الزمن.

وبعبارة أوضح فإن المفيد والمحدود من الزمن هو الواقع الخارجي وليس مطابقة المفهوم الذهني لذلك الواقع الخارجي. فمثلاً عندما نقول:

"كان أرسطو تلميذاً لأفلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد" فقد تحدثنا عن العلاقات المتغيرة لأجزاء الطبيعة لأن دراسة أرسطو عند أفلاطون تتعلق ببرهة زمنية معينة (هي القرن الرابع قبل الميلاد).

ولكن هذه الحقيقة التي اقتحمت أفكارنا صادقة دائماً ومطابقة لواقعها أبداً، أي أن كون أرسطو قد تتلمذ علي يد أفلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد صادق دائماً في كل الأزمان.

وهذا المثال هو من الحقائق التاريخية المتعلقة بواقع مادي متغير. ويسري هذا الحكم على جميع الحقائق الرياضية والطبيعية والفلسفية سواء أكانت متعلقة بواقع متغير أم دائم.

وعندما يجري الحديث عن الدوام والضرورة في المنطق القديم في باب البرهان فالمقصود منه هذا اللون من الدوام الذي هو من خواص الحقائق ومتعلق بموضوعنا هذا وهذا هو ما يقصده علماؤنا السابقون عندما يقولون أن الحقائق دائمة.

وعلى هذا فأي مفهوم ذهني إما أن يكون من أساسه كاذباً ومخطئاً وغير حقيقي، وإما أن يكون حقيقياً ويحكي الواقع ونفس الأمر وعندئذ لابد أن يكون مطابقاً لواقعه دائماً.
ولا نجد مفرّاً من ذكر بعض الملاحظات:

أ-ما ذكرناه يتعلق فقط بالعلوم الحقيقية، ولا يسري إلى الاعتباريات ولا المسائل المتعلقة بالعلوم الاعتبارية. فمثلاً في المواضيع الأخلاقية والقوانين الاجتماعية التي ليس لها مصداق عيني خارجي وإنما هي تابعة للمقنّين وغيرهم فإنه من الممكن أن يعدّ شيء ما حقيقة أخلاقية أو اجتماعية لفترة محددة ثم تلغى عندما تتغير ظروف البيئة (من الواضح أن هذه الأمور لا يمكن عدّها حقائق من وجهة النظر الفلسفية).

وبهذا نعرف عدم صحة مجموعة من الأدلة التي يذكرها العلماء الماديون والتي تتخذ كون المسائل الأخلاقية مؤقتة دليلاً على أن الحقائق أيضاً مؤقتة.

ب-إن بحث الدوام والتوقيت يتعلق بالحقائق اليقينية ولا يرتبط بالحقائق الاحتمالية.

وسوف يأتي أن العلماء لا يعتبرون التجربة منتجة لليقين وهم يطلقون على القوانين التجربية اسم "الحقائق الاحتمالية" تارة و"الحقائق ذات اليقين النسبي" تارة أخرى.

ومن الواضح أن الحقيقة الاحتمالية يمكن أن تكون مؤقتة. وإذا لاحظنا فرضية ما تنطبق على مجموعة من التجارب فلا مانع من اعتبارها قانوناً علمياً ما دمنا لا نقطع بخلافها، وفي كل وقت تظهر فيه فرضيات أخرى بحيث تؤيدها التجارب بصورة أعظم فإن هذه الفرضية الثانية سوف نعتبرها هي الحقيقة العلمية وهكذا...

(لا يمكن اعتبار القضايا الاحتمالية ضمن الحقائق من وجهة النظر الفلسفية، ولكننا عبّرنا عنها بالحقائق مسايرة لتعبير العلماء المحدثين).

ج-إن العلماء الذين فسروا الحقيقة بمعنى آخر غير هذا المعنى المعروف يستطيعون أن يعتبروا الحقيقة مؤقتة. فالحقيقة مثلاً كما فسرها أوجست كونت (بأنها تلك الفكرة التي تتفق عليها العقول في عصرٍ ما) يمكن اعتبارها مؤقتة لأنه لا مانع من أن تتفق العقول في كمل عصر على فكرة نظرية معينة.

أما فيلسين شاله الذي قبل تفسير أوجست كونت للحقيقة والذي نقلنا فيما سبق كلامه في تفسير الحقيقة فهو يواصل حديثه قائلاً:

"من الواضح أن هذا الاتفاق -وبالنتيجة هذه الحقيقة- يصبح مؤقتاً لأن الحقيقة- كما قلنا- ثمرة للعلوم والعلوم دائماً تترقى وتواصل سيرها التكاملي، وعلى العكس مما كان متصوراً في السابق فإن الحقيقة ليست تأملاً في أمر ثابت وخالد وإنما هي مثل العدالة الاجتماعية التي هي نتيجة للجهود الحثيثة والمعاناة المضنية للبشرية".

وخلاصة ما مر في نقلنا لأقوال العلماء الماضين حول كون الحقيقة دائمة هي ما يأتي:

أولاً: إن هذا مختص بالمسائل المتعلقة بالعلوم الحقيقية ولا ربط له بالعلوم الاعتبارية.

ثانياً: أنه مقتصر على الأمور اليقينية ولا يشمل الأمور الاحتمالية.

ثالثاً: أن المقصود من كونها حقيقية هو أنها مطابقة للواقع وليس شيئاً من قبيل اتفاق في عصر ما أو غيره.

5-أتكون الحقيقة قابلة للتحول والتكامل؟

من حديثنا الماضي يتضح الجواب على هذا السؤال. وقد قلنا فيما مضى أن أي مفهوم ذهني إذا كان منطبقاً على واقع ما فهو دائماً منطبق عليه، وإذا لم يكن منطبقاً فهو غير منطبق عليه دائماً. وبعبارة أخرى: إذا كان صادقاً فهو صادق دائماً وإذا كان كاذباً فهو كاذب أبداً. ومن المستحيل أن يكون مفهوم ذهني- وهو يحكي عن واقع خاص- صادقاً في زمان آخر بالنسبة إلى نفس ذلك الواقع.


تحياتي لكم ويتبع ان شاء الله المقالة الرابعة في المشاركة القادمة وبعض التفصيل في النقطة الخامسة:وردة:
 

خادم العترة

عضو مميز
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


تحياتي للجميع :وردة:

والآن نريد أن نعرف إذا كان مفهوم ما أو قضية ما- بالاصطلاح المنطقي- صادقة وصحيحة وحقيقية، أمن الممكن أن تصبح أكثر حقيقية أو ترتفع درجة حقيقتها أم لا ؟

إن جواب هذا السؤال سهل جداً إذا أخذنا بعين الاعتبار المفهوم الفلسفي لـ "التغيير التكاملي" وصرفنا النظر عن كلام العلماء المتسامح فيه حيث عبروا بـ "تكامل الحقيقة" وهم يقصدون تكامل العلوم (والمفهوم الفلسفي لا يقصد هذا) .

وأدّت هذه التعبيرات المتسامح فيها من قبل العلماء إلى وقوع اشتباهات كثيرة ووفّرت فرصة ذهبية للماديين لكي يمرّروا مغالطاتهم وتحريفاتهم.

وإذا أخذنا أية حقيقة من الحقائق بعين الاعتبار، سواء أكانت جزئية أم كلية وسواء أكانت متعلقة بالأمور المادية أم بالأمور غير المادية، فسوف نلاحظ أنها صادقة في كل الأزمان وبنحو واحد، ولا معني إطلاقاً لكونها تصبح بالتدريج أكثر صدقاً.

مثلاً لنأخذ هذه الحقيقة التاريخية القائلة: "كان أرسطو تلميذاً لأفلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد"، أو هذه الحقيقة الطبيعية القائلة: "تتمدد الفلزات بسبب الحرارة"، أو هذه الحقيقة الرياضية القائلة: " مجموع زوايا المثلث يساوي زاويتين قائمتين" أو هذه الحقيقة الفلسفية القائلة: "إن الدور والتسلسل باطلان"، ثم نتساءل: أمن الممكن أن تصبح هذه الحقائق -نتيجة لتكامل العلوم أو أي شيء آخر-أكثر صحة وصدقاً أو أن ترتفع درجة حقيقيتها؟

من الواضح جداً أن الجواب سيكون بالنفي.

نعم من الممكن أن يتحقق شيء آخر وهو أن تزداد معلوماتنا وتتسع بالنسبة إلى كل واحد من المواضيع المذكورة.

فمثلاً لا تكون معلوماتنا في البدء بالنسبة إلى العلاقات التي تربط أرسطو وأفلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد، ولكن معلوماتنا تتسع نتيجة للتحقيقات التاريخية فنكتشف روابط أخرى ونعلم مثلاً "أن أرسطو قد حضر درس أفلاطون وهو في سن الثامنة عشرة، واستمر حضور درسه زهاء عشرين عاماً، وقد جرى هذا كله في مدينة أثينا، وكان أرسطو يحضر درس أفلاطون في حديقة تعرف بـ " الأكاديمية" (Academia) وهي تبعد عن البلد بحوالي كيلومتر واحد. وكان أفلاطون يلقب أرسطو بـ "عقل المدرسة".

أي أنه علاوة على الحقيقة الأولى فإن سلسلة من الحقائق الأخرى قد احتلت أذهاننا ومن الخطأ أن نتصور كون الحقيقة الأولى قد تكاملت أو ارتفعت درجة حقيقيتها.

وكذلك من المحتمل أن يؤدي التقدم في علم الفيزياء إلى اكتشاف خواص للفلزات حال تسخينها، ومن المحتمل أن نظفر بأحكام أخرى للمثلثات بتقدم علم الرياضيات، وأن نعرف أنواع وأقسام الدور والتسلسل بتقدم الفلسفة، ولكن أي واحد من هذه لا علاقة له إطلاقاً بتكامل الحقيقة بالمعنى الفلسفي، يعني أن هذه الأمور الجديدة ليست هي بعينها تلك الأمور القديمة مضافاً إليها أنها قد تكاملت وأصبحت-تدريجياً- أكثر حقيقة وأعظم صحة وأشدّ صدقاً وأن درجة حقيقيتها قد ارتفعت، وإنما الواقع أن مجموعة من الحقائق الأخرى قد حصلت في أذهاننا نتيجة للدراسات العلمية.

والآن نريد أن نعرف ما هو مقصود العلماء من تكامل العلوم أو من تكامل الحقيقة.

فالعلماء عندما يتحدثون عن تكامل الحقيقة فهم لا يقصدون المفهوم الفلسفي منه وإنما يقصدون أحد معنيين:

أولاً: هذا المعنى الذي مرّ ذكره الآن (وهو التوسع التدريجي في المعلومات) فليس هناك أحد يشك في كون العلوم سائرة نحو النمو والاتساع ويضيف العلماء بتحقيقاتهم كل به فصلاً جديداً إلى كل علم من العلوم المتنوعة أو يفتحون باباً علمياً جديداً لم يكن من قبل. والعلوم التي بين أيدينا اليوم والبحوث الفلسفية لم تكن في البدء على ما هي عليه اليوم وإنما هي نمت واتسعت- تدريجياً- كلما تقدمت المدينة وتعمقت محاولات العلماء، وسوف لن تظل على ما هي عليه الآن.ولسنا نظن أن هناك عالماً واحداً ينكر هذه الحقائق.

وينبغي تسمية هذا اللون من التكامل باسم "التوسع التدريجي أو التكامل العرضي" وهو يشمل العلوم والفلسفة، ولا علاقة له أبداً بتكامل الحقيقة- بالمعنى الفلسفي- الذي يتذرّع به الماديون.

ثانياً: للعلوم التجريبية لون من التحول والتكامل الخاص بها ويمكن تسميته بـ "التكامل الطولي"، بمعنى أن هذه العلوم تسير حسب فرضية ونظرية معينة، وحسب طبيعة موضوعاتها فهي لا يمكن أن تكون معتمدة -كالفلسفة- على أسس برهانية يقينية، ولما كان الدليل على صحة الفرضيات ليس إلا الانطباق على التجارب وإعطاء النتائج العلمية، وهذا الانطباق على التجارب وإعطاء النتائج العملية ليس دليلاً على كونها حقيقية وعينية ولا يقضي على احتمال المخالف، ومن ناحية أخرى فإنه لا توجد سبيل أخرى للتأكد من صحة الفرضيات، لهذا أصبح من اللازم إذا تلاءمت فرضية مع بعض التجارب-التي في متناول الإنسان- أن يعدّ العلماء هذا الأمر الاحتمالي حقيقة علمية وأن يعتبروه قانوناً علمياً وأن يدرجوه في كتبهم العلمية والدراسية بشكل قانون علمي، ولكنه في أي وقت تظهر في فرضية أخرى وهي تدخل إصلاحات على الفرضية الأولى أو تباينها من الأساس وتتلاءم مع التجارب بشكل أدق وأكبر وأدق فإن الفرضية الأولى ستطرد من ساحة العلم لتحل محلها هذه الفرضية الثانية، وهكذا ....

فالعالم الطبيعي يصوغ في عقله وبقوة الحدس فرضية لتفسير الحوادث الطبيعية ثم يختبر بعد ذلك صحتها بوساطة التجربة والنشاطات العملية، فإذا كانت تلك الفرضية منسجمة مع التجارب المتوفرة وقد استطاعت عملياً أن تفسر الظواهر الطبيعية فإنه يصوغها بشكل قانون علمي، وتبقى هذه الفرضية على قيمتها العلمية حتى تظهر فرضية أخرى أكمل منها وأجمع بحيث تنطبق على التجارب بشكل أكبر وأدق وتستطيع أن تفسر الظواهر الطبيعية بشكل أفضل، حينئذ تخلى الفرضية الأولى مكانها للفرضية الثانية، وعلى هذا فكل ناقص يخلي المكان ليحل محله ما هو أكمل منه، وبهذا الشكل تطوي العلوم الطبيعية طريقها التكاملي.

إذن فالعلوم التجربية علاوة على أن لها تكاملاً عرضياً كالفلسفة مما أسميناه بـ "التوسع التدريجي" فإن لها تكاملاً طولياً أيضاً بهذا الشكل الذي مرّ تفصيله.

ولكن القارئ الكريم يعلم جيداً أن هذا اللون من التكامل أيضاً لا علاقة له إطلاقاً بتكامل الحقيقة -بالمعنى الفلسفي - أي أنه لم يحدث في هذا أن حقيقة مسلمة قد أصبحت بالتدريج أكثر صحة وأكبر دقة، أو حسب تعبير الماديين فإن درجة حقيقيتها قد ارتفعت، وإنما الفرضية الجديدة والتجارب الحديثة تكون قد أثبتت أن الفرضية الأولى لا يمكن اعتبارها حقيقية وإنما لابد من إلقائها بكاملها جانباً أو حذف جزء منها، وبمرور الزمن وبالتدريج يصبح الفرضيات أدق وأجمع، وتكون الفرضية السابقة دخيلة في تكوين الفرضية التي تأتي بعدها، أي أنه صحيح أن العالم الطبيعي يصوغ الفرضية بقوة حدسه ولكنه صحيح أيضاً أن الرواسب الذهنية عنده دخيلة في تكوين الحدس، وعلى أية حال فإن هذا الموضوع لا علاقة له أصلاً بتكامل الحقيقة بالمفهوم الفلسفي.

وهذا اللون من التكامل ناشئ من ناحية كون مسائل العلوم الطبيعية احتمالية وغير يقينية.

6-لماذا لا تكون العلوم التجربية يقينية؟

إن السبب في كون العلوم المعتمدة تماماً على التجربة غير يقينية هو أن الفرضيات التي تصاغ فيها ليس لها من دليل سوى انسجامها مع التجربة وإعطائها نتائج عملية. وإعطاء النتائج العملية لا يكون دليلاً على صحة تلك الفرضية ولا على مطابقتها للواقع لأنه من المحتمل أن تكون الفرضية مخطئة مائة بالمائة ولكنها في الوقت نفسه تؤخذ منها نتائج عملية.

ومثال ذلك هيئة بطليموس التي كانت تعد الأرض مركزاً للعالم، والأفلاك والشمس وجميع النجوم تدور حولها.

فهذه نظرية مخطئة ولكن السابقين المعتقدين بها قد استخرجوا منها نتائج عملية صحيحة فيما يتعلق بالخسوف والكسوف وغيرهما.

وكذلك الطب القديم القائم على أساس الطبائع الأربع (الحرارة- البرودة - الرطوبة- اليبوسة) فقد كان طباً خرافياً ولكنه في الوقت نفسه عالج مئات الآلاف من المرضى ومنح كثيراً منهم الشفاء.

ولعلّ بعض الناس يتساءل:

كيف يمكن أن يؤدي الخطأ والوهم إلى نتائج موجودة وصحيحة؟

وجوابنا لهم يتلخص في أنه أحياناً قد يكون لشيئين أو أكثر خاصة واحدة وهي تؤدي إلى نتيجة واحدة، فلو كان في أحد الموارد قد وجد أحد هذين الشيئين ولكننا فرضنا الآخر غير الموجود وأجرينا عليه حساباتنا فإن من المؤكد أننا سوف نصل إلى النتيجة الصحيحة لأن كلا الفرضين يؤدي إلى هذه النتيجة.

مثلاً سواء أكانت الشمس هي التي تدور حول الأرض أم الأرض هي التي تدور حول الشمس فإنه يلزم على كلتا الحالتين أن يحول القمر بينهما في اليوم الفلاني ويتحقق الكسوف.

ونحن سواء أجرينا حساباتنا على أساس حركة الشمس حول الأرض أو على أساس حركة الأرض حول الشمس فإننا سنصل إلى هذه النتيجة القائلة بأن الكسوف سيتحقق في اليوم الفلاني وفي الساعة والدقيقة الكذائية.

ويوجد سبب آخر لعدم يقينية العلوم التجربية وهو أن هذه العلوم تنتهي أخيراً إلى المحسوسات والحس يخطئ أيضاً.

يقول فيلسين شاله في كتاب "ميثوءلوجي" (معرفة المناهج العلمية) في فصل "قطعية العلوم الفيزيائية والكيميائية":

" إن العلوم الفيزيائية والكميائية ليست كالعلوم الرياضية في يقينها وقطعيتها المطلقة، لأن أساس تلك العلوم الأولى هو المحسوسات والحس يخطئ في عمله".

ويواصل حديثه فيقول:

" صحيح أن اليقين في العلوم الفيزيائية والكيميائية نسبي وإضافي ولكن النسبية لا تخفض من قيمة تلك العلوم لأنها ترضى عقولنا الباحثة عن النظام والانسجام من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنها تحقق لنا فوائد عملية لا يمكن التقليل من أهميتها".

ويقول في باب قطعية الرياضيات وفائدتها:

"لما كانت الرياضيات مؤسسة على أصل مسلم وهي تمتد وتتسع بوساطة القياسات الضرورية فإنها تصبح علماً يقينياً خالصاً. فمثلاً (2+2=4) إنه حكم محقق ومؤكد، ويعتقد بعض العلماء أن اليقين المطلق غير موجود إلا في هذا الباب".

وسوف نتناول هذا الدليل ( أخطاء الحس) بالبحث في المستقبل بعون الله.

ولعلّ القارئ الكريم يستغرب لأول وهلة عندما يسمع أن العلوم الطبيعية الموجودة اليوم بكل تقدمها وتوسعها الهائل وباكتشافاتها ومنتجاتها العظيمة وبمخترعاتها المذهلة إنما هي فاقدة للقيمة اليقينية وليس لها إلا قيمة عملية.

ولكن هذا الاستغراب يزول إذا عاد إلى ما ذكرناه من أن القوانين العلمية الطبيعية ليست لها من دليل على صحتها سوى أنها تؤدي إلى نتائج عملية، وإعطاء النتائج العملية لا يكون دليلاً على صحتها ولا على مطابقتها للواقع، وأضاف إلى ذلك أيضاً ما سوف نذكره من آراء وعقائد العلماء ضمن إستعراضنا لمسير العقائد والآراء.

ولا توجد في العلوم الطبيعية الحديثة فرضية خالدة، وإنما كل فرضية فهي تلمع في سماء العلم بشكل مؤقت وتتخذ لنفسها صفة القانون العلمي وبعد فترة من الزمن تخلي مكانها لفرضية أخرى. ولا يدعي العلم في المسائل الطبيعية وجود قانون علمي ثابت لا يتغير وليس فيه أي لون من الخطأ والوهم.

ويعتبر العلم الاعتقاد بقانون كهذا لوناً من الغرور الذي كانت تتصف به المرحلة "الأسكولاستيكية" (المدرسية)، ومن مميزات القرون الوسطى. ويعتقد العلماء المحدثون بأن اعتبار قانون علمي ما يقينياً وقطعياً- كما كان يتصور القدماء- إنما هو لون من ألوان الرجعية.

ولعله لا يوجد بين العلماء- منذ القرن التاسع عشر فما بعد-من يدعي اليقين والجزم في الطبيعيات كما كان يفعل القدماء (ولو أن القدماء أيضاً لم يعدوا الطبيعيات والفلكيات يقينية وإنما كانوا يسمونها بالحدسيات).

وإذا أعلن العلماء المحدثون فرضية ما فإنهم يقولون بحقها أن التجارب المتوفرة حالياً تؤيدها، وهم لا يدّعون لها اليقين المطلق ولا يسمونها بالحقيقة المسلمة.

فمثلاً إنشتين (Einstein) العالم المعاصر المعروف والباني للنظرية النسبية في مقابل نظرية الجذب لنيوتن (Newton) في علم الفيزياء- هذا العالم لا يقول بحق نظريته أكثر من:

"إن التجارب الفعلية قد أيدتها".

أجل أن الماديين هم وحدهم الذين يعلنون القطع واليقين في هذه المواضيع ويعتبرونها حقائق مطلقة ويعترضون على العلماء البانين لهذه النظريات بأنهم كيف يترددون في كونها حقيقية.

وسوف نوضح خلال هذه المقالة وفي التعليقة - التي قصرناها على مناقشة آراء الماديين فيما يتعلق بقيمة المعلومات - إن الماديين قد اضطروا -لتحقيق أغراضهم الخاصة - أن يخالفوا جميع العلماء الطبيعيين وأن يعتبروا المواضيع التجربية يقينية،

وإلا فإن فلسفتهم الوهمية ستنهار، وهم يرون من ناحية أخرى أن الفرضيات الطبيعية تتغير ويحصل فيها النسخ فلهذا اخترعوا أمراً وهمياً آخراً سموه بـ "تكامل الحقيقة" وأحدثوا فيه ضجيجاً هائلاً، وهم يحاولون بهذا أن يحتفظوا للعلوم الطبيعية بالقيمة اليقينية من ناحية، وأن يفسروا التغيير والتبدل الحاصلين في الفرضيات من ناحية أخرى.

وأظن أن ما ذكرناه في هذه المقدمة قد أوضح تماماً أن ما يذكره الماديون بعنوان تكامل الحقيقة بمعنى "التغيير التكاملي" ليس إلا وهماً محضاً وسوف نناقش هذا الموضوع بتفصيل أكبر فيما بعد.

ونرى من اللازم من هنا أن نذكر ملاحظة مهمة وهي أن المواضيع التجربية على نحوين:

أولاً: تلك المواضيع التي تعتمد على فرضيات ونظريات غير مشهودة، بل ليس لها من دليل على صحتها سوى أنها تنسجم مع مجموعة من التجارب والنتائج العملية.وهذه المواضيع هي التي قد سلبنا صفة اليقين.

ثانياً: تلك المواضيع التي استخلصت من مجموعة من المشهودات، ومن السائغ أن نعتبرها بنفسها مشهودة أيضاً، مثل تعيين خواص الأجسام وكيفية تركيبها الكيميائي وكون هذه لمواضيع يقينية أو غير يقينية يتوقف على القيمة التي نضفيها على المحسوسات وسوف نشرح في باب مسير العقائد والآراء عقائد العلماء المحدثين فيما يتعلق بقيمة المحسوسات المبشرية؟

لماذا تكون الفلسفة والرياضيات يقينية؟

لأننا قد ذكرنا السبب في عدم كون العلوم التجربية يقينية أصبح من المناسب ذكر السبب في كون الفلسفة والرياضيات يقينية وشرح عقائد العلماء في هذا المضمار . ولما كان هذا الموضوع معتمداً- حسب أسسنا الفلسفية- على مسألتين أخريين أُشير إليهما في صدر هذه المقالة وهما "سبيل الحصول على العلم-وتعيين حدود العلم" وقد استوفى البحث فيهما في المقالة الخامسة التي هي بعنوان "ظهور الكثرة في العلم" لذلك نترك تفصيل هذا الموضوع إلى المقالة الخامسة بإذن الله.




يتبع ان شاء الله المقالة الرابعة ومع السؤال أتكون الحقيقة نسبية أم مطلقة :وردة:
 

خادم العترة

عضو مميز
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


تحياتي للقارئ الكريم أو القارئة الكريمة :وردة::وردة:



7-أتكون الحقيقة مطلقة أم نسبية؟

تنكر مجموعة من العلماء المحدثين الحقائق المطلقة وتقول بالحقيقة النسبية، ويطلق على هذه الجماعة اسم "النسبيين" (Relativiste)، وعلى مذهبهم اسم "النسبية" (Relativism).

وتتلخص عقيدة هؤلاء في أن ماهية الأشياء التي يتعلق بها العلم لا يمكن أن تكتشفها- بشكل مطلق وبدون تغيير- القوى المدركة للإنسان، وإنما كل ماهية تنكشف للإنسان فإن الجهاز الإدراكي له يؤثر فيها من جهة، ومن جهة أخرى فإن البيئة المكانية
والزمانية تؤثر في كيفية ظهور هذا المدرك للشخص المدرك.

ومن هنا فإن كل فرد يدرك أي شيء بشكل مختلف، بل أن الشخص الواحد قد يدرك الشيء الواحد بنحوين مختلفين في حالتين من أحواله.

إذن فأية فكرة صحيحة وحقيقية فهي صحيحة بالنسبة إلى الشخص المدرك فقط وفي بيئة زمانية ومكانية معينة، أما بالنسبة إلى شخص آخر أو لنفس ذلك الشخص ولكن في ظروف أخرى فإن الحقيقة ستكون شيئاً آخر.

فمثلاً أنا أدرك الأجسام في لحظة معينة من الزمان وفي مكان وبيئة خاصة بحجم معين وشكل ولون خاصين، فهذا الإدراك صحيح وحقيقي، ولكنه صحيح بالنسبة إلي فقط وليس بالنسبة إلى الآخرين لأنه من المحتمل أن يدرك إنسان أو حيوان آخر- حيث يختلف بناء قواه الإدراكية معي-هذا الشيء بعينه وفي نفس اللحظة والظروف ولكن بحجم آخر وبشكل ولون مختلفين عما أدركت أنا، ومن الواضح أنه بالنسبة إلى ذلك المدرك فإن الحقيقة ستكون نفس ذلك الشيء الذي أدركه. ومن المحتمل أن أدرك-أنا بنفسي- في لحظة أخرى أو في بيئة مختلفة ذلك الجسم ولكن بحجم آخر وبشكل ولون مختلفين، وستكون الحقيقة بالنسبة إلي في تلك اللحظة والبيئة شيئاً آخر هو نفس ذلك الذي أدركته فيها.

ويستشهد هؤلاء العلماء لما يدّعون بالدراسات العلمية الحديثة، لأن العلوم المعاصرة قد أثبتت أن أعصاب الإنسان تختلف عن أعصاب الحيوان، بل أعصاب أفراد الإنسان تختلف فيما بينهم أيضاً في كيفية العمل.

فمثلاً لقد ثبت أن الإنسان يرى الألوان السبعة الأساسية وكذلك الألوان الفرعية الأخرى، أما بعض الحيوانات فإنه يرى كل الألوان بشكل رمادي، ويوجد بعض الأفراد من الإنسان وهم مصابون بعمى الألوان، بل نحن نلاحظ في حياتنا العادية أن أعصاب الفرد الواحد قد تعمل بشكلين مختلفين في الحالات المختلفة، فمثلاً يكون لأحد المأكولات طعم معين في حالة الصحة ويكون له طعم آخر في حالة المرض، وقد تكون رائحة معينة مقبولة ومحبوبة أحياناً، ومنفرة وداعية إلى الاشمئزاز أحياناً أخرى.

إذن لابد من القول:

" إن كل شيء ينكشف لنا فكيفية ظهوره تتوقف على نوعية عمل أعصابنا وعلى سلسلة من العوامل الخارجية، وعلى هذا فإن ماهية الأشياء المعلومة لا تحلّ في إدراكنا بشكل مطلق ودون أن يمسّها تغيير.
إذن فالحقائق في نفس الوقت الذي تكون فيه حقيقية وصحيحة فإنها نسبية وإضافية".

وصحيح أن هذا المذهب مدعّم بأدلة منتزعة من الدراسات العلمية الحديثة ولكنه من حيث النتيجة والمدلول هو نفس مذهب المشككين.

فبيرون مثلاٌ - وهو المشكّك اليوناني المعروف- ذكر أدلة عديدة لمدعاة ومن جملتها هذا الدليل- وهو اختلاف كيفية إدراك الإنسان عن الحيوان واختلاف كيفية إدراك أفراد الإنسان فيما بينهم واختلاف كيفية إدراك الإنسان الواحد في الحالات المتباينة - ولكن بيرون يختلف عن النسبيين المحدثين في النتيجة فبيرون يستنتج من ذلك الدليل هذه النتيجة.

"إذن لا ينبغي لنا أن نعتقد بكون إدراكاتنا حقيقية، وإنما لابد من مواجهة كل إدراكاتنا بالتردد والشك".

أما النسبيون المحدثون فهم يستنتجون من نفس ذلك الدليل هذه النتيجة:

"إن ما ندركه يتصف بالحقيقة ولكنها حقيقة نسبية، أي أن الحقيقة مختلفة بالنسبة إلى الأشخاص المختلفين".

ومن يمعن النظر في هذه الأحاديث يتضح له خطأ النتائج التي توصل إليها النسبيون، ويتبين له أنه لا معنى إطلاقاً للحقيقة النسبية، ففي المثال السابق- وهو رؤية شخصين لجسم واحد بكيفيتين مختلفتين-إما أن يكون هذا الجسم في الواقع متصفاً بإحدى الكيفيتين وإما أن يكون خالياً منهما معاً ومتصفاً بكيفية ثالثة، وليس من الممكن أبداً أن يكون متصفاً بالكيفيتين معاً في آن واحد.

ففي الصورة الأولى يكون إدراك أحد هذين الشخصين خطأ مطلقاً وإدراك الشخص الآخر حقاً مطلقاً، أما في الصورة الثانية فكلاهما مخطئ، وعلى أية حال فإن الحقيقة النسبية غير معقولة.

وهناك بعض العلماء من قبيل بركلي يتخذ الاختلاف في الإدراك دليلاً على أن المدركات غير موجودة في الخارج، أما البعض الآخر- من قبيل ديكارت وجون لوك (John Loke) وأتباعهما - فإنه يقصر الاختلاف في الإدراك على الخواص الثانوية للأجسام ويعتبرها أموراً ذهنية وغير خارجية.

ولكن النسبيين- الذين يعترفون بالوجود الخارجي للمدركات- يذكرون تلك الأدلة لمدعاهم وهي تثبت ما يدعيه المشككون حيث يقولون:

"لسنا ندري إن كانت إدراكاتنا حقيقية أم لا" ولا تثبت ما يدعونه هم من " أنها حقيقية ولكنها نسبية"، بل قولنا أن الحقيقة نسبية لا معنى له إطلاقاً كما قلنا ذلك من قبل.

إذن فالنسبيون المحدثون لم يأتوا بشيء جديد في باب "قيمة المعلومات" أكثر مما ذكره المشككون السابقون.

أما المادية الديالكتيكية فهي تتبنى ما يدعيه النسبيون في موضوع الحقيقة، ولكنها ترفض- في نفس الوقت- موقف الشك.


وسوف نبحث في هذه المقالة هذا الموضوع وسنثبت هناك أن المادية الديالكتيكية مع أنها تفرّ من مذهب الشك ولكنها في الواقع قد ابتعدت بأسلوبها عن مذهب اليقين وسقطت في حبائل الشك.

وإذا اعترفنا بتدخل الأعصاب أو الذهن- وبالتالي بتدخل الجهاز الإدراكي للإنسان- في جميع المعلومات المحسوسة والمعقولة فلابد أن نعترف أيضاً بما يدعيه المشككون من أنه "لا يمكن الاطمئنان بأن ما نفهمه من الكون مطابق للواقع ونفس الأمر"، ولا بد حينئذ من مواجهة المسائل الطبيعية والرياضية والفلسفية بالتردد والشك.

وذكرنا في المقالة الثانية- وسوف يأتي تفصيل ذلك في المقالة الخامسة- أن الذهن يملك قدرة الظفر- في الجملة- بماهية الأشياء بشكل مطلق ودون تغيير، وتوجد مجموعة من المواضيع التي يستطيع العقل أن يصدر فيها حكمه بكل تأكيد وجزم ويقين واطمئنان.

ونرى من الواجب هنا أن ننبه على بعض الملاحظات:

أولاً: أن كل العلماء الذين ينفون الإطلاق بالنسبة إلى الإدراكات التي لها مصداق خارجي ويقولون بتأثير وتدخل الأعصاب والمخ وبالتالي بتدخل الجهاز الإدراكي في كيفية ظهور وانكشاف جميع الأشياء فإنهم- شاءوا أم أبوا- يدخلون ضمن المشككين وإن كانوا هم أنفسهم ينفرون من مذهب الشك، فالفيلسوف الألماني كانت لا يرضى أن يدرج ضمن المشككين والسوفسطائيين ويعدّ نفسه "ناقد العقل وفهم الإنسان" ولكنه بعد إيراد النقد الطويل يذكر أدلة جديدة (في خصوص الطبيعيات) تعتبر أدلة مؤيدة لمذهب الشك، وليس الأسلوب الذي اتبعه والمسمى بـ "كريتي سيسم" (مذهب النقد) إلا شكلاً جديداً من الأشكال المتنوعة لمذهب الشك "سيتي سيسم"، وكذلك المادية الديالكتيكية فإنها-باعترافها بنسبية الحقيقة في جميع المسائل- تعدّ شكلاً آخر من أشكال مذهب الشك من حيث قيمة المعلومات.

ثانياً: اصطلح بعض العلماء على الحقيقة الناتجة من التجارب باسم "الحقيقة النسبية" لأن لها جانباً احتمالياً وهي لا توجب اليقين وهذا في مقابل الحقيقة الرياضية التي توجب القطع واليقين التي اصطلحوا عليها باسم "الحقيقة المطلقة".

وقد سبق لنا القول أن الحقيقة النسبية بهذا المعنى- أي بمعنى وجود الحقيقة الاحتمالية في بعض العلوم- هي مورد قبولنا وموافقتنا.

ثالثاً: أن النظرية النسبية التي مر ذكرها تتعلق بنسبية الحقائق الذهنية وهي مما يناقش في الفلسفة.

ولكن هناك بعض العلماء الفيزيائيين والرياضيين يعتبرون الوقائع والظواهر الفيزيائية نسبية، ومن الواضح أن هذه النسبية الفيزيائية لا علاقة لها بالنسبية الفلسفية السابقة.

ومن المناسب هنا أن نذكر حديثاً مختصراً يدور حول مسير العقائد والآراء منذ المرحلة اليونانية القديمة وحتى العصر الراهن فيما يتعلق بهذا الموضوع وسوف لن نتعرض لعقائد الفلاسفة الهنود ولا الصينيين الذين عاصروا المرحلة اليونانية القديمة لأن لهم أفكاراً تشبه أفكارهم.

ظهور مذهب السفسطة في اليونان:

كانت اليونان- حوالي القرن الخامس قبل الميلاد- تتمتع بمدينة رفيعة، وقد ظهر في هذه البلاد فلاسفة وعلماء عظام ونشأت مدارس فلسفية مختلفة، وتصارعت العقائد والآراء المتباينة في المسائل الفلسفية، وصيغت نظريات متنوعة في تفسير الكون.

واشتملت الحيرة على بعض العلماء فراحوا يعدّون كل الإدراكات والآراء البشرية - وحتى البديهيات الأولية-شيئاً باطلاً وخيالاً محضاً وينكرون كل قيمة لأي فكر وإدراك ويعتبرون المعلومات كلها عبثاً، ومن هنا نشأ مذهب السفسطة.

ووقف في وجه هؤلاء السقراطيون ولا سيما أرسطو، ففضحوا مغالطاتهم وأثبتوا قيمة المعلومات وأنها ليست عبثاً، وإن الإنسان يملك قوة يستطيع أن يدرك بفضلها الأشياء كما هي موجودة في الواقع، وإن الإنسان إذا وجّه فكرة في السبيل الصحيحة فإنه يستطيع أن يصل إلى إدراك الواقع كما هو.

ودوّن أرسطو المنطق لهذا الغرض وهو أن يكون ميزاناً ومقياساً للتفكير السليم، واعتبر البرهان في المنطق مؤدياً إلى نتيجة "يقينية"، أي أنه إدراك مطابق للواقع، واعتبر المحسوسات والمعقولات معاً ذات قيمة في تحصيل اليقين بوساطة البرهان، أي أنه يصرح بالقيمة اليقينية للإدراك الحسي والإدراك العقلي معاً، وبهذا يكون قد وضع الحجر الأساسي للفلسفة اليقينية "الدجماتية".

مذهب المشككين:

في تلك الفترة ذاتها نشأ مذهب آخر هو مذهب المشككين "السيتسية".

ويظن أتباع هذا المذهب أنهم سلكوا سبيلاً وسطى فلا هم قائلون بما يقول به السوفسطائيون من إنكار أي واقع وراء ذهن الإنسان، ولا هم قائلون بما تقول به الفلسفة اليقينية من أنه يمكن الظفر بإدراك الأشياء كما هي في الواقع ونفس الأمر.

ويدعى أتباع هذا المذهب أن إدراك الإنسان لأمور العالم متوقف تماماً على الوضع الخاص لذهن الشخص المدرك، وإن ما يفهمه كل إنسان من أمور العالم فهو كما يقتضيه وضعه الذهني وليس كما هو في الواقع، فلعل لهذه الأشياء التي ندركها كيفية خاصة في الواقع ونحن ندركها بكيفية أخرى حسب ما يقتضيه وضعنا العقلي.

ويذكر بيرون- مؤسس هذا المذهب- عشرة أدلة لنفي القيمة اليقينية لإدراكاتنا، ومن جملتها "تأثير البيئة الزمانية والمكانية، وكيفية تركيب القوى المدركة في الشخص المدرك، فيما ندركه" ويثبت بهذا إن إدراكنا للأشياء يتوقف على سلسلة من العوامل الخارجية وعلى مجموعة من العوامل الداخلية، وبتغيير هذه العوامل تتغير تلك الإدراكات أيضاً.

إذن لابد لنا أن لا ندعي أننا ندرك الأشياء كما هي عليه في الواقع وإنما لابد من القول أننا ندركها حسب ما يقتضيه تركيب القوى الإدراكية فينا، متأثرين في ذلك بالبيئة الخاصة التي تكتنفنا. أما هي الحقيقة؟ فالجواب لا نعلم.

وتزعم هذه الجماعة أن الطريق الصحيح الذي يجب على الإنسان أن يسلكه في جميع المسائل هو الامتناع عن إبداء أي رأي يقيني، ولا بد من مواجهة جميع المسائل الفلسفية والعلمية وحتى الرياضية بالاحتمال والتردد. وبهذا فقد وضعت أسس فلسفة المشككين في مقابل الفلسفة اليقينية.

وبهذا فقد انقسم الفلاسفة المؤمنون بواقعية الكون والعالم (وهم في مقابل السوفسطائيين الذين لا يعدّون ضمن الفلاسفة) منذ أقدم العصور التاريخية إلى فئتين متميزتين:

1-فئة اليقينيين: وهم الذين يقولون بإمكانية تحصيل العلم المطابق للواقع، أي أنهم يعتبرون ذهن الإنسان متمتعاً بخاصية تجعله قادراً على إدراك الأشياء كما هي عليه في الواقع، وهم يقولون بسلسلة من القواعد المنطقية التي تصون مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر.

2-فئة المشككين: وهم المنكرون لهذه الخاصية وفي الحقيقة فهم مترددون في المعلومات البشرية.

ولكن أصحاب الفلسفة اليقينية اعتبروا- فيما بعد- شبهات المشككين نوعاً من السفسطة واعتبروا المشككين ضمن السوفسطائيين ولم يفرقوا بين "السوفسطائي" و "المشكك"، وراحوا يطلقون اسم الفيلسوف فقط على من يتصف بما يأتي:

أولاً: أن لا يعد العالم عبثاً في عبث وخيالاً باطلاً.
ثانياً: أن يعتبر الظفر بحقائق الكون ممكناً وميسراً.


عقيدة القدماء:

وهاتان الناحيتان واضحتان تماماً في التعريف الذي وضعه القدماء للفلسفة (بمعناها العام) فهم يقولون:

"الفلسفة عبارة عن العلم بأحوال أعيان الموجودات على ما هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية".

ويحسن الالتفات إلى أن هذا القيد "بقدر الطاقة البشرية" إنما هو للإشارة إلى هذه الملاحظة وهي أن الإنسان مهما استطاع أن بوجه فكرة نحو كشف الحقائق، ولكنه من ناحية أخرى تبقى حقائق العالم غير متناهية مع أن الاستعداد الإنساني محدود، ولهذا فإن الإنسان لا يوفق إلا لاكتشاف قسم من حقائق العالم فقط ولن يتمكن من الإحاطة بالكل أبداً.

ولما كان القدماء سائرين حسب الأسلوب اليقيني، أي أنهم يفسرون الإدراك بأنه انكشاف العالم الخارجي للذهن المدرك، فلهذا يعرفون الفلسفة من حيث الغاية التي يقصد إليها الفيلسوف بقولهم:

"الفلسفة هي صيرورة الإنسان عالماً عقلياً مضاهياً للعالم العيني".

يقول الشاعر:

"كل إنسان كسب من المعرفة زاداً
فهو عالم بذاته قابع في إحدى الزوايا"



وبعد انقراض مذهب المشككين- الذي استمر طيلة ثلاثة أو أربعة قرون بعد الميلاد- فإن جميع الفلاسفة- الأوربيين والمسلمين- يسيرون حسب المنهج اليقيني، ولم يتردد أحد منهم في قيمة الإدراكات، واستمر هذا حتى دخلت أوربا في القرن السادس عشر فما بعد ووقعت فيها حوادث وتحولات في مختلف المجالات العلمية وسلط الضوء من جديد على مسألة قيمة المعلومات.

وفي هذا التحول الجديد في أوربا أعيد النظر غي علوم الفلك القديمة وفي الأقسام المختلفة من الطبيعيات ثم خطّوا بخط البطلان على مواضيع كانت تقع موقع القبول والتسليم من جميع العلماء لآلاف السنين ولم يكن يخطر على بال أحد خلافها قبل ذلك، وأصبح من المسلم في هذا العصر أنها لم تكن سوى أخطاء بشرية، وأدى هذا الأمر إلى أن تفقد العلوم اعتبارها السابق واتضح بهذا بعض العجز البشري للوصول إلى الواقع.

والوضع الذي كان في اليونان القديمة- في القرن الخامس قبل الميلاد- والذي أدى إلى أن يسلب علماء تلك البلاد اعتمادهم من العلم وأن يتمسكوا بالسفسطة قد عاد بنفسه تقريباً في أوربا خلال هذه القرون الحديثة، وظهر في أوربا- كما نعلم- المثاليون من قبيل بركلي وشوبنهاور(Schopanhauer) وهم يظهرون آراءً تشبه آراء بروتاغوراس (Protagoras) وجور جياس (Gorgias) من السوفسطائيين في اليونان القديمة، وظهرت مذاهب ومسالك في باب قيمة المعلومات تنتهي في نتائجها إلى مذهب المشككين التابعين لبيرون من قبيل مذهب النسبيين المحدثين- الذي مر علينا شرحه- ومذهب النقد "كريتي سيسم" ومذهب المادية الديالكتيكية في باب قيمة المعلومات كما أشرنا إليه من قبل وسوف نوضحه أكثر فيما بعد.

وأدى هذا الأمر إلى أن تتخذ الفلسفة الأوربية- في القرون الأخيرة- العلم محوراً لها ونهض العلماء بدراسات متنوعة في هذا الحقل، ويمكن القول أنه- في هذه المرحلة الجديدة- قد نسخ الاعتقاد بالقيمة المطلقة للمعلومات كما كانت عليه في الماضي.


يتبع إن شاء الله المقالة الرابعة وحديثنا عن نظريات المحدثين:وردة::وردة:
 

TORNADO

مشرف منتدى القلم
عزيزي أبو جهاد الأنصاري الرجاء مناقشة ما كُتِب وليس من كَتب.

تمت إزالة مشاركة خارجه عن الموضوع.

تحياتي لكم.........
 

خادم العترة

عضو مميز
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


تحياتي للجميع :وردة:


وهذا استعراض مختصر لنظريات العلماء المحدثين:

نظرية ديكارت:

اختار ديكارت (Descartes) "1596 - 1650 م" وأتباعه سبيل اليقين إقتداءً بأرسطو، مع بعض الاختلاف، وهو أن أرسطو وأتباعه يعتبرون المحسوسات والمعقولات معاً محصّلات لليقين، ويجيز المنطق الأرسطي استعمال المحسوسات والمعقولات في باب "البرهان"، أما ديكارت فهو يعتبر المعقولات وحدها محصّلة لليقين وأما المحسوسات والتجربيات فليس لها إلا قيمة عملية.

وضع ديكارت منطقاً في مقابل منطق أرسطو يعتمد فيه على المعقولات فقط ولا يذكر التجربيات فيه أبداً.

ومع أن ديكارت يولي التجربة أهمية وقد كان هو بنفسه أحد أصحاب التجربة إلى حدّ ما ولكنه كان يعدها وسيلة فحسب لارتباط الإنسان بالخارج للإفادة منها في الحياة وليس لها أي دور في كشف الحقيقة.

وهو يقول- حسب ما ينقل المرحوم فروغي-:

"إن المفاهيم التي ترد الذهن من الخارج بوساطة الحواس الخمس لا نستطيع أن نطمئن إلى أن لها مصدقاً حقيقياً في الخارج، وإذا كان لها مصداق فليس من المؤكد أن الصورة الموجودة في أذهاننا مطابقة للشيء الخارجي".

ويقول أيضاً:

" إني أدرك أن الحرارة تنبعث من بعض الأجسام وأظن أن الحرارة التي فيها تشبه الحرارة التي هي موجودة لدي، والحال أنني لا أستطيع إلا أن أعتقد بأن في ذات النار شيئاً يوجد الإحساس بالحرارة فيّ ولكنه لا ينبغي لي أن أتخذ من هذا الإحساس عقيدة فيما يتعلق بـ "حقيقة الأشياء" وذلك لأن الإدراكات الحسية في الإنسان ليست إلا لتمييز المفيد من المضر ولتعيين المصالح وليست هي وسيلة للظفر بالحقائق".

ويزعم ديكارت أن الشكل والبعد والحركة فقط هي الحقيقية من أحوال الجسم لأنها- حسب رأيه- وحدها المعقولة والفطرية التي لم تأت عن طريق الحس، أما سائر حالات الجسم التي يسميها بالخواص الثانوية فهو يعتبرها سلسلة من الصور الذهنية التي جاءت نتيجة لسلسة من الحركات المادية الخارجية ونتيجة لارتباط الإنسان بالخارج من قبيل اللون والطعم والرائحة وغيرها. وهو يقول:

"وفروا لي البعد والحركة وأنا أصنع لكم العالم".

ويقول المرحوم فروغي:

"لقد بيّن ديكارت- بطريق علمية- أن محسوسات الإنسان لا تطابق الواقع وإنما هي وسيلة فقط لارتباط الجسم بالعلم المادي وهي تقدم لنا صوراً من العالم لا حقيقة لها، والحقيقة شيء آخر، فمثلاً تسمع الإذن غناء اً ولكن الصوت لا حقيقة له، ولو كانت الإذن تدرك الواقع لاستطاعت أن تدرك فقط الحركات التي في الهواء أو في الأجسام الأخرى".

ويقول أيضاً:

"إن ديكارت يعتبر المفاهيم الفطرية فقط أساساً للعلم الواقعي".

ويقول ديكارت:

"إن الصور التي في أذهاننا على ثلاثة أقسام:

القسم الأول:
الفطريات وهي تلك الصور المرافقة للفكر وللتحولات الفكرية أو هي القاعدة للتفكير.
القسم الثاني:
المجهولات وهي الصور التي تخلقها قوة التخيل في الذهن.
القسم الثالث:
الخارجيات وهي تلك الصور التي ترد إلى الذهن بوساطة الحواس الخمس.

فالصور التي تخلقها المخيلة لا اعتبار لها، أما المفاهيم التي ترد إلى أذهاننا من الخارج فلا نستطيع أن نطمئن إلى أن لها مصداقاً حقيقياً في الخارج، وإذا كان لها ذلك المصداق فليس من المؤكد أن الصور التي في أذهاننا تطابق ذلك الأمر الخارجي، كما نلاحظ ذلك في صورة الشمس في أذهاننا فمن المقطوع به أنها غير مطابقة للواقع لأننا حسب المعلومات الفلكية المتوفرة نعلم أن الشمس تساوي آلاف المرات أرضنا التي نعيش عليها مع أن صورتها في أذهاننا لا تساوي حتى مساحة الكف الواحدة".

ويقول في شرح معنى الفطريات:

"أما الفطريات فهي التي تدركها عقولنا بالبداهة وهي صحيحة يقيناً ولا يتطرق الخطأ فيها إلى أذهاننا أبداً من قبيل الشكل والحركة والأبعاد (من الأمور المادية الصرفة) والعلم والجهل واليقين والشك (من الأمور العقلية المحضة) والوجود والمدة والوحدة (من الأمور المشتركة بين المادة والعقل).

ويتحدث أيضاً عن الفطريات فيقول:

"إن كل إنسان يحكم بوجود نفسه بالبداهة والوجدان وكذلك بالنسبة إلى إدراكه أن للمثلث ثلاث زوايا وأن الكرة ليس لها إلا سطح واحد وأن الشيئين إذا ساوى كل منهما شيئاً ثالثاُ فإنهما متساويان".

ويبني ديكارت أساسه في الإلهيات والطبيعيات على الفطريات والمعقولات الصرفة فقط ويسير حسب أسلوب منطقي خاص به وله آراء ونظريات خاصة في النفس والجسم وذات الله سبحانه وإثبات أن العالم غير متناه وغيرها من الأمور.

وقد اقتفى أثر ديكارت جماعة من الفلاسفة الذين جاءوا بعده من قبيل ليبتنس( Leibniz) ومالبرانش (Malabranche) واسبينوزا (Spinoza) وذلك في باب المحسوسات وفي عدم كون المحسوسات من جملة الحقائق، وكذلك في رأيه في المعقولات والفطريات وفي كونها يقينية مع بعض الاختلافات اليسيرة.

ويطلق على هذه الجماعة اسم "العقليين" لأنهم يقولون بالمعقولات غير المعتمدة على الحس.
وتتلخص عقيدة هؤلاء العلماء في أن للمعلومات قيمة يقينية وعلمية، أما المحسوسات فليس لها سوى قيمة عملية.

نظرية الحسيّين:

والحسيون يقفون في مقابل العقليين وصحيح أنهم يخالفون أولئك في الأمور الفطرية، وهذا الخلاف هو الذي يميزهم منهم وهو الذي أوقع الجدال بينهم ودعا إلى تأليف الكتب من الطرفين ليثبت كل منهم نظريته ويدحض النظرية المخالفة، ولكنهم يوافقون العقليين في نفي قيمة المحسوسات تلك العقيدة التي أعلنها ديكارت.

ويعتبر جون لوك (1622-1704 م) الإنجليزي زعيم الحسيّين وهو أكبر علماء أوربا وله نظريات مهمة في علم النفس، وهو يتحدث عن المحسوسات فيقول:

"ليس من المعقول إنكار الموجودات المحسوسة، ومن الواضح أن اليقين فيها ليس كاليقين بالنسبة إلى المعلومات الوجدانية (وهي الأشياء التي يصدق الذهن بها بغير وساطة النسبة بين الموضوع والمحمول كعلم النفس بوجود ذاتها وأن الثلاثة تساوي اثنين بإضافة واحد وأن المثلث غير المربع) ولا كاليقين الحاصل في الأمور العقلية (وهي الأشياء التي يحتاج الذهن- لكي يدرك النسبة بين الموضوع والمحمول- إلى تصور معان أخرى، وهي من قبيل أن مجموع زوايا المثلث يساوي مجموع زاويتين قائمتين أو أن للعالم مبدعاً).

ويمكن عدها من وجهة النظر العلمية والفلسفية في زمرة الظنون، ولكننا في أمور حياتنا الدنيوية لابد من اليقين بحقيقة المحسوسات.

ويرى لوك رأي ديكارت في باب تقسيم خواص الجسم، وهو يقول:

"الخواص على قسمين: فبعضها ذاتي للجسم ولا ينفك منه ونسميها بالخواص الأولية كالجرم والبعد والشكل والحركة أو السكون، وبعضها خواص في الذهن بوساطة الخواص الأولية كاللون والرائحة ونسميها بالخواص الثانوية".

وهنا يرد إشكال يتلخص في أننا إذا اعتبرنا كل معلوماتنا عن العالم الخارجي (حسب وجهة نظر جون لوك) متوقفة على الحس، والمفروض أن الحس ليس له قيمة يقينية، إذن من أي طريق نحن نستطيع أن نصدر حكمنا بأن بعض خواص الأجسام ذاتية لها وبعضها عرضية؟ وبعبارة أخرى بعضها حقيقية ولها واقع في الخارج وبعضها الآخر ذهني محض بينما قد أدركناها جميعاً بوساطة الحس؟ ولأي سبب لا تكون الخواص الأولية ذهنية خالصة مثل الخواص الثانوية؟

وحاول بعض العلماء- من قبيل جورج بركلي وهو ممن وافق جون لوك في عقيدته في باب "أصالة الحس"- بهذا الإشكال أن يحمل لوك على اعتبار جميع المحسوسات من الأمور الذهنية. وعلاوة على هذا نقول: أنه بناءً على أصالة الحس التي يعلنها لوك فمن أي طريق نحن نستطيع أن نضفي القيمة اليقينية على سلسلة من المعلومات التي يسميها بالوجدانيات أو البديهيات، وكذلك المعلومات الأخرى التي يطلق عليها الأمور العقلية والاستدلالية ؟ (مما مرت الإشارة إليها عند نقل كلامه)

أيمكن بناء على أصالة الحس- مع الاعتقاد بأن الحس يخطئ في عمله- أن نضفي القيمة اليقينية على غير المعلومات الحضورية (وهي علم النفس بذاتها وفكرها وأفعالها وقواها)؟وعلى أية حال فإن عقيدة الحسيّين في باب المحسوسات تشبه عقيدة العقليين، وهم جميعاً ينكرون أن تكون لها قيمة علمية ونظرية. ولا يوجد بين الفلاسفة المحدثين- ولا سيما منذ القرن التاسع عشر فما بعد- فيلسوف واحد يتبنى نظرية القدماء فيما يعود إلى المحسوسات.

وشاعت في أوربا- في القرن التاسع عشر "النظرية الذرية" (Atomism) التي وضعت أسسها في القرن الخامس قبل الميلاد على يد ديمقراطيس في اليونان، وأصبح واضحاً أن الجسم- على خلاف ما كان يعتقد القدماء- ليس واحداً متصلاً كما يبدو لأول وهلة وإنما هو مركب من ذرات متناهية في الصغر وهي التي تكون الجسم الواقعي.

وتختلف الأجسام وتتنوع باختلاف شكل ومقدار ووضع ذراتها، وتلك الذرات دائماً هي في حالة حركة. ولا يوجد منشأ للسمع والبصر وسائر الإحساسات سوى تلك الذرات. أما ما ندركه من لون أو طعم أو رائحة أو صوت عن طريق الحواس فليس لها واقع خارجي وإنما هي مجموعة من الحالات الذهنية التي تمثل التأثيرات المختلفة للذرات.

وحسب قول بعض العلماء:

"فإن الطبيعة لا لون لها ولا رائحة ولا صوت وإنما نحن الذين صنعنا لها أشعة الشمس الذهبية ونكهة الورد العطرة وغناء البلبل الشادي".

وديمقراطس نفسه يصرح بأن الصور التي تنقلها حواسنا عن الأشياء لا يصح أن تؤخذ دليلاً على واقعية الأشياء الخارجية وإنما هي تمثل التأثيرات المختلفة للذرات التي تخرج من الأجسام وتدخل إلى حواسنا.

وينقل عن ديمقراطيس قوله:

"إن الشيء ذا الطعم الحلو قد أصبح حلواً بالاعتبار والاتفاق وكذلك المر والحار والبارد واللون فإنها جميعاً قد أصبحت بهذا الشكل لاعتبار الناس لها واتفاقهم عليها، وأما إذا أردنا الحقيقة فإن هذه ليست إلا ذرات وفراغات ".

ومن جملة العلماء الحسيين الذين ينكرون نظرية ديكارت وأتباعه فيما يتعلق بالمعقولات المحضة ويقولون بأصالة الحس ويعتبرون المعلومات كلها معتمدة على الحس تبعاً لجون لوك- من جملة هؤلاء جورج بركلي (George Barkeley) "1685-1753م" ودافيد هيوم (David Hume) "1711-1776م".

وقد اندفع هذان العالمان في نفي قيمة المحسوسات التي يظنان أنها أساس العلم أكثر من ديكارت وجون لوك، فمثلاً كان ديكارت يقول أن البعد والشكل والحركة في الجسم (وهي الخواص الأولية) حقيقية لأنها كما يعتقد متعلقة وليست محسوسة، والشيء الذي هو غير حقيقي إنما هو الخواص الثانوية من قبيل الصوت والطعم واللون والرائحة التي هي محسوسة، ولكن هذين الشخصين قد أفرطا فزعما أن الخواص الأولية مثل الخواص الثانوية ليست حقيقية،

ومع أنهما يعتبران الحس أساس العلم ولكنهما لا يضفيان على الإدراكات الحسية أية قيمة، بل هما ينكران حتى الوجود الخارجي للمحسوسات.

نظرية كانت:

إن للفيلسوف الألماني الشهير كانت (Kant) "1724-1804م" نظريات مهمة فيما يخص قيمة المعلومات وسائر مسائل العلم. ويعدّ كانت من الطراز الأول من فلاسفة أوربا ويثق الأوربيون ثقة عظيمة بفلسفته، فيقول مثلاً أحد العلماء الأوربيين منوهاً بفلسفته:

"تحسب أنها جبل قد شيد من الفلسفة".

ولما كانت فلسفة كانتْ تنقد العقل وفهم الإنسان وتعيّن لكل من العقل والحس حدودهما وتوضح الأمور القابلة للمعرفة، لذلك فهي تسمى بفلسفة النقد (كريتي سيسم) يقول المرحوم فروغي:

"بدأ فرنسيس بيكون (Fr Bacon) بنقد العلم والفلسفة- في النصف الثاني من القرن السادس عشر والنصف الأول من القرن السابع عشر- وواصل جون لوك نفس المسيرة واقتحم الميدان بركلي بأسلوب آخر، وعمق أسس هذا الأسلوب وأوضحها دافيد هيوم، وكان هؤلاء جميعاً من الإنجليز، ثم ورد الساحة كانت الألماني بإشارة من هيوم وفتح صفحة جديدة من المعرفة وذلك بإصلاح الأخطاء وإكمال النقائص".

والقسم الأعظم من دراساته مقصور على مسألتين أخريين (هما سبيل الحصول على العلم- وحدود العلم ) من مسائل ثلاث ذكرناها في أول هذه المقدمة وسوف نعود إلى تفصيلها في المقالة الخامسة إن شاء الله.

ويعترض العلماء على نظرية كانت من ناحيتيها، وحسب تفسير كانت هذا لا يمكن إثبات كون الرياضيات يقينية كما سوف يأتي في المقالة الخامسة وإنما لابد من البحث عن سبيل أخرى.

ثالثاً: الطبيعيات:

وشرحه لها مفصل مبسوط، وملخصه أن ذهن الإنسان قادر فقط في الأمور الطبيعية على إدراك الأعراض والظواهر "الفنومونات" (Phenomen) التي تأتي عن طريق الحس، والعقل عاجز عن إدراك الذوات "النِمونات" (Noumen) التي هي موضوع الأعراض والظواهر. وفي مورد الظواهر أيضاً فإن العقل الإنساني- بتركيبه الخاص- يضفي أشكالاً وصوراً خاصة على الأشياء، ولا يمكن الاطمئنان إلى أن الواقع ونفس الأمر هو بهذا الشكل وهذه الصورة الظاهرة لعقولنا أم لا!

ويقول كانت أن الحواس تعطي العقل مواد الوجدانيات والمعلومات ثم يمنحها العقل التنظيم والانسجام من نفسه ويعطيها الصورة ويجعلها مؤهلة للإدراك. ويواصل حديثه قائلاً: أن كل ما يتصوره الإنسان فهو يتصوره خلال الزمان والمكان، وليس من الممكن أن يدرك شيئاً من أمور العالم منفصلاً عن هذين الظرفين. ولكن الزمان والمكان ليس لهما وجود خارجي وإنما هما كيفيتان لذات العقل وصور يمنحها العقل لمحسوساته، إذا لم يضف العقل هذا النظام من نفسه لم ترد الذهن إلا مجموعة من التأثيرات المبعثرة المتفرقة غير المترابطة، وبالتالي فإن العقل لا يستطيع أن يتصور شيئاً محدداً.

فمثلاً نحن نملك صورة واضحة عن الشمس مع أن الذي يرد إلى أذهاننا بوساطة التأثيرات الحسية إنما هو الحرارة والضوء واللون كل على حدة، ولو لم يقم الذهن- بما يتمتع به من خواص- بتعيين ظرف مكاني وزماني لهذه الأمور، ولو لم يربط بينها لم يظفر بتصور واضح للشمس.

ويقول في مقام التشبيه: "نحن نشبه المعلوم بالغذاء الذي لابد أن يدخل البدن ويحل محل ما يتحلل منه، ولهذا الهدف لابد من إدخال الطعام إلى المعدة من الخارج وعندئذ لابد للمعدة وسائر أعضاء الجهاز الهضمي من أن تضيف إلى الطعام العصارات من نفسها لكي تهضم ذلك الطعام، إذن فالطعام بمنزلة الاحساسات، والعصارات بمنزلة الزمان والمكان".

هذا الحديث مختص بالوجدانيات أو التصورات الأولية التي لدينا عن الأشياء (الأعراض والظواهر).

أما إذا أردنا أن نتخذ الأشياء موضوعاً للأحكام وأن نصوغ لها قوانين علمية وكلية فلابد حينئذ من تدخل مجموعة من المعقولات الأخرى التي هي صنيعة الذهن تماماً ولم تأتنا من طريق الحس، وهي تضفي عليها صورة القانون العلمي الكلي.

وهذه القوانين التي تدخل تحتها كل المعلومات إنما هي مخلوقة الذهن، ولعل هناك قوانين أخرى هي التي تحكم الأشياء في الواقع ونفس الأمر.

وهذا كلام واضح ومفصل. ومن جملة هذه القوانين- حسب رأي كانت- قانون العلة والمعلول. يقول كانت بحق هذا القانون:

"إن علاقة العلة والمعلول قد صنعها العقل، وليس المعلوم أن ترتب المعلول على العلة واجب في عالم الواقع".

والخلاصة فما عدا مجموعة من الآثار المتغيرة الجزئية المبعثرة التي ترد إلى أذهاننا من طريق الحواس فإن إدراكنا للعالم الخارجي يكون بوساطة مجموعة من المعلومات والمفاهيم والقوانين التي تصوغها عقولنا وتجبرنا على أن ندرك العالم بهذه الأشكال والصور وفي ظل هذه القواعد والقوانين. ولكانت بحوث مستفيضة في هذه المفاهيم والقوانين وفي كيفيتها ومنشئها وترتبها.


يتبع إن شاء الله المقالة الرابعة ومع قول المرحوم فروغي :وردة::وردة:


تحياتي
 
السلام عليكم
هل هذا الموضوع للعرض فقط أم قابل للحوار حوله.
إن كانت الأولى فلا تعير مشاركتى أى اهتمام وإن كانت الثانية فلى عدة أسئلة هى من باب الاستفسار أكثر من كونها من باب المناقشة.
ولكن قبل أن أضع أسئلتى أود أن أبين وأوضح وأركز على نقطة جوهرية ألا وهى أننى لست فيلسوفاً ، ولا دارساً للفلسفة بل وأكرهها كثيراً ذلك أنها قد جرت على الأمةمن المصائب الشئ الكثير وليس هذا محل التفصيل.
أما أسئلتى فهى :
1- ما علاقة الفلسفة بالغيبيات الإيمانية؟
2- هل الدين ( التشريع ) من نطاق اهتمام ومجال دراسة الفلسفة؟
3- كيف نوفق إذا حدث تعارض بين الفلسفة والدين؟
4- الدين والفلسفة أيهما حاكم وأيهما محكوم؟
5- هل دين الإسلام فى حاجة إلى الفلسفة فى الاستدلال العلمى أو الحكم الشرعى أو المجال الدعوى؟
6- الفلسفة تعلى قدر العقل والدين يحجمه فمع أيهما نسير؟
يكفى هذا الآن وأشكر جهدكم الكبير فى هذا الموضوع.
قد أستفيد من حقاً بعض المعارف.
 

لويس خان

عضو فعال
ابو جهاد !

قرأت مؤخرا كتاب ( علم الكلام و بعض مشكلاته ) لاحد اساتذة الفلسفة الاسلامية.

و سأقوم قريبا باستعراض مبسط لمادته علك تجد ضالتك.
 
ابو جهاد !

قرأت مؤخرا كتاب ( علم الكلام و بعض مشكلاته ) لاحد اساتذة الفلسفة الاسلامية.

و سأقوم قريبا باستعراض مبسط لمادته علك تجد ضالتك.

أشكر لك اهتمامك أخى الكريم.

كتاب ( علم الكلام و بعض مشكلاته ) لاحد اساتذة الفلسفة الاسلامية.
لعل هذا هو مكن اعتراضى بالفعل.

ولعله سيكون لنا مناقشات مثمرة حول الموضوع.

حياك الله.
 

خادم العترة

عضو مميز
بسم الله الرحمن الرحيم
الهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


تحياتي للجميع :وردة:


يقول المرحوم فروغي:


"يقول كانت في تحقيق هذه المسألة:

إنني قد غيّرت الأسلوب الذي سار عليه الفلاسفة الآخرون، وفعلت ما فعل كوبرنيك (Copernic) في موضوع هيئة العالم حيث رأى أننا بهذا الفرض- وهو أننا مركز العالم، والشمس والسيارات الأخرى كلها تدور حولنا- نخلق لأنفسنا مشكلات ومصاعب، ولهذا فهو قد عكس الفرض وقال أن الشمس هي المركز ونحن ندور حولها، وبهذا وجد تلك المشكلات قد حلّت.

أما أنا فقد لاحظت أن الإنسانية تعتقد لحد الآن أن الأشياء هي الأصل وأن عقولنا تجعل إدراكاتنا تابعة لواقع تلك الأشياء، أي أنها تجعلها مطابقة لها، ومن هنا ينشأ الإشكال وهو كيف يمكن أن نكوّن أحكاماً تركيبية من الأشياء الخارجة عن الذهن مع المعلومات القبلية (الفطرية)؟ (معنى الأحكام التركيبية هو تلك الأحكام التي يكون موضوعها ومحمولها مفهومين مختلفين).

ولهذا فقد فرضت أنا أن أذهاننا تجعل الأشياء مطابقة لإدراكها، أي نحن لا يعنينا أن تكون إدراكاتنا الفعلية مطابقة لواقع الأشياء أو لا تكون، لأننا لا نستطيع أن نحيط علماً بذلك، وإنما الذي نعلمه هو أننا ندرك الأشياء كما يقتضيه وضع عقولنا، وبهذا فقد حلّ الإشكال".


ومن الواضح أن هناك فرقاً هائلاً بين فرضية كوبرنيك في هيئة العالم وفرضية كانت في باب قيمة المعلومات لأن فرضية كوبر نيك قد حلت المشكلات المستعصية في وجه علماء الفلك، وأما فرضية كانت فعلاوة على أنها تتضمن إشكالات تستعصي على الحل فإن جميع الإشكالات التي يهرب منها الفلاسفة-ومن جملتهم كانت- قد أصبحت أشد وآكد، وذلك أنّ كانت لا يرضى أن تنسب إليه السفسطة ومذهب الشك، بينما هذه الفرضية التي جاء بها تؤدي -على أقل تقدير- إلى مذهب الشك.

وعلاوة على هذا فإنه ليس فرضاً جديداً لأن بروتو غوراس- السوفسطائي المعروف في القرن الخامس قبل الميلاد- قد بيّنه قبل كانت بألفين وثلاثمائة عام بقوله:

" الإنسان هو مقياس كل الأشياء".


ومن ناحية فإن كانت كان يتردد في ترتب المعلول على العلة في العالم الواقعي ولكنه من ناحية أخرى يقول:

"صحيح أننا ندرك بحواسنا الأعراض والظواهر، ولكننا نحن نعلم أنه لابد لها من مُظهر. إذن قطعاً توجد ذوات تكون هذه الأعراض مظاهر لها".

وهنا يرد الإشكال المعروف لشوبنهاور فهو يقول:

"بعد أن بيّنت في نقدك أن العلية والمعلولية صنيعة الذهن فبأي دليل تحكم بوجود ذوات في الخارج تكون عللاً لهذه المظاهر؟"

وهذا صحيح لأنه إذا اعتقد شخص بأن العلية والمعلولية صنيعة الذهن وإنه ليس من الواجب أن يترتب المعلول على العلة في العالم الواقعي فلا وجه للاعتقاد حينئذ بلزوم وجود العالم الخارجي ليكون منشأ للتأثيرات الحسية.

والعجيب أن المرحوم فروغي يقول:

"كان حكماؤنا يقولون أن الحكمة هي العلم بالحقائق في حدود الطاقة البشرية، وكانت كان يحاول-في الواقع- أن يعيّن حدود الطاقة البشرية".

وقد اتضح بما قلناه لحد الآن أن رأي القدماء في باب قيمة المعلومات يقع في النقطة المقابلة لرأي كانْتْ، فمذهب القدماء كان مذهب الجزم واليقين، أما كانْتْ فقد سلك سبيل الشك.

ويصرّ القدماء في موضوع الوجود الذهني على أن ماهية الأشياء توجد في الذهن كما هي موجودة في الخارج، ولكن كانْتْ يقول أن كل ما ندركه فهو كما يقتضيه وضعنا العقلي، إما أن الواقع هو بهذا النحو أم لا؟ فالجواب: لسنا ندري.

ويصل كانت في نقده إلى الحد الذي يتردد فيه بالنسبة إلى وجود قانون العلة والمعلول في العالم الخارجي، ولكن القدماء يصرّحون مرات عديدة بالتردد أو إنكار هذا القانون في العالم الخارجي يستلزم نفي الفلسفة وبطلان كل العلوم والسقوط في حبائل السفسطة.

والمقصود من جملة القدماء السابقة الذكر: "إلى الحد الذي يستطيعه الإنسان" الواردة في تعريف الفلسفة هو الإشارة إلى هذه الملاحظة وهي أن حقائق العالم لا نهاية لها، أما الاستعداد البشري فهو محدود، وعلى هذا فلا يستطيع الإنسان الإلمام إلا بجانب من حقائق الكون فقط.

والعلم بالكل لن يكون من نصيب أحد. أما كانت فهو يقول أن اليد البشرية لتقصر عن الوصول إلى حقائق الكون.

وبعبارة أخرى فإن القدماء يقرّون بالعجز البشري من حيث الكم، ويتّهم كانت البشرية بالعجز من حيث الكيف، وبين هذين فرق هائل جداً.

وجاء بعد كانت علماء كثيرون وأبدوا آراءهم وعقائدهم في باب قيمة المعلومات ولكنهم لم يضيفوا شيئاً جديداً إلى ما نقلناه ضمن استعراضنا لعقائد الأشخاص السابق ذكرهم، وكل واحد منهم قد سلك طريقاً خاصاً في تناول البحث ولكنه توصل في النهاية إلى واحدة من تلك النتائج التي تقدم ذكرها.





يتبع إن شاء الله مع نظرية هنري برجسون:وردة:
 

خادم العترة

عضو مميز
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


تحياتي للجميع :وردة:


نظرية هنري برجسون:

لا يمكن النظر من بُعد إلى نظرية العالم العارف الفرنسي هنري برجسون "1859-1941م" فهو يعتقد بفلسفة يقينية مشربة بالعرفان.


ولبرجسون
رأي في العقل يشبه رأي ديكارت في الحس حيث قال:

أن الحواس ليست وسيلة لكشف الحقائق وإنما هي وسيلة لإيجاد الارتباط العملي بالعالم الخارجي.

ويقول برجسون:

أن الحس والعقل ليسا وسيلة لكشف الحقائق، بل توجد وسيلة أخرى لاكتشاف الحقيقة وتلك هي "الاستبطان" أو "الشهود الباطني"، وهو يعتبرها أعلى مراتب العقل.
ويواصل برجسون حديثه قائلاً:

إن الإنسان يستطيع بتفكيره في "ذاته" وبمشاهدته الداخلية "لنفسه" أن يجد طريقه إلى الحقيقة المطلقة ويستطيع أن يصل إلى الفلسفة الأولى التي تأخذ على عاتقها شرح الحقائق المطلقة عن هذا الطريق فقط.

وفي الختام يحسن بنا التنبيه إلى هذه الملاحظة وهي أننا نستطيع أن نتناول موضوع قيمة المعلومات من زاويتين إحداهما من الناحية النظرية والأخرى من الناحية العملية.

أما تناول قيمة المعلومات من الزاوية النظرية فهو يعني التحقيق في مدركاتنا ومعلوماتنا المنطبعة في أذهاننا أهي عين الواقع ونفس الأمر أم هي غيرها؟

والفلاسفة ينظرون إلى هذه الناحية في بحثهم لقيمة المعلومات، وهي الناحية التي ينفيها العلماء المحدثون منذ ديكارت ومن جاء بعده عن المحسوسات بقولهم إن الحس ليس وسيلة لكشف الحقيقة.

وأما تناول قيمة المعلومات من الزاوية العملية فهو يعني التحقيق في أن المعلومات وإن كانت لا تكشف لنا الحقيقة ولكنها تهدينا في العمل، أي نحن نعلم أن هناك علاقة مباشرة بين إدراكاتنا والأشياء الخارجية، فمثلاً هناك في الخارج كيفية معينة توجد فينا صورة اللون، وكيفية أخرى توجد في أذهاننا الصوت، ولهذا فنحن نستطيع أن نتصل بالخارج بوساطة هذه المعلومات وإن نفيد منها عملياً، وبعبارة أخرى فإن معلوماتنا إذا لم تستطع أن توقفنا على ماهية الأشياء الخارجية فهي على الأقل تتمكن من أن توقفنا إجمالاً على وجودها.

وهذا اللون من القيمة لا ينكره إلا السوفسطائيون، وقد مرّ علينا أن ديكارت والعلماء المحدثين الآخرين وإن كانوا ينكرون القيمة النظرية للمحسوسات ولكنهم لا ينكرون القيمة العملية لها.

وقد صرح ديكارت وكانت بأنه من غير الممكن إنكار القيمة العملية للمحسوسات.

وبهذا يتضح أن جانباً كبيراً من ظنون الماديين لا يتمتع بأساس رصين.

يقول الدكتور الآراني في كتب "المادية الديالكتيكية" فصل قيمة المعلومات:

"إن كانت - الذي هو زعيم مذهب اللاادريين ( Agnosticism) - يقول: أننا لا نستطيع أن نصل إلى الحقيقة المطلقة، فهو إذن يقبل بوجود "الشيء بنفسه" ولكنه يقول أنني افتقد القدرة على الاتصال به، وقد أجيب في الكتاب المسمى بـ "لودفيج فيورباخ" ( Leudwig Feuerbach) بجواب متين على هذه الدعوى بقوله: ما دامت المواد الآلية تصنع داخل بدن الحيوانات والنباتات فقط فنحن نستطيع أن نسميها بـ"الشيء بنفسه"، ولكنه عندما صارت تصنع الواحدة منها بعد الأخرى بفضل علم الكيمياء فلابد أن نطلق منذ الآن "الشيء لنا" وذلك لأن عملنا الفكري قد اتصل بذلك الشيء بنفسه".

أنه لابد من الإذعان بأن الماديين يجهلون ما يجدّ في عالم الفلسفة والعلم، وهم يتخيلون إنّ كانت وأمثاله يعتقد بعدم إمكان الاستفادة عملياً من الحواس ولابد من إلغاء الحواس جميعاً.

وهم لا يعلمون أن كانت وغيره يفرقون بين الشيء بنفسه والشيء لنا من الناحية النظرية فقط ولا يمتد هذا ليشمل الناحية العملية.

والفلاسفة الذين اقتحموا موضوع القيمة العملية جميعاً لا ينظرون إلا إلى الناحية النظرية وهم ليسوا قاصدين الناحية العملية.

وما ذكرناه في هذه المقدمة من آراء العلماء حول القيمة النظرية للمعلومات يمكن تلخيصه بهذا الشكل:



هذا هو قول السوفسـطائيين
إن جميع الإدراكات البشريـة لا القدماء من قبيل بروتوغراسي
حقيقة لها وكل المعلومات عبث وجورجياس والمثاليين المحدثين
وهراء. من قبيل بركلي وشوبنهاور.
ـــــــ


نحن لا نعلم أتكون الإدراكات
عـين الحقيقــة أم لا، لأن
كـل الإدراكات البشرية (وحتى هذا هو قول المشكيين القدماء
البديهيات الأولية والفلسفة والنسبيين المحدثين واتباع المادية
والعلم والرياضة) تتوقف على الديالكتيكية.
كيفية تركيب الجهاز الإدراكي
للإنســان، وهي مختلفة في الأشخاص.


ـــــــــــ

إن المحسوسات والمعقولات هذا هو قول أرسطو وأتباعه من
الأولية وما يكتسب بمراعاة اليونانيين القدماء وجميع الحكماء
الأصول المنطقية فهي حقيقية. المسلمين.

ـــــــ
إن كــل فطريات العقل
والمعقولات المكتسبة بمراعاة
الأصول المنطقية فهي عيـن
الحقيقة، وأما المحسـوسات هذا هو قول ديكارت ولينبتس
فلسنا ندري أهي حقيقية أم وعدة آخرين من فلاسفة أوربا.
لا ؟. والحواس ليسـت إلا
وسيلة للارتباط العمــلي
بالخارج وهي ليست وسيلة
لكشف الحقيقة.


ـــــ
إن المعلومات الرياضية-التي
هي صنيعة الذهن-حقيقية، هذا هو قول كانت الألماني
وأما المعلومات المتعلقة بالعالم وأتباعه.
الخارجي فلسنا ندري أهي
حقيقية أم لا؟.
ـــــ


إن الوجدانيات وما نظفر به
عن طريق التفكير السليم فهو هذا هو قول جون لوك
حقيقي، أما المحسوسات فلسنا الإنجليزي.
ندري أهي حقيقية أم لا؟.
________


إن للحس والعقل قيمة عملية
فقط وهما وسيلة للارتبـاط هذا هو قول هنري برجسون.
العملي بالخارج، أما وسيلة
وسيلة كشف الحقيقة فهي
"الاستبطان".



كان هذا شرحاً مختصراً لمسير العقائد واتجاه الآراء فيما يتعلق بقيمة المعلومات منذ المرحلة اليونانية القديمة وحتى العصر الحاضر.

العلم والمعلوم - قيمة المعلومات

لابدّ من إدراج مسألة العلم والمعلوم ضمن المسائل الفلسفية التي هي من الدرجة الأولى من حيث الأهمية لأننا مادمنا موجودين فإن اعتمادنا سيكون على العلم.

وينبغي لنا أن نلاحظ- في هذا المجال- دليل السوفسطائيين، فهم يقولون أننا نبحث دائماً عن العلم ثم نظفر بالعلم، أما نحن فنقول أننا نبحث دائماً عن المعلوم ثم نظفر بالعلم، والفرق كبير بين هذين الكلامين.

وكما قلنا في المقالات الماضية فإن العلم مع معلومه واحد من حيث الماهية (لو سألنا أي فيلسوف- حتى إذا كان مادياً- وزعماء الفلسفة المادية الديالكتيكية عن تعريف العلم والمعلوم لأجابونا بأن المعلوم هو ذلك الشيء الذي يكون منشأ للآثار أهو الذي تترتب عليه الآثار، أما العلم أو الصورة العلمية فهو نفس ذلك الشيء لكنه مع اختلاف واحد وهو أنه ليس منشأ للآثار وبهذا يصبح تطابق العلم والمعلوم- في الجملة- من الخواص الضرورية للعلم.

وبعبارة أوضح نقول: أن واقع العلم هو الإرادة والكشف عن الخارج:

ومن هنا نعرف أنه من المستحيل فرض علم يتصف بصفة الكشف عن الخارج ولكنه ليس له مكشوف خارج عنه.

وهنا يظهر هذا السؤال:

إذا كان للعلم واقع فكيف يمكن فرض الخطأ بحقه ( إن أخطاء الحواس هي أعظم ما يتوسل به السوفسطائيون لإثبات أن العالم الخارجي لا واقع له ولنفي قيمة المعلومات مطلقاً، فهم يقولون:

أن كل معلومات الإنسان قد حصل عليها عن طريق الإحساس، والإحساس ليس دليلاً على كون المحسوس واقعياً لأن كل أحد يعرف أن الحواس قد تصوّر لنا الأشياء-أحياناً- بشكل مختلف (مثل الماء البارد والحار المذكورين في المتن ومن الواضح أنه من المستحيل أن يوجد الشيء الواقعي بشكل مختلف، وقد تصور لنا- أحياناً- الشيء بنحو منقطع نكذبه (مثل قطرة وحلقة النار وغيرهما ما ذكر في المتن).

إذن يعلم من هذا إن الإحساس ليس دليلاً على الوجود الواقعي للمحسوس. ولما كانت جميع معلومتنا ومعارفنا عن الدنيا لها منشأ حسي وقد جاءتنا عن طريق الحس، إذن كل تلك المعلومات والإدراكات والعلوم ليس لها قيمة واقعية.

ولا قيمة لهذه المغالطة التي سيقت لإنكار أمر بديهي (وهو وجود العالم الخارجي) لأن عقل كل إنسان- حتى عقول أصحاب المغالطة- يذعن له، ولو فرضنا أن هناك من لا يستطيع ردّ هذه المغالطة بالاستدلال العلمي ولكنه لا يشك في أن هذا الكلام مخالف لأمر بديهي فهو-لا محالة- مغالطة.

ومع هذا لم يترك العلماء هذه المغالطة تمرّ دون جواب، وسوف نشير إلى جانب من أحاديث العلماء التي ساقوها للجواب على هذا الإشكال أو للبحث-بصورة مستقلة- في موضوع أخطاء الحواس، وذلك لتنوير أذهان القراء:

أولاً: لو فرضنا أن الحواس تخطئ في توضيح كيفية أو ماهية المحسوسات، ولكنها لا تخطئ في الدلالة على الوجود الخارجي لمحسوسات. فهذه الأخطاء التي نسبت إلى الحواس لو فرضنا أنها أخطاء حقيقية فإن ذلك يقتصر على بيان كيفية وماهية المحسوس، ولا يتعدى إلى الدلالة على وجود ذلك المحسوس في الجملة.

ونحن لا نلاحظ في أي مورد (وحتى في مورد السراب والماء) إن المحسوس ليس له وجود إطلاقاً ثم نحن نحس بوجود شيء ما. إذن لم يثبت بهذا ما يدعيه السوفسطائيون (وهو أن العالم الخارجي غير موجود).

ثانياً: إن الحس بذاته لا يخطئ.

ففي الموارد التي يقال أن الحس قد أخطأ فيها لم يكن الخطأ- في الواقع- في الحس نفسه (الإحساس المجرد)، وإنما كان الخطأ في الحكم، أي أن الخطأ يقع حينما يحكم الذهن بأن هذا هو ذاك، وإلا فالحس الذي هو منشأ كل المعلومات لا يخطئ أبداً.

ثالثاً: إن الخطأ في هذه الموارد المذكورة ليس واقعاً في الحس ولا في الحكم، أي أن كل قوة من القوى الإدراكية لا تخطئ فيما يتعلق بعملها.

وإذا دققنا في كل خطأ من هذه الأخطاء فسوف يتضح لنا أنه ليس خطأ حقيقياً وإنما هو نسبة عمل متعلق بقوة ما إلى قوة أخرى.

فالخطأ إذن واقع هنا بالعرض لا بالذات، وهذا هو الجواب المفصل في المتن.

رابعاً: لا يوجد خطأ على الإطلاق في هذه الموارد المذكورة، لا في الحس ولا في الحكم، لا بالعرض ولا بالذات، وإنما هو حقيقة، لأن الحقيقة نسبية دائماً، وكل الموارد المختلفة التي سميّت بأخطاء الحواس ليست إلا اعتبرت بعض الإدراكات الحسيّة من الأخطاء.

أما إذا لاحظنا أن الحقيقة نسبية دائماً وفي كل مكان فإن هذا الاشتباه سيرتفع بذاته.
هذا الجواب صياغة النسبيون المحدثون واتباع المادية الديالكتيكية وسوف يأتي قريباً تفصيله ونقده..

وكيف يمكن أن يختلف عن معلومه الخارج عنه؟ مع أننا نلاحظ كثيراً-في الواقع- أن العلم قد تخلّف واختلف؟




يتبع إن شاء الله مع كلام مفصل حول الموضوع
 

خادم العترة

عضو مميز
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

تحياتي للجميع :وردة: وأعتذر عن التأخير

ولتوضيح هذا الموضوع نرى من اللازم أن نتناوله بتفصيل أكبر:

ينقسم العلم

- أولاً- إلى العلم التصوري والتصديقي.

فالعلم التصوري هو العلم الذي لا يشتمل على حكم مثل الصورة الإدراكية لـ "الإنسان" مجرداً، ألـ "الفرس" وحده، أو لـ "الشجر" وحده.

أما العلم التصديقي فهو العلم المشتمل على حكم، مثل الصورة الإدراكية للجملة القائلة: "الأربعة أكبر من الثلاثة" "اليوم يأتي بعد أمس" "الإنسان موجود" "الشجر موجود".


ومن الواضح أن العلم التصديقي لا يتحقق بدون العلم التصوري (وإن كان بعض علماء النفس يتردد في كون هذه القضية كلية ولكن هؤلاء لم يحسبوا حساب التصور الإجمالي).

وينقسم العلم

- ثانيا- إلى الجزئي والكلي.

فالجزئي هو الذي يرفض الانطباق على أكثر من واحد، من قبيل هذه الحرارة التي أحس بها وهذا الإنسان الذي أراه.

أما الكلي فهو الذي يقبل الانطباق على أكثر من واحد مثل مفهوم الإنسان ومفهوم الشجر الذي يقبل الانطباق على كل إنسان مفروض وكل شجرة مفروضة.

والعلم الكلي لا يمكن أن يتحقق بدون العلم بالجزئيات، أي نحن لا نستطيع أن نتصور الإنسان الكلي-مثلاً- ما لم نر من قبل أفراداً للإنسان ونتصورهم وذلك لأننا لو كنا نستطيع أن نتصور الكلي من دون أي علاقة مع جزئياته لأصبحت نسبة الكلي المفروض إلى جزئياته وإلى غيرها متساوية، أي أنه إما أن ينطبق على كل شيء وإما أن لا ينطبق على شيء، مع أننا نلاحظ أن مفهوم الإنسان-مثلاً- ينطبق دائماً على جزئياته فقط ولا نراه قابلاً للانطباق على غير جزئياته.

إذن هناك لون من العلاقة بين تصور الإنسان الكلي وتصور جزيئات الإنسان الموجودة. والنسبة بينهما ثابتة ترفض أي تغيير.

ويمكن تسرية هذا الكلام إلى العلاقة بين الصورة الخيالية والصورة المحسوسة (مرّ علينا توضيح الفرق بين الصورة المحسوسة والصورة المتخيلة والصورة المعقولة (المفهوم الكلي) في التعليقة المثبتة في ص 110- 113)، فلو لم تكن علاقة ووحدة بين الصورة الخيالية-التي نتصورها بدون وساطة الحواس-والصورة المحسوسة لتلك الصورة الخيالية لأصبح من اللازم أن تنطبق كل صورة خيالية على أية صورة حسية (مهما كانت)، أو أن لا تنطبق إطلاقاً على أية صورة حسية، مع أننا نلاحظ أن الصورة الخيالية التي نتصورها لفرد ما لا تنطبق على أي شيء غيره.

إذن هناك رابطة حقيقية بين "الصورة المحسوسة والصورة المتخيلة" وبين "الصورة المتخيلة والمفهوم الكلي" وبين "الصورة المحسوسة والمفهوم الكلي".

ولو كنا نستطيع أن نصوغ المفهوم الكلي دون الالتفات إلى الصورة فإما أن نلاحظ منشأ الآثار عند صياغة ذلك المفهوم أولاً، أي في تصور الإنسان الكلي إما أن نلاحظ الفرد الخارجي- الذي هو منشأ الآثار- ثم نصوغ المفهوم الكلي خالياً من تلك الآثار أو لا، وفي الصورة الأولى (أي في حالة ملاحظة الفرد الخارجي الذي هو منشأ الآثار) لابد أن نكون قد عرفنا من قبل حقيقة منشأ الآثار وهو بعينه الصورة المحسوسة، وفي الصورة الثانية (أي في حالة عدم ملاحظة الفرد الخارجي) نكون قد صنعنا لأنفسنا واقعاً خارجياً وليس مفهوماً ذهنياً، لأن وجوده ليس مقيساً وهو بنفسه منشأ للآثار فهو ليس بمفهوم.

أجل أن هذا المفهوم المفروض بالنظر إلى ذاته الذي هو معلول لنا سيكون معلوماً بالعلم الحضوري لا بالعلم الحصولي، وكلامنا في العلم الحصولي (مرحلة المفهوم الذهني) وليس في العلم الحضوري (مرحلة الوجود الخارجي)، ويجري هذا الكلام في الصورة الخيالية أيضاً كما جارياً في المفهوم الكلي.

إذن فالعلم الكلي مسبوق بالصورة الخيالية والصورة الخيالية مسبوقة بالصورة الحسية.

وبغض النظر عما سبق فالتجربة قد أثبتت أن الأشخاص الذين فقدوا بعض الحواس-كالبصر أو السمع- عاجزون عن التصور الخيالي الذي يأتي عن طريق ذلك الحس المفقود، ونستنتج من هذا ما يأتي:

1-هناك نسبة ثابتة بين الصورة المحسوسة والصورة المتخيلة والصورة المعقولة (المفهوم الكلي) لأي شيء.

2-إن وجود المفهوم الكلي متوقف على تحقق التصور الخيالي، وتحقق التصور الخيالي، وتحقق التصور الخيالي متوقف على تحقق الصورة الحسية.
وكل واحد من هذه الثلاثة يأتي مرتباً بعد الآخر.

3-كل المعلومات والمفاهيم التصورية تنتهي إلى الحواس بهذا المعنى وهو أن كل مفهوم تصوري نفرضه فهو أما أن يكون محسوساً بصورة مباشرة وإما أن يكون محسوساً قد مسّته يد التغيير فاكتسب خاصية وجودية جديدة.

مثل حرارة الشخص المحسوس فإنها صورة محسوسة تتصف بالتشخص والتغير، والصورة الخيالية لها تتمتع بماهية الحرارة والتشخص ولكنها ثابتة من جهة كونها متخيلة، أما مفهومها الكلي فليس له إلا ماهية الحرارة وليس فيه تشخص ولا تغير.

4-لو ضممنا هذه النتيجة الثالثة إلى المقدمة التي أثبتناها في المقالة الثانية (وهي أننا نستطيع الإلمام- في الجملة بالواقع الخارج عن ذواتنا) لكانت النتيجة هي أننا نستطيع الوصول إلى ماهية المحسوسات والواقعية في الجملة (بمقدار ما تكون هذه القضية بسيطة ومبتذلة وسهلة التناول فهي دقيقة وصعبة الفهم، والفلسفة تأخذ على عاتقها إثبات معناها الدقيق لا معناها الساذج المبتذل، وسوف يشرح ذلك في المكان المناسب).

وهنا يبرز أمامنا ذلك السؤال الذي مر ذكره، وهو أننا إذا كنا نظفر بماهيات الأشياء الواقعية عن طريق حواسنا فمن أين يأتي هذا التخلف والاختلاف في الحس؟

فلحسّ البصر- مثلاً - أخطاء لا حدّ لها في الإبصار المباشر والمنعكس، فنحن نشاهد الجسم من بُعد وهو أصغر من حجمه الطبيعي ونشاهده من كثب أكبر من حجمه الواقعي.

ولو وقفنا في قاعة طويلة فكلما كان السطح الذي نقف عليه أبعد فإنه يرى أعلى مما هو عليه وكلما كان السقف الذي فوق رؤوسنا أبعد فإنه يرى اخفض مما هو عليه.

ولو وقفنا في وسط خطين متوازيين لشاهدناهما متمايلين، وأحياناً نشاهد الخطين المتمايلين متوازيين.

ونحن نلاحظ أن الأجسام المتحركة إذا كنا متحركين معها بنفس الحركة من حيث الجهة والسرعة فإن تلك الأجسام تبدو ساكنة، وعندما تتغاير الحركتان نلاحظ حركات غير واقعية.

وعندما تنزل قطرة مطر من السماء فإنها تبدو بشكل خط ممتد، وتبدو الجمرة التي نحركها بصورة دورانية بشكل دائرة.

والأجسام المختلفة مثل الكرة والإسطوانية والمكعب والمخروط والمنشور تبدو كأنها سطوح غير منطبقة.

ونلاحظ بعض الأشياء الكاذبة مثل الصورة في بطن المرآة والماء في السراب. وتتغير لدينا ألوان الأجسام بسبب الاختلاف في البعد والقرب والضوء والظلمة.

ولحسّ اللامسة أخطاء لا تقل عن أخطاء البصر، واختلاف الكيفيات في العضو اللامس يؤثر تأثيراً حاسماً في بيان الحرارة والبرودة والخشونة والنعومة.

ونذكر لهذا المثال المشهور وهو إننا إذا أدخلنا إحدى يدينا في ماء حار واكتسبت منه الحرارة وأدخلنا اليد الأخرى في ماء مثلج فاكتسبت منه البرودة ثم أخرجناهما من هذين الماءين وغمسناهما معاً في ماء دافئ فانهما ينبئان بخبرين متناقضين تماماً ولا يمكن أن ينسجم هذا مع الواقع فإحداهما تقول أن الماء بارد والأخرى تقول أنه حار.

ولأعضاء الحس الأخرى- كالذائقة وغيرها- أخطاء بدورها. إذن فالحواس تخطئ كثيراً وتتناقص، ولهذا أمثله لا حصر لها.

ولسنا بحاجة إلى البحث عن الأخطاء في الخيال وفي التفكير الكلي، وهذه الأخطاء وإن لم تكن آنية- بصورة مباشرة-من الحس، ولكن لما كانت الإدراكات تنتهي بالتالي إلى الحس إذن يمكن إلقاء مسؤولية هذه الأخطاء على عاتق الحس.

الجواب

من الواضح أن هذا الإشكال موجه إلى الميتافيزيقيين بشكل أقوى وأكثر إحكاماً من كونه موجهاً إلى الماديين الديالكتيكيين، لأننا قد التزمنا- فيما مرّ من حديث- بإمكانية الوصول إلى الواقع الخارجي في الجملة، ولكن هؤلاء لم يلتزموا بذلك، ولهذا فهم يستطيعون- بمحاولات أخف وطأة- أن يتخلصوا من هذا الإشكال وإن كانوا متورطين في عقبات أخرى لا يجدون فيها أمامهم سوى أبواب موصودة.

ويستطيع العلماء الماديون أن يقولوا(صحيح إننا قد بينّا في متن المقالة الثانية ص104 - 108 نظرية الحقيقة النسبية - في الجملة وذكرنا النقد الموجه إليها، وبينّا أيضاً في مقدمة هذه المقالة نظرية الحقيقة النسبية حسب ما يقوله النسبيون وذكرنا ما وجّه إليها من نقد، ولكن أصحاب المادية الديالكتيكية يشرحون الحقيقة النسبية بشكل آخر ينسجم مع أسس المنطق المادي الديالكتيكي، ويدّعون أن هناك فرقاً بينهم وبين سائر النسبيين، وهذا الفرق هو الذي يدخلهم ضمن أصحاب الجزم واليقين ويدخل من عداهم من النسبيين ضمن المشككين.

وعلاوة على هذا فقد وعدنا القراء الكرام أن نستعرض آراء ونظريات المادية الديالكتيكية فيما يتعلق بقيمة المعلومات، فلهذا نحن نتعرض لنظرياتهم في قيمة المعلومات ضمن شرحنا لنظريتهم في مقام "تفسير أخطاء الحواس" وبيان الحقائق النسبية التي تعرض لها المتن بشكل مضغوط، لنعرف أن هذه النظريات أهي مما يمكن قبوله حسب أسس الفلسفة الواقعية أم لا؟ ولنعرف أهناك فرق واقعي-كما يدّعون- بينهم وبين سائر النسبيين الذين يعترف الديالكتيكيون بأنهم مشككون أم لا؟

وسوف نفصل هذه المواضيع تحت عدة عناوين:

1-أن الحقيقة نسبية حسب ما يقول الماديون.

2-أيكون أصحاب المادية الديالكتيكية ضمن أهل الشك أم أهل اليقين؟

3-أهناك فرق بين نظرية كانت ونظرية الماديين الديالكتيكيين فيما يعود إلى قيمة المعلومات؟ أم لا؟

4-أهناك فرق بين "الرولاتيفية" (النسبية) والمادية الديالكتيكية من حيث قيمة المعلومات أم لا؟

5-ما هي الطرق التي يسلكها أتباع المادية الديالكتيكية لإثبات تكامل الحقيقة؟ وما هو الرد عليها؟

6-اجتماع الصحيح والغلط، الحقيقة والخطأ.

7-الطريق المسدود، أو ملاحظة مهمة ومفيدة .

8-سوء الحظ الذي لحق المادية بيد المنطق الديالكتيكي.



تحياتي للجميع يتبع إن شاء الله مع الحقيقة النسبية حسب ما حرره أتباع المادية الديالكتيكية
 

خادم العترة

عضو مميز
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


تحياتي للقرّاء الأعزاء

:وردة:



الحقيقة النسبية حسب ما حرّره أتباع المادية الديالكتيكية:


إن الإحساس أثر متولد عقب تأثير مسلط من شيء خارجي على السلسلة العصبية، أي أن السلسلة العصبية للإنسان والحيوان- في أثر سلسلة من التكامل التدريجي -تكتسب هذه الخاصية وهي أنها تبدي رد فعل مادياً بعد أن يقع عليها تأثير من الخارج. ورد الفعل هذا هو الذي نسميه بالإحساس.


وحسب الأسس الديالكتيكية فإنه لا يوجد شيء في الطبيعة ذو تأثير جامد (متشابه)، وإنما كل شيء له تأثير خاص حسب وضعه وموقعه المعين، ولما كانت الأشياء دائماً تغيّر من وضعها وموقعها، إذن لابدّ أن تكون لها تأثيرات مختلفة.


وهذا التغيير في الوضع والموقع سائد في الأشياء الخارجية وفي المجموعة العصبية والمخ. أي أن تغيير الوضع والموقع شامل للشيء الخارجي (المحسوس) الذي هو يؤثر في الأعصاب أولاً، وشامل للمجموعة العصبية والمخ (الحواس) التي تضيف من نفسها تأثيراً آخر وينتج الإحساس، ويتغير وضعها وموقعها فيتغير بالتالي أثرها أيضاً.


إذن فـ "الحساس" و "المحسوس" لهما تأثير مختلف حسب الوضع والوقع الذي يحتله كل منهما.


ولما كانت الحقيقة عبارة عن ذلك التأثير الذي تولده الحاسة (المجموعة العصبية) بعد تأثرها بالمحسوس، إذن لا تكون احساساتنا مخطئة أبداً في تلك الموارد التي يُدعى أن الحس قد أخطأ فيها، وذلك لأنه لا يمكن أن يوجد في تلك الموارد غير تلك الخاصة المعينة للشيء الخارجي التي أثرت على الأعصاب، ولا يمكن أن يوجد غير تلك الخاصة المعينة للمجموعة العصبية التي وجدت بعد التأثير.


ومن هنا يتضح السبب في اختلاف الأشخاص في إدراكاتهم ، لأنه من المحتمل أن يختلف الأشخاص فيما يخص التركيب العصبي وفي النتيجة فهم يدركون بشكل مختلف، وكذا من المحتمل أن تتعرض أعصاب شخص ما لوضع خاص ليس حاصلاً لشخص آخر، وحسب التعريف الذي ذكر للحقيقة وهو أنها عبارة عن الأثر الحاصل نتيجة للمواجهة مع الخارج، فإن كل حالة لأي شخص وكل إحساس فهو حقيقي بالنسبة إلى الشخص وفي تلك الحالة.

إذن فالحقيقة نسبية ولا معنى إطلاقاً لأخطاء الحواس.

يقول الدكتور الآراني في الكتيب المعنون بـ "المادية" ص 28:

"يقول ماخ ((E Machنحن نرى القلم مستقيماً في الهواء ويبدو لنا منكسراً في الماء، وليس هذا عيب العلم وإنما هو نقص في التجربة .


ومن الواضح أن الحديث هنا عن القصور والتقصير ليس في محله لأن للقلم تأثيراً معيناً في ظل ظروف خاصة وله تأثير آخر في ظل شروط أخرى، والتجربة لا تقودنا إلى اعتبار إحدى الحالات حقيقية والأخرى مخطئة (كما يقول ماخ) ، وإنما نحن نستطيع - - بوساطة التجربة - أن نثبت أن كلتا الحالتين حقيقيتان وأن نوضح السبب في اختلافهما".


هذا هو حديث الماديين المحدثين عن الحقيقة النسبية وعن تفسيرهم لأخطاء الحواس.


ومن الجلي أن هذا البيان لا يستطيع تفسير أخطاء الحواس ولا يمكن القول بأنه لا توجد أخطاء وإن كل ما يحس به الإنسان وعلى أي نحو فهو حقيقي، وذلك لأن العلماء الماديين إذا كانوا يقصدون من هذا تغيير الاصطلاح فقط وتعريف الحقيقة بشكل آخر (وهو أن الحقيقة هي ذلك الشيء الناتج من أثر المواجهة والمقابلة بين الحس والخارج) غير ما هو مشهور بين العلماء (من أن الحقيقة هي الإدراك المطابق للواقع)، فلا كلام لنا في ذلك، ولكن الإشكال ( وهو عدم مطابقة الصور الحسية للواقع) باق على حاله.

وإن كان مقصودهم من قولهم كل الاحساسات تظهر نتيجة للمواجهة بين الحس والخارج أن هناك لوناً من المطابقة مع الواقع فمن الواضح كون هذا كذباً محضاً، ففي المثال الذي ذكره الدكتور الآراني عن ماخ في مورد القلم وإن كانت خاصة القلم تختلف من حيث التأثير الذي تتركه على العين وكيفية أمواج الضوء التي ترسلها إلى العين في الهواء وفي الماء، وصحيح أيضاً بأننا نستطيع أن نلمّ بعلة هذا الاختلاف عن طريق التجارب العلمية، وما يقوله ماخ من أن التجارب ناقصة مخطئ، ولكن النتيجة التي يستنبطها الدكتور الآراني مخطئة أيضاً وهي: "إن كلتا الصورتين المختلفتين للقلم اللتين قد انطبعتا في حواسنا حقيقية"، وذلك لأن القلم - في الواقع وبشكل يقيني- إما أن يكون مستقيماً وإما أن يكون منكسراً، وفي كلتا الحالتين لم تغير بيئة الهواء ولا بيئة الماء من شكل القلم، إذن أحد الإحساسين مخطئ لا محالة من حيث كشفه عن الواقع وبيان الشكل الواقعي للقلم.


وإذا أردنا أن نستنتج نتيجة صحيحة من الناحية الفلسفية لوجب أن نقول: "نحن نستطيع بوساطة التجربة والقرائن العلمية أن نعرف السبب في هذا الاختلاف والسبب في خطأ الباصرة في إحدى الحالتين".


وعلى هذا يتبين لنا تفسير المادة الديالكتيكية لأخطاء الحواس لا يمكن قبوله.

أتدخل المادة الديالكتيكية ضمن فلسفة الشك أم فلسفة اليقين:


يزعم الماديون أن مذهبهم هو مذهب الجزم واليقين ويغضبون من نسبة الشك والسفسطة إليهم.

وحتى تلك القوانين العلمية التي تضمّها العلوم الطبيعية المعتمدة على الفرضيات-والتي ليس لها من شاهد على صحتها سوى التجارب المحدودة والعلماء جميعاً (وحتى أصحاب الفرضيات أنفسهم) يتلقونها بالاحتمال واليقين الإضافي لا بالجزم واليقين الحقيقي- فإن العلماء الماديين المحدثين يدعون اليقين الحقيقي بشأنها، ويفسرون التغيير الطارئ على تلك الفرضيات- الذي يعتبر شاهداً على عدم حقيقتها- بأن هذا هو تغيير وتكامل للحقيقة.


ولكنه يحسن أن لا نغفل عن هذه الملاحظة وهي أن المعيار لكون شخص ما أو فئة ما من السوفسطائيين أو من المشككين أو من اليقينيين ليس هو ادعاه وإنما المعيار هو النظريات التي يطرحها في باب قيمة المعلومات، وإلا فإن أغلب السوفسطائيين والمشككين لا يرضون أن يقال عنهم بأنهم مشككون أو سوفسطائيون.

فمثلاً جورج بركلي مع أن نظرياته مبنية على نفي وجود العالم الخارجي وعلى إنكار البديهيات ولكنه يستوحش من أن يقال له أنه سوفسطائي.

وكذا كانتْ وأمثاله فمع أنهم مشككون واقعاً، والعلماء الماديون يدرجونهم ضمن المشككين، ولكنهم- هم- لا يرغبون في أن يطلق عليهم اسم "المشككين".


ومن جهة أخرى فإن مذهب الشك ليس له شكل خاص ولا صورة معينة، وإنما الفلسفة قد تجلّت بأشكال متنوعة على مر التاريخ، وكل واحد منهم قد وقع في حبائل الشك من طريق معين.

ونحن نعرف أن الطريق الذي سلكه كانتْ يختلف عن طريق النسبيين "الرولاثيقيين" (Relativistes) ويختلف هذان عن طريق المشككين القدماء من أتباع بيرون، ولكن هؤلاء يجمعهم عنوان واحد وهو أنهم مشككون جميعاً.


وهكذا المادية الديالكتيكية فهي بقولها أن الفكر والإدراك ماديان وبادعائها أن الحقائق نسبية - وأشياء أخرى ستذكر في محلها- فقد وقعت في لجج الشك وهي متورطة في معمّياته.


ويعتقد الماديون أن الفكر ظاهرة مادية، وإن المعرفة والإدراك ليس شيئاً فوق العمل العصبي، وإن معرفة أي شيء تتوقف على نوعية تركيب الأعصاب والمخ للشخص المدرك.


وهم يقولون لما كان الأشخاص متفاوتين في تركيب أعصابهم إذن معارفهم الحقيقية سوف تختلف أيضاً.

يقول الدكتور الآراني في كتيب "المادية الديالكتيكية" ص24:


"إن كيفية تركيب العصبية تؤثر بشكل خاص في عملية المعرفة. وهذا التأثير هو بنفسه "المعرفة"، ونحن نعلم أن الإنسان والحيوان يعملان بشكل مختلف، فمثلاً تنفر الإنسان رائحة ما ولكنها تجذب إليها حيواناً آخر.
أو قد يدرك حيوان لوناً ما بشكل معين وهو في نظر حيوان آخر له حاله أخرى. أو قد يلذ لشخص ما سماع صوت خاص ولكن شخصاً آخر يراه ناشزاً.

أو هناك درجة حرارية معينة تبدو أحياناً ساخنة وأحياناً أخرى باردة. وعلى أية حال فنحن نعرف تأثير التركيب العصبي في المعرفة ولكن لا ينبغي لنا أن نستنتج من هذا أنه لما كان التركيب العصبي مؤثراً في المعرفة إذن لا يمكن معرفة عين الحقيقة لأننا قد ذكرنا أن مفهوم كلمة المعرفة شامل أيضاً لهذا التأثير الخاص".


ويعتبر الدكتور الآراني معرفة الحقيقة والحقيقة المطلقة (وهي تلك الحقيقة التي لا تضفي عليها الأعصاب شكلاً خاصاً) أمراً لا معنى له، ويقول في تلك الصفحة:


"ما أعظم حماقة تلك المذاهب المخالفة لنا إذا كانت تتوقع أن تتبادل الأشياء والفكر التأثير فيما بينها- أي أن تكتسب المعرفة صورة خارجية - دون أن يكون لأحد الأطراف تأثير ما، أي أن الفكر لا يتصرف في التأثير الذي جاءه من الأشياء.

وبالتالي فإن ذلك التصرف هو المعرفة بنفسها، وإذا لم يوجد أحدهما لم يوجد الآخر، والذين يلهثون وراء عين الحقيقة والحقيقة المطلقة والمفاهيم الفارغة الأخرى مثلهم في موضوع المعرفة مثل من يطلب أن تتم عملية الهضم دون أن تدخل في المعدة مادة غذائية ودون أن تؤثر المعدة على تلك المواد الغذائية".


ويقول أيضاً في صفحة (29):


"إن للمخ خاصية منذ ولادته وتلك هي التفكير، ولكن هذه الخاصية لا يمكن أن تعمل إلا عندما تصلها المادة الكافية مثل المعدة التي لها خاصية الهضم فهي لا تهضم إلا عندما تدخلها المادة الغذائية، وكذا الفكر فإنه لا يعمل إلا عندما تأثر الحواس- من بصر وسمع وغيرهما- بمؤثر ما".


خلاصة لنظرية الماديين المحدثين:


يستنبط من مجموع أقوال الماديين أن الفكر والإدراك - إجمالاً- هما من الخواص الثابتة للتركيب المادي في الأعصاب والمخ، وهذه الخاصية لا تظهر إلا عندما يرد تأثير على الأعصاب من الخارج كتأثير أمواج الضوء عليها من طريق العين وتأثير أمواج الصوت عن طريق الإذن.


وبعد أن تتكاثر على المخ التأثيرات عن طريق الحواس وتترك آثاراً مادية متعددة تظهر في المخ القدرة على التفكير فهو يقيم الدليل ويحل القضايا الرياضية ويكتشف القوانين الطبيعية ويتوصل إلى الأسس العامة الفلسفية والمنطقية، ولابد أن نعتبر القدرة على التفكير عملاً خارقاً للعادة في الطبيعة، وذلك لأن العملية الفكرية ليست شيئاً سوى سلسلة من التغييرات الكيميائية التي تحصل في المخ.


ولعلّ نوع التركيب العصبي للأشخاص مختلف، وإذا كان متفاوتاً فلا بد أن تختلف احساساتهم وطرق تفكيرهم. وعلاوة على هذا لما كان كل جزء من أجزاء الطبيعة تتغير خواصه حسب وضعه وموقعه والعوامل المحيطة به إذن من الممكن أن تختلف احساسات وطرز تفكير الشخص الواحد أيضاً في البيئات المختلفة، ولهذا فلابد أن لا ننتظر من إنسان ينشأ في كرة المريخ وينفق عمره هناك أن يفكر كما نفكر نحن الذين نعيش على الكرة الأرضية، وذلك لأنه من المحتمل أن تكون أفكاره وإدراكاته بشكل آخر يتفق مع تلك البيئة، فمثلاً يحل ذلك الإنسان قضاياه الرياضية بشكل مخالف لأفكارنا فهو يستنتج من (2×2) أنها تساوي (3). وقد يكتشف القوانين الطبيعية بنحو مختلف عن اكتشافاتنا. وقد يصوغ لنفسه فلسفة أخرى ومنطقاً آخر. وهكذا ...


هذه خلاصة حديث الماديين عن الحقيقة النسبية.


وبغض النظر عن الإشكالات المتعددة الواردة على كون الفكر والإدراك ماديين- التي تعرضنا لجانب منها في المقالة الثالثة وسوف نذكر جانباً آخر منها في المقالة الخامسة- فإن بين أفكارنا مجموعة من الأفكار المطلقة التي ترفض التغيير، وكما أشير إليه في المتن فإن الماديين أنفسهم (وبدون أن يشعروا) يعدّون مجموعة من أفكارهم مطلقة وغير نسبية ولا متغيرة.


وهنا يقفز أمامنا هذا السؤال وهو: ألا ينبغي لنا القول أن ما ندركه من الكون بوساطة الحس أو التفكير (العقل) يتناسب مع التركيب العصبي فينا ويتلاءم مع ما يقتضيه وضعنا وموقفنا، وإما أنه كيف يكون واقع الأمر فلسنا ندري؟


ألا يلزم من هذه المقدمات أن لا نعتمد- حسب النظرة الواقعية- على أي فكر وأن نتلقى كل فلسفة (وحتى المادية الديالكتيكية) وجميع العلوم الطبيعية والرياضية بالشك والترديد؟


والمشككون -السابقون منهم والمحدثون- (بقطع النظر عن طرق الاستدلال) أكان لهم مقصود غير هذا؟


[FONT=&quot]أهناك فرق بين نظرية كانتْ ونظرية المادية الديالكتيكية من حيث قيمة المعلومات أم لا؟

يتبع إن شاء الله وتكملة لما انتهينا منه :وردة:
[/FONT]
 
أعلى