على رصيف النضال !
توقعته آخر من سيصارحني بهذا الأمر, فهو يعلم تململي من هذه الجزئية بالذات وأني تعبت من الحديث عنها والتصريح بها, وأنها أحيانا - وليس دائما - فكرة غير مجدية, بل وأنها آخر اهتماماته أصلا.
الأكثر من هذا وذاك, أن ما تعلمته منه من قيم وحكم, ومن ضبط ٍ للنفس, ومن صلابة في مواجهة الصعاب والسعي لمواجهتها - ومناطحتها - إن جائتنا هي الأخرى بقوة كما اعتدنا, أقول أن ما تعلمته منه, كثير وكبير, دعاني إلى التمسك به كصديق, وأخ كبير, ومعلم, ورفيق في القلم والنضال.
رزقني الله به بعدما دخلت مبكرا في العالم البدوني العميق للعمل في أتعس قضية ( .. ) قبل سنتين وأنا في الـ 20 من عمري وهو قد ناهز الـ 33... فكرت أصلا أن أكتب عن شخصيته سلسلة من المقالات باعتباره إنسانا مختلفا يندر أن تجد له نموذجا مشابها من التزام ديني وأخلاقي وقارئ نهم يحمل فكرا إنسانيا حارقا وابتسامة مميزة ووجه مضيء أينما حل, ويستحيل أن تجده يكره أحدا أو يبغضه, له نظرة مختلفة دائما لكل قضية وموضوع, وأفكارا جميلة يفاجئني بطرحها يكون لها الأثر العميق لو أنها طُبقَّت.
هو, من القلائل, إن لم يكن الوحيد أصلا, الذي لم يبح لي عن المصاعب التي يلاقيها كبدون, باعتبار أني لم أقابل بدونا ً إلا وله مشاكل وصعوبات تدفعه للشكوى العلنية, ولكنه كعادته واختلافه, كان صلبا بتجاوز ظروفه والخروج بابتسامة عريضة وأريحية أثناء الحديث وهو يتحدث ببلاغة, وما علمته عن ظروفه القاهرة, كانت من خلال المصادفة عبر أكثر من موقف حصل معي ومع أصدقاء آخرين باحوا لي عن بعض مما عرفوه عن ظروف هذا الإنسان المختلف.
ورغم ظروفه المختلفة أيضا, كأحد البدون المعدومين الكادحين, إلا أن اصراره على نضاله في كل مكان, وفي كل شيء كان ومازال يدعوني إلى الاقتداء به, وفي أحيان كثيرة كنت أفشل, ومازلت أحاول وأتعلم وأتفكّر في محاولة الوصول إلى ما وصل إليه من صلابة شبيهة بصلابة الفولاذ ... أتصل به في عز الظهيرة صيفا, أو أثناء ما يكون البرد يلامس العظم شتاءً:
- وينك؟
- على رصيف النضال!
كنت قد أشرت له بايجاز في السابق, وقلت: "كانا في فصل دراسي واحد .. واستمرا في فصل واحد .. كلاهما متفوقان .. وعلى المراكز الأولى يتنافسان .. الأول استمر في الدراسة .. والآخر توقف لإعالة الأسرة وعاش في تعاسة .. الأول تخرج مهندسا .. والآخر بقي منتكسا .. الأول أصبح مرشحا لمجلس الأمة .. والآخر أصبح يبيع الخضار على الرصيف لإطعام أمه".
ذات يوم, كان قد تعرض لموقف ٍ صعب, وأضاع أحدهم حقه في عمل ما, فأخبرني بالموضوع بعد مدة طويلة من وقوع المشكلة, فصحت به غاضبا:
- شنو هذا يا أخي؟ هذا لازم ينداس على راسه.
وقد كنت متحمسا للموضوع, فرد بهدوءه المعتاد, الذي أضحكني من القلب:
- لا يا أخي, الأمور ما تجي بالهطريقة, الله يسامحه, وحسبي الله ونعم الوكيل.
وتعمد تغيير الموضوع وانتهى.
منذ سويعات, أسرَّ لي أن عنده نية الرحيل, وكان لهذا الخبر وقعه السلبي على نفسي, وأنا أتلقى الخبر مَـثَـلي كمثل من حوصر بزاوية حلبة ويتلقى اللكمات المتتالية غير قادر على الحراك أو الكلام.
حتى في تبريره بوجود نية الرحيل, كان مختلفا وهو يقول باتزان:
- لا السُّلطة, ولا المجتمع يساعدان على تطور الإنسان, أو تطور البلد.
ربما استطاع بهذا الإيجاز, أن يقنعي نوعا ما, ولكني في مثل هذه الأخبار التي اعتدت عليها, اعتدت أن أصمت وأشعر وكأني قد تلقيت "بنج عام", هذا وأنا كنت أرسم أن لهذا الإنسان بالذات مكانة مختلفة كاختلافه المميز عن باقي البشر الذين عرفتهم, وأننا - إن أطال الله بأعمارنا - سنبقى في طريقنا في تحريرنا من القيود إلى أن تبيّض رؤوسنا وذقوننا, هذا وهو مَن ردد على مسامعي ذات مرة وأنا أشكو له كثرة الضغوظ الرهيبة المجتمعة بين التزامات اجتماعية ودراسية ووظيفية وبدونية إلكترونية وميدانية وشخصية, يردد باسما ً:
- بالعكس, لا تجتمع هذه الأشياء إلا بالعظماء الذين يصنعون التاريخ.
يجيد - بسهولة - إزاحة الهموم عن كاهلك بكلمات موجزة تحفزك إلى بذل المزيد, لدرجة أني جلست مع أحدهم منذ شهور وهو يتحدث عنه ويقول:
- هذا الإنسان لا ينتهي !
لستُ أبالغ في وصفه, ويشهد الله, وكل من يعرف هذا الرجل, أن ما قلته بحقه غيض من فيض ابداعاته, وأنه يستحق أكثر مما قيل بحقه سواءً هنا أو في أي مكان آخر, وأحببت أن أترجم ما بداخلي بعد ما فاجئني به عن وجود نية للرحيل قابلة للتطبيق على أرض الواقع, سيكون تأثيرها عليّ مختلفا أيضا, ليس مشابها للتأثير الذي وقع عليّ مع رحيل أصدقاء وأقارب كُثر أكن لهم كل الحب والود.
حتى الوحدة يا صديقي, سيكون لها طعما مختلفا إن غبت, وكم وددت لو نبقى سويا نحاول أن نغير الخارطة الإنسانية المشوهة التي عبثوا بها في بلدنا في الوقت الذي يدّعون فيه الإنسانية وأنت وأنا وغيرنا نعلم أنهم لا يعرفون من الإنسانية مثقال ذرة, ولكن هذا قدرك على ما يبدو, أن ترحل لتبحث عن ما يضمن لأطفالك مستقبلا جيدا يجعلك مطمئنا ما تبقى من عمرك, وهذا حقك, فلا حول ولا قوة إلا بالله.