يحار المرء في الوصول إلى حقيقة شخصية صلاح الدين، وسبر أغوار نفسيته المقلقلة، خاصة وهو بطل معركة حطّين، التي انتهت في الرابع من تموز عام 1187 م بتحرير القدس من أيدي الصليبيين، وتحقيق نصر مؤزر عليهم.
ولكن المنصف إذا أبحر بعمق، في سفينة المؤرخ والمفكر الكبير السيد حسن الأمين عبر كتابه ( صلاح الدين الأيوبي بين العباسيين والفاطميين والصليبيين)، يمكن أن يصل إلى شاطئ فيه الكثير من الصور واللوحات، التي تعبر إن لم يكن عن كل الحقيقة فعن أكثرها جلاء في حياة هذا الرجل.
يقول السيد الأمين أن صلاح الدين الأيوبي (لم يكد يطمئن إلى النصر الرائع في تلك المعركة، حتى أسرع إلى القيام بعمل لا يكاد الإنسان يصدقه، لولا أنه يقرأ بعينيه تفاصيله الواضحة، فيما سجله مؤرخو تلك الحقبة، المؤرخون الذين خدرت عقولهم روائع استرداد القدس، فذهلوا عما بعده، لم تتخدر أقلامهم فسجلوا الحقائق كما هـي، وظل تخدير العقول متواصلاً من جيل إلى جيل، تتعامى حتى عما هـو كالشمس الطالعة، حصل بعد حطين أن صلاح الدين الأيوبي آثر الراحة بعد العناء، والتسليم بعد التمرد، فأسرع يطلب إلى الإفرنج إنهاء حالة الحرب وإحلال السلام )(1).
ولكي يتوصل صلاح الدين إلى إحلال السلام وإنهاء حالة الحرب مع الصليبيين، رضخ بصورة مذهلة وغريبة إلى كل الشروط التي اشترطوها عليه أثناء المفاوضات، ومنها: التنازل للصليبيين عن الكثير من المدن التي كان صلاح الدين قد استردها منهم بالحرب00 حيفا - يافا – قيسارية – نصف اللد ونصف الرملة – عكا – صور – وسوى ذلك، حتى صارت لهم فلسطين إلاّ القليل(2).
إضافة إلى ماوراء ذلك من اعتراف بوجودهم وإقرار لاحتلالهم، ورفع العنت والمعاناة عن رقابهم الموضوعة تحت سيوف المجاهدين، وإعطائهم الفرصة الذهبية للراحة، والاستعداد التام للانقضاض على القدس من جديد، الأمر الذي حصل فعلاً بعد موت صلاح الدين.
ويقول الدكتور حسين مؤنس: (ثم دخلوا في مفاوضات مع صلاح الدين انتهت بعقد صلح (الرملة)، الذي نصّ على أن يترك صلاح الدين للصليبيين شريطاً من الساحل، يمتد من صور إلى يافا، وبهذا العمل عادت مملكة بيت المقدس – التي انتقلت إلى طرابلس – إلى القوة بعد أن كانت قد انتهت، وتمكن ملوكها من استعادة الساحل حتى بيروت ... وبذلك تكون معظم المكاسب التي حققها صلاح الدين – فيما عدا استعادته لبيت المقدس – قد ضاعت)(3).
• متى يكون الجنوح للسلم؟:
إنه لأمر غريب حقاً وعجيب جداً بل ومريب، أن يجنح إلى السلم قائد مظفر لجيش منتصر، ثم إن هذا الذي جنح إليه صلاح الدين، هل هو سلم أم استسلام؟!.
قال الله تعالى في محكم التنزيل (وإن جنحوا للسَّلم فاجنح لها وتوكل على الله)[سورة الأنفال: الآية 61].
يلاحظ أن الله سبحانه وتعالى قد اشترط في هذه الآية الكريمة، أن يجنح المعتدون أنفسهم إلى السلم، فيجنح إليه عندئذ المسلمون، وهذا يعني أن الهزيمة الأكيدة قد حاقت بالأعداء، ولاحت لهم بوادرها، فجبنوا عن متابعة الحرب، وجنحوا إلى طلب الصلح حفظاً على أرواحهم وأنفسهم، ولم يعودوا مؤهلين إلى تقديم شروط، وباتوا مستعدين للاستجابة للشروط التي يفرضها عليهم المسلمون، وغني عن البيان أن المسلمين بما هم مكلفون بتبليغ الإسلام إلى البشرية جمعاء، وبما هم مأمورون به من العدل والإنصاف، وتأليف قلوب الكفار ليسلموا لله ويؤمنوا بالحق الذي جاء من عنده، لن يشتطوا في شروطهم، ولن يجعلوها شروطاً تعجيزية مجحفة، بل سيقتصرون من الشروط على سبيل المثال لا الحصر على:
- فتح الطريق أمام حرية الدعاة في التبليغ ونشر نور الرسالة الربانية.
- استرداد الأسرى من المؤمنين – إن كان هناك أسرى – أو تبادلهم مع الأسرى من الكفار المقاتلين.
- الجلاء التام الكامل عن كل شبر من الأرض الإسلامية، التي دخلها الكفار أو احتلوها أثناء الحرب.
- وربما دفع جزية للمسلمين، حتى لا يفكر الكفار مستقبلاً في نقض هذه الشروط.
ولكن شيئاً من هذا لم يحصل بين صلاح الدين الأيوبي والصليبيين المعتدين، فما الذي حصل إذن؟:
1- إن صلاح الدين هو الذي طلب الصلح والهدنة، وبادر إليها رغم أنه المنتصر في معركة حطين التي انتهت بتحرير القدس.
2- الصليبيون استغلوا استغلالاً كبيراً هذه المبادرة السلمية من صلاح الدين، وفرضوا عليه شروطهم كاملة.
3- لم يحقق صلاح الدين أياً من مقتضيات الجنوح الإسلامي إلى السلم، فالصليبيون لا يزالون محتلين لمنطقة كبيرة جداً من البلاد الإسلامية.
4- وزاد من سوء هذا الجنوح إلى السلم تنازل صلاح الدين للصليبيين عن مناطق أخرى ومدن مهمة كانت في يد صلاح الدين.
كل هذا في الوقت الذي لم يكن فيه صلاح الدين في حالة ضعف أو تقهقر، بل كان في حالة عظيمة من الانتصار والتقدم والقوة، بل وكان الخليفة الناصر العباسي يلح عليه في أن يمده بجيش الخلافة، وكان ذلك إيذاناً بنصر كاسح على الصليبيين المعتدين، سيؤدي إلى طردهم خارج البلاد الإسلامية، والتنكيل بهم تنكيلاً يجعل الرعب يدب في قلوب من خلفهم من الكفار، بحيث لا يراودهم أي أمل ولو في مجرد التفكير مستقبلاً بالاعتداء على ديار المسلمين، طبقاً لقوله عز من قائل(فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذّكرون)[سورة الأنفال: الآية 57].
• لماذا جنح صلاح الدين إلى السلام مع الصليبيين؟:
هنا لابد أن يثور في الفكر سؤال كبير، وبحث عن السبب الذي دفع صلاح الدين إلى إيقاف الحرب مع الصليبيين، والجنوح الشديد نحو مسالمتهم وعقد معاهدة الصلح معهم بهذا الشكل المريب، وهو السؤال الذي لم يبخل التاريخ بالإجابة عنه بصراحة ووضوح، ومن قبل أقرب المقربين من المؤرخين إلى صلاح الدين.
لو كان صلاح الدين مجاهداً في سبيل الله والإسلام، لالتزم بالتعاليم الإسلامية بشكل عام، وبالأحكام المتعلقة بالسلم والحرب بشكل خاص، وواقع الحال يؤكد غير ذلك(3أ).
ولو كان صلاح الدين بطلاً قومياً كما يدّعون له، لاختار أن يستمر في الحرب حتى يطهر الأرض العربية من رجس الغزاة المعتدين، ويكنس منها كل أثر للصليبيين، قبل أن يفكر بالخلود إلى الراحة والدعة، وموادعة أعداء الأمة، الرابضين في أهم مدنها وبقاعها، والجاثمين فوق صدور أبنائها.
• فماذا كان صلاح الدين الأيوبي إذن؟
إنه لا مفر أمامنا من الاعتراف، أن صلاح الدين الأيوبي ما هو إلاّ طالب لسلطة وملك حازهما بكل خسة ونذالة، وطامح لمجد شخصي ناله بالغدر والخيانة، ولم تكن الدواعي الإسلامية والدوافع القومية لتخطر على باله، أو لتحتل حيّزاً ولو صغيراً في قلبه.
ومن هنا فقط، نستطيع أن نفهم مبادرته لإيقاف الحرب، وسعيه الحثيث لعقد الصلح مع الصليبيين،ومحاولاته المتكررة لثني الخليفة العباسي الناصر عن إرسال أي جيش إلى فلسطين لمعاضدة صلاح الدين في قتال الصليبيين وطردهم من الديار الإسلامية(4).
كان نور الدين زنكي ولي نعمة صلاح الدين، قد طلب إليه أن يزحف من مصر، في حين يزحف نور الدين من الشام، ويحصرا الصليبيين بين الجيشين مما يسهل القضاء عليهم، فأبى ذلك صلاح الدين، لأنه اعتقد أنه إذا زال الصليبيون أصبح تابعاً لنور الدين، ولما أدرك أن نور الدين عازم على القدوم بنفسه إلى مصر ليؤدبه، احتمى منه بالصليبيين كما نص على ذلك ابن الأثير وأبو شامة وابن العديم وغيرهم(5).
يقول أبو شامة: (وكان نور الدين قد شرع بتجهيز السير إلى مصر لأخذها من صلاح الدين، لأنه رأى منه فتوراً في غزو الفرنج من ناحيته، فأرسل إلى الموصل وديار الجزيرة وديار بكر، يطلب العساكر ليتركها بالشام لمنعه من الصليبيين، ليسير هو بعساكره إلى مصر، وكان المانع لصلاح الدين من الغزو، الخوف من نور الدين، فإنه كان يعتقد أن نور الدين، متى زال عن طريقه الفرنج، أخذ البلاد منه، فكان يحتمي بهم عليه ولا يؤثر استئصالهم )(6).
وياليت الله مدّ في عمر نور الدين ريثما يزيل هذا الجاحد للنعمة، المتخاذل عن النصرة، فيتغير بذلك وجه التاريخ، ولا يبقى للصليبيين أثر في البلاد الإسلامية، ولكن نور الدين أتاه أمر الله الذي لا يرد، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، ولتكون أمام صلاح الدين الفرصة ليعيد هذا الموقف نفسه مرة ثانية مع الخليفة الناصر العباسي، (ولتنكب الأمة نكبة أخرى بتمزيق صفوفها، وتوريث بلادها كما تورث القرى والمزارع لورثة صلاح الدين، فتعاد القدس التي سفكت دماء المسلمين في سبيل استردادها، تعاد بسبب ترتيبات صلاح الدين إلى الصليبيين)(7).
(هنا أيضاً وقف صلاح الدين الموقف نفسه من الخليفة الناصر، فرفض قدوم جيش الخلافة لقتال الصليبيين والقضاء عليهم، لأنه اعتقد أنه سيصبح والياً من ولاة الخليفة تابعاً له)(8).
وأمام الرسالة الأخيرة التي أرسلها الخليفة الناصر، والتي لم يفصح العماد الأصفهاني عن شيء من مضمونها، والتي استشعر صلاح الدين الشدة فيها، والإصرار على إرسال جيش قوي لطرد الصليبيين، قرر صلاح الدين في نفسه التمرد على الخليفة، إلى حد قتال جيشه لو جاء إلى فلسطين.
ولذلك فقد راح يهيئ وسائل المقاومة ويرتب المحالفات، وخاصة بعدما جاءت الأخبار بقدوم حملة صليبية ألمانية كبيرة، اجتازت القسطنطينية وشقت طريقها في الأناضول، ودخلت مدينة قونيه وتحالفت مع الملك السلجوقي قلج أرسلان.
فمن جهة حاول صلاح الدين أن يلين للخليفة الناصر، ويطمئنه على قدرته على القيام وحده بواجب صد هذه الحملة وردها على أعقابها، فأوفد رسولاً إليه، وزوده برسالة يقول فيها: (00 والخادم منفرد في عبء هذا الفادح الباهظ بالنهوض، وهو واثق بأن بركات الدار العزيزة تدركه ولا تتركه، وأن الذي يستبعد مـن النصر القريب يتسق ويتسع بـه سلكه ومسلكه إن شـاء الله)(9).
ومن جهة ثانية، كان يوقع معاهدة الصلح والسلام مع الصليبيين، وينزل عند شروطهم، ويتنازل لهم عما كان في يده وتحت سلطانه من مدن فلسطين وغير فلسطين، ويتحالف معهم لقتال جيش الخليفة إن هو جاء إلى فلسطين.
فما أن تم له إنجاز هذا التحالف واستكمال متطلباته، حتى كتب إلى الخليفة معلناً رفض أمراء جيشه مواصلة القتال، وبالتالي تململهم من قدوم جيش الخليفة، لأن العسكر قد أنهكتهم الحرب حتى سئموا وملوا وضجروا وكلّوا(10).
على أن صلاح الدين الذي أبرم هذا الصلح مع الصليبيين أعداء الأمة الإسلامية، ورسم هذه الصورة الهزيلة لجيشه، زاعماً في رسالته للخليفة أن جيشه قد ملّ القتال وسئم الحرب، وغدا عاجزاً ضعيفاً عن مواصلة الكرّ والفرّ، كان يعدّ لحرب جديدة، ولكن لا لإنقاذ الوطن الإسلامي مـن خطر الصليبيين هذه المرة، وإنما لتوسيع رقعة مملكته الخاصة على حساب ممالك إسلامية أخرى، (لأن إنقاذ الوطن الإسلامي من الصليبيين يحد من نفوذه ويقلل من هيمنته، أما القتال في مناطق أخرى، فإنه يزيد من نفوذه ويكثر من هيمنته، فإذا ضمن ذلك فليبق الصليبيون في بلاد الشام، ولو أن المناطق التي عزم على القتال فيها، هي مناطق أجنبية يريد إدخالها ضمن المناطق الإسلامية لهان الأمر، ولكن صلاح الدين الذي عزم على مسالمة الصليبيين وإنهاء الحرب معهم والتسليم بوجودهم، صلاح الدين هذا كان يخطط لغزو البلاد الإسلامية، وسفك دماء المسلمين، تحقيقاً لمطامعه الشخصية، عزم على ترك الصليبيين في أمان، واتجه لترويع المسلمين الآمنين)(11).
ويذكر ابن الأثير في تاريخه، وابن كثير في البداية والنهاية، أن صلاح الدين كان عازماً على أن يغزو بنفسه بلاد الأناضول، التي كانت وقتذاك بلاداً إسلامية، يحكمها أولاد قلج أرسلان السلجوقي، وأن يوجه أخاه (العادل) لغزو بلاد (خلاّط) والدخول منها إلى أذربيجان، ومن ثم بلاد العجم، لكن المنية عاجلت صلاح الدين، وحالت بينه وبين الإقدام على جريمة أخرى من جرائمه الكثيرة في حق الإسلام والمسلمين، كما حالت من قبل بين نور الدين زنكي وبين السير إلى مصر، لإنزال عقوبة الموت بصلاح الدين الذي نكل بوعده ونكص عن التوجه لقتال الصليبيين، حسب الخطة التي رسمها لـه نور الدين زنكي، وليُّ نعمته وصاحب الفضل الذي لا ينكر عليه.
ولكن المنصف إذا أبحر بعمق، في سفينة المؤرخ والمفكر الكبير السيد حسن الأمين عبر كتابه ( صلاح الدين الأيوبي بين العباسيين والفاطميين والصليبيين)، يمكن أن يصل إلى شاطئ فيه الكثير من الصور واللوحات، التي تعبر إن لم يكن عن كل الحقيقة فعن أكثرها جلاء في حياة هذا الرجل.
يقول السيد الأمين أن صلاح الدين الأيوبي (لم يكد يطمئن إلى النصر الرائع في تلك المعركة، حتى أسرع إلى القيام بعمل لا يكاد الإنسان يصدقه، لولا أنه يقرأ بعينيه تفاصيله الواضحة، فيما سجله مؤرخو تلك الحقبة، المؤرخون الذين خدرت عقولهم روائع استرداد القدس، فذهلوا عما بعده، لم تتخدر أقلامهم فسجلوا الحقائق كما هـي، وظل تخدير العقول متواصلاً من جيل إلى جيل، تتعامى حتى عما هـو كالشمس الطالعة، حصل بعد حطين أن صلاح الدين الأيوبي آثر الراحة بعد العناء، والتسليم بعد التمرد، فأسرع يطلب إلى الإفرنج إنهاء حالة الحرب وإحلال السلام )(1).
ولكي يتوصل صلاح الدين إلى إحلال السلام وإنهاء حالة الحرب مع الصليبيين، رضخ بصورة مذهلة وغريبة إلى كل الشروط التي اشترطوها عليه أثناء المفاوضات، ومنها: التنازل للصليبيين عن الكثير من المدن التي كان صلاح الدين قد استردها منهم بالحرب00 حيفا - يافا – قيسارية – نصف اللد ونصف الرملة – عكا – صور – وسوى ذلك، حتى صارت لهم فلسطين إلاّ القليل(2).
إضافة إلى ماوراء ذلك من اعتراف بوجودهم وإقرار لاحتلالهم، ورفع العنت والمعاناة عن رقابهم الموضوعة تحت سيوف المجاهدين، وإعطائهم الفرصة الذهبية للراحة، والاستعداد التام للانقضاض على القدس من جديد، الأمر الذي حصل فعلاً بعد موت صلاح الدين.
ويقول الدكتور حسين مؤنس: (ثم دخلوا في مفاوضات مع صلاح الدين انتهت بعقد صلح (الرملة)، الذي نصّ على أن يترك صلاح الدين للصليبيين شريطاً من الساحل، يمتد من صور إلى يافا، وبهذا العمل عادت مملكة بيت المقدس – التي انتقلت إلى طرابلس – إلى القوة بعد أن كانت قد انتهت، وتمكن ملوكها من استعادة الساحل حتى بيروت ... وبذلك تكون معظم المكاسب التي حققها صلاح الدين – فيما عدا استعادته لبيت المقدس – قد ضاعت)(3).
• متى يكون الجنوح للسلم؟:
إنه لأمر غريب حقاً وعجيب جداً بل ومريب، أن يجنح إلى السلم قائد مظفر لجيش منتصر، ثم إن هذا الذي جنح إليه صلاح الدين، هل هو سلم أم استسلام؟!.
قال الله تعالى في محكم التنزيل (وإن جنحوا للسَّلم فاجنح لها وتوكل على الله)[سورة الأنفال: الآية 61].
يلاحظ أن الله سبحانه وتعالى قد اشترط في هذه الآية الكريمة، أن يجنح المعتدون أنفسهم إلى السلم، فيجنح إليه عندئذ المسلمون، وهذا يعني أن الهزيمة الأكيدة قد حاقت بالأعداء، ولاحت لهم بوادرها، فجبنوا عن متابعة الحرب، وجنحوا إلى طلب الصلح حفظاً على أرواحهم وأنفسهم، ولم يعودوا مؤهلين إلى تقديم شروط، وباتوا مستعدين للاستجابة للشروط التي يفرضها عليهم المسلمون، وغني عن البيان أن المسلمين بما هم مكلفون بتبليغ الإسلام إلى البشرية جمعاء، وبما هم مأمورون به من العدل والإنصاف، وتأليف قلوب الكفار ليسلموا لله ويؤمنوا بالحق الذي جاء من عنده، لن يشتطوا في شروطهم، ولن يجعلوها شروطاً تعجيزية مجحفة، بل سيقتصرون من الشروط على سبيل المثال لا الحصر على:
- فتح الطريق أمام حرية الدعاة في التبليغ ونشر نور الرسالة الربانية.
- استرداد الأسرى من المؤمنين – إن كان هناك أسرى – أو تبادلهم مع الأسرى من الكفار المقاتلين.
- الجلاء التام الكامل عن كل شبر من الأرض الإسلامية، التي دخلها الكفار أو احتلوها أثناء الحرب.
- وربما دفع جزية للمسلمين، حتى لا يفكر الكفار مستقبلاً في نقض هذه الشروط.
ولكن شيئاً من هذا لم يحصل بين صلاح الدين الأيوبي والصليبيين المعتدين، فما الذي حصل إذن؟:
1- إن صلاح الدين هو الذي طلب الصلح والهدنة، وبادر إليها رغم أنه المنتصر في معركة حطين التي انتهت بتحرير القدس.
2- الصليبيون استغلوا استغلالاً كبيراً هذه المبادرة السلمية من صلاح الدين، وفرضوا عليه شروطهم كاملة.
3- لم يحقق صلاح الدين أياً من مقتضيات الجنوح الإسلامي إلى السلم، فالصليبيون لا يزالون محتلين لمنطقة كبيرة جداً من البلاد الإسلامية.
4- وزاد من سوء هذا الجنوح إلى السلم تنازل صلاح الدين للصليبيين عن مناطق أخرى ومدن مهمة كانت في يد صلاح الدين.
كل هذا في الوقت الذي لم يكن فيه صلاح الدين في حالة ضعف أو تقهقر، بل كان في حالة عظيمة من الانتصار والتقدم والقوة، بل وكان الخليفة الناصر العباسي يلح عليه في أن يمده بجيش الخلافة، وكان ذلك إيذاناً بنصر كاسح على الصليبيين المعتدين، سيؤدي إلى طردهم خارج البلاد الإسلامية، والتنكيل بهم تنكيلاً يجعل الرعب يدب في قلوب من خلفهم من الكفار، بحيث لا يراودهم أي أمل ولو في مجرد التفكير مستقبلاً بالاعتداء على ديار المسلمين، طبقاً لقوله عز من قائل(فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذّكرون)[سورة الأنفال: الآية 57].
• لماذا جنح صلاح الدين إلى السلام مع الصليبيين؟:
هنا لابد أن يثور في الفكر سؤال كبير، وبحث عن السبب الذي دفع صلاح الدين إلى إيقاف الحرب مع الصليبيين، والجنوح الشديد نحو مسالمتهم وعقد معاهدة الصلح معهم بهذا الشكل المريب، وهو السؤال الذي لم يبخل التاريخ بالإجابة عنه بصراحة ووضوح، ومن قبل أقرب المقربين من المؤرخين إلى صلاح الدين.
لو كان صلاح الدين مجاهداً في سبيل الله والإسلام، لالتزم بالتعاليم الإسلامية بشكل عام، وبالأحكام المتعلقة بالسلم والحرب بشكل خاص، وواقع الحال يؤكد غير ذلك(3أ).
ولو كان صلاح الدين بطلاً قومياً كما يدّعون له، لاختار أن يستمر في الحرب حتى يطهر الأرض العربية من رجس الغزاة المعتدين، ويكنس منها كل أثر للصليبيين، قبل أن يفكر بالخلود إلى الراحة والدعة، وموادعة أعداء الأمة، الرابضين في أهم مدنها وبقاعها، والجاثمين فوق صدور أبنائها.
• فماذا كان صلاح الدين الأيوبي إذن؟
إنه لا مفر أمامنا من الاعتراف، أن صلاح الدين الأيوبي ما هو إلاّ طالب لسلطة وملك حازهما بكل خسة ونذالة، وطامح لمجد شخصي ناله بالغدر والخيانة، ولم تكن الدواعي الإسلامية والدوافع القومية لتخطر على باله، أو لتحتل حيّزاً ولو صغيراً في قلبه.
ومن هنا فقط، نستطيع أن نفهم مبادرته لإيقاف الحرب، وسعيه الحثيث لعقد الصلح مع الصليبيين،ومحاولاته المتكررة لثني الخليفة العباسي الناصر عن إرسال أي جيش إلى فلسطين لمعاضدة صلاح الدين في قتال الصليبيين وطردهم من الديار الإسلامية(4).
كان نور الدين زنكي ولي نعمة صلاح الدين، قد طلب إليه أن يزحف من مصر، في حين يزحف نور الدين من الشام، ويحصرا الصليبيين بين الجيشين مما يسهل القضاء عليهم، فأبى ذلك صلاح الدين، لأنه اعتقد أنه إذا زال الصليبيون أصبح تابعاً لنور الدين، ولما أدرك أن نور الدين عازم على القدوم بنفسه إلى مصر ليؤدبه، احتمى منه بالصليبيين كما نص على ذلك ابن الأثير وأبو شامة وابن العديم وغيرهم(5).
يقول أبو شامة: (وكان نور الدين قد شرع بتجهيز السير إلى مصر لأخذها من صلاح الدين، لأنه رأى منه فتوراً في غزو الفرنج من ناحيته، فأرسل إلى الموصل وديار الجزيرة وديار بكر، يطلب العساكر ليتركها بالشام لمنعه من الصليبيين، ليسير هو بعساكره إلى مصر، وكان المانع لصلاح الدين من الغزو، الخوف من نور الدين، فإنه كان يعتقد أن نور الدين، متى زال عن طريقه الفرنج، أخذ البلاد منه، فكان يحتمي بهم عليه ولا يؤثر استئصالهم )(6).
وياليت الله مدّ في عمر نور الدين ريثما يزيل هذا الجاحد للنعمة، المتخاذل عن النصرة، فيتغير بذلك وجه التاريخ، ولا يبقى للصليبيين أثر في البلاد الإسلامية، ولكن نور الدين أتاه أمر الله الذي لا يرد، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، ولتكون أمام صلاح الدين الفرصة ليعيد هذا الموقف نفسه مرة ثانية مع الخليفة الناصر العباسي، (ولتنكب الأمة نكبة أخرى بتمزيق صفوفها، وتوريث بلادها كما تورث القرى والمزارع لورثة صلاح الدين، فتعاد القدس التي سفكت دماء المسلمين في سبيل استردادها، تعاد بسبب ترتيبات صلاح الدين إلى الصليبيين)(7).
(هنا أيضاً وقف صلاح الدين الموقف نفسه من الخليفة الناصر، فرفض قدوم جيش الخلافة لقتال الصليبيين والقضاء عليهم، لأنه اعتقد أنه سيصبح والياً من ولاة الخليفة تابعاً له)(8).
وأمام الرسالة الأخيرة التي أرسلها الخليفة الناصر، والتي لم يفصح العماد الأصفهاني عن شيء من مضمونها، والتي استشعر صلاح الدين الشدة فيها، والإصرار على إرسال جيش قوي لطرد الصليبيين، قرر صلاح الدين في نفسه التمرد على الخليفة، إلى حد قتال جيشه لو جاء إلى فلسطين.
ولذلك فقد راح يهيئ وسائل المقاومة ويرتب المحالفات، وخاصة بعدما جاءت الأخبار بقدوم حملة صليبية ألمانية كبيرة، اجتازت القسطنطينية وشقت طريقها في الأناضول، ودخلت مدينة قونيه وتحالفت مع الملك السلجوقي قلج أرسلان.
فمن جهة حاول صلاح الدين أن يلين للخليفة الناصر، ويطمئنه على قدرته على القيام وحده بواجب صد هذه الحملة وردها على أعقابها، فأوفد رسولاً إليه، وزوده برسالة يقول فيها: (00 والخادم منفرد في عبء هذا الفادح الباهظ بالنهوض، وهو واثق بأن بركات الدار العزيزة تدركه ولا تتركه، وأن الذي يستبعد مـن النصر القريب يتسق ويتسع بـه سلكه ومسلكه إن شـاء الله)(9).
ومن جهة ثانية، كان يوقع معاهدة الصلح والسلام مع الصليبيين، وينزل عند شروطهم، ويتنازل لهم عما كان في يده وتحت سلطانه من مدن فلسطين وغير فلسطين، ويتحالف معهم لقتال جيش الخليفة إن هو جاء إلى فلسطين.
فما أن تم له إنجاز هذا التحالف واستكمال متطلباته، حتى كتب إلى الخليفة معلناً رفض أمراء جيشه مواصلة القتال، وبالتالي تململهم من قدوم جيش الخليفة، لأن العسكر قد أنهكتهم الحرب حتى سئموا وملوا وضجروا وكلّوا(10).
على أن صلاح الدين الذي أبرم هذا الصلح مع الصليبيين أعداء الأمة الإسلامية، ورسم هذه الصورة الهزيلة لجيشه، زاعماً في رسالته للخليفة أن جيشه قد ملّ القتال وسئم الحرب، وغدا عاجزاً ضعيفاً عن مواصلة الكرّ والفرّ، كان يعدّ لحرب جديدة، ولكن لا لإنقاذ الوطن الإسلامي مـن خطر الصليبيين هذه المرة، وإنما لتوسيع رقعة مملكته الخاصة على حساب ممالك إسلامية أخرى، (لأن إنقاذ الوطن الإسلامي من الصليبيين يحد من نفوذه ويقلل من هيمنته، أما القتال في مناطق أخرى، فإنه يزيد من نفوذه ويكثر من هيمنته، فإذا ضمن ذلك فليبق الصليبيون في بلاد الشام، ولو أن المناطق التي عزم على القتال فيها، هي مناطق أجنبية يريد إدخالها ضمن المناطق الإسلامية لهان الأمر، ولكن صلاح الدين الذي عزم على مسالمة الصليبيين وإنهاء الحرب معهم والتسليم بوجودهم، صلاح الدين هذا كان يخطط لغزو البلاد الإسلامية، وسفك دماء المسلمين، تحقيقاً لمطامعه الشخصية، عزم على ترك الصليبيين في أمان، واتجه لترويع المسلمين الآمنين)(11).
ويذكر ابن الأثير في تاريخه، وابن كثير في البداية والنهاية، أن صلاح الدين كان عازماً على أن يغزو بنفسه بلاد الأناضول، التي كانت وقتذاك بلاداً إسلامية، يحكمها أولاد قلج أرسلان السلجوقي، وأن يوجه أخاه (العادل) لغزو بلاد (خلاّط) والدخول منها إلى أذربيجان، ومن ثم بلاد العجم، لكن المنية عاجلت صلاح الدين، وحالت بينه وبين الإقدام على جريمة أخرى من جرائمه الكثيرة في حق الإسلام والمسلمين، كما حالت من قبل بين نور الدين زنكي وبين السير إلى مصر، لإنزال عقوبة الموت بصلاح الدين الذي نكل بوعده ونكص عن التوجه لقتال الصليبيين، حسب الخطة التي رسمها لـه نور الدين زنكي، وليُّ نعمته وصاحب الفضل الذي لا ينكر عليه.