الأجنحة
الأغنياء والفقراء، القضاةوالمتهمون، الحراس واللصوص والمخمورون، كلهم يقولون لي: ماذا تفعل في هذا الوطن بعدأن ابيضّ شعرك تحت سمائه وانحنى ظهرك فوق أرصفته، ماذا تنتظر منه بعد أن تحدد فيهمستقبلك ومستقبل غيرك في السياسة، كما تحدد مستقبل محمد أمين في الفن؟ سافر إلىبلاد الله الواسعة، فقد لا تجد وقتاً في المستقبل لشراء حقيبة. وقد لا تجد يداً أواصبعاً في يدك لحمل تلك الحقيبة. وكلما عدت إلى بيتي في آخر الليل أجد على عتبتهجواز السفر وتأشيرة الخروج ودفتر الصحة وبطاقة الطائرة وحب وبالدوخة.
وأحزم حقائبي وأسافر. في الذهاب أتمنى أن يكون مقعدي في غرفة القيادةعلى ركبة الطيار أو المضيفة لأبتعد بأقصى سرعة عن هذا الوطن. وفي الإياب أتمنى أنيكون مقعدي في مقدمة الطائرة على غطاء المحرك لأعود بأقصى سرعة إلى هذاالوطن.
آخر مرة كانت إلى تونس. أربعة آلاف كيلومتر فوق البحار والقارات وأنااحدق من نافذة الطائرة كما يحدق اليتيم في واجهات الحوانيت في الأعياد، كانت الغيومهاربة من العرب، الأمواج هاربة من العرب، الأسماك هاربة من العرب، التلوث هاربا منالعرب، العروبة هاربة من العرب. وبعد أسبوع كنت أهرول عائدا اليهم وحزام الأمان مازال حول خصري.
وسألتني زوجتي بدهشة: ما الذي عاد بك بهذه السرعة؟ ألم تعجبك تونس؟
قلت: انها الجنة بعينيها، شمس وبحروغابات.
قالت: وماذا تريد أكثر من ذلك؟
قلت: بصراحة، بلد لا يوجد فيه مشاكل لا أستطيع العيش فيه.
قلت: مستغربة: مشاكل!
قلت: نعم. بلد بدون أزمة سكن، أزمةمواصلات، أزمة غاز، وبدون شائعات ... لا فلان طار ولا فلان راح، لا أستطيع أن أقيمفيه أكثر من اسبوع. كما أنني بدون دخان مهرب ودعوسة رجلين في الباصات، ومسؤولينيخالفون شارات المرور، وشاحنات صاعدة هابطة وقت القيلولة تصب جهود الجماهير في أساسبناية أو شاليه لهؤلاء المسؤولين، وكل نشرة والثانية يا جماهير شعبنا، وفي هذهالمرحلة الحاسمة من تاريخ أمتنا، لا أشعربأنني في بلدي وبين أهلي وأحبابي كمايقولون في كلماتهم الترحيبية. كل شيء عندهم في تونس هادىء كمراكز الامتحانات، وكلشيء واضح ومحدد حسب النظام والقانون، ولذلك فقدت أعصابي وصرت كالخليجي الذي اعتادالنوم طوال حياته على صوت المكيف. فما أن يتوقف عن العمل حتى يستيقظ ولا يعرف كيفينام حتى يعود إلى العمل والهدير من جديد.
ثم انني أحب هذا الوطن من محيطه إلىخليجه. فأينما كنت، ما ان اقرأ اسمه في جريدة، أو اسمعه في اذاعة حتى اتجمد كنهرسيبيري، كعريف في حضرة جنرال، انني احبه، قدروا ظروفيوعواطفي.
فيه قرأت أول قصة لياسين رفاعية، وسمعت أول أغنية لفهد بلان، وقرأتأول افتتاحية ترد على كل المخططات الاجنبية في المنطقة، تبدأ ببيت للفرزدق وتنتهيببيتين للأصمعي. فيه سمعت لأول مرة اسم: قضية فلسطين، عائدون، حرب التحرير الشعبية،حرف الاستنزاف، الكيلومتر 101، مرسيدس 220 امبريالية، استعمار انسبستر، ديبون،فيزون، بيار كاردان، جنرال الكتريك، جنرالسيلاسفيو؟
وصرخت زوجتي بحدة: مشكلتك أنك تسخر من كل شيء في هذهالمنطقة.
فقلت لها: بالعكس، مشكلتي أنني احترم كل شيء فيها حتى قمامتها،بدليل، وأنا عائد في آخر الليل سقط عليّ كيس قمامة، فلم أحتج. ولم أنفضها حتى عنرأسي وثيابي، لأنني من طريقة سقوطها عليّ عرفت أنها زبالةمدعومة.
قالت: حالتك خطيرة جدا. عليك بمراجعةطبيب.
قلت: ان الدكتور كيسنجر لن يحل مشكلتي، وتصوري أيضاً ... صرت أبكي فيأفلام حسن الامام، وأفرقع بأصابعي في حفلات سميرةتوفيق.
قالت: كم يؤلمني أن ارى شاعراً مثلك لا يجد ما يتحدث به في أواخرعمره غير حسن الامام وسميرة توفيق وأكياس القمامة. هل نسيتالشعر؟
قلت: الشعر! كأنك تذكرينني بطفل فقدته ولا أعرف قبراله.
قالت: هل تثق بي؟
قلت: كثقتي بكرايسكي.
قالت: أيا كان رأيك فانت في حالةيرثى لها أيها العجوز الصغير. وعلاجك الوحيد هو الشعر. السفر الروحي على أجنحةالحلم والخيال.
فقلت: ولكن كيف؟ وإلى أين؟
ولما كانت زوجتي بطبيعتها حالمةوخيالية، فسرعان ما فتحت النافذة وحدقت في الأفق البعيد وقالت: الآن وليس غداً. انزع من رأسك كل السفاسف السياسية والمنغصات اليومية وتعال معي لنطر على أجنحةالحلم والخيال إلى العوالم التي سبقنا اليها رامبو وفيرلين وهايني وشلر ولوركا،لنطر بعيدا في عالم السحر والجمال حيث السماء الزرقاء والأمواج الحالمة والغاباتالعذراء.
فقلت لها: حبيبتي، اذا ما استمرت الامور في المنطقة على هذا المنوال. تبادل شتائم ومؤتمرات وخطابات. فلن نطير أنا وأنت وغيرنا في نهاية الأمر الا إلىكامب ديفيد.
محمد الماغوط :وردة: