الحلقة الثامنة عشرة
الحلقة الثامنة عشرة
[FONT=Tahoma (Arabic)]في تلك الفترة كان يمثل مصرَ سفيرٌ مستنيرٌ هو الأستاذ أحمد فؤاد حسني ومعه القنصل العام الأستاذ عبد الحليم السجاعي وثالثهما الأستاذ محيي يوسف.[/FONT]
[FONT=Tahoma (Arabic)]أجرى السفيرُ لقاءً مع صحيفة يهودية صهيونية دون أن يدري، وفام رئيس التحرير السيد ( بير هين ) وهو يهودي نرويجي بعمل لقاء آخر مع السفير الاسرائيلي ووضعه في الصفحة المقابلة، وبدا اللقاءان غير متساويين بحيث من يقرأ الاثنين ينحاز فورا للاسرائيلي.[/FONT]
[FONT=Tahoma (Arabic)]اتصلتُ بالسفير، ثم قمت بزيارته، وكان متواضعا دمث الخلق، وشرحت له الموقف، وطلبت منه أن يتصل بنا إنْ لم يكن واثقا، فنحن مقيمون هنا ونعرف أهل البيت من النرويجيين، فاعتذر بلباقة متحضرة بدلا من أن تأخذه العزة بالاثم ، وحملتُ له هذا الموقف النبيل حتى بعدما غادر النرويج.[/FONT]
[FONT=Tahoma (Arabic)]زيارتي الثانية للكويت في عام 1984 لكنها هذه المرة تأخذ منحى آخر، وتقترب من رجال الاعلام والثقافة والأدب، ومع ذلك فقد قمت بزيارة للدكتور فؤاد العمر مدير بيت الزكاة ، ولم أكن أحمل مشروعا اسلامياً.[/FONT]
[FONT=Tahoma (Arabic)]بدأت التعرف عن كثب بأدباء ومثقفين واعلاميين ، وقضيت معظم هذه الزيارة للاقتراب من الجانب المجهول من دولة الكويت .. أي الفكر الثقافي والأدبي ومن حسن حظي أن الأربعة الذين استمتعت بصحبتهم الفكرية جعلوا المشهد الكويتي الثقافي في ذهني يبدأ من نقطة انطلاق جيدة رغم أنني كنت متابعا من بعيد للحركة الأدبية والثقافية ، خاصة عن طريق ( العربي ) و ( عالم الفكر ) .[/FONT]
[FONT=Tahoma (Arabic)]كانت الصحبة الجميلة مع الدكتور خليفة الوقيان والأديب الشاعر سليمان الخليفي والأستاذ عبد الفتاح الصبيح ( مدير إذاعة الشعب المصرية الأسبق ) والأستاذ حسين اللبودي ( رحمه الله ) والذي أهداني شرائط الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم .[/FONT]
[FONT=Tahoma (Arabic)]في وزارة الاعلام بدا أن زمنا من التعاون الوثيق والصحي والصادق في طريقه ليتبلور بهدوء بعدما التقيت الشيخ ناصر محمد الأحمد الجابر الصباح والأستاذ رضا الفيلي والسيدة أمل الحمد.[/FONT]
[FONT=Tahoma (Arabic)]بديات عام 1985 تبشر بسنة مشحونة بالأحداث، فقمنا بزيارة لمصر ولم يكن مجدي قد بلغ عامه الأول. في طريق العودة، ونحن في ترانزيت مطار كوبنهاجن الدولي كانت سونيا ( 6 سنوات ) تتحدث بفخر أن اسمها مطابق لاسم ملكة النرويج ( الأميرة وقتها وزوجة ولي العهد ) وتتمنى مقابلتها! وفجأة قالت لها والدتها: انظري هناك من الذي يسير أمامك؟[/FONT]
[FONT=Tahoma (Arabic)]كانت الملكة سونيا ملكة النرويج في قاعة الترانزيت وليس معها حراسة باستثناء شخصين من القصر الدانمركي ( بروتوكول ) وثالث من النرويج. جرت ابنتي ناحيتها، وسلّمَتْ عليها وقالت لها: وأنا أيضا نرويجية مثلك واسمي سونيا. وقفت الملكة قليلا، وتحدثت إلى سونيا، ثم تكلمت معنا قليلا.[/FONT]
[FONT=Tahoma (Arabic)]يتعلم الانسان حقوقا في أماكن أخرى لم يكن قادرا في بلده الأصلي على استيعابها، بل حتى على تصورها، فإذا حدّثْتَ أحدهم مثلا عن أن ملك السويد كارل جوستاف والملكة سيلفيا ( وهي ألمانية الأصل وقابلها الملك عندما كانت تعمل في معرض في ألمانيا ) عندما يخرجان للتنزه يكون مع كل منهما شرائح خبز ومشروب ساخن في تورموس صغير، يقول لك محدثك بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ينام تحت ظل شجرة آمنا مطمئنا ( رغم أنه قتل بعد ذلك )، وهي مقارنة غير عادلة في زمنين مختلفين في كل شيء.[/FONT]
[FONT=Tahoma (Arabic)]رئيس وزراء السويد الأسبق والأشهر في تاريخها أولوف بالما والذي كان له دور مشهود في استقلالية القرار السويدي وادانة الحرب الأمريكية ضد فيتنام ، كان خارجا من دار عرض سينمائية مع زوجته دون أن تكون معهما حراسة. كانت الساعة تقارب الحادية عشرة مساء، وقالت له زوجته بأنها تريد أن تنظر لواجهة عرض محل من الناحية الأخرى للشارع. وبعد دقائق سمعت صراخا، فجرت نحوه لتجده يصارع الموت بعدما تعرض لعملية اغتيال وضيعة.[/FONT]
[FONT=Tahoma (Arabic)]لازلت احتفظ برسالتين عندما كنت في عامي الأول في جنيف وأردت البحث عن مكان آخر للاقامة، فأرسلت إلى ملكة بريطانيا اليزابيث الثانية، ورد علي القصر الملكي بأن عودتي للندن تحتاج لاجراءات صعبة، وربما مستحيلة. والرسالة الثانية كانت من رئيس وزراء السويد أولوف بالما نفسه يعتذر فيها عن عدم قدرته على مساعدتي للحصول على حق الاقامة ( كان ذلك في بداية عام 1974 ) .[/FONT]
[FONT=Tahoma (Arabic)]الحقوق والواجبات عملية نسبية تختلف من مكان إلى آخر، ويتعامل الانسان معها بوجهين دون أن يشعر بالتناقض أحيانا. [/FONT]
[FONT=Tahoma (Arabic)]في طريق العودة من الرياض إلى أوسلو ( عام 1987 ) قررت زيارة أهلي ليومين. وفي مطار القاهرة الدولي كنت أقف في الصف الطويل للطائرة القادمة من العاصمة السعودية، وأمامي وخلفي ( مصادفة ) عدد كبير من الصعايدة بجلاليبهم المميزة. جاء دوري فسألني ضابط الجوازات: لماذا تقف معهم وأنت تحمل الجنسية النرويجية؟ قلت: لأنني عائد من الرياض ومتوجه لأوسلو وأزور الأهل في مصر! طلب مني الانتظار رغم أن كل من في الصف مر بسهولة، وجاء ركاب طائرة أخرى. وقفت وقتا طويلا، وأخرجت كتابا من حقيبتي وجعلت أقرأ فيه دون أن أنظر إلى الباشا. غضب أكثر، وبعد فترة أشار إلى زميله، وختم جواز سفري.[/FONT]
[FONT=Tahoma (Arabic)]في مطار أوسلو تدلف دون أن تقف أمام ضابط الجوازات أكثر من ثانيتين أو ثلاث، ولا يختم لك جوازك النرويجي في الخروج أو الدخول فهو اعتداء على حريتك، وفي كثير من الأحيان لا يفتح جواز السفر مطلقا ( بدأ فتح الجوازات منذ أقل من عشر سنوات ).[/FONT]
[FONT=Tahoma (Arabic)]وعندما تكون قادما بطائرة من دولة اسكندنافية( الدانمرك، السويد، آيسلندا، فنلندا ) فيكفي أن تمر أمام ضابط الجوازات قائلا: نرويجي! دون أن يطلب منك أن تتوقف لتظهر أي ورقة.[/FONT]
[FONT=Tahoma (Arabic)]في عالمنا العربي تقف في المطار كأنك متهم، وترتعش يداك، وتشكر ضابط الجوازات لأنه تفضل ونظر إليك. وقد تشكره عندما يتسلم منك جواز السفر، فإذا أعاد النظرة كَرّة أخرى لوجهك الكريم فقد يزداد نبض قلبك ضعفين. أما لو كنت مصابا بارتفاع ضغط الدم وطرح عليك سؤالين بريئين، رغم أن البراءة وأجهزة الأمن العربية لا تلتقيان، فربما تحتاج لزيارة الطبيب في أقرب فرصة.[/FONT]
[FONT=Tahoma (Arabic)]نظرات ضابط جواز السفر العربي تصيبك في مقتل دون أن تقتلك. إنها تخترق الحجاب الحاجز، وتدلف متسللة إلى عقلك، وتحاول كفيروس الكمبيوتر أن تقرأ أفكارك فربما تكون من أعداء الدولة، أعني خصوم الزعيم.[/FONT]
[FONT=Tahoma (Arabic)]لسان حال ضابط جوازات أي مطار عربي يقول لك: لا أصدق أنك بريء.[/FONT]
[FONT=Tahoma (Arabic)]في الطريق من الكويت إلى دمشق مر الزميل عصام أباظة مدير تحرير ( الأنباء ) سابقا على الحدود الأردنية، فاكتشفت أجهزة الاستخبارات التي لا تغيب عنها دقائق معدودة من حياة المواطن المسكين أن زميلنا العزيز كان يكتب في صحيفة إماراتية منذ سنوات طويلة، ونشر مقالا لم يرق للعائلة الهاشمية الشريفة![/FONT]
[FONT=Tahoma (Arabic)]في مطار تونس اكتشفت السلطات التونسية أن الزائر الذي يحمل الجنسية الفرنسية وهو تونسي الأصل كان قد تظاهر في باريس أمام السفارة التونسية ، وقد مضت على المظاهرة عشر سنوات. لكن أجهزة الاستخبارات اليقظة جدا ضد المواطن والغافلة عن تصفية الموساد لمناضلين فلسطينيين على أرضها، كانت لديها صورة للزائر العزيز يبدو أن موظفي السفارة في باريس التقطوها من خلف النافذة.[/FONT]
[FONT=Tahoma (Arabic)]الحقوق والواجبات مكتسبة في المجتمع، وفي النرويج تستطيع أن تعتذر لرئيس جهاز المخابرات لو استدعاك قائلا بأنك ستذهب إلى السينما مع ابنك الصغير الذي وعدته، فيعتذر لك ويحدد موعدا آخر. في بلادنا العربية يوقظك رنين الهاتف بعد منتصف الليل، ويطلب منك المتحدث أن تحضر إلى مكتب الضابط المناوب صباح الغد، فتشكره، وهو لا يعتذر عن ايقاظك .[/FONT]
[FONT=Tahoma (Arabic)]تلقى الشاب المسكين طلبا من أجهزة استخبارات صدام حسين أن يتوجه إلى قسم الأمن القريب من داره في بغداد. وكادت عظام ركبتيه تنفصل من الخوف. استقبله ضابط بعثي صغير وقال له: عليك أن تقوم بتسليم مفاتيح شقتك لنا في غضون يومين، ولا تسأل عن السبب. بحث عمن يستضيفه وزوجته والأولاد ، ثم توجه لمخفر الأمن قبل الموعد المحدد، وسلّمَهم مفتاح الشقة وهو يقدم لهم شكره الجزيل ( !!) .[/FONT]
[FONT=Tahoma (Arabic)]بعد مرور عام كامل وشاق وحزين تخلله أرق في كل لياليه السوداء ونهاراته الأكثر سوادا، جاء طلب صغير على ورقة ألقاها في وجهه عسكري أمن جلف: عليك بالحضور غدا إلى مخفر الشرطة لتتسلم مفاتيح شقتك.[/FONT]
[FONT=Tahoma (Arabic)]الاهانة تختلف من مكان إلى آخر، والنرويجي السجين مثلا لديه انترنيت وتلفزيون في الزنزانة، وأكبر جاسوس في تاريخ النرويج وهو آرنا تريهولد قام بتأليف كتابه في السجن، وتفاوض مع دار النشر دون أن تبدي أي جهة أمنية ملاحظة واحدة. وقد يخرج السجين في عطلة قصيرة من السجن لزيارة ابنته في المدرسة أو للاحتفال بمناسبة خاصة، ومعه حارس أو حارسة شقراء جميلة تنتظره ريثما ينتهي من تناول الطعام في مطعم فاخر![/FONT]
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 27 ابريل 2007
الساعة التاسعة صباحا